تهذیب الاصول

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: سبزواري، عبدالاعلی، 1288 - 1372

عنوان واسم المؤلف: تهذیب الاصول/ تالیف عبدالاعلی الموسوی السبزواري

تفاصيل المنشور: [قم]: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري: موسسة المنار، - 1376.

الطبعه الثالثة 1417 ه - 1996 م

ISBN : بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2)

عنوان : أصول الفقه الشيعي

المعرف المضاف: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري

ترتيب الكونجرس: BP159/8/س22ت9 1376

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 76-8156

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المدخل

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين

و الصلاة و السّلام على خير خلقه

محمّد و آله الطّيّبين الطّاهرين

و بعد فيقول المفتقر إلى اللّه جلّ جلاله عبد الأعلى الموسوي خلف المرحوم العلامة الجليل السيد علي رضا: هذه خلاصة ما حققناه و حقّقه مهرة مشايخنا - «قدس اللّه أسرارهم» - المبتكرين في هذه الصناعة بعد طول الجهد و تحمّل المتاعب، أبرزتها في أسهل العبارات و أيسر الجملات، خالية عن جميع الزوائد، مشتملة على كثير من الفوائد، و سميتها ب (تهذيب الاصول) عن الزوائد و الفضول، راجيا أن يهذبنا اللّه تعالى عن كل ما لا يرضيه، و يحلّينا بكل ما يرتضيه، و أن يجعله كافيا لصحة الاعتذار في أحكامه المقدسة إلى يوم القيامة.

و منهجنا في هذا الكتاب يخالف ما هو المتبع في سائر الكتب، فهو مؤلف من مقدمة و مقاصد ثلاثة:

1 - المقدمة: و فيها امور عامة.

2 - المقصد الأوّل: في مباحث الألفاظ، و منها المشتق، و مبحث التعارض.

و لكن لما لم تكن لمبحث المشتق فائدة مهمة فقهية جعلناه في المقدمة تبعا للاصوليين.

ص: 5

3 - المقصد الثاني: في الملازمات العقلية بقسميها - المستقلة و غير المستقلة - كمقدمة الواجب، و مسألة الضد، و مسألة النهي في العبادة.

4 - المقصد الثالث: في ما يصح الاعتذار به، كمباحث القطع، و الأمارات، و الاصول العملية، و الاجتهاد و التقليد.

و جميع مباحث الألفاظ ترجع إلى تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية. و حيث أن أساس الفقه مبني على الكتاب و السنّة، و هما بمعزل عن الملازمات العقلية؛ جعلوا بحث الملازمات العقلية في طي مباحث الألفاظ، إلا أننا عقدنا لها بابا مستقلا، و هو المقصد الثاني.

و خالفناهم في مبحث التعارض فجعلناه من مباحث الألفاظ، و في بحث الاجتهاد و التقليد فجعلناه من مباحث ما يصح الاعتذار به.

و لا يخفى أن الاصول مقدمة و آلة للتعرّف على الفقه؛ و ليس هو مطلوبا بالذات، فلا بد أن يكون البحث فيه بقدر الاحتياج إليه في ذي المقدمة، لا زائدا عليه، و أن تكون كيفية الاستدلال فيه مثلها في الفقه في مراعاة السهولة، و ما هو أقرب إلى الأذهان العرفية، لابتناء الكتاب و السنّة اللذين هما أساس الفقه على ذلك، فالاصول من شئون الفقه لا بد أن يلحظ فيه خصوصياته من كل جهة.

ص: 6

مقدّمة و فيها امور عامة

الأمر الأول: تعريف الاصول، و فضله و غايته، و مرتبته

أما تعريفه: فحيث أن علم الفقه ما يبحث فيه عن وظيفة الإنسان من حيث الشريعة.

ثم إن وظائف العباد إما أن تكون متقوّمة بقصد القربة أو لا. و الثانية إما أن تكون بين اثنين أو لا. و الثالثة إما أن تتوقف على الإنشاء أو لا.

فالاولى العبادات، و الثانية العقود، و الثالثة الإيقاعات، و الرابعة الأحكام.

و هذا الحصر عقلي.

هذه هي كبرى الأقسام في الفقه، و إن كان عندهم نزاع صغروي في بعض الأقسام.

فالاصول ما يبحث فيه عن تعيين كيفية تلك الوظيفة، و حقيقته أنها قواعد معتبرة تستعمل في استفادة الأحكام الإلهية، و لا اختصاص له بالمسلمين، بل كل ملة لها وظائف دينية يكون لها فقه و اصول.

و نزاع الأخباري و الأصولي إنما هو نزاع صغروي في بعض مسائل

ص: 7

الاصول، لا أن يمنع الأخباري عن لزوم إعمال القواعد المعتبرة المحاورية في استفادة الأحكام الإلهية عن الكتاب و السنّة.

و يكفي في فضله أنه في الجملة من شئون الفقه الذي هو من أفضل العلوم بعد التوحيد، بل به يستكمل التوحيد، و حيث أنه نفسه مقدمة للفقه يكون فضله فضلا ترشحيا منه.

و أما غايته: فلا ريب في أنه من أفضل الغايات و أعظمها، لأنها الاقتدار على تشخيص الأحكام الربوبية، و تعيين الوظائف الإلهية لعباده، و هذا من فروع النبوة و الخلافة الإلهية.

و أما مرتبته: فهي فوق جميع العلوم الدخيلة في الفقه، فالاصول من حيث المرتبة بداية الاجتهاد و نهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط.

الأمر الثاني: المعروف أن كل علم متقوم بالمسائل، و الموضوع، و المبادئ.

و هو بالنسبة إلى الأول مسلّم، لانتفاء العلم بانتفاء مسائله - انتفاء الكل بانتفاء أجزائه - و أما بالنسبة إلى الأخيرين، فلا دليل عليه من عقل أو نقل.

نعم، لو اريد به التقوّم العادي الاعتباري الاصطلاحي، لا الحقيقي، لكان له وجه. و أما القوام الواقعي فليس موضوع العلم و لا مبادئه كذلك، بحيث لو انتفيا لانتفى أصل ذلك العلم، فليس بوجودهما الواقعي، و لا بوجودهما العلمي دخيلا في علميّة العلم.

نعم، الجامع الواقعي بين موضوعات مسائل العالم موجود بلا إشكال، سواء علم به أم لا، فهو أمر تكويني - كتحقق الجنس في أنواعه - و لا ربط له

ص: 8

بالموضوع المصطلح عليه.

إن قيل: نعم، و لكن وحدة كل علم في حد نفسه و تميزه عن غيره يدور مدار وحدة الموضوع و وجوده، فلا بد له من هذه الجهة.

فإنه يقال: لا ريب في أن الوحدة لا تنحصر بوحدة الموضوع، و يمكن اعتبار الوحدة فيه بأي وجه أمكن ذلك، كما في الوحدات الاعتبارية الملحوظة في سائر المركبات المختلفة الأجزاء.

و كذا يمكن تمييزه بالغرض و نحوه مما يصلح لاستناد التمييز الاعتباري إليه.

ثم إن المبادئ إما تصورية، و هي تصور الاصطلاحات الشائعة في العلم قبل الشروع فيه. أو تصديقية، و هي التصديق بثبوت المحمولات المسلّمة الثبوت لموضوعاتها الدائرة في العلم قبل الشروع فيه، و يزيد في علم الاصول مبادئ اخرى اصطلحوا عليها بالمبادئ الأحكامية، و هي عبارة عن الأحكام المنسوبة إلى الشارع - تكليفية كانت أو وضعية - و ترجع إما إلى المبادئ التصورية، أو التصديقية، و ليست خارجة عنهما، كما هو واضح.

الأمر الثالث: تعريف المسألة الاصولية، الفرق بينه و بين القاعدة الفقهية

المسألة الاصولية: ما تقع كبرى في طريق تعيين الوظيفة، بلا فرق بين الأمارات و الاصول العملية و غيرهما. فيقال مثلا: هذا أمر، و كل أمر ظاهر في الوجوب، فهذا ظاهر في الوجوب، و كما يقال: هذا خبر موثوق به، و كل خبر موثوق به حجة، فهذا حجة، أو يقال: هذا مجهول الحكم، و كل مجهول الحكم يرجع فيه إلى البراءة العقلية و النقلية، فهذا مما يرجع فيه إليهما، إلى غير ذلك.

و جميع تلك المسائل لا بد أن تثبت بالأدلة اللفظية في الاصول، و قد وضع هذا العلم لذلك.

ص: 9

و يمكن أن تعنون مسألة واحدة بعناوين متعددة، بعضها تكون اصولية و بعضها فقهية، و بعضها كلامية، و هو شائع في العلوم، فيكون المدار حينئذ على خصوصية العنوان، لا ذات المعنون من حيث هو حتى يلزم التداخل.

و القاعدة الفقهية عبارة عن حكم شرعي ينطبق على مصاديقه انطباق الطبيعي على أفراده، و لا تقع في طريق إثبات شيء أبدا، و لا فرق بينها و بين المسألة الفقهية إلا بالاصطلاح.

نعم، يمكن أن يفرّق بينهما بالاعتبار، بأن يقال: القاعدة نتيجة المسألة بمقدماتها. و كذا الكلام في الفرق بين القاعدة الاصولية و مسألتها.

و الفرق بين القاعدة الفقهية و المسألة الاصولية من جهات:

أولها: أن القواعد الفقهية يشترك فيها العالم و غيره، كسائر الأحكام الإلهية، بخلاف المسائل الاصولية، فإنّها تختص بالعلماء.

ثانيها: القواعد الفقهية يمكن أن تختص بباب دون باب، و هي كثيرة بخلاف المسائل الاصولية، فإنها جارية في جميع أبواب الفقه.

ثالثها: أن المسائل الاصولية نتائجها تقع كبرى في طريق إثبات الوظيفة، بخلاف القواعد الفقهية، فإن شمولها لمصاديقها نحو شمول الطبيعي لأفراده.

رابعها: القواعد الفقهية غالبها من المسلّمات بين العلماء، بخلاف المسائل الاصولية، فلهم فيها اختلاف كثير.

خامسها: أن غالب القواعد الفقهية نفس المضمون الذي صدر عن المعصوم عليه السّلام، و يصح إطلاق الأصل على القاعدة أيضا، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، و هي مقدمة على الاصول العملية - سميت أصلا أولا - و اعتبار مثبتاتها يدور مدار القرائن الخارجية المعتبرة، في كل أصل أو أمارة، بلا فرق في التسمية من هذه الجهة أيضا.

ص: 10

الأمر الرابع: الكلام فى ما هو المعروف

المعروف أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، و أن العرض الذاتي ما ينتزع عن ذات الشيء، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، أو ما لا يكون عروضه على المعروض بواسطة أمر أخص أو أعم.

فاشكل عليهم: بأن محمولات المسائل لا تنتزع عن ذات موضوع العلم غالبا، مع أن جلّ مباحث علم الاصول، يبحث عما يعرض الموضوع لأمر أعم بناء على أن موضوعه الأدلة الأربعة، و لذا عدل المحققون منهم إلى أن المراد بالعرض الذاتي ما لا يصح سلبه عن الموضوع، و إن كان العروض بواسطة بل بوسائط، أي الوصف بحال الذات. و ما صح سلبه عنه يكون عرضا غريبا و إن لم تكن في البين واسطة، أي ما كان من الوصف بحال المتعلق، و لا ريب في أن محمولات مسائل العلوم لا يصح سلبها عن موضوع العلم، كما لا يخفي.

كما أنه لا ريب في أن نسبة موضوع العلم الى موضوعات المسائل نسبة الكلي إلى أفراده و الطبيعي إلى مشخصاته.

ثم إنهم قالوا: إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، و تمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات. فإن كان نظرهم إلى أن ذلك من أحد طرق التمييز فله وجه، و إن كان نظرهم إلى الانحصار في ذلك، فهو مردود، لإمكان التمييز بالغرض و نحوه أيضا. و بذلك يمكن أن يجمع بين الكلمات.

الأمر الخامس: موضوع العلم الاصول

قالوا: إن موضوع علم الاصول الأدلة الأربعة، إما بوصف الحجية، كما عن بعض، أو بذواتها، كما عن آخر.

ص: 11

و اشكل على الأول: بأنه يلزم أن يكون البحث عن حجية الإجماع و العقل، و ظاهر الكتاب خارجا عن المسائل و داخلا في المبادئ، لكونها بحثا عن ذات الموضوع حينئذ.

و يردّ: بأن ما هو الموضوع إنما هو الأدلة بوصف الحجية الواقعية النفس الأمرية الثابتة لها، و البحث عن حجية الإجماع و العقل و ظاهر الكتاب، بحث عن مقدار الحجية، و كيفيتها، و دفع اعتراض المعترضين عليها، فتكون من المسائل قهرا.

و اشكل على الثاني: بلزوم خروج البحث عن الخبر الواحد، و التعارض و أحكامه عن المسائل، لعدم كونها بحثا عن السنّة، بل بحثا عن الحاكي لها، فيكون من العرض الغريب.

و فيه: أن الخبر الواحد متحد عند الرواة و العلماء، بل المتشرعة من السنة، فيكون عوارض أحدهما عين عوارض الآخر عندهم، فلا وقع للإشكال من هذه الجهة، فيكون بحث خبر الواحد و التعارض و أحكامه من عوارض السنّة.

ثم إنه لا وجه للقول بأن الموضوع هو الأدلة الأربعة، لأن السنّة شارحة للكتاب، و الإجماع و العقل لا موضوعية لهما، بل لا بد فيهما من الكشف عن السنة في الأول، و عدم ثبوت الردع في الثاني. فموضوعه هو الكتاب المشروح بالسنّة أو السنّة الشارحة للكتاب. فيكون تعريفه: أنه ما يقع نتائج البحث عنه في طريق معرفة الوظيفة الشرعية، و لا فرق بين العقل و الشرع إلاّ بما قاله عليه السّلام:

«العقل شرع داخلي و الشرع عقل خارجي».

فالعقل الذي هو أصل الحجج الإلهية إذا ظهر في المظاهر الظاهرية يكون شرعا، و الشرع إذا ظهر في مظهر التجرد يكون عقلا، فلا فرق بينهما بحسب الواقع و الحقيقة.

نعم، العقول الجزئية حيث أنها قريبة من الأوهام و الخيالات فلا بد لها من

ص: 12

أن تكون تحت سلطة الشرع، حفظا للأحكام من أن يتدخل فيها الأوهام و الخيالات.

ثم إن السيرة العقلائية و بناء العقلاء، الذين يتمسك بهما غالبا في الفقه و الاصول، راجعان إلى دليل العقل الذي لم يردع عنه الشرع. و كذا السيرة العرفية و مرتكزات العرف اللتين يتمسك بهما أيضا، و يمكن الفرق بينهما و بين بناء العقلاء بحسب المتعلّق، لا بحسب الذات.

الأمر السادس: تعريف الوضع الفرق بينه و بين استعمال اللفظ

اشارة

الوضع من الامور النظامية يقوم به نظام الاجتماع في الإنسان قديما و حديثا، فاللازم في فهم معناه من الرجوع إلى العرف، و إذا رجعنا إليه نرى أنه عبارة عن:

إظهار المعنى باللفظ حدوثا بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و وجها من وجوهه، و لا فرق بينه و بين مطلق استعمال اللفظ في المعنى إلا من وجهين:

الأول: أنه حدوثي فقط بخلاف سائر الاستعمالات، فإنها تتحقق بعده.

الثاني: أنه بداعي كون اللفظ علامة للمعنى و سائر الاستعمالات تكون بدواع اخرى، وجهة الاشتراك في الجميع إظهار المعنى باللفظ و إبرازه به، بلا فرق في ذلك بين الوضع التخصيصي و التخصصي.

نعم الفرق بين التخصيص و التخصص أن كثرة الاستعمال في الثاني لها دخل في الجملة، بخلاف الأول، فإن نفس الاستعمال بداعي كون اللفظ علامة للمعنى يكفي في حصول الوضع. و الدليل على ما قلناه إنما هو الوجدان في الأسماء التي نضعها لأولادنا، و ما حصل من الأوضاع الكثيرة المستحدثة في زماننا.

هذا إذا لوحظ الوضع بالمعنى المصدري، و أما إذا لوحظ بمعنى الاسم

ص: 13

المصدري، فهو نحو ارتباط حاصل بين اللفظ و المعنى ناشئ من تخصيصه به تارة، و من تخصصه به اخرى.

ثم إن من قال بأن الواضع هو اللّه تعالى، فإن أراد الوضع بمباشرته تعالى، كما في مباشرته تعالى لوحي القرآن و التكلم مع موسى بن عمران، فمقتضى الأصل و الوجدان عدمه، و لو كان كذلك لاشتهر اشتهار نسبة الكتب السماوية إليه تعالى في هذا الأمر المهم، و يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عدم مباشرة الوضع، لأن تعلم الأسماء أعم من مباشرة الوضع، إذ يمكن أن يكون تعالى علّمه لأن يضع آدم بعد ذلك بمباشرته. و إن أراد أن ذلك بإلهام منه تعالى، أو أنه تعالى جعل استعدادا في آدم و بنيه و حصل له الاقتدار به على الوضع، فهو حسن.

كما أن من قال بالمناسبة بين اللفظ و المعنى، فإن أراد بها الذاتية الطبيعية و من تمام الجهات، فهو باطل. و إن أراد لحاظ المناسبة الاعتبارية في الجملة عند الوضع إجمالا و ارتكازا، فله وجه.

ثم إن للوضع أقساما:

منها: الوضع النوعي، كوضع الهيئات.

و منها: الوضع الشخصي، كوضع الأعلام، و أسماء الأجناس.

و منها: الوضع التعييني، و التعيّني، و يسمى بالتخصيصي و التخصصي أيضا، و يمكن أن يصير المجاز حقيقة لكثرة الاستعمال، كما يمكن أن تصير الحقيقة مجازا لهجر الاستعمال، و كل منهما شائع في المحاورات.

و منها: الأصلي و التبعي، و الأول كالمستقلات، و الثاني كالنسب و الإضافات.

و منها: الوضع العام، و الوضع الخاص، أي أن المعنى الموضوع له اللفظ إما عام أو خاص، و على الأول إما أن يوضع له اللفظ، فهو الوضع العام

ص: 14

و الموضوع له العام، كأسماء الأجناس، و هو على قسمين: فتارة يتصور العام بذاته و يضع اللفظ بإزائه، و اخرى يتصور العام من حيث الإضافة إلى الحصص مع قطع النظر عن المضاف إليه و يضع اللفظ بإزاء مثل هذا العام الملصق بالحصص، و يأتي قسم آخر أيضا.

و على الثاني إن وضع اللفظ له، فهو الوضع الخاص و الموضوع له كذلك، كالأعلام، و يمكن أن يكون الأعلام من الوضع العام و الموضوع له الخاص، بأن يلحظ مطلق الذكور مثلا، ثم يضع لفظ (الحسن) للمصداق الخاص، أو يلحظ مطلق الإناث، ثم يضع لفظ (فاطمة) للمصداق المخصوص.

و المعروف أنه لا يصح أن يوضع اللفظ للكلي الذي يكون هذا الخاص من مصاديقه حتى يكون من الوضع الخاص و الموضوع له العام، لأن الموضوع له لا بد و أن يتصور حين الوضع و لو بوجه، و الخاص لا يصلح لأن يكون وجها من وجوه الكلي و العام، بخلاف العكس.

و فيه: أنه لمكان اتحاد العام مع الخاص يصلح لكونه وجها من وجوه العام في الجملة، و هذا المقدار يكفي في تصوره، فلا مانع منه ثبوتا.

نعم، هو غير واقع إثباتا في المحاورات.

ثم إنه لا ريب في وقوع الوضع العام و الموضوع له كذلك، كأسماء الأجناس. و لا في وقوع الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كالأعلام.

و أما الوضع العام و الموضوع الخاص، فعن جمع وقوعه أيضا، كالحروف و ما يلحق بها. و عن جمع آخر أن الوضع فيها - كالموضوع - عام، فينحصر الواقع من أقسام الوضع في القسمين الأولين فقط.

و خلاصة ما استدل به على عدم كون الموضوع له فيها خاصا: أن الخصوصية إما خارجية، أو ذهنية. و على الأول يلزم أن يكون استعمالها بنحو الكلية مجازا، كقولك (من) للابتداء مثلا. و على الثاني يلزم عدم الصدق على

ص: 15

الخارجيات، و كلاهما خلاف المحاورات.

و يمكن المناقشة فيه: أما الأول: فلأن الكلية فيها تبعية على ما يأتي، و الكلية التبعية من جهة لا تنافي الخصوصية من جهة اخرى، كما هو واضح.

و أما الثاني: فلأن الخصوصية الذهنية اخذت مرآة إلى الخارج، فيصح الصدق على الخارجيات قهرا.

نعم، لو قيدت بما في الذهن لا تصدق عليها حينئذ.

و لكنه باطل لا يقول به أحد.

ثم إن لحاظ الاستقلالية في الأسماء، و الآلية في الحروف من دواعي الوضع، لا أن يكون قيدا في الموضوع له، أو المستعمل فيه، فلا وجه لخصوصية المعنى من هذه الجهة في الحروف أصلا، و لا يلزم في كونها داعيا الالتفات التفصيلي، بل يكفي الارتكازية فقط.

هذا، و من ذهب إلى أن الموضوع له فيها خاص قال: إن تقوّمها بالغير أوجب خصوصية المعنى؛ فلا يكون إلا خاصا.

و فيه: أن هذا النحو من التقوّم بالغير لا ينافي الكلية، فالمعنى في حدّ نفسه لا اقتضائي، يكون مع الخاص خاصا، و مع العام عاما.

و الحق أن يقال: إن المعاني الحرفية، و النسب و الإضافات، تكون في الغير من تمام الجهات مفهوما و ذاتا و وجودا، لا في الأخير فقط حتى تكون كالأعراض، بل مفهومها و ذاتها و وجودها، فانيات في الغير فناء تاما و لا نفسية لها بوجه، نظير الربط المحض الذي لا نفسية له أبدا، و ما هي كذلك يكون وضعها تبعيا و غيريا أيضا، فهي مع أسماء الأجناس يكون الوضع و الموضوع له فيها عامين، و في الأعلام يكونان خاصين لأجل تبعيتها المحضة و الفناء المطلق، فيكون وضعها نوعيا تبعيا لمتعلقاتها، إن عاما فعام، و إن خاصا فكذلك.

و ظهر مما مرّ أن الربط ينافي التشخّص مطلقا، فلا وجه لقول الحكيم

ص: 16

السبزواري «ره»: «إن الوجود رابط و رابطي...» مع قولهم: إن الوجود مساوق للتشخّص، و لا تشخّص في الربط المحض، إلا أن يراد به التشخّص التبعي.

ثم إن الأقوال في المعانى الحرفية بين الإفراط و التفريط: فمن قائل بأنه لا معنى لها أصلا، و إنما هي علامات فقط، مثل كون الرفع علامة للفاعلية. و فيه من الفساد ما لا يخفى.

و من قائل بأنه لا فرق بين المعاني الحرفية و الاسمية إلا بلحاظ الآلية في المعاني الحرفية و الاستقلالية في الاسمية، و هو خلاف الوجدان المحاوري و إن أمكن توجيهه بوجه.

و من قائل - و هو الحق - بأنها في ذاتها مباينة مع المعاني الاسمية جوهرا كانت أو عرضا، لأن المعاني الإمكانية إما تحصل في الذهن مستقلا و في الخارج كذلك، و يعبّر عنها بالجوهر بمراتبه الكثيرة؛ أو توجد في الذهن مستقلا و لا توجد في الخارج إلا في الموضوع، و يعبّر عنها بالعرض، أو لا توجد في الذهن و الخارج إلاّ في الغير و بالغير، و يعبّر عنها بالمعاني الحرفية، فلها معان لكن في الغير من كل جهة.

فالمعاني إما للغير و بالغير و في الغير، و هي المعاني الحرفية. و إما بغيره في نفسه، و هي المعاني الاسمية الجوهرية. و إما بغيره في غيره، و هي الأعراض - اسما كانت أو فعلا - و إما لنفسه في نفسه بنفسه، و هو منحصر في اللّه تبارك و تعالى.

هذا، و لكن قد نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، و الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، و الحرف ما أوجد معنى في غيره».

و المراد بالجملة الاولى هو الدلالة على المسمّى، و هو صحيح بالنسبة إلى جميع الأجناس و الأعلام. و المراد بالثانية إنما هو بالنسبة إلى أفعال الممكنات، حيث أن غالبها متقوّمة بحركة ما، و لو الحركة الإرادية. و المراد بالأخيرة إيجاد النسب

ص: 17

و الإضافات في استعمالات المعاني الاستقلالية، كما تقدم.

و عن مولانا الرضا عليه السّلام: «و اعلم إن الإبداع، و المشيّة، و الإرادة، معناها واحد و أسماؤها ثلاثة، و كان أول إبداعه و إرادته و مشيته: الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء، و دليلا على كل مدرك، و فاصلا لكل مشكل...». و هنا مباحث نفيسة ليس المقام محل التعرض لها.

ثم إن المعاني الحرفية المبحوث عنها في المقام كل ما لا يستقل بالذات أو لا تحصّل له إلاّ في الغير و بالغير، فتشمل جميع النسب و الإضافات و الهيئات التي لا استقلال لها بوجه من الوجوه، و هذا كله إذا لوحظت من حيث الفناء في المتعلق و القيام به.

و أما إذا لوحظت في نفسها و بنفسها فيخرج عن موضوع البحث قهرا، لصيرورتها بذلك من المعاني المستقلة الملحوظة بنحو العنوان المشير إلى المعاني الحرفية، لا أن تكون عينها لاستحالة ذلك.

و كيف كان، فلا ثمرة عملية في البحث عن المعاني الحرفية و ما يلحق بها من النسب و الإضافات و الهيئات، إلا في مورد واحد و هو إمكان تقييد الهيئة بناء على كون الموضوع له فيها عاما، دون ما إذا كان خاصا. و هذه الثمرة ساقطة رأسا، كما أشرنا إليه سابقا.

أما أولا: فلأن الخصوصية لا تنافي التقييد، كما في تقييد الأعلام.

و ثانيا: فلأنها بتبع متعلقاتها تقبل كل شيء، كما هو واضح.

هذا كله في نفس المعاني الحرفية و ما يلحق بها.

و أما الأسماء التي تشبهها، المعبّر عنها بالمبنيات في العلوم الأدبية و المبهمات أيضا، كالضمائر و الموصولات و الإشارات، فوضعها استقلالي، لكن الموضوع له فيها الذات المبهم من كل حيثية و جهة، القابل الانطباق على الجزئي و الكلي، نظير ما يأتي في معنى الإطلاق إن شاء اللّه تعالى.

ص: 18

و لعل المراد بالوضع العام و الموضوع له العام ما يعم هذا القسم أيضا، فلا يلزم زيادة في أقسام الوضع المشهورة.

تذنيبات:
الأول: تتصف المعاني الحرفية بالإيجادية و الإخطارية،

الكلية و الجزئية، و الإطلاق و التقييد بتبع متعلقاتها، لفرض فنائها في متعلقاتها، و عدم تحصّل لها في ذاتها بوجه من الوجوه، بل يصح فرض اتصافها بها و لو لم يتصف المتعلق بها على نحو عدم لحاظ المتعلق و الغفلة عنه، لا لحاظ العدم، و هذا صحيح في الانحلالات الذهنية و تمحلاتها.

فما يقال: من أن الهيئات لكونها من سنخ المعاني الحرفية، غير قابلة للإطلاق و التقييد، لكون الموضوع له فيها خاصا.

مردود: بما مرّ، مع أن التقييد لا ينافي الخصوصية إن فرض كون الموضوع له فيها خاصا، كما في تقييد الأعلام.

الثاني: النسب و الإضافات تعمان جميع الموجودات

، ففي المبدأ تبارك و تعالى - كالخالقية، و الرازقية و نحوهما - و أما الممكنات فقد حفّت بإضافات شتى من إضافاتها إلى الفاعل، و المادة، و الزمان، و المكان، و غيرها مما لا تحصى. و أول النسب العارضة لها هي النسبة إلى الفاعل، ثم الزمان و المكان، و قد اصطلحوا في الأخيرين على المستقر تارة، و اللغو اخرى.

و الأول: ما كان نفس الظرف محمولا، كزيد في يوم الجمعة، أو في الدار.

و الثاني: ما كان من متممات المحمول، كزيد يقوم في الجمعة، و يصلي في الدار.

الثالث: الجملة تارة إخبارية محضة

، كزيد قائم. و اخرى إنشائية كذلك، كاضرب. و ثالثة تستعمل فيهما، كبعث مثلا. و الجامع في الجميع إبراز المعنى،

ص: 19

و الفرق في الاوليين من جهة المحاورات، و في الأخيرة من جهة القرائن التي منها الداعي الذي يفهم بالقرائن الظاهرة - مقالية كانت أو حالية -

ثم إن الإخبارية و الإيجادية من الامور المتقوّمة بالقصد، و لا يبعد صحة اتصاف كلام واحد بهما من جهتين مختلفتين.

و لا ريب في وضع مواد الجمل شخصيا، كما لا ريب في وضع هيئاتها الخاصة التي تفيد معاني مخصوصة نوعيا.

و أما ملاحظة المادة مع الهيئة الخاصة مجموعا ثم وضع المركب منهما ثالثا، فهو من اللغو الباطل، و لا يرتكبه العاقل.

الأمر السابع: الكلام فى الحقيقة و المجاز

لا ريب في وقوع الحقيقة و المجاز في المحاورات. و الاولى هي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، كما أن الثاني هو استعماله فيما يناسبه.

و الاحتمالات في المعاني المجازية خمسة:

الأول: عدم وضع لها أصلا، بل الاستعمالات فيها طبعية، لا أن تكون مستندة إلى الوضع.

الثاني: أن تكون وضعية بالوضع النوعي، لكن لا دليل عليه، بل مقتضى الأصل عدمه.

الثالث: أن يكون نفس الوضع للمعنى الحقيقي وضعا لها أيضا، لكن بالتبع، لأنها من شئون المعنى الحقيقي و أطواره و خصوصياته. و أيضا مقتضى الأصل عدم لحاظ هذه الخصوصية للواضع.

الرابع: أن يكون ذلك بإذن من الواضع. و مقتضى الأصل عدمه أيضا، و على فرض وجوده، لا دليل على اتباعه ما لم يساعده الذوق السليم.

الخامس: أن يكون الاستعمال فيها تنزيليا، أي تنزيل المعاني المجازية

ص: 20

منزلة المعاني الحقيقية.

و فيه: أنه يحتاج إلى عناية خاصة، و الأصل عدمها.

و يمكن اختيار الاحتمال الثالث و إرجاع الأول إليه.

و على أي تقدير يكون ذلك مشروطا بعدم استنكار أهل المحاورة، سواء أذن الواضع فيه أم لا. و أما مع الاستنكار، فلا يصح و إن أذن الواضع فيه.

و الاستنكار و عدمه يختلفان بحسب الأعصار و الأمصار و العادات المختلفة غاية الاختلاف. فالمجاز، و الاستعارة، و الكناية من مجرد الاصطلاح - و المدار كله على صحة الاستعمال بحسب الذوق السليم و الطبع المستقيم - سمي بتلك الاصطلاحات أو لا، كما أن الإفادة و الاستفادة تدوران مدار الظهور، فمعه تصح و إن كان المعنى غير حقيقي، و مع عدمه لا وجه له و إن كان حقيقيا.

و من ذلك كله يظهر أن الاستعمال لا ينحصر في الحقيقة و المجاز، بل يصح كل ما قبله الأذهان المستقيمة من أهل المحاورة، سمي بالحقيقة أو المجاز، أو لا. كاستعمال اللفظ في نفسه أو مثله أو نوعه، كما إذا قيل (زيد لفظ) و اريد نفسه، أو قيل: زيد في (زيد قائم) مبتدأ و اريد مثله؛ أو قيل ذلك و اريد نوعه، فإن كل ذلك يصح في المحاورات الصحيحة.

و إشكال وحدة الدال و المدلول، مدفوع: بتعدد الجهة و الحيثية مع أنه لا محذور فيه، فقد قال عليه السّلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته».

و قد تقدم أن مقتضى الأصل عدم الوضع للمجازات - و لو نوعا - كما أن مقتضاه عدم الحصر للعلائق المجازية، بل الاستعمالات المجازية تدور مدار الأذواق السليمة المختلفة بحسب العادات و الأعصار و الأمصار التي لا تضبطها ضابطة كلية، و ما ذكر في العلوم الأدبية من العلائق المجازية إنما هو بحسب الغالب لا الاستقصاء. و بذلك كله يسقط البحث عن جملة كثيرة من مباحث الحقيقة و المجاز التي أطيل فيها الكلام من دون أن تكون فيها ثمرة عملية بل و لا علمية.

ص: 21

الأمر الثامن: تعريف الحقيقة و المجاز، علامات الحقيقة

الحقيقة عبارة عن كون اللفظ مرآة لذات المعنى بلا واسطة، و المجاز عبارة عن كونه مرآة لما يناسبه بقرينة حالية أو مقالية. و للحقيقة علامات انطباقية قهرية، لا أن تكون جعلية:

الاولى: تبادر المعنى، سواء كان للانس الذهني في الجملة - و لو كان جاهلا بالوضع تفصيلا - أو عند العالمين بالوضع تفصيلا، فإنه علامة للوضع عند الجاهل به.

و اشكل على الأول: بأن التبادر يتوقف على العلم بالوضع، و إلا لا يتبادر شيء قطعا، فإذا كان العلم بالوضع متوقفا عليه، لدار.

و فيه: أن التبادر متوقف على أن اللفظ ليس بمهمل، بل له معنى إجمالا مرددا بين شيئين أو أشياء، و العلم بالوضع متوقف على تبادر معنى خاص عن اللفظ تفصيلا، فتختلف جهة التوقف، فلا دور. هذا إذا علم الاستناد إلى ذات اللفظ، و أما لو شك فيه فبأصالة عدم القرينة لا تثبت الحقيقة، لأنها من الاصول العقلائية التي تجري في استفادة المراد فقط، لا في تشخيص أنه حقيقة أو مجاز.

الثانية: عدم صحة السلب، فإنه كصحة الحمل علامة للحقيقة. و الدور المزبور آت هنا أيضا مع جوابه.

الثالثة: الاطّراد، أي كلما اطلق لفظ باعتبار معنى خاص على مورد، صح إطلاقه في كل مورد تحقق ذلك المعنى بعينه، كإطلاق الرجل على زيد باعتبار الرجولية، فإنه يصح إطلاقه باعتبار هذا المعنى في كل مورد تحققت فيه الرجولية.

و لكن، لما كان الاطراد متحققا في المجاز باعتبار القرينة الخاصة و يطّرد

ص: 22

أيضا، فلا وجه لجعله علامة للحقيقة.

نعم، لا اطراد في المجاز مع قطع النظر عن العلاقة الشخصية، و زيادة قيد بلا قرينة، أو على وجه الحقيقة موجب للدور، لأحذ المعرّف (بالفتح) في المعرّف (بالكسر) فتتوقف معرفة كل منهما على الآخر، و لا وجه للجواب بالإجمال و التفصيل هنا، لأنه لا بد من العلم بالمعرّف (بالكسر) تفصيلا، و المفروض أن من أجزاء المعرّف (بالكسر) قيد «على وجه الحقيقة، أو بلا قرينة» التي هي عبارة اخرى عنها.

ثم إن صحة السلب و عدم الاطراد علامتان للمجاز. و أما عدم التبادر، فهو أعم من كونه علامة للمجاز، لإمكان كون اللفظ مجملا.

الأمر التاسع: حالات اللفظ، الرجوع الى الاصول العقلائية ان اشتبه اللفظ

الألفاظ المتداولة في المحاورات لها حالات من الحقيقة، و المجاز، و الاشتراك، و النقل، و الإضمار - و هو احتياج فهم المراد إلى إضمار شيء - إلى غير ذلك من الحالات المذكورة في المطولات. فإن علم حالة اللفظ و لو من القرائن - مقالية كانت أو حالية - تتبع لا محالة، و إلا فتصل النوبة إلى الاصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم، كأصالة عدم القرينة فيحكم بالحقيقة، و أصالة الإطلاق و العموم التي ترجع إلى عدم القرينة أيضا. و كأصالة عدم النقل، و أصالة عدم الوضع ثانيا، فيحكم بعدم الاشتراك.

و مع عدم جريان مثل هذه الاصول يحكم عليه بالإجمال، سواء جرى الأصل و سقط بالتعارض، أم لم يجر لاختلال أركانه. و أما الاستحسانات التي ذكرت لتعيين حال اللفظ عند التعارض، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار بها ما لم يوجب الظهور.

ص: 23

الأمر العاشر: الدلالة اما تصديقية أو تصورية

الدلالة التصديقية عبارة: عن دلالة الكلام على أن المتكلم معترف بكلامه و جازم به، و هي معتبرة لدى العقلاء مطلقا في المحاورات و الاحتجاجات و غيرها، و لا ريب في توقفها على إرادة المتكلم، و إلا فلا وجه لاعتبارها أصلا، إذ لا وجه لاعتبار ما لا إرادة فيه.

فكل كلام يصدر اختيارا من أي متكلم يدل على أنه معترف بمفاد كلامه، ما لم تكن قرينة حالية أو مقالية على الخلاف.

و الدلالة التصورية عبارة عن خطور المعنى في ذهن السامع عند سماع الكلام، و عن جمع أنها أيضا تتبع الإرادة، و عن آخرين نفي ذلك، و يمكن الجمع بين القولين: بأن من قال بالتبعية، أي التبعية للإرادة الاستعمالية، لأن الدلالة معلولة الاستعمال، و الاستعمال معلول الإرادة. و من قال بعدمها أي الإرادة الحاصلة من جزم نفس المتكلم أو تجزمه بما تكلم به، إذ الإرادة الاستعمالية ليست تابعة لتلك الإرادة، لصحة كون الاستعمال لدواع أخر غير جزم النفس بما يقوله.

إن قلت: فعلى هذا لو سمع الكلام من متكلم بلا شعور و إرادة، يلزم أن لا تكون فيه الدلالة التصورية، مع أنه خلاف الوجدان.

قلت: لا ريب في وجود الدلالة فيه أيضا، لكنها من جهة انس الذهن و ارتكازه بالإرادة الاستعمالية، لا من جهة اخرى، فلا نقض و لا إشكال.

و أما ما ذكره في الكفاية من أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما و الموضوع له خاصا، لمكان أخذ الإرادة الشخصية فيه.

فلا وجه له، لأن الإرادة المأخوذة إنما هي بنحو دخل لحاظ الغاية في المغيا، لا بنحو دخل الجزء في المركب.

ص: 24

الأمر الحادي عشر: المعانى اما تكوينيه او اعتبارية او من المخترعات

لا ريب في أن المعاني إما من التكوينيات - جوهرا كانت أو عرضا - أو من الاعتباريات العقلائية، كالبيع و الصلح، و الإجارة و نحوها، أو من المخترعات، كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها. و لا خلاف في أن ألفاظ غير الأخيرة من الحقائق اللغوية، و لا وجه لجريان نزاع الحقيقة الشرعية فيها.

نعم، زاد الشارع في بعضها حدودا أو قيودا، كالكر، و السفر، و البيع، و الإجارة و نحوها.

و أما الأخيرة فاختلفوا فيها من جهتين:

الاولى: هل هي من المعاني المستحدثة في خصوص الشريعة الختمية أو كانت في جميع الشرائع الإلهية، مع الاختلاف في خصوصياتها في الجملة؟ يظهر من جملة من الآيات، و النصوص الكثيرة الواردة في حالات الأنبياء عليه السّلام الثاني و الشريعة الختمية إنما أكملها، لا أنه أوجد معنى لم يكن الأنبياء يعرفون ذلك المعنى، فهذه المعاني كانت في جميع الرسالات السماوية و إنما أكملتها الشريعة الختمية، كما أكملت جميع المعارف الربوبية.

الثانية: هل تكون ألفاظ هذه المعاني مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام؟ و إنما أوجدها الشارع، أو إنها كانت مستعملة في معان لغوية و إنما استعملها الشارع في ما أراد على نحو استعمال الكلي في القرد، بمعنى الصلاة هو الدعاء و الميل و العطف، و الزكاة هو التطهير، و الحج هو القصد.

و حيث أن الصلاة المتعارفة من مصاديق الدعاء، و الزكاة من مصاديق طهارة المال، و الحج من مصاديق القصد، استعملها الشارع فيها لا أن يكون وضع حادث في الإسلام تخصيصا أو تخصصا؟ قولان: الحق هو الأخير،

ص: 25

للأصل، و لأنه لو كان شيء لظهر و بان و شاع، لا سيما في مثل هذا الأمر العام البلوى، خصوصا مع اهتمام الناس على حفظ مثل هذه الامور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

فاستعماله صلّى اللّه عليه و آله لهذه الألفاظ معلوم نطقا، و وضعه صلّى اللّه عليه و آله لها مشكوك؛ فيطرح المشكوك بالأصل، فيكون استعمال هذه الألفاظ اللغوية، كاستعمال لفظ (الميزان) في الموازين الحادثة بعد وضع لفظ الميزان، كميزان الحرارة و الكهرباء، و مثل كون علم المثلثات ميزانا لمعرفة البراهين، و علم العروض ميزانا لمعرفة الشعر، و في زيارة علي عليه السّلام: «السّلام على ميزان الأعمال»، و مثل هذه الألفاظ كثير لا يحصى مع أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث رأسا، لأن مراده صلّى اللّه عليه و آله من هذه الألفاظ ببيانه و بيان أوصيائه عليهم السّلام معلوم، سواء ثبتت الحقيقة الشرعية أم لا، و قد تقدم أن الظهور المرادي حجة متبعة، سواء استند إلى الحقيقة أم غيرها، و ما كان مجملا يكون ساقطا و لو كان حقيقة.

و أما ما اصطلح عليه ب (حقيقة المتشرعة) فلا وجه له أيضا بعد ما مرّ من أنها حقائق لغوية.

نعم، بناء على أن استعمال الشارع لتلك الألفاظ في المعاني المستحدثة كان على نحو المجاز، لكن صار ذلك المجاز حقيقة متشرعة، لكثرة الاستعمال في المعاني المستحدثة، لا بأس به، و لكن أصل المبنى باطل، كبطلان كون استعمال الشارع لها يكون من المجاز، أو حصول الوضع التخصصي من استعماله، أو أن استعماله ليس من الحقيقة و المجاز، و إنما حصلت الحقيقة التخصصية في لسان تابعيه، فكل ذلك رجم بالغيب و من مجرد الدعوى بلا ريب.

ص: 26

الأمر الثاني عشر: وقع النزاع فى الالفاظ مطلقا

اشارة

وقع النزاع في أن الألفاظ مطلقا موضوعة للمعاني الصحيحة، أو للأعم منها و من الفاسد. و لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص المخترعات الشرعية، كما يظهر من الكلمات، بل يجري في جميع الألفاظ مطلقا.

و الظاهر هو الوضع للأعم، لأن الصحة إما قيد للموضوع له، أو يكون الوضع في حال الصحة مع عدم لحاظ القيدية، و على كل منهما إما أن يراد بها الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة، أو الصحة الاقتضائية الشاملة للفعلية و غيرها.

و لا وجه لاحتمال القيدية مطلقا، لأنه خلاف الأصل و الوجدان، كما لا وجه لاحتمال الوضع في حال الصحة الفعلية، لأن للصحة مراتب متفاوتة جدا، و بناء نظام التكوين على التغير و التبدل، فيكون الموضوع له أي مرتبة منها، فيتعين أن تكون الألفاظ موضوعة للمعاني في حال الصحة الاقتضائية الجامعة لجميع المراتب، و هي عبارة اخرى عن الأعم، فيكون النزاع لفظيا، إذ لا فرق بين الأعم و الصحة الاقتضائية.

ثم إنه نسب إلى المشهور أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصحيحة.

فإن كان مرادهم الصحة الاقتضائية، فلا فرق بينها و بين الأعم. و إن كان مرادهم الصحة الفعلية من كل جهة، فلا دليل لهم، كما تقدم و يأتي.

ثم إنه قد اطيل الكلام في جريان النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية. و الظاهر عدم الاحتياج إلى الإطالة، بل ينبغي أن يقال: إن المسمى في هذه الألفاظ في لسان الشرع و تابعيه، خصوص الصحيحة أو الأعم منها، فيشمل النزاع ما إذا لم تثبت الحقيقة الشرعية أيضا.

و لا بد من التنبيه على امور:
اشارة

ص: 27

الأول: الصحة و الفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكونان مورد البحث في المقام

، و تكون الصحة و الفساد الشرعي من مصاديق كلي الصحة و الفساد العرفي، فموافقة الأمر و عدمها، و سقوط الإعادة و عدمه، و موافقة الشريعة و عدمها، الذي اصطلح الاصولي و الفقيه و المتكلم فيها ليس مغايرا للمعنى العرفي، بل الجميع - بكل معنى لوحظ - ملازم لمعنى التمامية، كما أن ما ذكره الفقيه و الاصولي و المتكلم واحد و إن اختلف التعبير.

الثاني: الصحة و الفساد من الامور الاعتبارية الإضافية لهما أفراد عرضية

و طولية، فربّ صحيح بالنسبة إلى شخص فاسد بالنسبة إلى آخر و بالعكس، بل بالنسبة إلى حالات شخص واحد أيضا، فرب صحيح بالنسبة إلى حالة، فاسد بالنسبة إلى اخرى، و لكل واحد منهما مراتب متفاوتة جدا.

و لا ريب في أن الوضع في ألفاظ العبادات كغيرها من أسماء الأجناس عام و الموضوع له كذلك أيضا، و قد أجمعوا على أنها ليست من المشترك اللفظي، فلا بد على كل من القولين من قدر جامع في البين، يكون هو الموضوع له، مع أن غرض الأعمّي التمسك بالإطلاق، و مقصود الصحيحي ثبوت الإجمال، و كلاهما يستلزمان الجامع، ففرضه مما لا بد منه على كل تقدير.

الثالث: الصحة و الفساد إنما يكونان بالنسبة إلى الذات من حيث التقييد

بالشرائط، لفرض دخالة كل من الأجزاء و الشرائط فيهما بحسب التشريع.

و أما المشخصات فهي خارجة عن الحقيقة و داخلة في المأمور به، و يمكن جعل الجامع مرآة إجمالية بالنسبة إليهما أيضا.

ثم إنه يصح أن يكون الجامع عنوانيا، كعنوان الناهي عن الفحشاء بنحو الاقتضاء من حيث جعله عنوانا مشيرا الى المعنون، لا بنحو لوحظ بنفسه، و أن يكون ذاتيا ماهويا، كذوات الأجزاء بنحو الشأنية أيضا، و أن يكون وجوديا،

ص: 28

كالوجود الاعتباري للصلاة مطلقا في مقابل الزكاة و الحج و الصوم مثلا، و أن يكون حاليا، أي حالة توجه العابد إلى المعبود على نحو الاقتضاء و الشأنية أيضا، و لكنه يرجع إلى الثاني، لأن التوجه عبارة عن النية، و هي إما جزء أو شرط، و كل ذلك يصح أن يقع جامعا.

و لا ملزم لأن يكون الجامع معلوما من جميع جهاته، بل يكفي لحاظه بنحو الإهمال و الإجمال بالعنوان المشير إلى الماهية المبهمة الصلاتية القابلة الانطباق على الصحيحة و الفاسدة، و لا ملزم لجعل الجامع تارة على الصحيح، و اخرى على الأعم، كما فعلوه، بل يكفي تصوير الجامع بينهما، لأن أفراد الصحيح و الأعم متداخلة، فالصحيح لشخص فاسد لآخر، فتصوير الجامع بينهما يغني عن تطويل الكلام، كما لا يخفى.

و قد يقال: إن الجامع إنما هو الأركان، و الزائد عليها معتبر في المأمور به لا في المسمى.

و اشكل عليه: بعدم دوران التسمية مدارها، لصدق الصلاة مع الاخلال ببعضها، و عدم الصدق على خصوص الأركان مع الإخلال بسائر ما يعتبر في الصلاة جزء و شرطا، مع أنه يستلزم أن يكون صدق الصلاة على المستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط مجازا، من باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل.

و فيه: أنه كذلك إن كان الموضوع له الأركان بحدّ خاص و مرتبة معينة.

و أما إذا كان على نحو الاقتضاء من حيث المرتبة، و من حيث لحوق باقي الأجزاء و الشرائط بالنسبة إليها، فلا إشكال فيه أصلا.

و قيل: إن الجامع معظم الأجزاء الدائرة مدارها التسمية.

و اشكل عليه: مضافا إلى ما تقدم في سابقه مع جوابه، أن معظم الأجزاء تتبادل بحسب الحالات، فيلزم كون شيء واحد داخلا في المسمى مرة و خارجا

ص: 29

عنه اخرى.

و فيه: أنه كذلك لو كان معظم الأجزاء ملحوظة على نحو التعيين، لا على نحو الإهمال المنطبق على جميع المتبادلات.

و قيل: بأن وضعها كوضع الأعلام الشخصية، فكما لا تضر التبدلات الخارجية بأصل المسمّى، فكذا المقام.

و اشكل عليه: بأن الموضوع له متعين في الأعلام فلا تضر التبدلات، بخلاف المقام الذي لا تعين فيه بوجه.

و فيه: أن التعين أعم من التعين الخارجي، كما في الأعلام، أو الاعتباري الفرضي، كما في المقام، فيعتبر ما ثلثه الركوع، و ثلثه السجود، و ثلثه الطهور بالمعنى الأعم مما يجزئ شرعا بحسب الحالات المختلفة.

و قيل: بأنه الصحيح المستجمع لجميع الأجزاء و الشرائط من كل جهة، ثم يطلق على سائر الأفراد تنزيلا.

و فيه: أنه مع إمكان فرض الجامع الصحيح و إمكان الإطلاق الحقيقي، لا تصل النوبة إلى الإطلاق التنزيلي.

و الحاصل أنه يصح تصوير الجامع على الصحيحي، بل الأعمّي أيضا، لإمكان تصوير ما ثلثه ركوع، و ثلثه سجود، و ثلثه طهور - كما في الحديث - بالمعنى الأعم من الاختياري و الاضطراري بجميع مراتبها.

و ما يقال: إن الجامع المفروض إما مركب أو بسيط، و الأول يحتاج إلى فرض جامع آخر، لأن المركب قابل للتمامية و النقصان. و الثاني يوجب عدم صحة الرجوع إلى البراءة في موارد الشك في الجزئية و الشرطية، لكونه من الشك في المحصل حينئذ.

مدفوع: بأنه يمكن أن يكون مركبا و لا محذور فيه، لأنه ملحوظ بنحو الإهمال لا التعين، و الإشكال يلزم على الثاني دون الأول. كما يمكن أن يكون

ص: 30

بسيطا، و مع ذلك يصح الرجوع إلى البراءة في الشك في الجزئية و الشرطية، لأن ثبوتها إنما هو بحسب الأدلة البيانية لا مجرد الوضع، و بعد الرجوع إلى الأدلة و عدم الظفر بجزء أو شرط سوى ما ذكر فيها، يصح الرجوع إلى البراءة، عقلا و شرعا في المشكوك، سواء كان الموضوع له بسيطا أو مركبا.

ثم إنه قد استدل للصحيح بالتبادر، و عدم صحة السلب، و سيرة العقلاء في أوضاعهم، و بظهور الأخبار الدالة على آثار خاصة للعبادات، فإن المنساق منها الصحيح، كالأخبار النافية لآثارها عند فقد بعض الأجزاء و الشرائط.

و يمكن المناقشة في الجميع بأنه قد استدل بالأولين للأعم أيضا، و مقتضى السيرة الوضع للصحيح الاقتضائي، لا الفعلي من كل جهة، و هو لا ينافي الأعم.

و ما هو المنساق من الأخبار إنما هو بالنسبة إلى المأمور به لا الموضوع له، فالوضع للصحيح الاقتضائي معلوم و غير مشكوك فيه، و هو لا ينافي الأعم، بل يمكن أن يجعل أصل هذا النزاع لفظيا.

و الجمع بين القولين - و إن بعد عن كلماتهم - بأن يكون مراد من يقول بالوضع للصحيح أي الاقتضائي منه، و هو عبارة اخرى عن الأعم، و مع بطلان الثمرة العملية الآتية يكون هذا الجمع متينا، إذ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

و استدل للأعم تارة بتبادر الأعم، و عدم صحة السلب عن الفاسد، و اشكل عليه بتوقفه على تصور الجامع و هو غير ممكن.

و فيه: ما تقدم من إمكان تصويره بلا محذور.

و اخرى: بصحة التقسيم إلى الصحيح و الفاسد، و لا بد من ثبوت المقسم في الأقسام بلا كلام.

ص: 31

و اشكل عليه: أنه بلحاظ الاستعمال، و هو أعم من الحقيقة.

و فيه: أن وجود المقسم في الأقسام لا بد أن يكون واقعا و حقيقة، لأن الأقسام من أفراد ذات المقسم، و يصدق عليها صدق الطبيعي على أفراده، فلا وجه لاحتمال كونه أعم من الحقيقة إلاّ أن يكون أصل التقسيم مجازيا، و المفروض في المقام خلافه.

و ثالثة: بالأخبار الظاهرة في صدق الصلاة على الفاسدة أيضا، كقوله عليه السّلام للحائض: «تدع الصلاة ما دامت ترى الدم»، و نحوها مما يكون ظاهرا في الصدق على الفاسد.

و اشكل عليه.. تارة: بأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

و فيه: أن الاستدلال باعتبار الظهور العرفي، و هو حجة معتبرة.

و اخرى: بأن مثل هذه النواهي إرشاد إلى الفساد، و إلا يلزم أن يكون إتيان الصلاة الباطلة محرما عليها.

و فيه: أنه لا ينافي الاستعمال في الفاسد، و عدم حرمة الصلاة الباطلة عليها لظهور الإجماع.

ثم إن الظاهر عدم الثمرة العملية لهذا البحث.

و ما قيل: من ظهورها في التمسك بالإطلاق و العموم بناء على الأعمي في نفي مشكوك القيدية دون الصحيحي، لصيرورة الألفاظ مجملة حينئذ. و كذا في التمسك بالأصل العملي، فإن المرجع هو البراءة في مشكوك القيدية بناء على الأعمّي، و الاشتغال بناء على الصحيحي، لفرض الإجمال في الدليل.

مخدوش: بأن الإطلاق و العموم إن كان في مقام البيان، يصح التمسك به لنفي مشكوك القيدية على كلا القولين بعد الفحص عن المقيدات و المخصصات، و إن لم يكن كذلك فلا يصح مطلقا.

كما أنه بعد التفحص في الأدلة الدالة على شرائط المأمور به و أجزائه

ص: 32

و عدم الظفر على ما يدل على اعتبار المشكوك، يكون المرجع هو البراءة على القولين، و قبل التفحص فيها يكون المرجع هو الاشتغال عليهما أيضا. فلا ثمرة بينهما، لا بالنسبة إلى الاصول اللفظية و لا العملية.

و أما ما يقال: من ظهور الثمرة في نذر الصلاة في مكان مكروه، أو لباس كذلك. فإنه بناء على الأعم يكون صحيحا و يتحقق الحنث بالمخالفة. و أما بناء على الصحيح فلا يتحقق الحنث لو أتى بالصلاة كذلك، لكونها باطلة من جهة تحقق النهي الحاصل من مخالفة النذر بها، و النهي في العبادة يوجب البطلان، بل يكون إتيان الصلاة الصحيحة غير مقدورة بناء عليه.

و يرد عليه.. أولا: فلأنه ليس ثمرة البحث الاصولي حتى تقع في طريق استفادة الأحكام الكلية، و إنما هو مسألة فقهية ذات قولين.

و ثانيا: أنه تابع للقصد لا الاستعمال، فإن قصد الناذر الصلاة الصحيحة لا يحنث، سواء كان الوضع و الاستعمال للصحيح أم للأعم. و إن قصد الأعم يحنث، سواء كان الوضع و الاستعمال للصحيح أم للأعم.

و ثالثا: أنه يمكن أن يكون المراد الصحيح الاقتضائي لو لا النذر، فحينئذ يصح النذر و الصلاة، و يحصل الحنث أيضا.

و أما المعاملات فهي إمضائية يكفي في صحتها عدم ثبوت الردع من الشارع، و مقتضى العرف و العادة هو الوضع للصحيح الاقتضائي فيها أيضا، و كلما صدق عليه عناوينها الخاصة عرفا و لم يثبت الردع عنها شرعا، يصح التمسك بإطلاقها و عمومها، لنفي مشكوك القيدية مطلقا، و مع الشك في الصدق العرفي لا يصح التمسك بها كذلك، لأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، فيرجع إلى الاصول الموضوعية، و مع عدمها إلى الحكمية، فلا ثمرة فيها أيضا بين القولين.

ص: 33

الأمر الثالث عشر: ينقسم اللفظ الى المتحد المعنى و اللفظ

اللفظ و المعنى إما متحدان، و يعبّر عنه بمتحد المعنى، أو متعددان، و يعبّر عنه بالمتباين. أو يكون المعنى واحدا عرفا - و إن تعدد بحسب الحيثيات و الدقيات العقلية - و اللفظ متعددا، و يعبّر عنه بالمترادف، أو يكون بالعكس، و يعبّر عنه بالمشترك.

و لا ريب في وقوع الجميع في المحاورات الصحيحة، إلا أنه قد وقع الكلام في الأخير من جهات:

منها: كونه خلاف الفصاحة و البلاغة، لأنه إن اتكل في فهم المراد على القرينة فهو من التطويل بلا طائل، و إلا فهو من الإجمال.

و فيه: أن كلاّ من التطويل و الإجمال قد يكون موردا لأغراض صحيحة، فتصير بها من أهم موارد الفصاحة و البلاغة.

و منها: أنه لا بد من وقوعه لتناهي الألفاظ، لكونها مركبة من الحروف المتناهية، و المركب من المتناهي متناه، و عدم تناهي المعاني فلا بد من وقوعه.

و فيه: أن المعاني متناهية أيضا في كل دورة من الأدوار، و مورد الاحتياج متناهية قطعا، بلا احتياج إلى معان اخرى حتى نحتاج إلى الاشتراك.

نعم، لا ريب في وقوع الاشتراك خارجا، خصوصا في الأعلام الشخصية، و هو أعم من وجوب وقوعه.

و منها: أن استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد إن كان على نحو تعدد الدال و المدلول، فلا إشكال فيه، فيكون نظير الكنايات التي يستفاد من مدلولها المطابقي شيء، و من مدلولها الالتزامي شيء آخر.

و أما إذا كان مستقلا و بالدلالة المطابقية في كل واحد من المعاني بحيث كأنه لم يكن للفظ معنى غيره، فاستدل على بطلانه بوجوه:

ص: 34

الأول: أنه خلف الفرض. و المناقشة فيه واضحة، فإن الاستقلالية أمر اعتباري، فمن الممكن اعتبار الاستقلالية من جهتين، و لا محذور فيه.

و أما حديث أن اللفظ فان في المعنى، و لا يعقل فناء الواحد في الاثنين.

فلا أصل له، لأن اللفظ له نحو من التعين، و المعنى كذلك، و لا يعقل فناء أحد المتعينين في الآخر.

نعم، لا ريب في أن اللفظ عنوان مشير إلى المعنى، و يصح أن يكون شيء واحد عنوانا مشيرا إلى شيئين.

الثاني: أنه مستلزم لتكثّر الواحد، لأن تعدد الدلالة المطابقية مع الاستقلال في كل واحد منهما - كما هو المفروض - يستلزم تعدد الدال قهرا، مع أنه واحد في الاستعمال الواحد، كما هو واضح، فيلزم المحذور.

و فيه: أن تكثّر الواحد بتعدد الاعتبار و الجهة، لا بأس به.

الثالث: أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد وحدة المعنى، أو في حال الوحدة، و الاستعمال في الأكثر ينافي ذلك، فيكون مجازا من باب استعمال الموضوع للكل في الجزء.

و فيه: أن التعدد خلاف الأصل و الوجدان عند وضعنا للأعلام الشخصية، و الوضع في حال الوحدة و إن صح ثبوتا لكن حالات الموضوع له عند الوضع غير دخيلة في الوضع و لا في الموضوع له، و إلا لعمّت المجازية أكثر الألفاظ لو لا كلها، مع أنه من مجرد الدعوى بالنسبة إلى المشترك اللفظي، و الموضوع له في الجميع نفس الذات مع قطع النظر عن أية جهة خارجة عنه، كما لا وجه للتفصيل بين التثنية و الجمع فيجوز فيهما - لأنهما بمنزلة تكرار اللفظ - و بين المفرد، فلا يجوز، لما تقدم من أنه لو كانت الدلالة بنحو تعدد الدال و المدلول، فهو خارج تخصصا من مورد البحث، لأن مورده ما إذا كان الدال واحدا صورة، و اللفظ مع علامتي التثنية و الجمع يكون من تعدد الدال، كما هو واضح، مضافا

ص: 35

إلى أنه إذا لم يصح استعمال المفرد في المتعدد، لا يصح بالنسبة إلى التثنية و الجمع أيضا، لأنهما من عوارضه فيتبعهما ما يلحقه جوازا و منعا.

ثم إنه لا بد في التثنية و الجمع من جهة جامعة بينهما و بين المفرد، لأن معناهما لغة و عرفا فردان أو أفراد من شيء واحد؛ و تلك الجهة الجامعة إما أن تكون النوع المشترك بين الأفراد، أو الجنس البعيد، كما يقال: الماء و النار جسمان، أو هما و التراب أجسام.

و قد تكون مطلق الشيئية، كما يقال: الواجب و الممكن شيئان، و قد تكون مجرد الاشتراك في التسمية، كالتثنية و الجمع بالنسبة إلى الأعلام.

و في التثنية و الجمع بالنسبة إلى المشترك يتصور وجوه:

الأول: استعمال المفرد في معنى واحد، و إرادة فردين أو أفراد منه، و ليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما هو واضح.

الثاني: أن يراد بالمفرد المتعدد، كما إذا استعمل العين في الباكية و الجارية، و اريد بالعينين فردان من كل منهما، و هذا من استعمال المفرد و التثنية في أكثر من معنى.

الثالث: استعمال المفرد في المعنى الواحد، كالجارية، و استعمال التثنية في الجارية و الباكية.

و الظاهر صحة الكل مع القرينة.

و حاصل ما ذكرناه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد أنه يصح بتعدد الدال و المدلول، و التعدد إما خارجي أو اعتباري، فكما يصح في الأول يصح في الأخير أيضا، لبناء جملة من المحاورات على الاعتباريات.

ثم إن ما دل من الأخبار على أن للقرآن بطونا لا يدل على صحة استعمال المشترك في أكثر من المعنى، لأن تلك البطون من قبيل الإشارات و الرموز التي لا يفهمها إلا أشخاص خاصة.

ص: 36

و الكلام في المقام في الاستعمالات المحاورية العرفية. و أما ما ورد في سؤال الهداية من اللّه عزّ و جلّ عند قراءة اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ مثلا، فهو ليس من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد في شيء أبدا، و إنما هو من باب الحالات المقارنة للمتكلم بالآية، لا من المستعمل فيه.

الأمر الرابع عشر: المشتق

اشارة

المعروف أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ عند فعلية التلبّس و حال ظهور الموضوع في مظهر المحمول، و مجاز في غيره. و ظاهر عنوان البحث في كتب القوم أنه في الاستعمال و أنه حقيقة في المتلبس و مجاز فيما انقضى، و ليس البحث في انطباق الكلي على الفرد، لأنه أمر تكويني لا يتصف بالحقيقة و المجاز، بل يتصف بالوجود و العدم، و خارج عن الاستعمال مطلقا، فلا وجه لاحتماله في المقام.

و ذكر المشتق في عنوان البحث إنما هو من باب الغالب لا التخصص، فالمراد به كل محمول يحمل على الموضوع، مشتقا كان أو غيره. فجميع الجوامد المحمولة داخلة في مورد البحث، كقولك: هند زوجة زيد، أو زينب مرأة عمرو، أو بكر غلام خالد، إلى غير ذلك من المحمولات الجامدة.

و ذلك لأن المحمول إما متحد مع الموضوع ماهية، كالإنسان إنسان، أو حيوان ناطق. أو منتزع عن ذات الموضوع و محمول عليه، مثل الأربعة زوج، أو يكون خارجا عن الذات مطلقا، و لكن لا يتصور فيه حال الانقضاء بل جميع حالات الموضوع تكون حال التلبس، كالإنسان ممكن بالإمكان الذاتي مثلا، أو خارج عن الذات مطلقا و يتصور فيه حال الانقضاء، مثل زيد قائم، و عمرو كاتب، إلى غير ذلك من القضايا. و مورد البحث مختص بخصوص القسم الأخير فقط، لأنه يتصور فيه حالات:

ص: 37

فتارة: لم يتلبس الموضوع بالمحمول بعد.

و اخرى: يكون متلبسا به فعلا.

و ثالثة: تلبّس به و انقضى تلبّسه عنه.

و أما القسمان الأولان فليست فيهما إلاّ حالة وحدة، و هي عدم التلبس بعد، و التلبّس بالفعل من كل جهة، و لا خلاف في أن الإطلاق في الأول مجازي، كما لا خلاف و لا إشكال في أنه في الثاني حقيقي، و إنما اختلفوا في الأخير، فالمعروف أنه مجازي، و عن جمع أنه على نحو الحقيقة أيضا. و من ذلك يعرف أن المراد بلفظ الحال في العنوان حالة تلبّس الموضوع بالمحمول، و فعلية صدق المحمول عليه لا غيرها. لا حال النطق - أي زمان التكلم بالقضية - لعدم دلالتها على الزمان، للأصل و الوجدان و الاتفاق.

نعم، تقع كل قضية في الزمان، و هو غير دلالتها عليه، كما هو واضح.

و حال فعلية صدق المحمول هي حال التلبس و حال النسبة المذكورة في كتب القوم.

نعم، حال النسبة بناء على كون المشتق حقيقة في التلبس تكون عينه، و بناء على كونه حقيقة في الأعم يكون موافقا للأعم، كما لا يخفى.

و أما القضايا الأزلية التي تستعمل في صفات الباري عزّ و جلّ الجمالية و الجلالية، فهي خارجة عن المقام بلا كلام، لتنزّه ساحته العليا عن التلبّس و الانقضاء. نعم، في صفات الفعل يتصور ذلك باعتبار المتعلق.

ثم إنه يشهد للتعميم للجوامد النزاع المعروف بين الفريقين في مسألة الرضاع من أنه لو كانت لشخص زوجة رضيعة، و زوجتان كبيرتان، فأرضعت إحدى الكبيرتين الرضيعة حرمتا عليه، لصيرورتهما ام الزوجة، و أما الكبيرة الاخرى إذا أرضعت الرضيعة بعد الاولى فحرمتها مبتنية على أن المشتق حقيقة في الأعم من المتلبّس و من انقضى. و أما إن كان حقيقة في خصوص المتلبّس

ص: 38

فلا تحرم، و قد تعرضنا في المهذب لتفصيل المسألة فراجع.

و لا بد أولا من بيان امور:
الأول: هل يعتبر في صدق المحمول حقيقة على الموضوع بالمحمول؟

مرجع البحث الى أنه هل يعتبر في صدق المحمول حقيقة على الموضوع فعلية تلبس الموضوع بالمحمول، أو يكفي في الصدق الحقيقي صرف وجود التلبس فقط؟ و على هذا، لا فرق بين أنحاء المشتقات مما تدل على الحرف و الصناعات و الملكات و غيرها، لأنه يتصور في جميعها حالة فعلية التلبّس و حالة الانقضاء، فيجري البحث في جميعها، كما لا وجه لإخراج اسم الزمان عن مورد البحث بدعوى أنه لا بد أن يكون الموضوع باقيا في حالتي التلبّس و الانقضاء، و الزمان ليس كذلك، لأنه متصرم و مقتض بذاته، فما هو في حال التلبس شيء و ما هو في حال الانقضاء شيء آخر، فليس شيء واحد محفوظا في الحالتين، إذ فيه إمكان تحقق بقاء شيء واحد فيهما، كطبيعي الزمان، أو الوحدة الاعتبارية الملحوظة، أو وجود الزمان من حيث هو وجود، إلى غير ذلك من الجامع المفهومي، أو الوجودي، أو الاعتباري، على نحو ما مرّ في جامع الصحيح و الأعم.

الثاني: خروج المصادر و الافعال عن مورد النزاع

لا ريب في خروج المصادر و الأفعال عن مورد النزاع، لعدم حملها على الذات، بلا فرق بينهما من هذه الجهة. نعم، الفرق بينهما أن المصدر يدل على الحدث من حيث هو حدث مع قطع النظر عن إضافته إلى الفاعل.

و الفعل يدل على الحدث المضاف إلى جهات، منها الإضافة إلى الفاعل، فهي ملحوظة في معنى الفعل بخلاف المصدر.

و قد يفرّق بينهما بدلالة الفعل على الزمان وضعا، بخلاف المصدر، و لكن يرد عليه: بأن الفعل مركب من المادة و الهيئة، و الدال على الزمان إما المادة فقط، أو الهيئة كذلك، أو هما معا.

و الكل مردود: أما الأول: فلأنه لو دلّت المادة على الزمان لدلّت المصادر

ص: 39

عليه أيضا، لوجود المادة فيها.

و أما الأخيران: فمقتضى الأصل عدم الوضع كذلك، مع أنه لغو، لاستفادة الزمان من إطلاق الفعل على الزمانيات - كما يأتي - مضافا إلى أن الهيئة من المعاني الحرفية، و الزمان من المعاني الاسمية الاستقلالية، إلا أن يقال: الموضوع له مجرد النسبة الزمانية و هو من المعاني الحرفية، و لكن الأصل ينفي هذا الوضع المشكوك فيه، مضافا إلى أن الأفعال الإنشائية مطلقا لا تدل على الزمان. نعم، تقع في زمان الحال و هو أعم من الوضع للزمان، كما عرفت.

مع أنه يصح إطلاق الأفعال بالنسبة إليه تعالى، و هو عزّ و جلّ محيط على الزمان، و لا وجه لتصور الماضي و المستقبل و الحال بالنسبة إليه تبارك و تعالى، إلاّ أن يقال: إن الإطلاق بالنسبة إليه تعالى إنما هو بحسب مخاطبته عزّ و جلّ مع الزمانيات، لا بالنسبة إلى ذاته تعالى، أو باعتبار معيته القيومية مع الممكنات فإنه عزّ و جل مع السابق سابق و مع اللاحق لا حق. مضافا إلى أنه يستعمل الماضي في المضارع و بالعكس في الاستعمالات الصحيحة، و لا وجه للمجاز في ذلك كله. نعم، لا ريب في أن الإطلاقات في الزمانيات تنصرف في الماضي إلى الزمان السابق، و في المضارع إلى الحال أو الاستقبال، و هذا أعم من الوضع، كما هو واضح. و منشأ هذا الانصراف كثرة استعمال الماضي فيما مضى، و المضارع فيما يأتي، و الأمر في الحال. فهذه الاستفادة مستندة إلى الانصراف الإطلاقي، لا التخصيص الوضعي. و لا ثمرة عملية بل و لا علمية مهمة في هذا البحث بعد اعتبار الظهور و لو لم يستند إلى الوضع. نعم، بناء على المعروف بين الأدباء يكون استعمال الماضي في المضارع و بالعكس مجازا، و بناء على عدم أخذ الزمان فيهما وضعا لا يكون مجازا بل يكون حقيقة، لأن الجامع القريب حينئذ بين الماضي و المضارع إنما هو تحرك الفعل من العدم إلى الوجود، و هو الذي أشار إليه علي عليه السّلام: «الفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى»، فكل ما حكم أهل

ص: 40

المحاورة بصحته يصح، و إلاّ فلا يصحّ.

الثالث: فى اشتقاق الافعال، و المناقشة فى ما ذكره القوم، الفرق بين المصدر و اسم المصدر و غيرهما
اشارة

المعروف أن الماضي مشتق من المصدر، و المضارع من الماضي، و اسم الفاعل و المفعول من المضارع، و التثنية و الجمع من المفرد، و لم يستدلوا عليه بشيء، فإن كان ذلك لأنه أسهل للمبتدئ فله وجه، و إلا فلا دليل له من عقل أو نقل، إذ يصح أن تكون جميع الاشتقاقات من المادة المهملة من كل جهة، فضرب، و يضرب، و ضارب، و مضروب، و جميع المتفرعات مشتقة من (ض ر ب) المعراة من الهيئة في عرض واحد بلا ترتب بينها في البين، و ذلك لما هو المعلوم من أن ما كانت له هيئة خاصة لا تصلح أن تقع مادة لشيء آخر له أيضا هيئة مخصوصة، إلاّ بعد زوال هيئته المختصة به. و هذا واضح إن لوحظت المادة مقيدة بالهيئة الخاصة.

و أما إذا لوحظت لا بشرط عنها فيرجع إلى المادة المبهمة المهملة، هذا إذا لوحظ لفظ (الضاد) مقدما، و (الراء) بعده، و (الباء) في الآخر. و إن لوحظ الإبهام من هذه الجهة أيضا تكون هذه الألفاظ المبهمة مادة لمشتقات كثيرة مختلفة في النوع. و على أي حال فالتفرعات و الاشتقاقات عرضية، و لا ملزم لأن تكون طولية.

و الحاصل:

أن الحدث إن لوحظ من حيث مجرد الحدثية من حيث أنه حدث، فهو مصدر، و إن لوحظ من حيث أنه موجود من الموجودات مع قطع النظر عن جهة الحدثية، فهو اسم المصدر، و إن لوحظ من حيث النسبة إلى الفاعل بالنسبة التحققية يعبر عنه بالماضي، و إن لوحظ من حيث النسبة إليه بالنسبة التلبّسية يعبر عنه بالمضارع، و إن لوحظ من حيث النسبة الاتحادية فهو اسم الفاعل أو المفعول أو غيرهما من الصفات المتحدة مع الذات المحمولة عليه، بلا فرق بين كون هذه الملاحظات بالترتيب المعهود بين الأدباء، أو بنحو آخر بأي نحو يتصور.

ص: 41

الرابع: الفرق بين مفاد هيئات الأفعال، و مفادها في الأسماء المشتقة

، أن الاولى للربط الانتسابي إلى الفاعل في الجملة، و الثانية للربط الاتحادي بينهما و بين الموضوعات التي تحمل تلك الأسماء عليها. و كذا هيئة الجملة المركبة من الموضوع و المحمول فيما لم يكن المحمول مشتقا.

و أما الفرق بينهما بما قيل من أن النسبة في الأفعال من النسبة التصديقية، و في الأسماء المحمولة من النسبة التصورية. فلا كلية فيه، بل هو تابع للقرائن، فقد تدل على أنها في الأسماء من النسبة التصديقية، كما أنها قد تدل على أنها في الأفعال من النسب التصورية، و مع عدم القرائن فكل منهما يحتمل الأمرين.

الخامس: لا أصل في المسألة الاصولية يثبت به الوضع للمتلبّس أو للأعم
اشارة

، لأن أصالة عدم ملاحظة حالة التلبّس، فيكون موضوعا للأعم معارضة بأصالة عدم ملاحظة الأعم، فيسقطان بالمعارضة.

و ما يتوهم: من كفاية أصالة عدم ملاحظة حالة التلبس للوضع للأعم، لأن المقام من المطلق و المقيد، لا من المتباينين.

مردود: بأنه من الأخير عرفا، لأن المتلبس و ما انقضى عنه التلبس متباينان وجدانا، فيتعارض الأصلان و يسقطان بالمعارضة لا محالة، كما أن التمسك بأصالة الإطلاق و العموم لحال الانقضاء لا وجه له، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. مضافا إلى أنها - على فرض الصحة - لا تثبت الحقيقة، لأن الظهور الإطلاقي و العمومي أعم منها، كما هو واضح.

كما أن كون الوضع للأعم من الاشتراك المعنوي، و كون الوضع للخصوص مع الاستعمال في الأعم من الحقيقة و المجاز، و عند الدوران بين الاشتراك المعنوي، و الحقيقة و المجاز، يكون الأول مقدما على الأخير، لا دليل عليه.

بل نحو استحسان، و يمكن فرض الاستحسان في تقديم الحقيقة

ص: 42

و المجاز أيضا بل بالأولى، لأن الفصاحة و البلاغة تدور على المجازات و الاستعارات و الكنايات.

نعم، يصح التمسك بالاصول العملية في المسألة الفقهية، و هي إما حكمية أو موضوعية و تختلف بحسب اختلاف الموارد، فإن حصل الانقضاء بعد صدور الخطاب، فمقتضى استصحاب الحكم بقاؤه.

و إن حصل قبله، فمقتضى أصالة البراءة عدم التكليف لو لم يكن أصل موضوعي في البين على الخلاف، و لا ربط لهذه الاصول بالمسألة الأصولية أصلا، لكونها من وظائف الفقه و الفقيه، كما في إجراء الاصول العملية في جميع الموارد من الشبهات الحكمية.

ثم إن التحقيق - كما عليه أهله - هو الوضع لخصوص المتلبّس، و تدل عليه مرتكزات العقلاء، و تبادر خصوص المتلبّس، و صحة السلب عما انقضى، و ما يأتي من إثبات بساطة المشتق الملازم للوضع لخصوص المتلبس فقط، مضافا إلى صدق ما يضاد حالة التلبّس على حالة الانقضاء. فلو كان شخص متحركا فسكن، يصدق الساكن عليه بعد انقضاء التحرك عنه، فإن صدق المتحرك عليه أيضا، فهو من اجتماع الضدين، و لا يتوهمه عاقل إلا مع اختلاف الجهة، و هو خلاف الفرض.

أدلة القائلين بان الوضع للاعم و الجواب عنها

إن قلت: لا وجه لصحة السلب في المقام، لأنها إن كانت مطلقا حتى بالنسبة إلى حالة التلبس، فهي كاذبة قطعا. و إن كانت مقيدة بحال الانقضاء فلا تكون علامة للمجاز، لأن العلامة له ما كانت مطلقة، لا ما كانت مقيدة.

قلت: هي باعتبار حالة الانقضاء فقط، و ليس المقام من الإطلاق و التقييد، بل من المتباينين، لأن حالة التلبّس مباينة مع حالة الانقضاء عرفا، بل دقة أيضا، مع أنه لو كان من الإطلاق و التقييد الاصطلاحي تكون بلحاظ حال القيد - الذي هو الانقضاء - علامة للمجاز وجدانا، و هو المطلوب. و ليس المراد إثبات

ص: 43

المجازية حتى بالنسبة إلى حال التلبس حتى يلزم الكذب.

و دعوى: أن علامة المجاز صحة السلب بقول مطلق، مما لا دليل عليها، بل العلامة صحة السلب بنحو تكون معتبرة عند المحاورة أعم من المطلق و غيره، فكلما صدق صحة السلب تصدق المجازية أيضا، فليست هذه الأمارات حاكمة على الوجدان مطلقا.

و قد استدل للأعم تارة بالتبادر، و اخرى بعدم صحة السلب عما انقضى، و فيهما ما لا يخفى. و ثالثة باستدلال المعصوم عليه السّلام بالآية الكريمة: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ على عدم لياقة من كان مشركا و أسلم لخلافة النبي صلّى اللّه عليه و آله، و لا يتم الاستدلال إلا بناء على الأعم.

و يمكن المناقشة فيه: بأن الخلافة من المراتب الشريفة التي لا ينالها من كان مشركا و لو انقضى عنه الشرك و آمن بعد ذلك، للأدلة الدالة على اعتبار العصمة من المعاصي مطلقا في الخلافة الإلهية، فضلا عن الشرك. و لو اريد من الظلم في الآية الشريفة مطلق المعصية أعم من الشرك، لا يتوقف الاستدلال على دعوى كون المشتق حقيقة في الأعم، لأن القوم كانوا ظالمين بهذا المعنى حين تقمص الخلافة، كما لا يخفى على من راجع المطاعن الواردة فيهم من الطرفين.

بل تصوير الوضع للأعم ثبوتا مشكل، أما بناء على بساطة المشتق - كما هو الحق - فلا فرق بينه و بين المبدأ إلاّ بالحمل، و لا يعقل فرض الوضع للأعم بالنسبة إلى المبدأ - و أما بناء على التركب: فالنسبة إما أن تلحظ مهملة من كل جهة و لازمه الصدق الحقيقي بحسب الاستقبال أيضا مع اتفاقهم على أنه مجاز فيه. و إما أن تلحظ بالنسبة إلى حال التلبس فهو عين الوضع للمتلبس. و إما أن تلحظ بالنسبة إلى الأعم منه و ممّن انقضى، و هو خلاف مفهوم النسبة و معناها، لأن معناها الخروج من العدم إلى الوجود و هو ليس إلاّ حال التلبّس فقط، فلا

ص: 44

وجه معقول للوضع للأعم ثبوتا حتى يستدل عليه إثباتا.

ثم إن الاصوليين اتفقوا على أن معنى المشتق بسيط لحاظا و اعتبارا، بمعنى أن الملحوظ من (عالم) مثلا شيء واحد، و إن انحل بالدقة العقلية الى معروض و عرض. و لكن اختلفوا في أنه كذلك في مقام التبادر اللفظي أيضا، أو أنه مركب فيه.

و الحق هو الأول، لأن المتبادر من كل واحد من العالم، و الضارب شيء واحد يعبر عنه في الفارسية ب (دانا) و ب (زننده) و إن انحل بالدقة العقلية إلى شيئين، و لكن لا ربط للدقيات العقلية بالتبادرات اللفظية، و لا ملازمة بين البساطة التبادرية و البساطة الدقية أيضا. فكما أن المتبادر من كل واحد من البيت و الجدار و الكتاب شيء واحد عرفا مع كونها مركبة في الواقع من الأجزاء، فكذا المقام يكون المتبادر من المشتق شيء واحد و إن انحل في الواقع إلى شيئين، و لا يضر الانحلال الواقعي بالبساطة التبادرية، فالعرف أصدق شاهد على البساطة التبادرية، و فيه غنى و كفاية.

و لا وجه لما استدل به عليها من أنه إن تركب المشتق من الشيء و المبدأ، يلزم دخول العرض العام في الذاتي في جميع القضايا التي تكون محمولاتها ذاتيا للموضوع، كالإنسان ناطق مثلا، لكون الشيء عرضا عاما بالنسبة إلى جميع الأنواع، و إن تركب من الذات و المبدأ، لزم انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية في جميع القضايا الممكنة التي تكون محمولاتها من عوارض الموضوع، كزيد كاتب مثلا، لصيرورة ذات الموضوع حينئذ جزء للمحمول، فتصير ضرورية لا محالة، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري. و ذلك لإمكان اختيار الشق الأول، و لا يلزم دخول العرض العام في الذاتي.

أما أولا: فلأن جميع تلك المحمولات في تلك القضايا من الخواص الكاشفة عن الذاتيات، لا أن تكون ذاتية بنفسها.

ص: 45

و أما ثانيا: فلأن الشيء ينطبق قهرا على الحصص المختلفة التي تكون مع الذاتي ذاتيا و مع غيره عرضيا، فيرجع الإشكال إلى الشق الثاني، و يأتي الجواب عنه.

و يمكن اختيار الشق الأخير أيضا و لا يلزم المحذور، لأن الذات أخذ في طرف المحمول مرآة لتعرف الموضوع، و بمنزلة الرابط، لا أن يكون مستقلا حتى يكون هو المحمول و يلزم المحذور، فكأنه قيل في (زيد كاتب) مثلا، زيد يظهر بهذا الوصف، أو هذه الصفة من مظاهر زيد، و لا محذور فيه، و لو لوحظ مستقلا أيضا على ما فصّل، فكما أنه لو قام شخص مقابل المرآة لا تحصل فيها إلاّ صورة واحدة، فكذلك تكون مرآة النفس، فالتبادرات المحاورية لا تكون إلاّ صورة واحدة، مع أن القضايا المعمولة في العلوم ليست مبنيّة على هذه الدقائق، بل منزّلة على المتعارف بين أهل المحاورة، فربّ شيء لا يصح بالدقة العقلية مع أنه يصح في المحاورات، و ربّ شيء يكون بالعكس، فلا وجه للاستدلال.

و قد ذكرنا أنه لا ثمرة في بساطة المشتق و تركبه، بل لا ثمرة عملية في أصل بحث المشتق، لأن الموارد التي ادعي استعماله فيها في الأعم تكون هناك قرائن معتبرة دالة على ترتب الحكم على الأعم.

ثم إنه قد استدل على التركيب..

تارة: بأن العرض متقوّم بالموضوع، فيحصل التركب لا محالة.

و فيه: إن التقوّم إنما هو في الوجود الخارجي لا في المفهوم، و الكلام في الثاني دون الأول.

و اخرى: بأن المشتق متضمن للنسبة، و هي لا بد أن تكون بين اثنين منتسبين، فيتحقق التركب لا محالة.

و فيه: أنه كذلك في تحليل العقل، و الكلام في المفهوم في المحاورات العرفية.

ص: 46

و يمكن أن يرفع النزاع و جعله نزاعا لفظيا، فمن يقول بالبساطة، أي لم يؤخذ شيء متعين من مفهوم المشتق، و من يقول بالتركب، أي اخذ فيه شيء مبهم من كل جهة حتى من الإبهام و الشيئية، فيكون من الشبح المحض، مثل الظل و ذي الظل، و الظاهر كون هذا مطابقا للوجدان في الجملة. أو يكون مراد من يثبت التركب أي بلحاظ الحمل، و من البساطة أي مع قطع النظر عنه.

فائدتان:
الاولى: لا ريب في صحة حمل المشتق - كما عليه تدور المحاورات -

بخلاف المبدأ، فإنه لا يحمل إلاّ بالعناية. و هذا الفرق من لوازمها غير المنفكة لا أن يكون بالاعتبار، بأنه إن اعتبر المبدأ لا بشرط يصح حمله، و إن اعتبر بشرط لا لم يصح، و ذلك لعدم الصحة في المحاورات و إن اعتبر لا بشرط. كما أنه يصح حمل المشتق و إن اعتبر بشرط لا، فلا أثر لهذا الاعتبار في ذلك، بل الفرق بينهما في الحمل و عدمه من قبيل لوازم الذات.

ثم إنه يكفي في صحة الحمل حسن الإضافة بين المحمول و الموضوع مطلقا بأي وجه كان، سواء كان على نحو الصدور، أم الحلول، أم الوقوع عليه، أم فيه، أم الانتزاع مع الواسطة، أم بدونها، و سواء كان على نحو الحقيقة، أم المجاز المستحسن عرفا.

و يعتبر في الحمل المغايرة في الجملة و الاتحاد كذلك، و هما لا يخلوان عن أقسام ثلاثة:

الأول: أن تكون المغايرة اعتبارية و الاتحاد مفهوميا، كقول: الإنسان إنسان.

الثاني: أن تكون المغايرة حقيقية و الاتحاد وجوديا، كقول: زيد كاتب.

الثالث: أن تكون المغايرة حقيقة و الاتحاد اعتباريا، كقول: زيد أسد.

و الكل صحيح لا إشكال فيه، بل تصح المغايرة و الاتحاد بأي وجه معتبر

ص: 47

في المحاورات العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، و لا دليل على الحصر في موارد خاصة.

الثانية: لا ريب في صحة إطلاق صفات الكمال عليه تبارك و تعالى

كالقادر، و العالم، و الحيّ، كما ورد في القرآن الكريم، و الدعوات الشريفة. كما لا ريب في أن الإطلاق فيه تعالى بالوجوب و التمام، و في غيره بالإمكان و النقصان.

و إنما الكلام في أن هذا الإطلاق عليه تعالى و على غيره يكون على نحو الاشتراك المعنوي، و الفرق إنما هو بحسب الوجوب و الإمكان و التمام و النقصان، كما أثبتوا ذلك في بحث الاشتراك من مباحث الحكمة و الكلام، أو أن الإطلاق عليه تعالى بمعنى نفي الضد، فقولنا: إنه تعالى عالم، أي لا يجهل شيئا، و قادر أي لا يعجزه شيء، و سميع أي لا تخفى عليه المسموعات، إلى غير ذلك من أنحاء الصفات.

الحق هو الأخير، كما في جملة من الروايات، و لا يلزم من ذلك الاشتراك اللفظي، لأن العالم مثلا موضوع لمعنى واحد مطلقا، و هو ما يصح أن يعبّر عنه بالعالم، سواء كان ذلك لإثبات العلم بالنسبة إليه، أم لنفي الجهل عنه. و كذا في باقي الصفات، بل يصح إرجاع الصفات إلى نفي الأضداد في غيره تعالى أيضا، و لا محذور فيه، كما صرّح به بعض أعاظم الحكماء.

ص: 48

المقصد الأول مباحث الألفاظ

اشارة

ص: 49

ص: 50

القسم الأول: الأوامر و البحث فيها يقع ضمن امور:

تقديم:

إن جميع ما يذكر في مباحث الألفاظ في صناعة الاصول إنما هو تشخيص صغريات أصالة حجية الظهور، التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية، فلا بد من الوقوف عند جميع تلك الصغريات على باب العرف، لأنه المرجع في ذلك كله. و منه يعلم أن جملة كثيرة من التطويلات لا وجه لها في هذه العرفيات العامة البلوى.

الأمر الأول في مادة الأمر
اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الاولى: معانى الامر فى اللغة

قد ذكر في اللغة للفظ الأمر معان متعددة، كالشأن، و الفعل و الحادثة، و نحوها، و مقتضى الأصل عدم التعدد إلاّ في ما لا يمكن إرجاعه إلى

ص: 51

جامع قريب عرفي، و في ما أمكن ذلك يكون من المشترك المعنوي لا اللفظي.

و قد ذكر من معاني الأمر الطلب، و الشيء، مع أنه قد يصح استعمال الطلب في مورد و لا يصح استعمال الأمر فيه، كقولك: يا طالب الدنيا، و قولك:

طلبت شيئا فما وجدته. كما أنه يصح استعمال الشيء بالنسبة إلى الأعيان الخارجية و لا يصح استعمال الأمر بالنسبة إليها، إلاّ أن يكون مرادهم المعنى في الجملة، لا بنحو الكليّة.

و أما بحسب العرف - الذي منه الاصطلاح الاصولي - فهو عبارة عن البعث بلفظ افعل، أو ما يقوم مقامه، و تصح الاشتقاقات منه باعتبار تضمنه معنى البعث، و هو معنى حدثي قابل للاشتقاق و التفرع، و ليس المراد أن يكون لفظ الأمر موضوعا للقول المخصوص حتى يكون مثل لفظ الاسم الموضوع لكلمة مخصوصة حتى لا يصح الاشتقاق منه، لأنه ليس فيه معنى حدثيّ. هذا مع الظهور فيه، و أما مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي عن التكليف.

الجهة الثانية: تقوم الامر بالعلو و اما الاستعلاء فلا دليل عليه، و البحث ذلك

مقتضى الارتكازات تقوّم معنى الأمر بالعلو. و أما الاستعلاء فالأصل عدم اعتباره، فيكون الأمر الصادر من العالي الخافض لجناحه أمرا بخلاف ما صدر من الخافض أو المساوي، فلا يسمى ذلك أمرا عرفا، بل ربما يوجب التوبيخ و التقبيح إن كان على نحو الأمر المعهود و لم يكن من السؤال و الالتماس.

ثم إن مادة الأمر في أيّ هيئة استعملت ظاهرة في الوجوب، إلاّ مع القرينة على الخلاف، لانسباق الوجوب منها في المحاورات.

الجهة الثالثة: اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما، و ان الطلب مبرز للارادة لا ان يكون عينها البحث فى اتحاد الطلب و الارادة انشاء
اشارة

يختلف الطلب و الإرادة مفهوما، إذ ربما تستعمل الإرادة فيما لا يصح استعمال الطلب فيه، كقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ، و قوله تعالى: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، و كقولك: «أردت الصلاة فصليت»، إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة. كما أنه يستعمل الطلب

ص: 52

فيما يشكل استعمال الإرادة فيه، كقولك: «طلبت حقي من زيد فأنكر». نعم، لا ريب في تصادقهما في الجملة، و لكنه لا يدل على الاتحاد بالكلية.

و الظاهر من المحاورات أن الطلب مبرز للإرادة لا عينها، و نسبة الطلب إلى الإرادة نسبة اللفظ إلى المعنى في الجملة، و نسبة الكاشف إلى المكشوف مفهوما و حقيقة و استعمالا، و إن اريد من الاتحاد هذا النحو منه، فلا ريب فيه في الجملة، بل الظاهر اختلافهما عرفا أيضا، لأن إحراز الطلب يكفي في إتمام الحجة و صحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث أنه إحراز للطلب بخلاف إحراز الإرادة، فإنه كإحراز الملاك لا بد من كفايته في إتمام الحجة من إقامة دليل عليها من سيرة أو نحوها.

و أما اتحادهما إنشاء فهو مبني على أن يكون مفاد الأمر إنشاء الطلب، و هو مردود، لأن مفاده البعث، و التحريك نحو المتعلق، فكما يحصل البعث بالترغيب إلى المصلحة، و الزجر عن الترك، يحصل بلفظ (افعل) أيضا، فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى يبحث عن أنه متحد مع إنشاء الإرادة، أو لا.

و من ذلك كله يظهر اختلافهما بالدقة العقلية أيضا، كما تقدم من أن الطلب عنوان مظهر الإرادة، و نسبته إليها نسبة اللفظ إلى المعنى، كما لا يخفى.

مع أن من ادعى الاتحاد بينهما لم يأت بدليل عليه إلاّ دعوى الوجدان.

و يمكن رفع النزاع من البين بأن من يدعي الاتحاد يريد به الاتحاد في الجملة، و من يدعي الاختلاف يدعيه كذلك، إذ لا ريب عند أحد في تصادقهما في الجملة.

و لا يخفى أن ما اثبتناه من تغاير الطلب و الإرادة ليس لدفع محذور شبهة تخلف المراد عن الإرادة - كما التزم به الأشاعرة - بل لأجل أن التحقيق يقتضي ذلك، و نجيب عنها بوجه آخر على ما يأتي.

ثم إنه قد جرت العادة في المقام بذكر شبهة الجبر، و شبهة تخلف المراد

ص: 53

عن الإرادة، و شبهة الكلام النفسي، و دفعها، مع أن كل ذلك لا ربط له بالاصول.

الكلام فى شبهة الجبر
أما الشبهة الاولى، فهي مورد البحث في جميع الأديان - سماوية كانت أو غيرها - و هي من الشبهات القديمة جدا. و عمدة المذاهب في أعمال العباد خمسة: ثلاثة منها جبر، و الرابع تفويض، و الخامس أمر بين الأمرين.

الأول من مذاهب الجبر: ما نسب إلى الأشاعرة من نفي الإرادة و الاختيار عن العبد مطلقا، و قالوا: إن نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و إلى العبد بالمجاز، و إن العبد بالنسبة إليه تعالى، كالقلم في يد الكاتب، و السيف في يد القاتل. و من أمثلتهم: قال الحائط للوتد: لم تشقّني؟ قال: سل عمن يدقّني. و استدلوا عليه بظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ، و قوله تعالى:

وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. و أن التوحيد الخالص في الفعل يقتضي نفي الإرادة و الاختيار عما سوى اللّه تعالى.

و يرد عليه.. أولا: أن تلك الآيات معارضة بما هو أقوى منها في الدلالة على نسبة الفعل إلى العبد، كقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، و يصح نسبة خلق عمل العبد إليه تعالى بالتسبيب مع اختيار العبد، كما يأتي. و نفي الرمي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلّى اللّه عليه و آله.

و ثانيا: أنه مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء.

و ثالثا: أنه يلزم منه نفي استحقاق الثواب و العقاب المتفق عليهما في جميع الشرائع الإلهية إلى غير ذلك من المفاسد التي يأبى العقل عنها.

و لو لا ظهور بعض كلماتهم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه، كالعزّة، و الذلّة، و الغنى و الفقر و نحوهما، و يمكن أن يحمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أن مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تعالى جعل للإنسان بل مطلق

ص: 54

الحيوان، إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، و الجبر الاقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد.

الثاني: ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، فلا اثنينيّة بين الخالق و العبد حتى تكون فيه الإرادة و الاختيار، لأن ثبوتهما للعبد يتوقف على تعدد وجوده مع وجود اللّه تعالى، و مع الوحدة لا اثنينيّة في البين، فلا وجه لهما بالنسبة إلى العبد في مقابل اللّه تعالى.

و فيه: مضافا إلى جميع ما ورد على قول الأشاعرة، أنه قد ثبت في محله بطلان القول بوحدة الوجود مطلقا فضلا عن الوحدة المطلقة، بل قد ثبت في الفقه أن هذا القول كفر مع الالتزام بلوازمه.

الثالث: ما عن بعض من أن علم اللّه تبارك و تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى، فعلمه تعالى علة تامة لحصوله، فلا أثر لإرادة العبد و اختياره في فعله أصلا.

و فيه: أنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على كون العلم علة لحصول المعلوم، بل مقتضى الوجدان خلافه، و في جملة من الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل - التي جمعها في الكافي - دلالة عليه أيضا، فراجع.

نعم، يعلم اللّه تعالى أن العباد يفعلون أعمالهم بإرادتهم و اختيارهم، بحيث أن لهم أن يفعلوا و لهم أن يتركوا، فتعلّق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنها مختارة، لا أن يتعلّق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي: المشيئة، و الإرادة، و القدر و القضاء، و الإمضاء و نحوها، و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر، سواء كان هو اللّه تعالى أم العباد.

و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات، و ليست من العلة التامة في شيء.

ص: 55

و هذه كلها تارة التفاتية تفصيلية، و اخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب.

الرابع من المذاهب في أفعال العباد: التفويض، و نسب إلى المعتزلة، فقالوا: إن الأفعال منسوبة إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز، و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى أصلا، و إنما هي مختارة باختيارهم فقط، و لا دخل لاختياره تعالى فيها، لأنه لو كانت أفعال العباد موردا لإرادته تعالى لزم الجبر، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

و فيه: انه مردود عقلا و نقلا، أما الأول فلما يأتي من بيان الأمر بين الأمرين. و أما الثاني فلقوله تعالى: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ، و قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ.

و لما ورد من المعصومين من قول: «لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه»، و لما ورد في الدعوات الكثيرة من الاستعانة به تعالى في جميع الامور.

و الجميع ظاهر ظهورا عرفيا في صحة إضافة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء و الرضا معا، كما في الحسنات، أو على نحو القضاء فقط، كما في السيئات. و قضاؤه تعالى ليس من العلة التامة المنحصرة في شيء أبدا، و إلاّ فهو جبر باطل.

و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي، بأن يقال إن نهاية استغنائه تعالى عن خلقه تقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق و الباطل و إتمام الحجة عليهم، و لكنه تعالى لم يفعل ذلك لمصالح كثيرة، بل جعل إرادته عزّ و جلّ مسيطرة على إرادة عباده على نحو لا يلزم منه الجبر، و هذا هو عين الأمر بين الأمرين الذي يأتي بيانه، و على هذا فلا نزاع في حاق الواقع بين المسلمين.

و أما الأمر بين الأمرين، فهو ما ورد عن أئمة الدين أنه: «لا جبر و لا

ص: 56

تفويض بل أمر بين الأمرين»، و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان، و قد ذكروا في بيانه وجوها:

أولها: أن أفعال العباد إما من الحسنات، أو من المباحات، أو من السيئات و لا رابع في البين.

و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى و إلى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء، و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها، و التأكيد في إتيانها و الثواب عليه و العقاب على الترك في بعضها، يصح الانتساب إليه تعالى - و أي انتساب أقوى و أحسن من ذلك - و يسمى بالانتساب الاقتضائي، لا يبلغ حدّ الإلجاء و الاضطرار.

و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها، صح انتسابها إليه تعالى اقتضاء أيضا، كما تقدم في الحسنات. فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه تعالى بها و قضاؤه لها.

و من خلقه تعالى للنفس الأمّارة و الشيطان، صح نسبة السيئات إليه تعالى، لكونه خالقا لمنشئها، و هذا الوجه يجري في الأولين أيضا، لأن خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض.

و بالجملة يصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في الجميع، من الحسنات و المباحات و السيئات.

إن قيل: إنه تعالى منزّه عن انتساب السيئة إليه مطلقا.

قلت: لا وجه للانتساب إليه تعالى بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها بلا إشكال فيه من أحد، بل هو لغو. نعم، هو تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئة مع نهيه عنها، و إظهار سخطه و توعيده عليها، و قد فعلها العبد بسوء اختياره، فمنشأ النسبة إليه تعالى من جهة أنه خلق الذات القادرة المختارة مع ابلاغ النهي و التوعيد، و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا القضاء الحتم،

ص: 57

و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا. و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً.

و بعبارة أوجز: أن في الحسنات و المباحات تعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء و القضاء، و الإذن و الترغيب، و خلق الذات القادرة المختارة.

و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة، و القضاء بنحو الاقتضاء مع النهي و التوعيد و إتمام الحجة على الترك من كل جهة، و كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل.

ثانيها: أن لكل فعل أسبابا خفية لا تدركها العقول، و أسبابا ظاهرة تدركها، و الاولى يصح أن تكون من اللّه تعالى، و الثانية من العبد.

ثالثها: أن يكون المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى، و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه.

إن قلت: بعد ما اشتهر من أنّ السعيد من سعد في بطن أمه، و الشقي من شقي في بطن أمّه، و ما ورد في الأخبار من أن الإنسان مركب من طينة العلّيّين، و طينة السّجّين، و مصير الاولى إلى الجنّة و الثانية إلى النار، لا أثر للاختيار.

قلت: يجاب عنه بوجوه: منها أن المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، و بالشقاوة الحرمان عنها، المستندة إلى الأسباب الخفية التي قصرت العقول عن الإحاطة بها.

و منها: ما في مرسل ابن أبي عمير: «سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام: عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشقي من شقي في بطن أمّه، و السّعيد من سعد في بطن أمّه؟ فقال عليه السّلام: الشّقيّ من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء، و السّعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء...».

و منها: ما في بعض الأخبار أنه يكتب في جبينه - و هو في بطن أمه - ما

ص: 58

سيئول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة، و في بعض الأخبار: «السعيد من ختم اللّه له بالسعادة، و الشّقيّ من ختم له بالشقاوة»، و في جملة من الدعوات المعتبرة:

«اللّهم إن كنت شقيّا فامحني و اكتبني من السعداء».

و على أي تقدير السعادة و الشقاوة المنسوبتان إلى جعله تعالى اقتضائيتان، لا على نحو العلة التامة المنحصرة الذاتية، لأنه مع الشقاوة و السعادة الذاتية يلزم منه توالي فاسدات لا يرتضيها العقل و العقلاء، و تصير هذه الدعوات باطلة، كما لا يخفى.

و أما ما ورد في الطينة، فلا تدل على أنها علة تامة منحصرة، بل غايتها إثبات الاقتضاء لها في الجملة، ثم بعد الخلط بين الطينتين يصير الاقتضاء أيضا ضعيفا، فقد خلق اللّه تعالى الإنسان من مقتضى الخيرات، و من مقتضى الشرور لمصالح شتى، ثم خلق فيه العقل و الاختيار، ثم بعث الرسل و أنزل الكتب و بشّر بالثواب على الخيرات و أنذر بالعقاب على الشرور، و خلق الجنة و النار، فلا منشأ لتوهم الجبر و التفويض في أفعال العباد، كما ورد تفصيل ذلك في الأخبار عن الأئمّة الأطهار، و تدل عليه الأدلة العقلية، كما فصّل في محله.

ثم إنه لا اختصاص للأمر بين الأمرين بخصوص أفعال العباد، بل يجري في جميع المعلولات الحاصلة بالعلل التكوينية، فالنبات الذي ينبت في الربيع - مثلا - ينسب إلى المقتضيات التكوينية، كما ينسب إلى إرادة اللّه تعالى، و كذا في تكوين الإنسان و الحيوان، و الدم، و اللحم، و غيرها مما لا يحصى.

و أما الشبهة الثانية - و هي شبهة تخلّف المراد عن الإرادة -

فبيانها: أن اللّه تبارك و تعالى إما أن يكون قد أراد الإيمان و الطاعة من الأنام أو لا فعلى الأول يلزم أن لا يتحقق كافر و لا فاسق، لامتناع تخلّف مراده تعالى عن إرادته. و على الثاني يلزم أن يكون إنزال الكتب و إرسال الرسل لغوا باطلا.

و اجيب عنها بوجوه..

ص: 59

منها: القول بتغاير الطلب و الإرادة، و أن ما هو في مورد إيمان العباد إنما هو الطلب دون الإرادة، و تخلّف الطلب عن المطلوب ممكن، و إن لم يمكن تخلّف المراد عن الإرادة.

و فيه ما لا يخفى: فإنّه مجرد الدعوى، مع أن نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف ظواهر جملة من الآيات و الروايات.

و منها: أن الإرادة إنما هي الفعل و الإحداث، فهي من صفات الفعل، سواء كانت في اللّه تعالى، أم في العبد، و لا تخلّف لمراده تعالى عن إرادته في المقام، لأن فعله تعالى بالنسبة إلى العبيد هو الدعوة إلى الإيمان و البعث نحو الخيرات، و الزجر عن الشرور، و قد فعله اللّه تعالى بإنزال الكتب و بعث الرسل بالنحو الأتم الأكمل، فلا وجه لتخلّف المراد عن الإرادة.

و منها: أن الإرادة علة تامة لحصول المراد، إن لم يكن اختيار الغير فاصلا بين الإرادة و المراد. و أما مع فصله فلا وجه لكونها علة تامة، و إلا لزم الجبر حينئذ مع اختيار الإيمان، بل و مع اختيار الفسق و العصيان أيضا. و تقدم في دفع شبهة الجبر ما ينفع المقام، فراجع.

و أما الشبهة الثالثة - في شبهة الكلام النفسى

و هي شبهة الكلام النفسي - فقيل فيها: أنه لا ريب في صق المتكلم عليه تعالى، و قال عزّ من قائل: وَ كَلَّمَ اللّهُ مُوسى تَكْلِيماً. فإن كان المراد بالتكلّم فيه تعالى نفس هذه الأصوات و الحروف و الهيئات المستحدثة، لزم كونه تعالى محلا للحوادث، و هو تعالى منزّه عنها.

و اجيب عنها: بأن الكلام فيه عزّ و جلّ قديم قائم بذاته، و هو غير العلم، و الإرادة و سائر الصفات، و هذه الحروف و الأصوات و الهيئات مخلوقة كاشفة عنه، لا أن تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلا للحوادث.

و فيه: أن التكلم عبارة عن إيجاد الحروف و الأصوات و الهيئات الخاصة، سواء كان بالآلات الخاصة، كما في تكلمنا، أم الإبداع كما في تكلّمه تعالى.

ص: 60

فتكلّمه تعالى عبارة عن خلق الأصوات و الحروف و الهيئات، كما أن إيجاده تعالى لسائر الممكنات عبارة عن خلقها، فلا ملزم للكلام النفسي بوجه، لا فيه تعالى و لا في غيره. إلا أن يكون مرادهم به تقدير الكلام و القضاء به قبل خلقه، فله وجه، إذ ما من شيء إلا و له قضاء و قدر مطلقا، سواء كان في فعله تعالى، أم في فعل غيره. و كذا يصح أن يكون المراد بالكلام النفسي النسبة الكلامية القائمة بالطرفين، و لا مشاحة في الاصطلاح. نعم، لا ريب في وجود الأحاديث النفسانية في الإنسان، كما يدل عليه الوجدان، فإن أرادوا بالكلام النفسي في الإنسان ذلك فلا إشكال فيه.

هذا، و في جملة من الروايات التصريح بأن كلامه تعالى حادث، لا أن يكون قديما و لا نفسيا.

ثم إن من فروع الكلام النفسي مسألة أن القرآن مخلوق أو قديم. و لا وجه للقدم في القرآن إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلّقه به، و بغير ذلك لا يتصور معنى للقدم، فلا وجه لكون القرآن قديما أيضا، إلاّ أنه تعالى عالم بما ينزله من القرآن. و القدم بهذا المعنى لا يختص بالقرآن، بل يعمّ جميع ما سوى اللّه تعالى مما يعمه علمه عزّ و جلّ.

ص: 61

الأمر الثاني في صيغة الأمر و الكلام فيها يقع من جهات:
الجهة الاولى: معاني صيغة الامر

قد ذكر لصيغة الأمر معان كثيرة: من التهديد، و الترجي، و الإهانة و نحوها، و مقتضى الأصل عدم تعدد الوضع بالنسبة إليها، كما أن مقتضاه عدم تعدد المستعمل فيه أيضا، و المتيقن إنما هو الاستعمال في البعث نحو المطلوب و التحريك إليه و إيجاد الداعي له.

و كون ما ذكر لها من المعاني من دواعي الاستعمال، كما هو الشأن في كثير مما ذكر من المعاني المتعددة لجملة من الألفاظ، فلا اختلاف في الموضوع له و لا في المستعمل فيه، و إنما الاختلاف في الدواعي، و لا ريب في أنها خارجة عن كل منهما. و لا إشكال في أن أصل استعمالها في البعث و التحريك التنزيلي، مسلّم عند الكل، و مقتضى الإطلاق أن يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي، إلاّ أن تكون قرينة على الخلاف. و منه يعلم أن التمني، و الترجي، و الاستفهام، الواردة في كلامه تعالى مستعملة في معانيها الإنشائية بدواع شتى، منها التكلم مع الناس بما يليق بهم في كيفية المحاورة بينهم، و المستحيل إنما هو استعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى. و أما الاستعمال في المعاني الإنشائية

ص: 62

بدواع اخرى، فلا استحالة فيه أبدا.

الجهة الثانية: الاختلاف في كون الصيغة حقيقة في مطلق الطلب

اختلفوا في أنها هل تكون حقيقة في مطلق الطلب، أو في الوجوب أو في الندب؟ و الظاهر سقوط هذا البحث من رأسه، لما تقدم من أن مفادها البعث نحو المبعوث إليه، و مقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي، فيحكم العقل حينئذ بلزوم الامتثال ما لم تكن قرينة على الترخيص.

فالوجوب حكم عقلي بعد تمامية الحجة و البيان، كما أن الندب يستفاد من القرائن الخارجية، لا من نفس الصيغة من حيث هي. نعم، يصح إضافة كل منهما إلى الصيغة بالعناية. و إن أراد من قال بأنها حقيقة في الطلب ما ذكرناه، فنعم الوفاق، و إلا فلا دليل له عليه.

و ما يقال: من أن الحاكم بالإلزام لا بد أن يكون من بيده الجزاء، و العقل بمعزل عن ذلك.

مدفوع: بأن للجزاء مرتبتين، مرتبة الاستحقاق على المخالفة، و مرتبة الفعلية، و الاولى من حكم العقل و مترتبة على إلزامه، و الأخيرة وظيفة الشارع، و تكون بيده و تحت اختياره.

الجهة الثالثة: الجملة الخبرية تكون كصيغة الامر في افادة الوجوب اذا وردت مورد البعث

قد استقرّت السيرة على أن الجمل الخبرية التي علم بورودها مورد البعث، تكون مثل صيغة الأمر في إفادة الوجوب. ما لم تدل قرينة على الخلاف، و قد استعملت في معانيها الحقيقة و هي النسبة الإخبارية، لكن بداعي البعث و التحريك لا بداعي مجرد الإخبار. و لا إشكال فيه لكفاية مثل هذه الجمل في إتمام الحجة، فيحكم العقل بلزوم الامتثال مع عدم ورود الترخيص؛ فالإلزام مطلقا - فعلا كان أو تركا - إرشاد من حكم العقل، و من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل، فكيف بالمقطوع؟! فيصح العقاب على الترك حينئذ عقلا و شرعا.

هذا إذا أحرز أنها وردت في مقام البعث و الإنشاء. و أما إذا شك في ذلك

ص: 63

أو علم بورودها في مقام الإخبار فقط، فلا وجه لاستفادة الوجوب منها، بل مقتضى الأصل عدمه.

الجهة الرابعة: لا تدل الصيغة لا على المرة و لا على التكرار باى دلالات الثلاث
اشارة

لا تدل الصيغة على المرة، و لا على التكرار مطابقة، و لا تضمنا، و لا التزاما بالملازمة الشرعية أو العرفية أو العقلية، إذ ليس مفادها إلاّ البعث نحو المطلوب فقط و التحريك إليه، و إيجاد الداعي للعبد و إتمام الحجة عليه، و كل ذلك على نحو اللابشرط عن كل قيد حتى عن اللابشرطية.

و كذا ليست في البين قرينة عامة مقرونة بها تدل على أحدهما.

نعم، يمكن استفادة المرة أو التكرار من القرائن الخاصة في موارد مخصوصة، و مع فقدها فمقتضى أصالة الإطلاق الاكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الامتثال بذلك عرفا، و هو مقتضى أصالة البراءة أيضا، لأن الشك في الزائد عليه شك في أصل التكليف، و مع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة، فيتطابق مفاد الأصل اللفظي و العلمي على عدم اعتبار خصوصية زائدة على مجرد إتيان المتعلق فقط. هذا و لا بد من التعرض لامور:

التعرض الى الامور
منها: أن المرة تطلق على الفرد و الدفعة، و بينهما عموم مطلق

، لصدقهما فيما أتى بذات المأمور به، و صدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بأفراد منه دفعة.

و لا يخفى أن هذا البحث إنما هو في ما أمكن التعدد في متعلق الأمر، و إلا فالبحث ساقط من رأسه.

و منها: حكي عن الفصول أن هذا البحث إنما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط

، لاتفاق الأدباء على أن المصدر المجرد عن اللام و التنوين يدل على الماهية المطلقة و الطبيعة الصرفة، و المصدر أصل المشتقات و مادة لها، فلا مورد حينئذ للنزاع بالنسبة إلى المادة.

و فيه.. أولا: ما تقدم من أنه لا وجه لكون المصدر أصلا، لأن له هيئة، و ما كان ذا هيئة لا يقع مادة لغيره. نعم، يصح أن يقع لحاظه منشأ لوضع الصيغ

ص: 64

و نظمها، و ليس هذا من المادة في شيء.

و ثانيا: أن المادة المجردة لها حكم، و المادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر.

و ثالثا: أن المادة و الهيئة متلازمتان، فعوارض إحداهما تنسب إلى الاخرى، لمكان الاتحاد، فلا وقع لهذا النزاع.

و منها: أنه قد يتوهم أن المراد بالمرة و التكرار في المقام خصوص الدفعة و الدفعات

، لأنه لو كان المراد الفرد و الأفراد لكان البحث من متممات البحث الآتي من أن الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد، و على الثاني فهل المراد المرة أو التكرار؟ لا أن يجعل بحثا مستقلا.

و فيه: أنه يصح جعله بحثا مستقلا و لو اريد به المرة و التكرار، لأن مجرد التشابه بين المسألتين في الجملة لا يوجب جعلهما بحثا واحدا مع تحقق الاختلاف العرفي بينهما.

و منها: أنه لا إشكال في وجوب التكرار بناء على استفادته من القرائن

، كما لا إشكال في الاكتفاء بالمرة بناء على استفادة المرة، أو الإطلاق المحض، لانطباقه عليها قهرا. و هل يجوز التكرار عليهما؟ لا ريب في جوازه رجاء، للأصل.

و أما بقصد الأمر، فإن كان المأتي به علة تامة لسقوطه من جميع الجهات - خطابا، و ملاكا، و قبولا - فلا يعقل حينئذ قصده، لفرض سقوطه من كل جهة.

و أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالإتيان بقصده، لاحتمال بقائه، و يأتي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الخامسة: لا تدل الصيغة بشيء من الدلالات على الفور،

أو التراخي. نعم، مقتضى المرتكزات حسن المسارعة إلى الامتثال، و حسن الفورية فيه.

ص: 65

و آيتا المسارعة و الاستباق - لو تمت دلالتهما - لا تكون إلا إرشادا إليها، فلا يستفاد منهما حكم إلزامي مولوي، كما أن مقتضى الإطلاق، و سهولة الشريعة المقدسة هو التراخي بالنسبة إلى الزمان. فصحة التراخي مقتضى التسهيل، و حسن الفورية مقتضى الارتكاز، و لا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر.

و من ذلك يظهر أنه لو ترك الفورية لا يرتفع حسنه، بل يظل حسنه مطلقا فورا ففورا، ما لم يأت بالمأمور به، و ما لم يسقط التكليف.

الجهة السادسة: الواجب إما متقوّم بإتيانه بقصد الأمر
اشارة

، و يعبّر عنه بالتعبدي، أو لا يكون كذلك، و هو التوصلي، و لا ريب في ثبوتهما في الشرع، كالصلاة و أداء الدين.

و قد وقع الخلاف في أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة - جزء أو شرطا - شرعي أو عقلي. فعن جمع أنه عقلي و يمتنع أن يكون شرعيا، لأنه إن كان بنفس الأمر الواحد المتعلّق بالعبادة، فهو مستلزم لتقدم ما هو متأخر طبعا، و هو محال، لأن موضوع الأمر و متعلقه متقدم طبعا على الأمر، كما في العارض و المعروض، فإذا أخذ الأمر المتأخر عن الموضوع في موضوعه، يلزم تقدم المتأخر طبعا، و هو محال.

و يصح تقريب الإشكال بنحو الدور أيضا بأن يقال: إن الأمر متوقف على متعلقه، و المفروض أن المتعلق أيضا متوقف على الأمر به، فيلزم الدور، بل يلزم المحذور في مقام الامتثال أيضا، لأن الامتثال هو الإتيان بالعمل بأجزائه و شرائطه التي منها قصد الأمر بقصد الأمر، فيكون قصد الأمر متأخرا طبعا عن الأجزاء و الشرائط، و المفروض أن منها قصد الأمر، و كيف يصح الامتثال حينئذ؟!.

و الجواب: أنه لا محذور فيه، لاختلاف المتقدم و المتأخر بالحيثية و الجهة، فما هو المتقدم إنما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج، و ما هو

ص: 66

المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر، و بهذا يجاب عن الدور أيضا.

و أما في مقام الامتثال، فما هو قيد للعمل إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر، و ما هو المتأخر إنما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل، و مع تعدد الجهة و اختلافهما، و كفاية ذلك في دفع المحذور، يرتفع أصل الإشكال من البين، فلا يكون أي محذور في أخذ قصد الأمر في المتعلّق بنفس الأمر المتعلّق به، فضلا عما إذا كان بأمرين.

و ما يقال: من الإشكال عليه بأنه إذا سقط الأمر الأول بامتثال متعلقه لا يبقى موضوع للأمر الثاني، و إلا فلا وجه للأمر الأول.

مردود: بأن الأمر الأول يسقط مع امتثاله من جهة خاصة، لا من جميع الجهات، و سقوطه المطلق يتوقف على امتثال الأمر الثاني، كما هو الشأن في جميع الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب المتممة للجعل الأولى، و بعد إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق، إما بالأمر الواحد أو بأمرين، يصح التمسك بالإطلاق اللفظي، لنفي القيدية عند الشك فيه، فتثبت التوصلية لا محالة.

مع أنه لو لم يمكن الإطلاق اللفظي - بناء على امتناع التقييد فيمتنع الإطلاق، لأنهما من العدم و الملكة - يمكن التمسك بالإطلاق المقامي الواقعي، لأنه بعد امتناع الإطلاق و التقييد اللحاظي اللفظي يثبت الإطلاق المقامي الواقعي لا محالة. و الملازمة بين امتناع التقييد و امتناع الإطلاق إنما هي في اللفظي منهما دون الواقعي النفس الأمري.

و لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي، فمقتضى البراءة العقلية و النقلية عدم وجوب قصد الأمر، و ليس المقام من موارد الشك في حصول الغرض حتى يجب الاحتياط، لأن وجوبه إنما هو في ما إذا علم الغرض بحدوده و قيوده و تمت عليه الحجة من الشارع، و شك المكلف في مقام الامتثال في أنه هل حصل الغرض أو لا؟ و أما إذا شك في أصل حد الغرض ثبوتا مع عدم دليل عليه

ص: 67

إثباتا - و إن كان لأجل امتناعه - فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الاحتياط حينئذ.

و بالجملة:

الغرض الذي علم ثبوته واقعا بحده وجب تحصيله و لو بالاحتياط، كما في أطراف العلم الإجمالي، و الشبهات البدوية قبل الفحص، لا ما إذا كان أصل ثبوته مشكوكا فيه، إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتياط حينئذ.

و بالجملة أنه تطابق الأصلي اللفظي و الحالي و الذاتي، و الأصل العملي على التوصلية عند الشك فيها و في العبادية.

أما وجوب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب. فهو مردود..

أولا: بأنه محكوم بالإطلاق اللفظي - بناء على جواز أخذ قصد الأمر في المتعلّق - و بالإطلاق المقامي الحالي و الذاتي بناء على عدم الجواز.

و ثانيا: بأنه إن اريد به دخل قصد الأمر في المتعلّق، فهو مثبت.

و إن اريد به وجوب قصد الامتثال من غير دخله في المتعلّق، ففيه: أنه ليس أثرا لنفس المتيقن المستصحب، لأنه ذات الوجوب من حيث هو، و قصد الامتثال غير ذات الوجوب من حيث هو. مع أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المشكوك عين المتيقن شرعا.

و إن أريد به حكم العقل بوجوب الاحتياط، فهو باطل، لأنه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الاحتياط و تحصيل الغرض المشكوك الثبوت، فكيف يحكم بذلك لأجل الاستصحاب؟!

هذا كله إذا كان التعبد لقصد الأمر. و أما إذا كان لجلب الثواب أو للفرار من العقاب، أو لأنه تعالى أهل لأن يعبد أو غير ذلك، فامكان أخذها في المتعلّق بأمر واحد أو بأمرين مما لا ريب فيه، و لم ينكره أحد.

ص: 68

ختام فيه امور:
أحدها: تعتبر المباشرة فى العبادات، و عدم سقوطها بالمحرم

ظاهر أدلة العبادات اعتبار المباشرة فيها، إلا أن يدل دليل على الخلاف، و عليه استقرت الفتوى و السيرة أيضا. كما أن مقتضى المرتكزات عدم سقوط العباديات بالمحرّم، لأن التقرب بالمبغوض مما تأباه العقول، و أما التوصليات فلا يعتبر فيها المباشرة إلا مع الدليل على الخلاف، كما أنها تسقط بالمحرم و إن أثم، و كل ذلك من القضايا التي قياساتها معها. و تفصيل هذا الإجمال يطلب من الفقه.

ثانيها: اطلاق دليل الوجوب يقتضى كونه عينيا نفسيا تعيينيا، و مقتضى الاصل العملى

إطلاق دليل الوجوب يقتضي أن يكون عينيا نفسيا تعيينيا، لأن الكفائية، و الغيرية، و التخيرية، تحتاج إلى دليل خاص، و قرينة مخصوصة، و مع العدم فالمرجع إنما هو حكم العقل، فكما استفدنا أصل الوجوب بحكم العقل، فكذا عدم هذه الخصوصيات أيضا. و هذا مقتضى الأصل العملي أيضا، أي أصالة عدم السقوط بفعل الغير، أو في ضمن فرد آخر. يمكن أن يستدل عليه بأصالة الإطلاق أيضا، لأن استفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له، لأن أدلة الأحكام تدل على الأنواع لا الجنس من حيث هو، و استفادة التخيير بين الأنواع أيضا ممنوع، فينحصر الإطلاق في ما ذكر على فرض كون الوجوب مفاد الدليل اللفظي، فتتحد نتيجة الأصل العملي مع الأصل اللفظي. نعم في ما لو شك في الوجوب الغيري، و لم يكن وجوب ذي المقدمة فعليا، يكون حينئذ من الشك في أصل الوجوب، و المرجع البراءة، بخلاف ما إذا كان فعليا فإنه يجب الإتيان به لا محالة.

ثالثها: وقوع الامر بعد الحظر لا يكون من القرينة العامة على الاباحة بل هى تابعة للقراءة الخاصة

وقوع الأمر بعد الحظر - كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ... فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، أو بعد توهمه، كما إذا سئل عن جواز الشيء فاجيب بالأمرية - لا

ص: 69

يكون من القرينة العامة المعتبرة الدالة على الإباحة مطلقا، بل يصير اللفظ حينئذ مجملا، فيتبع القرائن الخاصة التي تدل على الإباحة تارة. و على الوجوب اخرى، و مع فقدها فالمرجع أصالة البراءة و نتيجتها الجواز، و لا يبعد جعلها حينئذ من القرائن العامة على الجواز. و كذا الكلام في النهي الواقع بعد الأمر، أو توهمه.

رابعها: ايجاب شىء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء

إيجاب شيء على المكلف مع العلم بانتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة، و كل قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك و تعالى، فيكون من التكليف المحال أو بالمحال. نعم، لو كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا إشكال فيه، لأن وجود المصلحة يرفع قبحه، بل قد يكون تركه قبيحا. و كذا لو كان إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط، و لكن تمكن منه حين فعلية التكليف، و لا إشكال فيه، بل هو شايع.

خامسها: فى الامر بالامر بشىء و استفادة الوجوب بالنسبة الى المامور الثانى تابعة للقرائن

من الشائع المتعارف، و عليه جرى بناء الشارع الأمر بالأمر بشيء، و لا ريب في أنه يستفاد منه الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني إن دلت القرينة على أن الواسطة واسطة في الإبلاغ و الإرسال فقط، كوساطة المرسلين في إبلاغ أوامر اللّه تعالى.

و إذا لم يكن كذلك، و شك في أن الأمر من الآمر الأول صدر للإيجاب على المأمور الثاني، أو لغرض آخر، فهو من الشك في أصل الوجوب، و مقتضى الأصل فيه البراءة، و لا يبعد أن يقال: إن الظاهر كونه في مقام الإيجاب على المأمور الثاني، إلا مع القرينة على الخلاف.

سادسها: اذا ورد الامر بشىء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله يكون الثانى تاكيدا للاول، و ان ورد بعد امتثاله فهو ايجاب آخر

إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله، فمقتضى المحاورات أن الثاني تأكيد للأول، و إن ورد الأمر بشيء بعد امتثاله فهو إيجاب آخر لا ربط له بالأول و إن كان مثله، إلا مع القرينة على الخلاف في الموردين.

و مع الشك في أنه من أيّهما تكون الشبهة من الأقل و الأكثر، فيجزي امتثال واحد

ص: 70

و تجرى البراءة عن الأكثر.

سابعها: لا دلالة لدليل نسخ الوجوب و لا دليل المنسوخ على الابقاء الجواز بعد النسخ و الاقوال فيه ثم ردها، ذكر ما تقتضيه الاصول العلمية و الحكيمة

لا دلالة لدليل نسخ الوجوب، و لا لدليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ. أما بالدلالة المطابقة فمعلوم الانتفاء، و كذا الالتزام، إذ لا ملازمة عقلية و لا عرفية و لا شرعية بين دليل الناسخ أو المنسوخ و الجواز بوجه.

و قيل: إنه يدل عليه بالتضمن، لأن الوجوب عبارة عن الترخيص في الشيء مع المنع عن الترك، فإذا نسخ المنع من الترخيص يبقى الجواز بالدلالة التضمنية.

و فيه: أولا: أن مفهوم الوجوب بسيط لا أن يكون مركبا، سواء كان بحكم العقل، أم من مدلول اللفظ.

و ثانيا: على فرض التركب لا وجه لبقاء الجنس خارجا مع زوال الفصل، كما تقرر في محله، إلاّ أن يتمسك بالعرف. هذا بحسب الاستظهارات اللفظية.

و أما الاصول العملية فهي إما حكمية أو موضوعية.

و الاولى منحصرة في أصالة الإباحة، و لا مانع من جريانها.

و الثانية عبارة عن استصحاب أصل الجواز، و هو لا يجري، لما تقدم من بساطة الوجوب، فلا جواز في البين حتى يكون مجرى له. و على فرض التركب فهو من استصحاب القسم الثالث من الكلي، و يأتي بطلانه في محله.

ثامنها: متعلق الالتزام هل هو الطبيعة أو الفرد

متعلق الإلزام - فعلا كان أو تركا - لا بد أن يكون مرآة إلى الخارج، لأن التحقق الخارجي هو المراد و المطلوب لكل فرد، و الشارع لا يخالف طريقة العقلاء.

و إنما اختلفوا في أنه مع قطع النظر عن الخصوصيات، و هذا يعبّر عنه بالتعلق بالطبيعة، أو مع اعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية، و يعبّر عنه بالتعلق بالفرد.

و الحق هو الأول، و ليس المراد بالطبيعة الطبيعة من حيث هي، لأنها لا

ص: 71

تكون مورد الطلب، بل و لا لغرض من الأغراض العقلائية، و إنما هي فرض يختص بفن المنطق و الحكمة فقط. كما أنه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجا بعد تحققه، لكونه مسقطا للطلب، فيكون طلبه من تحصيل الحاصل، و لا يصح أن يكون موردا للطلب، كما أنه ليس المقام مبنيا على ما اختلفوا في الحكمة من أصالة الوجود أو الماهية، لما تقدم من أنه لا بد في مورد الطلب اعتبار التحقق الخارجي طريقا و مرآة، و حيث أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية في هذه المسألة، فلا وجه للتطويل بأكثر من ذلك.

ص: 72

الأمر الثالث أقسام الواجب و هي سبعة:
القسم الأول: المطلق و المشروط

و هما من المفاهيم المبينة العرفية، لشيوعهما في المخاطبات - كنظائرهما - مما تقوم به المحاورات، و كل ما قيل في تعريفهما لا وجه له ما لم يرجع إلى ما هو المقبول لدى العرف.

فكل واجب إذا لوحظ وجوبه مع شيء، فإن كان مقيدا به فهو مشروط بالنسبة إليه فقط، و إلا فهو مطلق كذلك. فهما من المفاهيم الإضافية لا يخلو منهما واجب أبدا، و يصح اجتماعهما في واجب واحد من جهتين، كما هو شأن الامور الإضافية.

ثم إن لكل واجب هيئة و مادة بالضرورة، و هما متلازمان و متحدان في الوجود عقلا، فيتحدان في الإطلاق و الاشتراط أيضا في الجملة و من جهة خاصة لا مطلقا، لصحة التفكيك بين الحيثيات و الجهات، كما يأتي. فيكون إطلاق أحدهما و اشتراطه عين إطلاق الآخر و اشتراطه، بلا تفكيك بينهما من هذه الجهة في الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة.

نعم، يفرّق العرف بينهما في أن قيود الوجوب غير واجب التحصيل بخلاف قيود الواجب، و هذا أمر آخر لا ربط له بالملازمة العرفية في الإطلاق

ص: 73

و الاشتراط و إن صح التفكيك بينهما عقلا، و لكنه بمعزل عن الأحكام الشرعية المنزلة على العرفيات.

و المعروف أن القيود في الواجبات المشروطة قيود للهيئة، فلا وجوب إلا بعد تحققها، فيكون الواجب أيضا كذلك لا محالة، لما ذكرنا من الملازمة بين المادة و الهيئة.

و ذهب المحقق الأنصاري قدّس سرّه إلى لزوم كون القيد قيدا للمادة مع اعترافه بأن مقتضى المحاورات أن يكون قيدا للهيئة، فالوجوب مطلق فعلي و الواجب مشروط بتحقق الشرط، و هو لديه عين الواجب المعلق عند صاحب الفصول.

و استدل على مدعاه: بأن الهيئة من المعاني الحرفية المتقومة بالغير و هي غير قابلة للإطلاق و التقييد، لكونهما من شئون المعاني المستقلة، مع أن الوضع في المعاني الحرفية و ما يلحق بها خاص، فكيف تقبل التقييد؟!

و فيه: ما عرفت من قبولها للإطلاق و التقيد بتبع متعلقاتها، و كون الوضع فيها خاصا ممنوع، و على فرضه فلا ينافي التقييد، كما في تقييد الأعلام الشخصية و غيرها من الجزئيات. مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع أصلا إلا في وجوب بعض المقدمات قبل دخول زمان الواجب، و يأتي بيان الوجوب فيها بطريق صحيح مقبول بلا احتياج إلى ارتكاب ما هو خلاف المشهور باعترافه قدّس سرّه.

ثم إن التكاليف المجعولة لها مراتب متفاوتة، منها مرتبة لحاظ جعل القانون فقط، و منها صلاحيتها للداعوية بالنسبة إلى المكلفين، و منها الفعلية. و لا أثر للإطلاق و الاشتراط في الأولين بالنسبة إلى فعلية الوجوب لأن فعلية التكليف منحصرة بحكم العقل، و لا ربط لها بالشارع و إنما تدور مدار تحقق الشرائط بأسبابها التكوينية خارجا و عدمه، فمع التحقق يكون الوجوب فعليا عقليا، و مع عدمه لا فعلية له. فالإطلاق و الاشتراط في التكليف الفعلي يرجع إلى حكم العقل فقط، و ما هو مربوط إلى الشارع إنما هو الإطلاق و الاشتراط في

ص: 74

مرتبة جعل القانون فقط، فيصح جعل القانون المطلق أو المشروط و لو لم يكن مكلف في البين، إذ المقصود منه إنما هو إتمام الحجة و البيان، و هو يحصل بمجرد الإظهار و الإعلان، و هذه هي الفعلية التي يصح انتسابها إلى الشارع، و فعلية التكليف إنما هي من العقل فقط، و منسوبة إليه، فإشكال انفكاك المنشأ عن الإنشاء في التكاليف المشروطة، ساقط من أصله.

القسم الثاني: المعلق و المنجز
اشارة

و هذا الاصطلاح حدث من صاحب الفصول، فإنه قال: الواجب إما مطلق غير مقيد بشيء، و هو المنجّز، أو يكون نفس الوجوب مقيدا بشيء، و هو الواجب المشروط عند المشهور. أو يكون الوجوب مطلقا و الواجب مقيدا بشيء غير مقدور، و هو المعلّق. و لا فرق بين الواجب المعلّق و ما ذكره المحقق الأنصاري رحمه اللّه في الواجب المشروط، إلا أن التعليق في المعلق يكون على أمر غير مقدور، و في المشروط أعم منه.

فتكون الأقسام أربعة: فإن الهيئة و المادة إما مطلقتان، أو هما مقيدتان، أو أن التقييد للمادة، أو بالعكس.

فالأول مطلق و منجز، و الثاني مشروط على كلا الاصطلاحين، و الثالث إن كان بغير المقدور فهو معلّق، و إن كان بالأعم فهو مشروط عند الشيخ قدّس سرّه، و الأخير مشروط عند المشهور، و الكل صحيح لا إشكال فيه ثبوتا.

ثم إن إحراز كون الوجوب، أو الواجب مقيدا، لا بد و أن يكون من دليل آخر و لا يدل نفس الأمر عليه، كما أن إحراز كون القيد قيدا للمادة أو للهيئة أيضا كذلك، و إنما اختار الشيخ و صاحب الفصول قدّس سرّهما ما اختاراه لدفع الإشكال عن موارد قليلة في الفقه توهم فيها وجوب المقدمة قبل ذيها، كما يأتي.

و اشكل على المعلّق بوجوه جميعها قابلة للمناقشة:

ص: 75

الأول: ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من أنه غير معقول.

و فيه: أنه كذلك بناء على ما ذهب قدّس سرّه إليه في الواجب المشروط، حيث عرفت من أنه عين المعلّق على مصطلح صاحب الفصول، فلا يتصور قسم آخر حتى يسمى بالمعلّق، و أما على ما ذهب إليه المشهور في الواجب المشروط فهو معقول ثبوتا بلا إشكال.

الثاني: أنه محال لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة، و هو كانفكاك المعلول عن العلة التامة، و لا ريب في استحالته.

و فيه: أن المراد في إرادة التكاليف ليس إلاّ جعل القانون و وضع التكليف على عهدة المكلف، و إتمام الحجة، و لا ريب في عدم انفكاكه عن بيان التكاليف - مطلقا كان أو مشروطا، معلقا أو غيره - لأن بمجرد جعل القانون - بأي وجه كان - يحصل ذلك كله في الواقع، فلا يعقل الانفكاك حينئذ.

و أما ما أجاب به صاحب الكفاية قدّس سرّه من صحة انفكاك المراد عن الإرادة و أطال فيه الكلام. فإن أراد بها الشوق المؤكد، فهو حق لا ريب فيه، إذ كم من مشتاق ينفك عن الشوق وجدانا. و إن أراد بها الاختيار المستلزم لتحقق المختار، فلا وجه له من عقل أو نقل.

الثالث: أنه لا قدرة للمكلف على الامتثال حين صدور الخطاب، لفرض تعلقه على غير المقدور.

و فيه: أن المعتبر من القدرة في التكاليف مطلقا القدرة حين الامتثال، لا في حالة اخرى، كما هو أوضح من أن يخفى.

الرابع: ما تقدم من الملازمة بين الهيئة و المادة في الأنظار العرفية، في أن تقييد أحدهما عين تقييد الآخر و إن أمكن التفكيك بينهما دقة. و دفع هذا الإشكال سهل، لأنه ربما يكون نظر صاحب الفصول قدّس سرّه إلى الدقة العقلية، لا الأنظار العرفية. فلا محذور في الواجب المعلق لا ثبوتا، و لا إثباتا.

ص: 76

و لكن لا يخفى أنه لا موجب للقول به، بل هو من التطويل بلا طائل، لأنه لدفع الإشكال عما ورد في موارد من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، كغسل الجنب أو المستحاضة قبل الفجر في صوم شهر رمضان، و تعلّم أحكام المسائل الابتلائية قبل الابتلاء بها، و المسير إلى الحج قبل زمانه. مع أن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها، فتكون تلك الموارد من تقدم المعلول على العلة، و هو محال.

و لدفع هذه الغائلة تشتّت الأقوال و اختلفت المسالك، فاختار كل مهربا، فتعلّق بعضهم بالواجب المعلق، و آخر بما هو خلاف المشهور في الواجب المشروط.

فذهب صاحب الفصول قدّس سرّه إلى أن وجوب ذي المقدمة في تلك الموارد فعلي و الواجب استقبالي من غير أن يلزم المحذور. و لكنه تبعيد للمسافة بلا ملزم في البين.

و ذهب شيخنا الأنصاري إلى أن القيد قيد للمادة، فالوجوب مطلق في الواجب المشروط و فعلي مع اعترافه بكونه خلاف القواعد العربية.

و ذهب شيخ مشايخنا في الكفاية إلى جعل الواجب في تلك الموارد فعليا مشروطا بالشرط المتأخر، و هو مجيء الزمان الخاص.

و هو مردود أيضا، لكونه راجعا إلى الواجب المعلّق في الواقع، مضافا إلى كونه خلاف المنساق من القيود و الشروط التي يكون المنساق منها في المحاورات العربية خصوص المقارنة دون غيرها من السابقة أو اللاحقة.

و ذهب بعض إلى القول بأن وجوب التعلّم نفسي، لا أن يكون غيريا حتى يلزم المحذور.

و فيه: أنه للمعرفة ملاك نفسي أبدا، بل هي طريقية محضة. و كل هذه الامور مبنية على جعل وجوب ذي المقدمة علة تامة منحصرة لوجوب المقدمة،

ص: 77

كالعلل التكوينية. و هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليه، بل هو خلط بين الاعتباريات و التكوينيات، مع أنه لا بد من مراعاة الفرق بينهما في الجملة.

فالحق في الجواب أن يقال:

أولا: أن وجوب المقدمة كوجوب ذيها في الشرعيات و العرفيات مطلقا من الاعتبارات الصحيحة العقلائية، حيث تدور مدار الجعل الاعتباري و عدم استنكار ذلك لديهم، فكما أن الوجوب في المقدمات الداخلية وجوب واحد انبساطي على جميع الأجزاء مع ترتبها، و تقدم بعضها على بعضها، و يتصف الجميع بوجوب واحد انبساطي على الجميع مع صحة اعتبار المقدّمية فيها، فيصح أن يسمّى هذا الوجوب بالمقدّمي من جهة و بالنفسي من جهة اخرى، فليكن في المقدمات الخارجية أيضا كذلك، فمنشأ الوجوب إنما هو من ذي المقدمة و منه الانبساط على المقدمات، سواء كانت مقارنة أم متأخرة أم متقدمة على ذيها، و لا مانع من عقل أو نقل، لأنه اعتبار - و أخف الأشياء مئونة إنما هي الاعتباريات. فيصح بكل نحو تطرّق إليه الاعتبار، و ليس ذلك من تقدم المعلول على العلة، أو تأخره عنها زمانا لفرض انبساط العلة على المعلول و تقارنها معه بجميع أجزائه و جزئياته، و التقدم و التأخر الزماني لا ينافي التقارن الاعتباري، و هو يكفي في دفع الغائلة.

إن قيل: لا وجه للوجوب الانبساطي بالنسبة إلى المقدمات الخارجية مطلقا، لأنه إنما يكون فيما لوحظ فيه ملاك النفسية في الجملة، لا في ما إذا تمحّض ملاك الوجوب في إيجاب ذي المقدمة، كما في المقدمات الخارجية، لأن ملاك محبوبيتها ممحّضة في ذلك.

يقال: المناط كله في إيجاب المقدمة، التمكن من ذيها بأي نحو كان لها دخل فيه، سواء كان ذلك من جهة كونها دخيلة في وجوب ذيها أم من جهة اخرى.

ص: 78

و ثانيا: أن وجوب ذي المقدمة علة غائية لوجوب المقدمة، لا أن يكون علة فاعلية حتى يلزم المحذور، فلا تجب المقدمة إلا لأجل وجوب ذيها في وقته، و قد ثبت في محله أن الغاية متقدمة في العلم و متأخرة في الوجود و العمل، و قد جرت السيرة على الاهتمام بإتيان امور لأجل غايات تترتب عليها في أوقات خاصة، فللغاية اعتبار صحيح فعلي، تترتب على فعلها من جهة الاعتبار آثار عرفية صحيحة، بل شرعية، كصحة اعتبار وجوبها فعلا. و ليس ذلك من القول بالوجوب النفسي للمقدمة، لأنه في ما كان الملاك فيه غير وجوب شيء آخر، و لا ملاك للمقدمة في المقام و غيره إلاّ وجوب ذي المقدمة و التمكن من إتيانه. فإن أراد من يقول بالوجوب النفسي التهيئي ذلك فلا مشاحة في الاصطلاح.

و ما يقال: من أن وجوب الشيء لأجل غايته عقلي و الكلام في الوجوب الشرعي المولوي.

مدفوع: بأن المقام من موارد الملازمة قطعا للعلم بالملاك مع استقرار السيرة العقلائية على الوجوب التي يستكشف منها الوجوب الشرعي، كما في سائر الموارد.

و ثالثا: أنه يمكن إثبات الوجوب في هذه الموارد من باب حكم العقل بقبح تفويت التكليف في ظرفه مطلقا، فالوجوب عقلي من هذه الجهة و يتبعه حكم الشرع أيضا، و لا نحتاج إلى إثبات أن وجوبها تبع لواجب آخر أو أن الواجب الآخر غاية له، لفرض كون الوجوب حينئذ عقليا و شرعيا مستقلا، فيكون الوجوب في جميع هذه الموارد كوجوب صلاة الظهر من حيث أنه وجوب مستقل و فيه ملاك المقدمية أيضا.

ص: 79

فوائد:

الاولى: كل واجب مشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة حصول هذا الشرط فقط، و إن كان مشروطا من جهات اخرى، لما تقدّم من أن الإطلاق و الاشتراط من الامور الإضافية، بلا فرق فيه بين كون الشرط شرطا للوجوب، أو للواجب.

الثانية: لو شك في الاشتراط و عدمه، فمقتضى الأصل و الإطلاق عدمه.

الثالثة: لو كان الواجب مشروطا و شك في حصول الشرط و عدمه فمقتضى الأصل و إن كان عدم الحصول، و لكن يظهر عن جمع من الفقهاء في جملة من الموارد لزوم التفحص.

الرابعة: إذا كان شرط في البين متصلا بالكلام أو منفصلا عنه و شك في أنه يجب تحصيله أو لا، فمقتضى أصالة البراءة عدم الوجوب، فلا يكون أصل التكليف المشروط به منجزا حينئذ إلا بعد حصوله.

و قد يقال: إن إطلاق الهيئة شمولي يشمل صورة الشرط و عدمه، فهو إطلاق قوي لا يزول إلاّ بما هو أقوى منه، و إطلاق المادة بدلي لا يدل إلا على إتيان صرف وجودها في الجملة، فهو إطلاق ضعيف، فيرد القيد على الضعيف و يبقى القوي على حاله.

و فيه: مع أنه من مجرد الاستحسان الذي يجل الأحكام الإلهية أن تبتنى عليه، أنه لا وجه لكون الأول قويا و الآخر ضعيفا بعد كون كل منهما بمقدمات الحكمة. نعم، لو كان الأول بالوضع و الآخر بمقدمات الحكمة لكان له وجه، و لكنه ليس كذلك، مضافا إلى ما تقدم من التلازم العرفي بينهما.

ص: 80

القسم الثالث: النفسي و الغيري

و الأول ما امر به لا لأجل تكليف آخر، بخلاف الثاني فإنه ما كان أمره لأجل التمكن من تكليف آخر، و يكون ذلك التكليف كالعلة الغائية لإيجابه، سواء كان الأمر به مستقلا أم لا، و سواء كان متقدما عليه أم متأخرا أم مقارنا، و سواء كانت فيه مصلحة نفسية أو لم تكن.

ثم إنه إن علم - و لو بالقرائن - خصوص النفسية أو الغيرية فهو، و إلا فمقتضى أصالة الإطلاق عدم كون الإيجاب و البعث عن داع غيريّ؛ بل لنفسه فيثبت الوجوب النفسي بالإطلاق، هذا بحسب الأدلة اللفظية.

و أما بحسب الاصول العملية، فإن علم بعدم وجوب ذي المقدمة، أو لم يعلم به، فمقتضى أصالة البراءة عدم فعلية الوجوب مطلقا، و إن علم به و قلنا بأن العلم بجنس الوجوب يجزي في تنجزه، كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة وجب الإتيان به. و إلا فلا لأصالة البراءة، و لكن لا تصل النوبة إليها مع وجود الإطلاق في البين.

ثم إنه لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الأوامر النفسية مع الشرائط المعتبرة. و أما الأوامر الغيرية فالمعروف أنه لا ثواب لامتثالها، لعدم المصلحة فيها، بل لا مصلحة لإيجابها إلا إتيان غاياتها.

و لكن يرد عليه.. أولا: أنها أعم من ذلك، كما تقدم.

و ثانيا: مقتضى إطلاق قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و غيرها مما هو كثير كتابا و سنة، ترتب الثواب على امتثالها أيضا بعد صدق الحسنة و الخير و العمل الصالح عليها.

ص: 81

و لا وجه للقول بأن ذلك كله بواسطة ذي المقدمة لا في حد نفسها، فلا وجه لانطباق أي عنوان عليها. لأنه يمكن أن تكون الإضافة إلى ذي المقدمة موجبة لتعنونها بعنوان الحسن، و سببا لعروض ذلك عليها، سواء تحقق ذو المقدمة في الخارج أم لم يتحقق. و يشهد له ما ورد في السعي في قضاء حاجة المؤمن: أن من سعى فيها فله كذا من الثواب، قضيت الحاجة أو لا. و ما ورد: من أن نية المؤمن خير من عمله. و تقتضيه كثرة تفضل اللّه تعالى على عباده و سعة رحمته.

و دعوى اختصاص مثل هذه الإطلاقات بخصوص الواجبات النفسية، بلا شاهد بل هو على خلافهما، مع إمكان القول بانبساط الثواب من ذي المقدمة إلى مقدماته، حصل ذو المقدمة أم لا، مضافا إلى صدق الانقياد الذي هو من موجبات الثواب عند العقلاء مطلقا.

ثم إنهم قالوا بانحصار الثواب في ما إذا قصد الأمر و القربة، فلا ثواب في غيره. و هو أيضا بلا شاهد، إن لم يكن على خلافه شاهد، كما لا يخفى على من راجع الأحاديث الشريفة، بل الثواب يدور مدار كون العمل محبوبا لدى اللّه عزّ و جلّ بأي مرتبة من مراتب الحب و لو كان الحب مقدميا انقياديا، لأن لحبه تعالى مراتب متفاوتة، كما أن لثوابه أيضا كذلك، بل ربما يثيب اللّه تعالى على امور غير اختيارية، فسقوط الأمر في العبادات و إن كان متوقفا على قصد الأمر و لكن الإثابة على المحبوبات لدى اللّه تعالى أعم من ذلك. كما أن فساد العباديات بالرياء لا ربط له بالمقام.

و الحاصل: أنه لا مانع ثبوتا من الثواب على المقدمات، لكونها محبوبة للّه تعالى في الجملة، و لا يكون الثواب متقوّما بقصد القربة، هذا إذا كان المراد بالثواب الجزاء المجعول الشرعي، و أما إذا كان المراد به استحقاق المدح الذي هو أمر عقلي و لا ربط له بالشرع - فلا ريب في تحققه أيضا - لانطباق عنوان

ص: 82

الانقياد على إتيانه، و لا إشكال في أن كل انقياد ممدوح عند العقل و العقلاء. فلا وجه للإشكال على الطهارة الحدثية بأن مطلوبيتها غيرية، مع ما ورد من ترتب الثواب عليها لما تقدم، مضافا إلى أنه يستفاد من جملة من الأخبار كونها مطلوبة نفسيا، مع أنه يمكن انبساط ثواب الغايات عليها، فيصح قصد أمرها النفسي، كما يصح قصد أمرها الغيري.

و ما يقال: من أنه يلزم حينئذ اجتماع الندب و الوجوب في واحد، و هو من اجتماع الضدين.

مدفوع: بأن الاجتماع المحال ما إذا كان الضدان من الموجودات الخارجية العينية، لا من الاعتباريات، و الأحكام من الأخيرة دون الاولى، مع أن الاجتماع ملاكي، لا أن يكون فعليا، و لو كان فعليا لأمكن الاختلاف بالحيثية.

و ما يقال: من أن حيثية المقدّمية تعليلية و لا تفيد في دفع المحذور، لأن ما يفيد فيه إنما هو الحيثية التقييدية فقط.

مردود: بإمكان فرضها في المقام تقييدية لدفع المحذور.

ثم إنه يمكن القول بصحة ترتب العقاب على ترك الواجب الغيري لانطباق عنوان هتك المولى و الاستخفاف به و مخالفته عليه عرفا، و ذلك مما يوجب الاستحقاق، مع أن ترك العلة مستلزم لترك المعلول.

نعم، هناك عقاب واحد متبسط على ترك المعلول و علته بجميع أجزائها، لا أن يكون العقاب متعددا، بخلاف الأجر و الثواب فإنه يمكن التعدد فيه كما لا يخفى.

القسم الرابع: التعييني و التخييري

و الأول ما لا يكون له عدل في عرضه بخلاف الثاني. و لا ريب في و وقوعهما عرفا و شرعا، و إنما الكلام في تصوير الثاني ثبوتا.

ص: 83

فقيل: إنه ما تعلّقت فيه الإرادة بالمبهم المردد.

و اشكل عليه: بأنه لا تحقق للمبهم حتى تتعلّق به الإرادة.

و يمكن المناقشة فيه بأن المبهم إن كان مبهما من كل جهة فهو حق، و أما إذا لم يكن كذلك، بل كان بين طرفين أو أطراف محصورة، فلا إشكال فيه، لتعينه في الجملة و هو يكفي لتعلّق الإرادة.

و قيل: إنه ما تعلّقت الإرادة فيه بالجامع، و اشكل عليه بأنه من التخيير العقلي حينئذ، و الكلام في التخيير الشرعي.

و فيه: أن التخيير العقلي ما اخذ فيه الجامع القريب في ظاهر الخطاب دون ما إذا انتزع الجامع الاعتباري من الأطراف، و قد ذكر ذلك الجامع العنواني الانتزاعي في ظاهر الدليل، كما في قوله تعالى: فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ.. الآية، و كما في بعض الأخبار أيضا ذكر الكفارة أولا، ثم بيان أفرادها.

و قيل: إن الغرض الواحد مترتب على كل واحد من الأطراف.

و اشكل عليه: بأنه مستلزم لصدور الواحد عن الكثير، و هو ممنوع.

و فيه: أنه على فرض صحة المنع فهو في الواحد البسيط الحقيقي، لا الواحد الاعتباري، و المقام من الأخير دون الأول.

و قيل: بأن الواجب كل واحد من الأطراف في ظرف عدم الآخر، و لا يلزم تحصيل الآخر مع حصول الأول.

و اشكل عليه: بأنه يلزم عدم الوجوب في صورة إتيان تمام الأطراف، و تعدد العقاب عند ترك جميعها.

و يرد عليه: بأن المراد انطباق الوجوب على أول وجود طرف من الأطراف، فلا وجوب لغيره عند الاجتماع، كما أنه لا وجه لتعدد العقاب عند ترك الجميع، فإنه لا تكليف إلا بالواحد في الواقع. فلا محذور في جميع تلك الوجوه المتصورة في الواجب التخييري ثبوتا و لا إثباتا.

ثم إن التخيير إما بين المتباينين، أو الأقل و الأكثر.

ص: 84

و الأول مسلّم عند الكل، و واقع في الشرعيات و العرفيات، و لكن أشكل على الأخير تارة: بأن الأكثر إما لا مصلحة فيه، أو تكون مصلحته عين مصلحة الأقل، أو متباين معه. و في الأولين لا وجه لإيجابه، و الأخير من المتباينين لا الأقل و الأكثر، فلا وجه لتصويره فضلا عن وقوعه.

و اخرى: بأنه مع اشتمال الأكثر على الأقل ينطبق الوجوب على الأقل لا محالة، فلا يبقى مورد للتكليف به.

و يجاب عن الأول: بأن الأكثر مشتمل على سنخ مصلحة الأقل زائدة عليها لازمة التحصيل مع عدم الاقتصار على الأقل.

و عن الثاني: بأن الأقل يلحظ حينئذ مستقلا و بشرط لا، بلا فرق بين ما إذا تخلل العدم بين الأقل و الأكثر و عدمه.

القسم الخامس: العيني و الكفائي

عرّف الأول بأن له امتثالات متعددة حسب تعدد المكلفين، و يتعدد الثواب و العقاب بتعدد المطيعين و العاصين، و يتحقق فيه امتثال بعض و مخالفة آخرين.

و ظاهرهم التسالم على ثبوت الأولين في الواجب الكفائي أيضا بخلاف الأخير، فإنه بامتثال البعض يسقط عن الآخرين، و هذا الفرق من ناحية المتعلّق، و إلا فالوجوب فيهما على حد سواء.

و أما ما قيل: من أن الواجب الكفائي هو الواجب التخييري، إلا أن التخيير في الأخير في المكلّف به، و في الأول في المكلّف.

فهو مضافا إلى أنه خلاف ظواهر أدلة الواجبات الكفائية، مناف لما تسالموا عليه من عدم تعدد العقاب لو ترك تمام الأطراف في الواجب التخييري، و تعدده في الواجب الكفائي لو اتفق الكل على تركه، إلا أن يراد به التشبيه في الجملة لا من كل جهة.

ص: 85

إن قيل: المصلحة في الواجب الكفائي إما واحدة، أو متعددة، لا وجه للأخير، و على الأول لا وجه لتعدد الثواب و العقاب.

يقال: أما تعدد العقاب فلتحقق الاستخفاف بأمر المولى من كل واحد.

و أما تعدد الثواب فيمكن القول بتعدد الأمر اهتماما و احتفاظا للمصلحة الواحدة، و حينئذ مضافا إلى تحقق الانقياد يمكن تحقق الامتثال أيضا من حيث تعدد الأمر الانحلالي الاحتفاظي.

و لا وجه للتطويل بأكثر من ذلك بعد كونهما من المبينات عند متعارف الناس، و بعد انتفاء الثمرة العملية و العلمية في هذا البحث.

القسم السادس: الموسّع و المضيّق

و لا ريب في كون الزمان ظرفا للواجب و غيره من أفعال المكلّف تكوينا، فإن كان دخيلا في الواجب شرعا أيضا يسمى موقتا، و إلا فغير موقّت.

و الأوّل إما مضيق، أو موسع. و الموسع إما فوري، أو لا، و الأخير له أفراد طولية و عرضية. و لا إشكال في وقوع الجميع.

ثم إن كان التقييد بالوقت على نحو وحدة المطلوب فلا يدل على ثبوت الواجب بعد الوقت، فلا بد أن يكون القضاء بأمر جديد. و إن كان على نحو تعدد المطلوب فيكون الأمر باقيا بعد الوقت أيضا. و كذا لو شك في أنه من أيهما، لأصالة الإطلاق في دليل المقيد. و المتفاهم من الموقتات عرفا هو الثاني إلا مع الدليل على الخلاف، فيكفي الأمر الأول للقضاء خصوصا في مثل الصلاة - التي ثبت كثرة اهتمام الشارع بها - بحيث يقطع بأن التوقيت من باب تعدد المطلوب، هذا بحسب الأصل اللفظي.

و أما بحسب الأصل العملي، فلا إشكال في أن حدوث ذات الوجوب معلوم، و تقييده بالوقت بحيث ينتفي بانتفائه مشكوك، فيستصحب أصل الوجوب.

ص: 86

و دعوى: أن المتيقن إنما هو الوجوب المقيد بالوقت، و هو معلوم الارتفاع بعد الوقت، و الشك إنما هو في حدوث وجوب آخر، فيكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي ثبت بطلان الاستصحاب فيه.

مردودة: بأن المستصحب هو ذات التكليف من حيث هو، لأن المفروض الشك في أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب أو تعدده، فلا محذور في الاستصحاب. نعم، لو ثبت أن التوقيت كان من باب وحدة المطلوب فهو من القسم الثالث بلا إشكال.

و يمكن التمسك بأصالة البراءة أيضا، لأن التقييد بلحاظ بعض مراتب المطلوب معلوم يقينا. و أما بلحاظ تمام مراتبه أو كون القيد مقوما لأصل المطلوبية فهو مشكوك، فيرجع فيه إلى الأصل فيبقى ذات الوجوب بعد الوقت أيضا.

ثم إنه إذا ثبت القضاء و شك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت و عدمه، فإن كان في البين دليل على عدم الاعتناء بالشك - كما ورد في الصلاة - فلا إشكال فيه. و إلا فلا يصح التمسك لوجوبه بإطلاق الدليل، أما بناء على عدم تكفّله للقضاء فهو معلوم. و أما بناء عليه فلأنه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه. و يصح التمسك بأصالة عدم الإتيان، سواء كان موضوع القضاء مطلق عدم الإتيان، أم الفوت لأنه عبارة اخرى عن عدم الإتيان عرفا، فالترك و الفوت و عدم الإتيان مساوق كل واحد مع الآخر عرفا، و إن أمكن الفرق بينهما بالدقة العقلية، و لكنها ليست مما تدور عليها الأحكام الشرعية.

القسم السابع: الأصلي و التبعي

و الأصلي ما أنشأ عن إرادة استقلالية، و التبعي ما أنشأ عن إرادة تبعية، و لعل هذا هو مراد من عرّفهما: بالتفصيلية و الإجمالية. و عند الشك فيهما تجري أصالة عدم الاستقلالية و عدم التبعية، و تسقطان بالمعارضة و يصح التعريف

ص: 87

سلبيا أيضا، بأن يقال: الأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية، و التبعي ما لم يكن عن إرادة استقلالية، و لا يجري الأصل حينئذ، لكونه مثبتا.

و يمكن تعريف الأول سلبيا و الأخير إيجابيا، لأن شرح اللفظ خفيف المئونة يصح بكل وجه أمكن، و عند الشك تجري أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية، فتنتفي التبعية و تثبت الأصلية، و لا تعارض أصالة عدم الأصلية لفرض أن الأصلي عدمي، و تكون أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية مفادا مطابقيا للأصلية، كما أنه يمكن العكس بجعل الأول إيجابيا و الأخير سلبيا، فيجري الأصل في الأصلي و يكون مفادا مطابقيا للتبعي، و كل هذه الوجوه ممكنة ثبوتا، و لا يبعد مساعدة العرف على الثالث.

و مع عدم التعيين لا يجري الأصل لعدم إحراز الموضوع، فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي و هو أصالة الاشتغال مع فعلية خطاب المتبوع، و البراءة مع عدمها. هذا كله في الاحتمالات الثبوتية.

و أما في مقام الإثبات، فقيل: إن الواجب إن كان مفاد الدلالة الاستقلالية المعتبرة و مقصودا مستقلا بالإفادة فأصلي و إلا فتبعي، و هو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليها من عقل أو نقل، إذ رب واجب تبعي يستفاد من الدلالة الاستقلالية، و رب واجب أصلي يستفاد من غير الدلالات الاستقلالية، كالمفاهيم و نحوها. و يمكن أن يكون كل من الواجب النفسي و الغيري أصليا و تبعيا في مقام الإثبات كما لا يخفى. ثم إن الواجب النفسي ينطبق على الأصلي غالبا، و الغيري على التبعي كذلك.

ص: 88

القسم الثاني: النواهي و يبحث فيه عن أمرين:

الأمر الأول: تحقيق الكلام فى المراد من النهى

لا ريب في تحقق الكراهة النفسانية عند النهي عن الشيء، كتحقق الرغبة إليه عند الأمر به، و لكن هل أن المبرز للكراهة النفسانية طلب الترك، أو طلب كفّ المكلف نفسه عن الشيء، أو ردع المكلف و زجره و إيقافه، كما أن الأمر هو تحريضه و حمله عليه؟

و الحق هو الأخير، لأن الزجر عن المكروه إما خارجي، أو اعتباري، و الأول إما حبس أو ضرب أو نحو ذلك، و يعبّر عن الثاني بالنهي في متعارف الناس، و الأدلة الشرعية منزلة عليه بلا التباس، و يمكن إرجاع الأولين إليه أيضا، لأن من اللوازم العرفية للردع و الإيقاف الاعتباري، طلب الترك و طلب كف النفس.

و ما يتوهم: من أن الطلب وجودي و الترك عدمي، فلا يصح تعلّقه به.

مردود: بأن الترك ليس من العدم المطلق، بل هو من المضاف الذي يصح تعلق الطلب به، بل هو عبارة اخرى عن الكف عرفا، و إن كان بينهما فرق دقة.

ثم إن النهي متعلق بالطبيعة، كالأوامر، و من اللوازم العرفية لتعلّق النهي بالطبيعة الفورية و الاستمرار بالنسبة إلى الأفراد الدفعية و التدريجية، لأن معنى الردع عن الطبيعة إعدامها بالمرة، فتكون الفورية و الاستمرار من المداليل

ص: 89

السياقية للنهي، بخلاف الأمر فإنه يدل على إيجاد الطبيعة و هو يتحقق بصرف الوجود، و هو أعم من الفورية و الاستمرار، فلا بد في إثباتهما له من إقامة دليل من الخارج. فالفارق بينهما عرفي، فلا وجه لدعوى أنه إن اخذت الطبيعة مهملة فلا فرق بينهما، و كذا إن اخذت بعنوان السريان، إذ العرف شاهد على الفرق بينهما، كما هو معلوم.

الأمر الثاني: اجتماع الأمر و النهي في الواحد حكما
اشارة

يصح تقرير هذا المبحث فقهيا، بأن يقال: الصلاة في المحل المغصوب هل تصح أو لا؟ و تقريره اصوليا، بأن يقال: إن تعدد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التضاد بين الأمر و النهي أو لا؟ و يمكن أن يكون من المبادئ الأحكامية إن كان البحث في نفس الأمر و النهي من حيث حالاتهما الفردية و الاجتماعية. و يمكن تقريره كلاميا إن كان البحث في أنه هل يصح من الحكيم تعالى الأمر بشيء واحد و النهي عنه أو لا؟ ففيه ملاك البحث عن جميع ذلك.

و لا بد من بيان امور:
أحدها: الفرق بين هذا البحث و بحث النهى فى العبادات

الفرق بين هذا البحث و ما يأتي من بحث النهي في العبادات عرفي، لاختلاف البحثين عند العرف و أهل المحاورة. و ملاكي، لأن ملاك البحث في المقام هو أن تعدد العنوان في الواحد هل يكفي في رفع محذور التضاد بين الأمر و النهي المتعلقين به؟ و ملاك بحث النهي عن العبادة أنه لا يصح التقرب إلى المولى بما هو مبغوض لديه مع اختلافهما موردا أيضا، لأن بين دليل الأمر و النهي في المقام عموم من وجه، مثل: صلّ، و لا تغصب، و في النهي في العبادة عموم مطلق مثل: صلّ و لا تصلّ في الحرير، فلا ربط لأحد البحثين بالآخر موردا و ملاكا و عرفا. و في اجتماع الأمر و النهي ليس من ظاهر دليل النهي اشارة إلى المأمور به أبدا. نعم مورد النهي قد يكون شرطا للمأمور به، بخلاف

ص: 90

النهي في العبادة فإن النهي في ظاهر الدليل تعلّق بقيد المأموريّة.

و هناك مسألة اخرى لا بد أن لا تشتبه بالمقام أيضا و هي التصادق الموردي، بأن تعلّق الأمر بشيء و تعلّق النهي بشيء آخر لا ربط له بالمأمور به أبدا، لكن المكلف جمعهما باختياره في مورد واحد، مثل، صلّ، و لا تنظر إلى الأجنبية، أو لا تسمع الغناء. فصلّى المكلف في مكان مع النظر إلى الأجنبية، أو استمع إلى الغناء، أو هما معا.

فاجتماع الأمر و النهي في العبادة إنما يستفاد الفرق بينهما من ظاهر الدليل، فإن كان ظاهره (لا تصل في المغصوب) مثلا فهو من النهي في العبادة، و إن كان ظاهره (لا تغصب) فهو من الاجتماع.

ثانيها: النزاع فى المقام صغروى لاتفاقهم على ان تعدد الوجه و العنوان يكفى فى رفع التناقض

اتفق العلماء على أنه لو كان تعدد الوجه و العنوان في الواحد كافيا في رفع محذور التضاد يصح الاجتماع، كما اتفقوا على عدم الصحة مع عدم الكفاية، فالنزاع في المقام صغروي بين الأعلام لا أن يكون كبرويا. كما لا نزاع عندهم أن الجهة التقييدية توجب التعدد، و الجهة التعليلية لا توجبه.

ثالثها: المراد من الواحد فى عنوان البحث

المراد بالواحد في عنوان البحث هو الواحد من حيث الوجود، بأن يكون الذات الواحد المعنون بعنوانين موجودا بوجود واحد، سواء كان الذات المعنون بعنوانين جنسا أم نوعا أم غيرهما، فيصح البحث في أن اجتماع الأمر و النهي في الموجود الواحد من اجتماع الضدين، أو أن تعنون الموجود الواحد بعنوانين يوجب رفع التضاد. و ليس المراد الواحد من حيث المفهوم و الجنس و إن تعدد الوجود كالسجود - كقوله: اسجد للّه، و لا تسجد لغيره تعالى - فإن السجود له تعالى و لغيره متحدان في المفهوم و مختلفان في الوجود، و لا ريب في اجتماعهما في مفهوم السجدة و جنسها و إن لم يمكن جمعهما في الوجود، لأن السجود إما للّه تعالى أو لغيره.

ثم إن المراد بالعنوانين في المقام كل ما يصح أن يرتفع به محذور اجتماع

ص: 91

الضدين، فيشمل مطلق تعدد الإضافة و الحيثية القابلة للتعدد - و لو اعتبارا -.

رابعها: شمول عنوان البحث لجميع أقسام الاوامر و النواهى، و عدم امكان تصوير النهى الكفائى و التخييرى

يشمل عنوان البحث جميع أقسام الأوامر نفسيا كان، أو غيريا، كفائيا، أو عينيا، أو تخييريا. و كذا النهى يشمل جميع أقسامه من النفسي و الغيري.

و الظاهر أنه لا وقوع للنهي الكفائي، بل و لا النهي التخييري في الشرع، كما أنه يشمل القول بأن متعلّق الأحكام الطبائع، أو القول بأن متعلّقها الأفراد أيضا، أما الأول فواضح، و أما الثاني فلأنه ليس المراد بالفرد المشخص الخارجي من كل جهة، بل المراد لحاظه في الجملة، فيشمل ما كان قابلا لعروض عناوين متعددة أيضا.

خامسها: اعتبار جمع قيد المندوحة، و عن آخرين عدم اعتبار، الجمع بين الكلمات

صريح جمع اعتبار قيد المندوحة، و ظاهر آخرين عدم اعتباره.

و يمكن الجمع بين الكلمات بأن من قال بالاعتبار جعل مورد النزاع مرتبة فعلية التكليف و امتثاله؛ لأنه مع عدم المندوحة يكون المكلف مضطرا إلى ارتكاب الحرام، فكيف يعقل فعلية النهي حينئذ بالنسبة إليه حتى يتحقق موضوع اجتماع الأمر و النهي. و من قال بعدم الاعتبار جعل مورده مرتبة أصل التشريع و الجعل، و يصح ذلك مع عدم المكلف أصلا فضلا عن عدم المندوحة. و حيث أن عمدة نظر الاصولي إلى مرتبة فعلية التكليف و تنجزه بالنسبة إلى المكلف فلا بد من اعتباره.

سادسها: المشهور أن المقام من موارد التزاحم لا التعارض، ادلة المشهور
اشارة

المشهور أن المقام من موارد التزاحم، فلا بد من وجود الملاك في كل منهما ثبوتا و تمامية الحجة عليهما إثباتا، لا التعارض الذي لا ملاك فيه إلا لأحدهما و إن اجتمعت شرائط الحجية في الدليلين إثباتا، و لذلك يقع التكاذب بينهما قهرا، بخلاف التزاحم الذي لا تكاذب فيه أصلا، و إنما المحذور عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فعلا.

و يدل على المشهور امور:

ص: 92

منها: التسالم على أن مسألة اجتماع الأمر و النهي إنما هي في ما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه، و ذلك لا يتم إلا مع وجود الملاك في كل منهما.

و منها: قولهم بصحة الصلاة في المكان المغصوب مع العذر من نسيان أو جهل أو نحوهما مع ذهابهم إلى الامتناع و تغليب جانب النهي، فلو لم يكن الملاك موجودا واقعا لما كان وجه للصحة مع العذر.

و منها: اعتبار قيد المندوحة، فيظهر منه أنّ البحث في قدرة المكلف فقط فلا بد من كون الملاك تاما فيهما، و الحجة على كل من الحكمين تامة أيضا، و لو كان من التعارض لا وجه لهذا القيد أصلا.

و لو شك في أنه من التزاحم أو التعارض فمقتضى إطلاق كل من الدليلين و تمامية الحجة لكل منهما إحراز الملاك في كل منهما أيضا، إذ لا طريق لإحرازه إلا ذلك، فيكون مورد الشك من التزاحم لا التعارض.

ثم إنه نسب إلى المشهور القول بالامتناع و تغليب النهي ملاكا و خطابا، بحيث لا ملاك للأمر و لا خطاب له مع ذهابهم إلى صحة الصلاة في المحل المغصوب عند سقوط النهي عن الفعلية لعذر، من نسيان و نحوه.

فاشكل عليهم بأنه بعد سقوط الأمر ملاكا و خطابا، لا وجه للصحة حتى مع العذر.

و اجيب عنه بوجوه أحسنها: أن سقوط ملاك الأمر و فعليته ما دامي لا دائمي، يعني أنه مع فعلية النهي، لا ملاك للأمر و لا فعلية له لوجود المانع. و أما مع سقوط النهي عن الفعلية فلا محذور للأمر ملاكا و خطابا، و لا محذور في تغيير الحكم ملاكا و خطابا بتغير الحالات مع وجود الدليل عليه.

هذا كله بناء على الامتناع و تغليب النهي، و أما بناء عليه و تغليب الأمر، أو بناء على الجواز فلا ريب في الصحة مع العمد و الاختيار، فكيف مع العذر، كما لا ريب في سقوط الأمر مطلقا بإتيان المجمع في غير العباديات، سواء قيل

ص: 93

بالامتناع أو بالجواز - عمدا كان أو لعذر - و إن أثم في الصورة الاولى.

استدلال على جواز الاجتماع بامور و الجواب عنها

ثم إنهم استدلوا على جواز الاجتماع بامور:

الأول: ما عن المحقق القمي رحمه اللّه من أنه لا فرض لاجتماع الأمر و النهي أصلا، لأنهما متعلقان بالطبائع، و الفرد مقدمة لوجود الطبيعة، و مقدمة الواجب ليست بواجبة، فهذا البحث لا موضوع له أصلا، و على فرض وجوب مقدمة الواجب لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهي النفسي، و إنما الممنوع هو اجتماع النفسي منهما.

و يرد عليه: أن الفرد عين الطبيعة، كما ثبت في محله، مع أنه تقدم عدم الفرق بين أقسام الأمر و النهي، مضافا إلى أنه بناء على مقدمية الفرد للطبيعة لا فرق بين الأمر و النهي، فكيف جعل رحمه اللّه الأمر مقدميا و النهي نفسيا.

الثاني: أن الامتناع لأجل التضاد و هو ثابت بين جميع الأحكام الخمسة، و لا اختصاص له بخصوص الوجوب و الحرمة، و قد جمع الوجوب مع الاستحباب، كالصلاة في المسجد، و هو مع الكراهة، كالصلاة في الأمكنة المكروهة، و الاستحباب مع الكراهة، كصوم يوم عاشوراء، و الصلوات المبتدئة في الأوقات الخاصة، فما يجاب به عن الاجتماع في هذه الموارد، يجاب به عن اجتماع الوجوب و الحرمة أيضا.

و فيه: أولا: أنه لا تضاد بين الوجوب و الكراهة، و بينه و بين الاستحباب، و بين الكراهة و الاستحباب بحسب الأنظار العرفية المنزّلة عليها الأدلة الشرعية.

فيكون خروجها عن مورد البحث تخصصا لا أن يكون تخصيصا، حتى يحتاج إلى دليل.

و يمكن المناقشة فيه: بأن التضاد أمر واقعي عقلي لا ربط لنظر العرف بالنسبة إليه، مع أن الوجوب و الندب، و الكراهة و الاستحباب، متضادان عرفا أيضا.

ص: 94

و ثانيا: أن الاستحباب في العبادات الواجبة إن كان بمعنى رجحان الفعل مع جواز الترك، لا بد أن يحمل جواز الترك على جهة خارجة عن ذات الواجب، مثل الخصوصية الخاصة التي تعلق بها الاستحباب، كلبس العقيق في الصلاة مثلا. و إلا لخرج عن وجوبه، إن تعلّق جواز الترك بذات الواجب، و هو خلف.

و الكراهة فيها و في العبادات، لا بد أن تحمل على الجهة الخارجة عن الذات للزوم رجحان الذات في العبادة مطلقا، و لا محذور فيه بعد ارتفاع غائلة اجتماع الضدين بتعدد الجهة، كما يأتي.

و ثالثا: الاستحباب في العبادات الواجبة بمعنى أكثر ثوابا، و الكراهة فيها و في العبادات المندوبة بمعنى الأقل ثوابا، و ليس ذلك من التضاد في شيء.

لا يقال: أقلية الثواب إن لوحظت بالنسبة إلى أصل طبيعة العبادة يلزم خروج الواجب عن وجوبه، لأن ثواب الطبيعة محدود بحد معين، فمع الخروج عنه يلزم الانقلاب، و إن لوحظ بالنسبة إلى الفرد، يلزم في كل فرد يكون أقل ثوابا بالنسبة إلى الفرد الآخر، أن يصير مكروها، و لا يقول أحد بذلك.

فإنه يقال: يمكن اختيار الأول من دون لزوم المحذور، لأن الطبيعة، ليست محدودة بحد خاص من الثواب قلة و كثرة، و هي لا اقتضائية بالنسبة إليه، بل ليس الثواب في مرتبة الطبيعة أصلا، و إنما هو معلول الامتثال القابل لزيادة الثواب و قلته بحسب الحالات و الخصوصيات، و يمكن اختيار الثاني أيضا و لا يلزم المحذور، إذ ليس المدعى أن كل ما هو أقل ثوابا من غيره فهو مكروه، بل المدعى أن ما دل عليه الدليل في عبادة أنها مكروهة، يمكن أن تكون الكراهة فيها بمعنى أقلية الثواب بالنسبة إلى غيرها، و لا محذور فيه أبدا.

و رابعا: أن الكراهة فيها اقتضائية لا فعلية، فلا تنافي العبادية الفعلية، فالمعنى أن في العبادات المكروهة اقتضاء الكراهة و لكن لا تصل إلى مرتبة الفعلية، لغلبة رجحان العبادة عليها.

ص: 95

الثالث: مما استدل به على الجواز: أن المتعارف يرون أن من يأتي بالصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - مطيعا و عاصيا، و الأدلة الشرعية منزّلة على المتعارف.

و يرد عليه: بأنه صحيح لو لم يقم دليل على الامتناع.

الرابع: أن العبادة التي تعلق بها النهي التنزيهي على أقسام ثلاثة:

الأول: أن يتعلق النهي بالذات و لا بدل لها، كصوم يوم عاشوراء، و النوافل المبتدأة في أوقات خاصة.

الثاني: أن يتعلّق النهي بذات العبادة و لها بدل، كالصلاة في الحمام مثلا.

الثالث: أن لا يتعلّق النهي بالذات بل لخصوصية محفوفة بها، كالصلاة في مواضع التهمة.

أما الأول: فليس النهي لأجل مرجوحية في ذات العبادة حتى ينافي العبادية، بل إنما هو لأجل مصلحة في نفس الترك من حيث هو، فالفعل ذو مصلحة و الترك كذلك أيضا، و تكون مصلحة الترك أرجح، كما في المندوبين المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح من الآخر إلا أنهما بين الفعلين، و المقام بين الفعل و الترك، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، لعدم سراية المصلحة التركية إلى ذات العبادة حتى تصير مرجوحة، بل هما ملحوظان مستقلان، كما في المتزاحمين.

و أما الثاني: فمضافا إلى أنه يمكن أن يكون النهي للإرشاد إلى اختيار غيره مما هو أفضل، يجري فيه عين ما تقدم في القسم الأول أيضا.

و أما الأخير: فمضافا إلى ما يجري فيه من الوجهين، أنه يمكن أن يكون النهي فيه عن نفس الخصوصية المحفوفة بالعبادة من دون أن يسري إلى ذات العبادة أبدا.

و بالجملة المغالطة حصلت من التباس النهي في العبادة بالنهي المتعلّق

ص: 96

بغيرها، و قد ذكرت وجوه اخرى واضحة الفساد.

استدلال على الامتناع

و استدل على الامتناع بوجوه:

منها: ما عن الكفاية، و هي مركبة من مقدمات.

إحداها: تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية، فيكون من اجتماع الضدين في واحد شخصي خارجي، و هو محال بنفسه، لا أن يكون من التكليف بالمحال.

و فيه: أن اجتماع الضدين المحال منحصر بما إذا كان كل واحد من الضدين موجودا خارجيا، و الأحكام مطلقا من الامور الاعتبارية، فليست هي من الموجودات الخارجية، و على فرض تحقق الضدية في الاعتباريات، يكفي في رفعها التغاير الاعتباري و هو ثابت قطعا، فهذه المقدمة باطلة من أصلها.

ثانيها: أن متعلّق الأحكام ما يصدر عن المكلف خارجا، و هو موجود شخصي خارجي، فيلزم فيه اجتماع الضدين، لا أن يكون اسمه و عنوانه الكلي حتى لا يلزم المحذور.

و فيه: أن المتعلق اعتبار فعل المكلف و فرضه بالفرض الصحيح العرفي، و ليس لمثل هذا الاعتبار وجود حقيقي خارجي، بل هو قائم بالاعتبار و ليس هو متحدا مع الخارجيات كاتحاد الطبيعي و أفراده، بل يكون نظير ربط الإشارة بالمشار إليه، فالأحكام اعتبارية و موضعها أيضا اعتباري، و لا محذور في اجتماع مثل هذا القسم من الضدين، لعدم الوجود الخارجي فيه، و لا بأس بصدق الضدية و الاعتبارية، و تقدم أنه يكفي في رفعها التغاير الاعتباري، فهذه المقدمة باطلة أيضا.

ثالثها: أن تعدد الوجه و العنوان لا يوجب تعدد المعنون و لا يضر بوحدته، كما في الواجب تعالى، فإنه مع كمال بساطته يصدق عليه جميع صفات الجلال و الجمال.

و فيه: أن القياس مع الفارق جدا، فإنه تعالى في كمال البساطة - و فوق ما

ص: 97

يتعقل من معنى البساطة - و غيره تعالى مركب خصوصا مثل الصلاة - التي تكون من المركب الاعتباري - المتقومة من امور كثيرة - من النية، و الحركة، و القول، و السكون و نحوها - فالوحدة فيها اعتبارية - لا أن تكون حقيقية - فالمعنون يكون متعددا حقيقيا لا أن يكون واحدا كذلك، و في مثله يكون تعدد الوجه و العنوان كاشفا عن تعدد المعنون لا محالة. نعم، لا ريب في أن له وحدة اعتبارية، و تقدم أنه لا محذور في اجتماع الضدين الاعتباريين في الواحد الاعتباري، فهذه المقدمة باطلة.

رابعها: أنه ليس للموجود الواحد إلا ماهية واحدة، فالمجمع و إن كان مورد الأمر و النهي لكنه واحد وجودا و ماهية، و تقدم أن تعدد الوجه و العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فيكون من اجتماع الضدين المحال.

و فيه: أن الموجود الواحد له ماهية واحدة في الحقائق البسيطة لا المركبات الاعتبارية، فيصح تقوّمها بماهيات كثيرة، كما هو أوضح من أن يخفى.

المقام من الثاني دون الأول.

فظهر من ذلك كله عدم صحة جميع المقدمات التي ذكرها رحمه اللّه لإثبات الامتناع، لأن التعدد الاعتباري يكفي في رفع التضاد بين الاعتباريات، و إذا بطلت المقدمة تبطل النتيجة لا محالة.

كما لا وجه لدعوى أن جواز الاجتماع مستلزم لنقض الغرض، لأن الأمر بالشيء لدرك المصلحة و التقرب بالمأمور به إلى اللّه تعالى، و هو لا يجتمع مع النهي الفعلي. إذ فيه مضافا إلى أنه عين المدعي، أنه لا محذور فيه بعد تعدد الجهة، فيجلب المأمور المصلحة من جهة و يقع في المفسدة من جهة اخرى، و لا محذور فيه من عقل أو نقل أو عرف، بل هو واقع كثيرا و يتقرّب إلى اللّه تعالى من جهة و يقع في المفسدة من اخرى، و لا يلزم التقرّب بعين ما هو مبعد،

ص: 98

لفرض تعدد الجهة، بل يكون التقرّب إليه تعالى بشيء و التباعد عنه تعالى بشيء آخر و إن كانت لهما وحدة اعتبارية.

فتلخص: أن ما يقال في وجه الامتناع جميعها باطل، و كفى بذلك دليلا على الجواز، فيشك في بطلان الصلاة في المجمع، فمقتضى البراءة عدم المانعية و البطلان بعد إمكان التفكيك بين المأمور به و النهي عنه عقلا، و بعد شمول أدلة البراءة للحرمة الغيرية أيضا، كما هو الحق. هذا كله بحسب الدقة العقلية.

و أما بحسب الأنظار العرفية المنزلة عليها الأدلة، فالاجتماع ممتنع.

فيمكن الجمع بين الكلمات، فمن قال بالجواز أي بحسب الدقة العقلية، و من قال بالامتناع أي بحسب الأنظار العرفية المسامحية.

إن قلت: هذا في غير السجدة و القيام، و أما فيهما فالمأمور به عين المنهي عنه، إن كانت في المحل المغصوب حتى بالدقة العقلية.

قلت: يمكن تعدد الجهة فيهما أيضا، لأن السجدة وضع الجبهة على الأرض، و القيام وضع خاص، و إباحة المحل خارجة عن حقيقتهما، و إنما هي شرط خارج اعتبره الشارع.

ص: 99

ختام فيه أمران..
الأمر الأول:

لو اضطر إلى الكون في المحل المغصوب]

، و لم يكن ذلك بسوء اختياره، يجب عليه الخروج مع الإمكان، لوجوب تفريغ ملك الغير عن الكون فيه عقلا و شرعا، و لا حرمة في التصرفات الخروجية، لمكان الاضطرار بل تتصف بالوجوب فقط، و لا يحرم بقاؤه فيه مع عدم التمكن من الخروج و تصح صلاته فيه مع استيعاب الاضطرار، كل ذلك لقاعدة نفي الحرج، و حديث الرفع، بل الظاهر كونه من ضروريات المذهب إن لم تكن من الدين، من دون فرق في ذلك كله بين القول بجواز اجتماع الأمر و النهي، و القول بعدمه.

و أما إذا كان ذلك بسوء اختياره فالبحث..

تارة: في حكم خروجه عنه عرفا.

و اخرى: بحسب مسألة اجتماع الأمر و النهي بناء على الجواز.

و ثالثة: بحسب تلك المسألة بناء على الامتناع.

أما الأول: فالظاهر عن حال الناس رضاؤهم بخروج الغاصب و الظالم و السارق عن ملكهم، لا سيما إذا كان بعد إظهار ندامته و توبته، و عدم حصول تضرر في مالهم، و التضمين لو تحقق ضرر عليهم، بل الظاهر أن متعارف الناس يستنكرون على المالك لو أظهر عدم رضائه بالخروج مع ما ذكرناه. فإذا رضي المالك بالخروج يجب بلا إشكال، لوجود مقتضيه، و بذلك تسقط جملة من الأقوال، لبنائها على حرمة الخروج.

و يشهد لما قلناه عدم تعرضهم قدس سرّهم في ردّ المغصوب المنقول لاحتمال

ص: 100

الحرمة، بل يصرّحون بوجوبه مطلقا مع أن المسألتين من واد واحد. و يمكن أن يقال: بأن الشارع يسقط اعتبار رضاه مع عدم التضرر، بل و معه لكن مع التضمين، فيصح الأمر بالخروج بلا مانع و مدافع، كما في صورة اضطرار الشخص إلى تناول غذاء الغير حفظا لنفسه و لو كان الاضطرار بسوء اختياره، و كما في مورد الاحتكار، فتخرج المسألة عن مورد البحث حينئذ.

و أما الثاني: فقد نسب إلى القائلين بالجواز أنه يتصف بالوجوب و الحرمة معا، لما عرفت من تعدد الحيثية. و لكنه مردود..

أولا: بما مرّ من أنه لا بد من اعتبار المندوحة في المسألة، و لا مندوحة في المقام.

و ثانيا: بأنه لا يتصور النهي الفعلي لمكان الاضطرار، فليس في البين تعدد الحكم حتى يكون من مورد الاجتماع إلا أن يقولوا بفعلية النهي في مورد الاضطرار إن كان حاصلا بسوء الاختيار، و لكنه من الدعوى بلا شاهد عليها بل هو على خلافها، لبنائهم في الفقه على سقوط النهي مع الاضطرار مطلقا، و مع ذلك ليس من مسألة الاجتماع لعدم المندوحة.

و أما الثالث: فقيل بوجوب الخروج شرعا بلا عقاب عليه فعلا لا من جهة النهي الفعلي و لا من جهة النهي السابق، لأن الاضطرار يسقط الخطاب و الملاك معا، فالمقتضى للوجوب موجود و المانع عنه مفقود.

و أشكل عليه.. أولا: بأن سقوط الخطاب لأجل الاضطرار معلوم بخلاف أصل المبغوضية، بل هو ثابت فلا وجه لتعلق الوجوب الشرعي بما هو مبغوض فعلي.

و فيه: إنه مبني على ترجيح ملاك الإيجاب على جهة المبغوضية تقديما للأهم على المهم فلا محذور فيه من هذه الجهة، فيكون نظير وجوب بيع مال الغير عند الاحتكار و الاضطرار مع أن التصرف في ملك الغير مبغوض مطلقا.

ص: 101

و ثانيا: بأنه يكون الإيجاب الشرعي لغوا و بلا أثر مع حكم العقل بلا بدّية الخروج.

و فيه: أن حكم الشرع حينئذ يكون إتماما للحجة، و تأكيدا لحكم العقل، و قطعا لعذر المكلف، كما في حرمة الظلم التي استقل العقل و العقلاء بها، و كما في وجوب ردّ المغصوب المنقول مع وجوبه عقلا و شرعا، و لو كان ذلك بسوء الاختيار فلا محذور في الوجوب الشرعي مع اللابدّية العقلية.

و أما عدم العقاب فلانقلاب موضوع الاختيار إلى الاضطرار، فتنقلب العوارض و اللوازم التابعة للموضوع لا محالة.

و قيل: بأنه واجب مع جريان حكم العقاب السابق عليه، و أما بالنسبة إلى الوجوب فقد تقدم تصحيحه و عدم المحذور فيه، و أما بالنسبة إلى جريان حكم العقاب فلا دليل عليه إلا جملة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا و إن نافاه خطابا».

و فيه: إنه لم يقم دليل من عقل أو نقل على كلية هذه الجملة، و عدها من القواعد المعتبرة و إن كانت صادقة على نحو الإهمال و في الجملة في مورد عمل الأصحاب بها فتنجبر بالعمل، و اعتبارها في المقام أول الكلام.

و قيل: بعدم الوجوب الشرعي أصلا، و لكن العقل يحكم باختيار أقل القبيحين.

و فيه: ما ثبت من إمكان تصوير الوجوب الشرعي من دون محذور فيه، نفسيا كان أو غيريا. هذا ما يتعلق بحكم الخروج.

و أما حكم الصلاة في حال الخروج فلا تصح في سعة الوقت و إمكان إتيانها في محل مباح بالاتفاق حتى عند القائلين بالجواز، و أما في الضيق فهي صحيحة حال الخروج بناء على الجواز، و كذا بناء على الامتناع و رضاء المالك بالخروج، كما استظهرناه، و كذا بناء على عدم رضاه مع تغليب جانب الأمر.

ص: 102

نعم بناء على عدم رضاه و تغليب جانب النهي لا وجه للصحة، و لكن أنى لنا إثبات ذلك في ضيق الوقت، مع أن الصلاة لا تسقط بحال، و يأتي أنه لا دليل على تغليب النهي مطلقا.

الأمر الثاني: اجتماع الاحكام فى واقعه

لا ريب في أنه لا تخلو واقعة من حكم من الأحكام، فبناء على الجواز يكون مورد الاجتماع محكوما بالوجوب و الحرمة لتعدد الجهة، كما هو المفروض و أما بناء على الامتناع فلا بد من إثبات أحدهما، سواء كانت المسألة من باب التزاحم أم التعارض، و قد قيل بتغليب الحرمة في مورد الاجتماع، و طريقه منحصر إما بالدليل الخاص، أو القرائن العامة المعتبرة، و مع عدمها تصل النوبة إلى الأصل العملي.

أما الأول فلم يدعيه أحد. نعم ادعوا الإجماع على بطلان الصلاة في المغصوب مع العمد و الاختيار، و الظاهر تسالم القائلين بالجواز عليه أيضا، و يرد عليه: مضافا إلى أنه ليس من الإجماعات التعبدية، بل حاصل مما يأتي من الوجوه التالية، أنه مختص بخصوص الصلاة و لا يجري في غيرها إلاّ أن يدعى الإجماع على عدم الفرق بين جميع الموارد. فتأمل.

و أما الثاني فقيل فيه وجوه..

منها: أن العموم في النهي شمولي و في الأمر بدلي، و الأول مقدم على الثاني.

و فيه: أنه كذلك إن كان الشمول وضعيا، و أما مع كون الشمولية و البدلية كلاهما بمقدمات الحكمة، فلا وجه للتقديم لتساويهما في مناط الاعتبار.

و منها: أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

و فيه: إن بناء العقلاء على تقديم أقوى الملاكين، سواء كانا مصلحتين، أم

ص: 103

مفسدتين، أم بالاختلاف، مع أنه فيما إذا لم يمكن الجمع بينهما، و في المقام يمكن جلب المصلحة و دفع المفسدة، بأن يصلى في غير المغصوب، لما تقدم من اعتبار قيد المندوحة في مورد النزاع.

و منها: أن مقتضى الاستقراء تغليب جانب النهي على الأمر عند الدوران بينهما، كحرمة الصلاة على الحائض في أيام الاستظهار، و حرمة الوضوء من الإناءين المشتبهين.

و فيه: أن ثبوت الاستقراء بالظفر على موردين مع وقوع الخلاف فيهما أيضا لا وجه له، بل مقتضى سهولة الشريعة سقوط فعلية الحرمة عند عدم إمكان إتمام الدليل عليها، كما في جميع الشبهات التحريمية، و يعلم من ترتيب الشارع الأقدس أحكام الوطء الصحيح على الوطء بالشبهة، و صحة الصلاة مع الجهل بالغصب و نحو ذلك من الموارد التي ثبتت الصحة فيها أن مجرد المبغوضية الواقعية ما لم تكن مقرونة بالمنجزية الفعلية لا أثر لها، هذا مع أنه لا ربط للمثالين بالمقام إذ الحرمة فيهما تشريعية لا ذاتية، و المقام من الثاني دون الأول.

فتلخص أنه لا وجه لتقيم النهي على الأمر في مورد الاجتماع، و حينئذ فمقتضى البراءة العقلية و النقلية عدم فعلية النهي، و بعبارة أخرى أصالة عدم المانعية لمثل هذا النهي الذي لم تثبت غلبة مفسدته على مصلحة الأمر، فتصح الصلاة، لإطلاق دليلها الشامل لمورد الاجتماع أيضا، مع وجود المصلحة فيها.

إن قلت: مقتضى عموم النهي شموله لمورد الاجتماع أيضا، مع أنه تعتبر في العبادة المصلحة الغالبة على المفسدة و هي مشكوكة.

قلت: أما شمول النهي الكاشف عن فساد الصلاة فهو ممنوع إلا مع ثبوت غلبة المفسدة، و فعلية النهي، و كلاهما ممنوعان.

و أما اعتبار غلبة المصلحة في العبادة، فلا دليل عليه بل يكفي مطلق المصلحة ما لم تكن مرجوحة. فالأقسام ثلاثة: تغليب المفسدة على مصلحة

ص: 104

الأمر، و تساوي المصلحة مع المفسدة، و كون المفسدة مرجوحة بالنسبة إلى المصلحة، و عدم صحة الصلاة يختص بالقسم الأول.

ثمرة البحث:

الظاهر أنه لا ثمرة عملية لهذا البحث الطويل، لأن مورد الاجتماع إن كان توصليا فيسقط الوجوب بالإتيان بالمجمع مع الإثم اتفاقا. و إن كان تعبديا و كان له بديل، فالكل متفقون على أنه يتعين اختيار البدل و لا يجوز الإتيان بالمبدل، و إن لم يكن له بدل و كان في سعة الوقت و إمكان التأخير و الإتيان بغير مورد الاجتماع، فظاهرهم التسالم على التأخير، و إن كان في الضيق و عدم إمكان التأخير فيظهر منهم عدم الخلاف في لزوم الإتيان في المجمع حينئذ، هذا كله بناء على القول بتغليب النهي بناء على الامتناع، كما نسب إلى المشهور. و أما بناء على عدم التغليب، كما مرّ فعدم الثمرة بين القولين أظهر من أن يخفى.

ص: 105

القسم الثالث: المفاهيم

تمهيد فيه امور:
الأول: لم يرد لفظ المفهوم في الكتاب و السنة

حتى يكون من الموضوعات الشرعية أو المستنبطة التي تحتاج إلى النظر و البحث، بل هو من الامور المحاورية، و قد يطلق و يراد به المعنى، فيكون مدلول اللفظ معنى من حيث أنه عني من اللفظ. و مدلولا من حيث دلالته عليه. و مفهوما من حيث أنه يفهم من اللفظ، فالحقيقة واحدة و التعبير مختلف.

و قد يطلق في العرف - و منه الاصطلاح الاصولي - على ما يلازم الكلام عرفا، و غير مذكور في اللفظ بحدوده و قيوده بحيث يصح الاعتماد عليه في المحاورات و الاحتجاجات، سواء كان الكلام إنشائيا، مثل: أكرم زيدا إن جاءك، أم إخباريا مثل: إن ضربتني ضربتك، و هذا هو المراد من جميع التعريفات و إن اختلفت التعبيرات، فيصح أن يقال: إنه حكم لغير مذكور؛ أو حكم غير مذكور، و المقصود بهما واحد.

و لا ريب في أن الدلالية و المدلولية و الدلالة، من الامور الإضافية فيستلزم كل منها الآخر، و لا يتحقق إحداها بدون الأخريين، فما يكون من صفات إحداها يكون من صفات البقية بالملازمة، فيصح أن يكون المفهوم من صفات الدلالة، أو الدال، أو المدلول، و إن كان بالأخير أقرب عرفا.

ص: 106

كما أن كون المفاهيم من الدلالات الإطلاقية السياقية أقرب لدى العرف من كونها من الدلالات الوضعية، و يشهد له أصالة عدم التفات الواضع إلى هذه الخصوصية، و إن كان من لوازم الكلام عرفا فيما إذا كان ترتب الجزاء على الشرط على نحو ترتب المعلول على العلة التامة، و ذلك لأن هذا اللزوم أعم من أن يكون ملحوظا حين الوضع، كما هو واضح.

الثاني: المفهوم إما موافق مع المنطوق في الإيجاب و السلب

، و يسمى (بمفهوم الموافقة)، و الأولوية، و الفحوى. كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ فيدل على ترك اللهو و اللعب بالأولى، و قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيدل على حرمة الإيذاء بالأولى.

و أما مخالف له و يسمى (بمفهوم المخالفة)، كقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.

الثالث: مورد البحث فى المفهوم، النزاع فيه انما هو صغرى، امكان ادخال بحث المفاهيم فى مباحث الملازمات

لا ريب في أن شخص الحكم المتقوّم بالموضوع في المنطوق ينتفي بانتفائه قهرا، و لا ينبغي أن يكون ذلك مورد النزاع، و لذا اتفقوا على أنه لا مفهوم في الوصايا، و الأقارير، و الأوقاف و نحوها، إذ ليس المنشأ فيها إلا شخص الحكم المتقوّم بموضوع خاص، فليس ذلك كله من المفهوم في شيء أبدا.

و مورد البحث في المفهوم انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الموضوع، لا انتفاء شخصه.

إن قلت: إن ما حدث في المنطوق إنما هو شخص الحكم، و هو منتف بانتفاء موضوعه قهرا، و السنخ لم يحدث أصلا حتى يبحث عن انتفائه أو عدمه.

قلت: المنشأ في المنطوق إنما هو طبيعي الحكم و هو غير مقيد بخصوص الموضوع و إن تقيد حصة منه بذلك، و إن شئت قلت: إنه إن كان القيد قيدا لطبيعي الحكم المنشأ فلا ريب في المفهوم، لأن زوال حصة من الطبيعي بزوال الموضوع لا يوجب زوال أصله، و إن كان للحصة فلا ريب في عدم ثبوته، لانعدام أصل الحكم المنشأ حينئذ.

ص: 107

ثم إن النزاع في حجية المفهوم صغروي فقط، بمعنى أنه هل يكون للجملة الشرطية - مثلا - مفهوم أو ليس لها مفهوم؟ و ليس نزاعا كبرويا، بمعنى أنه هل يكون المفهوم حجة أو لا؟ لأن بناء العقلاء على اعتباره على فرض ثبوته، فلا يكون مورد البحث من هذه الجهة.

و لنا أن ندخل مباحث المفاهيم مطلقا في مباحث الملازمات العقلية غير المستقلة، لحكم العقل بثبوت المفهوم إن ثبت كون القيد علة تامة منحصرة للحكم، و عدم حكمه كذلك، بل حكمه بالعدم مع عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة، فالجامع بين جميع المفاهيم ليس إلا ذلك.

الرابع: تاسيس الاصل فى المسألة الاصولية و المسألة الفرعية
اشارة

لا أصل في المسألة الاصولية يتمسك بها إلا بناء على جريان الأصل في الأعدام الأزلية، و أما في المسألة الفرعية فإن كان في البين أصل موضوعي فهو المرجع، و إلا فيرجع إلى أصالة البراءة، فتكون النتيجة متحدة مع ثبوت المفهوم و هو انتفاء الحكم.

عدد المفاهيم
اشارة

ثم إن المفاهيم كثيرة، و قد أنهاها في كشف الغطاء إلى عشرين، و لكن المعروف منها عند الاصوليين ستة: مفهوم الشرط، و الوصف، و الغاية، و الحصر، و اللقب، و العدد.

و الضابطة الكلية في تحقق المفهوم في الجميع تحقق العلية التامة المنحصرة لما ذكر موضوعا في المنطوق، فمع تحققها لا شبهة في تحقق المفهوم، و مع عدم العلية، أو عدم التمامية، أو عدم ثبوت العلية التامة المنحصرة لموضوع الحكم المذكور في المنطوق بالنسبة إليه و عدمه، فلا وجه للمفهوم أصلا، و استظهار ذلك لا بد أن يكون من العرف و المحاورات.

ثم إن الحاكم بثبوت المفهوم بعد الاستظهار إنما هو العقل، و لهذا أمكن إدراج هذه المباحث في العقليات غير المستقلة كما عرفت، و لكن ذكرناها في مباحث الألفاظ تبعا للقوم، مع أنها بحسب الأنظار العرفية من سنخ الدلالات اللفظية.

ص: 108

الأول: مفهوم الشرط
اشارة

ثبوت المفهوم للجمل الشرطية متوقف على أن يكون الجزاء مترتبا على الشرط، كترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة، فلا بد في ثبوته من إحراز هذه القيود الثلاثة. و إلا فلو كان الترتب من مجرد ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، أو ترتب المعلول على العلة غير التامة المنحصرة، يسقط المفهوم لا محالة.

فمع انتفاء أصل العلية - بأن كان الترتيب اتفاقيا - أو التمامية - بأن كان من ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) - أو الانحصار - بأن كان من ترتب المعلول على علل متعددة - لا وجه للمفهوم عقلا و اتفاقا. و لا ريب في تحقق الثلاثة في القضايا التي سيقت لبيان الموضوع كقول: «إن رزقت ولدا فاختنه» و نحوها الدالة على المفهوم لقرائن قطعية، و إنما البحث في بيان قاعدة كلية جارية في جميع القضايا الشرطية.

و ما قيل في دلالتها على المفهوم وجوه:

الأول: أن دلالتها على العلية التامة المنحصرة وضعية، لتبادرها منها.

و فيه: أن المتبادر مطلق الترتب في الجملة، لا على نحو العلية فضلا عن التامة أو المنحصرة، مع أنه يلزم أن يكون استعمالها في مطلق الترتب بناء على تبادر العلية التامة المنحصرة مجازا، و هو مشكل.

و كون ذلك من باب تعدد الدال و المدلول أشكل، لأصالة عدم وجود دال آخر و لو بالأصل الأزلي.

الثاني: أن ذلك من باب الانصراف.

و فيه: أنه ممنوع لغلبة الاستعمال في مطلق الاقتضاء و الترتب، و على فرض الصحة فهو بدوي لا اعتبار به.

ص: 109

الثالث: إنها إطلاقية، فإن كل واحد من إطلاق الشرط، و إطلاق ترتب الجزاء عليه، و إطلاق نفس الجزاء يقتضي العلية التامة المنحصرة، إذ لو كان في البين شرط آخر، أو كان الترتب على نحو الاقتضاء، أو صح أن يكون الجزاء جزاء لشرط آخر لذكر - و لو في كلام آخر - و حيث لم يذكر فيستفاد العلية التامة المنحصرة لا محالة، كما يستفاد الوجوب العيني التعييني النفسي عن إطلاق الأمر.

و فيه - أولا: أنه يعتبر في التمسك بهذه الإطلاقات إحراز كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهات أيضا، و مع عدم الإحراز لا وجه للتمسك بها، إلا أن يقال: إن مقتضى ظاهر حال المتكلم حين التكلم كونه في مقام بيان كل ما له دخل في مراده مطلقا إلا مع القرينة على الخلاف، فيكون حكم صورة الشك حكم صورة إحراز كونه في مقام البيان، لأصالة كونه في مقام البيان، و هي من الاصول المحاورية المعتبرة في المحاورات و الاحتجاجات.

و ثانيا: أن ذلك ليس إلا دعوى الانصراف الذي تقدمت المناقشة فيه، كما أن الاستدلال عليه بأن الظاهر من الجزاء ترتبه على خصوص الشرط، و إلا لكان مستندا إلى الجامع و هو خلاف الظاهر، يرجع إلى أحد الوجوه المتقدمة، فلا وجه لجعله دليلا مستقلا.

و هذه الوجوه و إن أمكنت المناقشة فيها، لكن مجموعها بقرينة بناء العرف على استفادة العلية التامة من الجمل الشرطية، يكفي لإثبات المطلوب.

و قد استدل على عدم المفهوم..

تارة: بأنه لو ثبت لكان بإحدى الدلالات، و الكل منتفية.

و أخرى: بقوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، فإن مفهومه جواز الإكراه مع عدم التحصّن، و هو ضروري البطلان.

ص: 110

و ثالثة: باحتمال أن يكون في الواقع شرط آخر لم يذكر في اللفظ.

و الجميع مردود: لأن الدلالة الالتزامية العرفية ثابتة، و عدم المفهوم بقرينة قطعية في الآية لا ينافي ثبوته في غيرها، و احتمال وجود شرط آخر مدفوع بظاهر الإطلاق، كما مر.

و يلحق بذلك مبحثان:

المبحث الأول الشرط و الجزاء اما متحدان أو يكون الشرط واحدا و الجزاء متعدد أو بالعكس

الشرط و الجزاء إما أن يكونا متحدين، كما إذا قيل: إن جاءك زيد فأكرمه.

و إما أن يتعددا، كما إذا قيل: إن جاءك فأكرمه، و إن سلّم عليك فسلّم عليه.

و إما أن يكون الشرط واحدا و الجزاء متعددا، أو يكون عكس ذلك، بأن يكون الشرط متعددا و الجزاء واحدا. و لا ريب في صحة الجميع ثبوتا و إثباتا في المحاورات.

و إنما البحث في الأخير مثل قولهم: «إذا خفي الأذان فقصّر، و إذا خفي الجدران فقصّر»، فإن كانا متلازمين في التحقق الخارجي، فلا ريب في أن الشرط واحد و هو الجامع بينهما. و إن كانا مختلفين فيتحقق التعارض بين إطلاقي المنطوقين و بين مفهوميهما لا محالة، و لا بد حينئذ من دفع التعارض صونا للكلام عن اللغوية.

و دفعه منحصر بإسقاط العلية التامة المنحصرة عن الشرط، و يحصل ذلك بتقييد إطلاق كل واحد من الشرطين بالآخر، أما بالنسبة إلى التمامية فيكونان معا شرطا واحدا، فلا بد في ثبوت القصر من تحققهما معا و لا يكفي ثبوت أحدهما، أو تقييد إطلاق كل واحد منهما بالآخر بالنسبة إلى الانحصار فيجب القصر

ص: 111

بثبوت أول الشرطين، و يكون الآخر كاشفا عن ثبوت العلة سابقا، و هذان الوجهان يشتركان في تقييد إطلاق الشرطين، فيسقط المفهوم لا محالة لابتنائه على الإطلاق من كل جهة؛ و مع تقييده - و لو من وجه - ينتفي المفهوم قهرا.

و الظاهر أن العرف في نظائر المقام يساعد على الوجه الأول، و مع عدم الاستظهار العرفي و تردد التقييد بين أحد الوجهين يسقط المفهوم أيضا، للعلم الإجمالي باختلال شرط تحققه، و باقي الوجوه المذكورة في الكفاية و غيرها إن رجع إلى ما ذكرناه فهو، و إلا فهي ساقطة، كما هو واضح.

ص: 112

المبحث الثاني اذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء فهل يتعدد الجزاء يتعدد شرط؟
اشارة

بناء على أن كل شرط علة تامة منحصرة لترتب الجزاء، فإذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء في ظاهر الخطاب، فهل يتعدد الجزاء أيضا بتعدد الشرط، كما إذا قال: إذا بلت فتوضأ، فبال مكررا، فهل يجب تكرار الوضوء أيضا؟ و تنقيح البحث يقتضي بيان امور:

بيان امور
أحدها: الشروط المتعددة اما من صنف واحد أو لا

الشروط المتعددة إما من صنف واحد أو لا، و على كل منهما فإما أن يكون المحل قابلا لتعدد الجزاء - و لو بالاشتداد و الضعف - أو لا. و الجميع داخل في محل النزاع إلا الأخير، لأنه مع عدم قابلية المحل للتعدد، فحينئذ ينتفي النزاع عقلا بانتفاء أصل موضوعه.

ثانيها: تداخل الاسباب، و تداخل المسببات

يمكن القول بتعدد الجزاء مطلقا حسب تعدد الشرط، كما يمكن التفصيل بين وحدة الشرط صنفا فيتحد الجزاء، و بين تعددها كذلك فيتعدد. كما يمكن إرجاع الشروط المتعددة مطلقا إلى واحد، و يعبّر عنه بتداخل الأسباب، أو الاكتفاء عن الجزاءات المتعددة في مقام الامتثال بواحد، و يعبّر عنه بتداخل المسببات. و التداخل فيهما إما رخصة أو عزيمة. هذه هي عمدة الوجوه المحتملة ثبوتا في المقام.

ثالثها: ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط إلا مع القرينة على الخلاف، و هى على قسمين
اشارة

ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث كل شرط، فلا بد حينئذ من تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط إلا إذا دلت قرينة معتبرة على الخلاف، فيدل على تداخل الأسباب أو تداخل المسببات، و هي على قسمين:

الأول: القرينة الخاصة، و هي في موارد مخصوصة

، كظهور إجماعهم على كفاية طهارة واحدة، عند اجتماع أحداث صغرى من صنف واحد أو من أصناف شتى. و كذا بالنسبة إلى كل واحد من الأحداث الكبرى إذا تكرر من

ص: 113

صنف واحد، بل و من أصناف متعددة، لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

الثاني: القرينة العامة و هى كثيرة و المناقشة فيها

و هي كثيرة:

منها: أن تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط يوجب اجتماع المثلين، لأن الجزاء طبيعة واحدة، فيتعدد الوجوب بالنسبة إلى الطبيعة الواحدة، فيلزم اجتماع المثلين.

و فيه.. أولا: أن موضوع اجتماع المثلين المحال إنما هو في ما إذا كان المثلان عرضا خارجيا، فلا موضوع له في الأحكام التي هي من الاعتباريات العقلائية؛ و لا تكون من الموجودات الخارجية.

و ثانيا: أنه يلزم إذا لوحظت الطبيعة على نحو الوحدة لا من حيث السريان إلى الأفراد، و إلا يتعدد الوجوب حسب تعدد الأفراد قهرا.

و منها: أن إطلاق متعلق الجزاء يقتضي الاكتفاء بمجرد إتيانه مرة واحدة فقط، فإن مقتضى الإطلاق مطلوبية صرف الوجود حتى مع تعدد الشرط و هو يحصل بالمرة.

و فيه: أنه كذلك لو لم تكن قرينة على الخلاف، و ظهور تعدد الجزاء بتعدد الشرط من القرينة على الخلاف، مع أنه يقتضي الاكتفاء بصرف الوجود بالنسبة إلى طلبه فقط، و لا نظر له بالنسبة إلى طلب آخر و قضية اخرى.

و منها: أن الجملة الشرطية عند تعدد الشرط لا تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بل على مجرد الثبوت الأعم من الحدوث الحاصل بالشرط الأول، و البقاء الكاشف عن الشرط الثاني، فأصل الحدوث حاصل بالشرط الأول، و باقي الشروط تكشف عن البقاء.

و فيه.. أولا: أنه من مجرد الدعوى، و لا شاهد عليها من عقل أو نقل.

و ثانيا: أنه يلزم أن تكون جملة شرطية واحدة بالنسبة إلى شخص دالة على الحدوث و بالنسبة إلى آخر دالة على البقاء، بل يلزم ذلك بالنسبة إلى

ص: 114

حالات شخص واحد أيضا، و فيه من الغرابة ما لا يخفى.

و منها: أن الجزاء و إن كان متعددا واقعا، و لكنه يجزي الواحد من باب تداخل المسببات، كما إذا ورد: أكرم عالما، و أكرم هاشميا، و أكرم عادلا، أي أكرم من كان جامعا لهذه الصفات.

و فيه: أنه يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و المثال أجنبي عن المقام، لأنه في ما إذا كان بين العناوين المنطبقة على الواحد عموما من وجه و تصادقت عليه، و في المقام لا يكون الجزاء إلا طبيعة واحدة قابلة للتكرر.

و كذا لو قيل: بأن الجزاء يحدث عند كل شرط تأكيدا لا تأسيسا، فيكون من تداخل المسببات أيضا، فإنه خلاف الظاهر، مع أن مقتضى الأصل في المحاورات هو التأسيس لا التأكيد.

و منها: أن العلل و الأسباب الشرعية ليست حقيقية حتى يمتنع اجتماعهما على واحد، بل هي معرّفات و كواشف، فالعلة في الواقع واحدة و الجزاء يكون واحدا.

و فيه: أنه لا فرق بين العلل التكوينية و الشرعية في أنهما حقيقة تارة، و كواشف عن العلل الحقيقية اخرى. و الظاهر كونها حقيقية إلا مع الدليل على الخلاف، و لا دليل كذلك على نحو الكلية.

فتبين من جميع ما تقدم أن مقتضى الظاهر تعدد الجزاء بتعدد الشرط، سواء كان من صنف واحد أم كان من أصناف متعددة، و أن القول بتداخل الأسباب أو المسببات يحتاج إلى دليل خاص.

و لكن يمكن أن يقال: انه في ما إذا تعاقبت الشروط المتعددة من صنف واحد على محل واحد و لم يتخلل الجزاء بينهما، كانت تلك الشروط بمنزلة شرط واحد عرفا، لأن المنساق عند المتعارف حينئذ أن الجنس شرط، لا أن يكون خصوص الفرد شرطا، و الأدلة الشرعية منزّلة على العرفيات، و لذا استقرت سيرة العلماء في الفقه على ذلك، كما لا يخفى.

ص: 115

تذنيبان:
الأول: تعيين المرجع فى حالة الاجمال، و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط

لو فرض الإجمال و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط، فإن كان الشك في أن التكليف في الواقع واحد أو متعدد، فهو من موارد الأقل و الأكثر، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر، و يتحد في النتيجة مع تداخل الأسباب.

و إن احرز تعدد التكليف، و شك في أن الجزاء الواحد يجزي عن التكاليف المتعددة، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم الإجزاء و وجوب التعدد، و إن شك فيهما معا فيكون من القسم الأول و تجري البراءة عن الزائد.

الثاني: قد ورد الدليل على كفاية جزاء واحد عن شروط متعددة في موارد خاصه

منها: ما تقدم من كفاية وضوء واحد عن أحداث صغرى، سواء كانت من صنف واحد أم لا، للإجماع.

و منها: ما سبق أيضا من كفاية غسل واحد عن موجبات كثيرة للغسل، لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا اجتمعت للّه عليك حقوق يجزيك غسل واحد».

و منها: كفاية كفارة واحدة لمن أفطر متعمدا في يوم من شهر رمضان متعددا، سواء كان الإفطار من صنف واحد أم من أصناف متعددة، تخلل التكفير أم لا، و لكن الظاهر خروجه عن المقام تخصصا، لأن بالإفطار الأول يبطل الصوم فلا يبقى موضوع للكفارة بعد ذلك، و وجوب الإمساك في شهر رمضان إنما هو تأدبي لا ربط له بالكفارة، و توجد هناك موارد اخرى مذكورة في الفقه، فراجع.

ص: 116

الثاني: مفهوم الوصف

الوصف إما أن يكون مذكورا في الكلام، أو يستفاد من سياق الجملة - فيكون كالمذكور فيه في المحاورات - و على كل منهما فإما أن يكون الموصوف مذكورا أو لا. و مورد البحث في المقام خصوص ما كان الموصوف مذكورا في الكلام، و أما غيره فإنه أشبه بمفهوم اللقب، و يأتي البحث عنه.

فالأليق بعنوان البحث في المقام أن يقال: الحكم الثابت للمنعوت بنعت ظاهري أو سياقي، هل يدور مدار وجود النعت؟

و كيف كان، فالوصف و الموصوف إما يكون بينهما التساوي، أو العموم المطلق، أو العموم من وجه، و أما التباين فلا يمكن أن يتحقق بينهما، للزوم الاتحاد بين الصفة و الموصوف في الجملة، و لا اتحاد بين المتباينين. و الظاهر خروج الأول عن مورد البحث، لأن مقتضى التساوي بين الموصوف و الصفة، انتفاء الموصوف بانتفاء الوصف قهرا، فتكون القضية من السالبة بانتفاء الموضوع، إلاّ أن يكون مورد نظرهم في المقام إلى الأعم من ثبوت الموضوع خارجا أو فرضا، و لكنه بعيد عن كلماتهم.

كما أنه لا إشكال في خروج القسم الأخير إن كان الافتراق من طرف الموضوع، إذ لا اعتماد فيه للوصف على الموصوف في ظاهر الخطاب، و قد تقدم اعتباره، فما نسب إلى بعض الشافعية من أن قوله صلّى اللّه عليه و آله: «في الغنم السائمة زكاة» يدل على عدم الزكاة في غير السائمة. لا وجه له إلاّ إذا استفيد العلية التامة المنحصرة من السائمة الواردة في الغنم في غير الغنم من سائر الأنعام التي فيها الزكاة أيضا. فيبقى مورد البحث القسم الثاني، و الأخير في ما إذا كان الافتراق من ناحية الوصف، و تكون البقية من اللقب الذي يأتي عدم المفهوم فيه. و منه يظهر الإشكال في ما في الكفاية من تعميمه للجميع، فراجع و تأمل.

ص: 117

ثم إن الوصف إما أن يكون علة تامة منحصرة لثبوت الحكم للموضوع أو يكون مقتضيا له، أو لا اقتضاء له أصلا، فيكون وجوده كعدمه على حدّ سواء، و المفهوم إنما يثبت في القسم الأول فقط دون الأخيرين، كما تقدم في مفهوم الشرط.

إذا عرفت ذلك نقول: إنه لا ريب في ثبوت المفهوم للوصف في بعض الموارد لقرائن خارجية أو داخلية، كما لا ريب في عدمه كذلك في بعض الموارد الأخر، إنما الكلام في بيان القاعدة الكلية التي يصح الاستناد إليها في كل مقام، و ما يمكن أن يستند به عليها وجوه جميعها قابلة للمناقشة:

منها: دلالته على المفهوم وضعا.

و فيه: أنه لو كان كذلك لما وقع الخلاف فيه، و لكانت كتب اللغة مرجعا لبعض ذلك من دون احتياج إلى إتعاب النفس إلى التمسك بالأدلة الخارجية.

و منها: أنه لو لم يدل عليه لكان ذكره لغوا، إذ لا فائدة فيه غير ذلك.

و فيه: وضوح عدم انحصار الفائدة فيه، بل له فوائد كثيرة، كما لا يخفى على من تأمل في المحاورات، فراجع علم المعاني و البيان.

و منها: ما اشتهر من أن الأصل في القيد أن يكون احترازيا، و أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فيثبت المفهوم لا محالة.

و فيه: أنه لا أصل لهذا الأصل إلاّ في الحدود الحقيقية و التعريفات الواقعية، و هي كلها خارجة عن مورد الكلام.

و قضية تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية ليست من القواعد المعتبرة، مع أن الإشعار بالعلية أعم من العلية التامة المنحصرة التي هي مناط تحقق المفهوم، كما مر.

و منها: أن من لزوم حمل المطلق على المقيد في المحاورات العرفية يستكشف المفهوم للوصف أيضا.

ص: 118

و فيه: أن مناط حمل المطلق على المقيد إحراز وحدة الحكم فيهما، و تقديم النص - الذي هو المقيد - على الظاهر - الذي هو المطلق - و المناط في المقام إحراز العلية التامة المنحصرة للوصف، فلا ربط لأحدهما بالآخر.

فليست في البين قاعدة كلية تدل على ثبوت المفهوم للوصف، بل لا بد في ثبوته من دلالة القرائن الخاصة المعتبرة عليه.

و قد يستدل على عدم المفهوم للوصف بقوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فإنه لو ثبت المفهوم لدلت الآية على حلية الربيبة إذا لم تكن في الحجر، مع أنها محرّمة أيضا.

و فيه: أن ذلك لأجل الأدلة الخاصة الدالة على حرمة الربيبة مطلقا و لو لم تكن في الحجر، مع أن عدم دلالة الوصف على المفهوم أحيانا لا يدل على عدم دلالته عليه بالكلية، كما هو واضح.

ص: 119

الثالث: مفهوم الغاية

البحث في الغاية من جهتين:

الاولى: في دخولها في المغيّا و عدمه، و التحقيق أن لها معنيين: فتارة يراد بها آخر الشيء باعتبار وجوده المختص به، كقولك: مساحة هذا الشيء ذراع.

و هو داخل في المغيّا، لأن كل شيء عبارة عن المحدود بحد خاص و شكل مخصوص.

و اخرى يراد بها ما ينتهي عنده الشيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع، كقوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. و حينئذ فيمكن أن يقال بانتزاع الغاية من أول جزء من الليل فتكون داخلة حينئذ، أو انتزاعها من آخر جزء من النهار فتكون خارجة لا محالة، و يختلف ذلك باختلاف الموارد، و المتبع هو القرائن المعتبرة و مع عدمها فالمرجع هو الاستصحاب، فتكون النتيجة دخولها في المغيا.

و المعروف بين أهل الأدب أن كلمة (حتى) و (إلى) تدلان على دخول الغاية في المغيّا ما لم تكن قرينة على الخلاف، و لكن اعتبار كلامهم أول الدعوى إلا مع ثبوت ذلك في المحاورات المعتبرة.

الثانية: أنها هل تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية؟ و التحقيق أنها إن كانت قيدا للموضوع تكون من الوصف حينئذ، و قد تقدم عدم المفهوم له. و إن كانت قيدا للحكم فتدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية قهرا، و إلا فلا تكون غاية و هو خلف، مثل قوله عليه السّلام: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر»، و قوله عليه السّلام: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» فلا وجه للطهارة و الحلّية بعد العلم بالقذارة و الحرمة. و يمكن أن يعد هذا من الدلالة المنطوقية لا المفهومية، و إن شك في كونها قيدا للحكم أو للموضوع فالمرجع الاستصحاب مع تحقق شرائطه و إلاّ فالبراءة، فتخرج حينئذ عن الدلالة منطوقية كانت أو مفهومية.

ص: 120

الرابع: مفهوم الاستثناء

مقتضى المحاورات المتعارفة في كل لغة أن الاستثناء من الإيجاب سلب؛ و من السلب إيجاب، و أنه يدل على الحصر، و أن الحكم المذكور في القضية مختص بالمستثنى منه، و المشهور أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى إنما هو بالمفهوم، فإن أرادوا ذلك في الجملة و في بعض الموارد الخاصة لمناسبات مخصوصة فلا إشكال فيه، و إلا فالظاهر أنه في مثل (ليس) و (لا يكون) بالمنطوق لا بالمفهوم، لتبادر ذلك منهما في المحاورات، و لا يبعد ذلك في مثل (إلاّ) أيضا إذا كان من حدود الحكم و متعلقاته.

و أما إذا كان من قيود الموضوع فمرجعه إلى الوصف، و تقدم عدم المفهوم له، فيصح أن يقال: إن الأدوات الاستثنائية تدل على انتفاء حكم ما قبلها عما بعدها بالمنطوق لا المفهوم، إلا في بعض الموارد لقرائن خاصة.

و أما ما قيل: من أنها لو دلت على المفهوم لكان قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» دالا على كون الطهور صلاة و لو لم تتحقق سائر الأجزاء و الشرائط.

فهو باطل قطعا، لأن مثل هذه التعبيرات إنما يقال عند بيان اعتبار ما بعد إلاّ لما قبلها تحققا أو كمالا، فيقال: لا صلاة إلا بطهور، و يكون عبارة اخرى عن قوله عليه السّلام: «الصلاة ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود». و كما يقال: لا علم إلاّ بعمل، و لا إيمان إلا بصبر.

كما أن قبول إسلام من قال: لا إله إلا اللّه، لا يدل على ثبوت المفهوم للاستثناء على نحو الكلية، لما تقدم من احتمال كون الدلالة فيها أيضا بالمنطوق مثل (ليس) و (لا يكون)، و على فرض كونها بالمفهوم فهي لقرينة خاصة، و لا

ص: 121

تثبت بها الكلية.

و قد يقال: بأن المقصود من كلمة التوحيد الإقرار بوجود اللّه تعالى و تحقق فعليته من كل جهة، و نفي الشريك له تعالى. فإن قدّر خبر (لا) النافية ممكن، يكون المعنى: لا إله ممكن إلا اللّه، فهو ممكن و يثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى، و هو أعم من الوجود الفعلي، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا. و إن قدّر موجود فيكون المعنى: لا إله موجود إلا اللّه فهو موجود، فهو و إن دلّ على الفعلية و الوجود و لكن لا يدل على امتناع الشريك له تعالى، لأن نفي الوجود أعم من الامتناع إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

نقول.. أولا: أن كلمة (لا) تامة لا تحتاج إلى الخبر مثل ليس التامة، فالمعنى أنه لا تحقق للمعبود بالذات إلاّ اللّه تعالى، و هو ظاهر في وجوده و امتناع معبود آخر غيره عزّ و جلّ.

و ثانيا: يصح تقدير الخبر لفظ الممكن و لا يلزم المحذور، لما ثبت في محله من أن كل ما كان من المعاني الكمالية ممكنا بالنسبة إليه تعالى و لم يكن مستلزما للنقص، فهو واجب بالنسبة إليه، فقولك: لا إله ممكن إلا اللّه فهو ممكن، أي واجب، كما برهن عليه. قال الحكيم السبزواري:

إذ الوجود كان واجبا فهو *** و مع الإمكان قد استلزمه

و قس عليه كلما ليس امتنع بلا تجشم على الكون وقع

و ثالثا: يصح تقدير الخبر لفظ الموجود، و يكون نفي الوجود عن جنس الواجب بالذات أو المستحق للعبادة ذاتا ملازما لامتناعه، لأنه لو كان ممكنا لتحقق.

ثم إن لفظ (إنما) يدل على الحصر و الاختصاص، لتبادر ذلك منه عند عرف أهل المحاورة ما لم تكن قرينة على الخلاف.

و كذا لفظ (بل) الإضرابية المستعملة في الجملة المنفية مع كون الإضراب

ص: 122

حقيقيا التفاتيا، فإنه يدل على الاختصاص أيضا، لتبادره منه. و أما لو كان لبيان السهو و الغفلة و الغلط فلا يدل عليه، كما لا يدل عليه سائر أقسام (بل) المذكورة في الكتب الأدبية إلا مع قرينة معتبرة دالة عليه.

و قد يعدّ مما يدلّ على الحصر تعريف المسند إليه باللام، و تقديم ما حقه التأخير، فإن اريد أنها لأجل القرينة الخاصة - حالية كانت أو مقالية - فلا إشكال فيه. و إن اريد أنها وضعية فهي ممنوعة، لعدم التبادر كما لا يخفى.

ص: 123

الخامس و السادس: مفهوم اللقب و العدد

و الأول ما كان طرفا للنسبة الكلامية في الجملة، مسندا كان، أو مسندا إليه، أو من متعلقاتهما. و حينئذ فإن كان وصفا يصير مورد بحث المفهوم من جهتين، بل يمكن أن يصير مورد البحث من جهات لامور أخر أيضا.

و على أي تقدير مقتضى الأصل و المحاورات العرفية عدم اعتبار المفهوم للقب، فإن قول: زيد قائم، لا يدل على نفي القعود عنه - نعم حين القيام لا يصدق عليه القعود فعلا من جهة امتناع اجتماع الضدين، و لا ربط له بالمفهوم - كما لا يدل على نفي القيام عن عمرو بوجه من الدلالات، و قد ارتكز في النفوس أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عما عداه و نفي ما عداه عنه و عن غيره.

و أما العدد..

فتارة: يكون محدودا بالنسبة إلى طرفي القلة و الكثرة، كركعات الظهر مثلا.

و اخرى: بالنسبة إلى طرف القلة فقط، كالصدقات الواجبة المحدودة بحدّ خاص معين، فلا يجزي الأقل منه.

و ثالثة: يكون محدودا بالنسبة إلى طرف الزيادة، كنافلة الظهر حيث لا تجوز الزيادة على الثمانية و يجزي الأقل منها.

و رابعة: يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الطرفين.

و الكل ليس من المفهوم في شيء، و المنساق عرفا من العدد التحديد بالنسبة إلى الأقل إلا مع القرينة على الخلاف.

ص: 124

القسم الرابع: العام و الخاص

تعريف العام و الخاص

العام و الخاص من المعاني المرتكزة إجمالا في الأذهان في كل لغة و محاورة. و العموم عند العرف متقوّم بالشمول و السريان، بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله، و منه يظهر أن لفظ (عشرة) مثلا ليس بعام بالنسبة إلى الآحاد التي تكون تحتها، لعدم سريان هذا اللفظ و عدم إطلاقه بالنسبة إليها. نعم، هو عام بالنسبة إلى عامة العشرات فيشمل كل عشرة.

و هو وضعي، أو بمقدمات الحكمة، و المقصود بالذكر في المقام هو الأول، و يأتي الأخير في المطلق و المقيد إن شاء اللّه تعالى.

و قد عرّف العام بتعاريف كلها مخدوشة ما لم ترجع إلى ما هو المركوز في الأذهان، مضافا إلى أنه لم يقع لفظا العام و الخاص موردي حكم من الأحكام حتى يحتاج إلى التعريف و التزييف.

نعم الألفاظ الدالة على العموم و الخصوص كثيرة الدوران في الأدلة و هي معلومة لكل أحد، سواء كان عارفا بمعنى العام و الخاص أم كان جاهلا بهما.

و لا يخفى أن العام و الخاص من الامور الإضافية، فرب عام من جهة يكون خاصا من جهة اخرى، كما أن رب خاص من جهة يكون عاما من جهة اخرى، و قد يستعمل كل منهما في الآخر بالعناية إذا استحسنه الذوق السليم.

ص: 125

أقسام العموم:

و العموم إما استغراقي، أي شامل لكل ما يصلح أن يكون فردا له، و هو كثير في الكتاب و السنّة، كقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و مثل: (لا تشرب الخمر) أو بدلي، أي أن مدلوله فرد واحد لكن على البدل، فالعموم في البدلية الشاملة لكل فرد يصلح أن يكون بدلا لا في الفرد من حيث هو، كما في القسم الأول. و هو أيضا كثير في الشرع.

أو مجموعي، أي يلحظ جميع الأفراد عنوانا واحدا للعام و كأنه ليس له إلاّ فرد واحد و هو المجموع من حيث المجموع، كغسل الجنابة، فإن جميع البدن بتمام أعضائه جعل شيئا واحدا بحيث لو لم يغسل موضع رأس إبرة لبطل الغسل.

و لازم الأول تحقق الإطاعة بامتثال كل فرد، و العصيان بترك فرد آخر، فيصح أن تتحقق في عام واحد الإطاعة و العصيان معا، بل إطاعات عصيانات.

و لازم الثاني تحقق الإطاعة بإتيان فرد ما، و عدم تحقق العصيان إلا بترك الجميع.

و أما الأخير فهو على عكس الثاني، فلا تتحقق الإطاعة فيه إلا بإتيان الجميع، و يتحقق العصيان بترك فرد ما. و ليس في القسمين الأخيرين إلا إطاعة واحدة و عصيان كذلك بخلاف القسم الأول، إذ يصح تعدد الإطاعة و العصيان فيه، كما هو واضح.

ص: 126

ألفاظ العموم:

قد شاع في كل لغة ألفاظ للعموم؛ و اخرى للخصوص، و ثالثة تستعمل تارة في الأول و اخرى في الأخير لقرائن خارجية أو داخلية، و الألفاظ المتداولة في العموم خمسة: لفظ (كل) و ما بمعناه، و النكرة في سياق النفي أو النهي، و المحلى باللام، جمعا أو مفردا.

و اختلف في أن هذه الدلالة وضعية أو إطلاقية، أو أن الاولى بالوضع و البقية بالإطلاق. و الظاهر هو الأخير، لظهور هذه الألفاظ الخمسة في العموم، و الظهور حجة معتبرة عند العقلاء وضعيا كان أو إطلاقيا.

نعم، قد يقال إن الظهور الوضعي أقوى من الإطلاقي فيقدّم عليه مع التعارض، و لكنه دعوى بلا شاهد، اللهم إلا أن يصير ذلك موجبا لأظهرية ما يستند إلى الوضع دون غيره و لا ريب في تقديمه عليه حينئذ، لتقدم الأظهر على الظاهر في المحاورات، كتقدم النص عليهما كذلك.

استعمال العام في المخصص:

لا ريب في ظهور كل عام في العموم، و الظاهر حجة ما لم تكن قرينة على الخلاف، و المخصص من القرينة على الخلاف، فيكون العام ظاهرا في العموم أو الحجة في غير مورد التخصيص على ما هو المشهور بين الأعلام، بلا فرق فيه بين المخصص المتصل و المنفصل، و لا إشكال فيه بناء على كون العام المخصص حقيقة في العموم بعد التخصيص، كما هو التحقيق. و أما بناء على كونه مجازا بدعوى أنه من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، فكذلك أيضا.

أما أولا: فلأن دعوى المجازية باطلة، لتقوّم العموم بالإرسال و السريان

ص: 127

و عدم تحديده بحدّ معين و مرتبة خاصة، فمهما تحقق الإرسال و السريان يتحقق العموم لا محالة - وسعت دائرته أو ضاقت، كثرت الأفراد أو قلّت - فهو من هذه الجهة كاسم الجنس الصادق على القليل و الكثير صدقا حقيقيا مع استفادة القلّة و الكثرة من القرائن الخارجية، و لكن القلة و الكثرة ملحوظتان في العموم من جهة السريان و الشمول، و في اسم الجنس من جهة الذات المهملة المبهمة، فهو حقيقة في السريان، سواء كثرت الأفراد لعدم التخصيص، أو قلّت بوجود المخصص، فيكون ظاهرا في العموم و حجة فيه، ما لم تكن حجة أقوى على الخلاف.

و منه يظهر أنه ليس من قبيل اللفظ الموضوع للكل المستعمل في الجزء، لأن الكل محدود بحدّ خاص بخلاف السريان، فإنه غير محدود بحدّ خاص، كما تقدم.

و ثانيا: على فرض المجازية يكون حجة في الباقي بعد التخصيص لوجود المقتضي - و هو الظهور اللفظي - و فقد المانع، لأصالة عدم مخصص آخر، فإنه لا فرق في حجية الظهور بين كونه مستندا إلى الوضع أو إلى سياق اللفظ و لو كان مجازا.

و ما ذكره في الكفاية من أن المقتضي هو الدلالة على تمام الأفراد، و مع التخصيص لا وجه لثبوت المقتضي.

باطل: لأن المقتضي إنما هو ذات الدلالة على نحو الانبساط، المنطبقة على التمام و على ما في ضمنه.

هذا مع أن استعمال العام المخصص في تمام الأفراد لا بأس به إن كان في البين غرض صحيح من التفنن في البيان، أو تشريع القانون الكلي أو نحو ذلك، فيكون العام مستعملا في تمام الأفراد بالإرادة الاستعمالية إلا أن الإرادة الجدية تعلقت ببعضها، و الظاهر أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث. فلا وجه للإطالة بأكثر من ذلك.

ص: 128

أقسام إجمال المخصص و أحكامها

العام و الخاص إما مبينان من كل جهة، أو مجملان كذلك، أو يكون العام مجملا و الخاص مبينا، أو بالعكس.

و لا إشكال في تمامية الحجة في الأول، كما لا ريب في عدمها في الثاني، لفرض الإجمال فيهما، و لا حجية في المجمل.

و كذلك الثالث، لأن الخاص كالقرينة للعام و المتمم لفائدته، و مع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحا و مبينا.

و أما الأخير فعمدة القول فيه: أن الخاص إما متصل أو منفصل، و الإجمال في كل منهما إما مفهومي أو مصداقي. و منشأ الإجمال إما للتردد بين المتباينين، أو بين الأقل و الأكثر، فهذه أقسام ثمانية.

و يسري الإجمال من الخاص المتصل المجمل إلى العام بأقسامه الأربعة، لأنه من القرينة المحفوفة بالكلام، و إجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية، فلا حجية للعام في محتملات التخصيص، بل و لا ظهور له فيها أيضا، لفرض عروض الإجمال، و جريان بناء العقلاء على عدم التمسك به فيها حينئذ في محاوراتهم و احتجاجاتهم في الموارد المشكوك في دخولها تحت العام، و الأخذ بالمتيقن بما هو داخل فيه ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين به، فلا يكون العام و لا الخاص حجة في الفرد المشكوك، لفرض الإجمال فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل آخر، و مع عدمه فإلى الاصول العملية - موضوعية كانت أو حكمية - و كذا في ما يأتي من القسمين من الخاص المنفصل، حيث لا يجوز فيهما التمسك بالعام فيرجع فيهما إلى دليل آخر أو أصل، بل و كذا في ما يأتي من الشبهات المصداقية، حيث لا يصح التمسك بالعام فيها.

ص: 129

و أما الخاص المنفصل فإن كان إجماله للتردد بين المتباينين مفهوما أو مصداقا فلا حجية للعام في محتمل التخصيص أيضا، للعلم الإجمالي بورود التخصيص في الجملة، و عدم وجود حجة معتبرة على التعين، و لا تجري أصالة عدم التخصيص، لمكان العلم الإجمالي.

نعم، لا إشكال في بقاء ظهور العام في العموم، لفرض عدم كون المخصص المجمل متصلا بالكلام، و عدم احتفافه بما يوجب الإجمال، و لا ملازمة بين بقاء الظهور و حجيته، إذ ليس كل ظاهر بحجة، كما في موارد العلم بإرادة خلاف الظاهر تفصيلا أو إجمالا.

و كذا ليس كل حجة من الظاهر، كما في حجية الأدلة اللبية، فيكون بينهما العموم من وجه، كما هو واضح.

و أما إذا كان الإجمال لأجل تردده بين الأقل و الأكثر مفهوما، فالعام حجة في محتمل التخصيص - و هو الأكثر - لاستقرار ظهوره في العموم و عدم المنافي له إلا في ما يكون الخاص حجة فيه - و هو الأقل - فقط، فيرجع في الأكثر إلى أصالة عدم التخصيص. فالمقتضي لحجية العام في الأكثر موجود - و هو الظهور - و المانع عنه مفقود - و لو بالأصل -.

و أما إذا كان إجماله لأجل التردد بين الأقل و الأكثر مصداقا، فهو النزاع المعروف بين العلماء - أنه هل يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؟ - فذهب جمع إلى الأول، و نسب الأخير إلى المشهور، و استدل للأول بوجوه:

منها: وجود المقتضي لحجية العام في المشكوك فيه و هو الظهور، و فقد المانع و لو بالأصل، فتتم حجية العام فيه لا محالة.

و فيه: أن الظهور مسلّم و لكن فقد المانع - و هو أصالة عدم التخصيص أول الكلام، لأنها من الاصول المحاورية العقلائية، و لم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام و إلا لما وقع الخلاف بين الأعلام، و يكفي الشك في الجريان

ص: 130

بعد أن كان المدرك هو السيرة التي لا بد و أن يقتصر فيها على المتيقن، هذا مضافا إلى أنه بعد العلم بورود المخصص المبين مفهوما و تمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى، لا وجه لجريان هذا الأصل و لو كان مدركه إطلاق أخبار الاستصحاب، إذ الأصل يجري فيما لا حجة فيه في البين، دون ما ثبتت فيه الحجة، و هذا هو الفارق بين المقام و بين ما تقدم من تردد المخصص من حيث المفهوم بين الأقل و الأكثر، حيث قلنا بصحة الرجوع إلى أصالة عدم التخصيص هناك في الأكثر، و ذلك لعدم تمامية حجة أقوى على خلاف العام هناك بالنسبة إلى الأكثر لفرض إجمال المفهوم، فيرجع لا محالة إلى الأصل، بخلاف المقام الذي تمت الحجة الأقوى على خلاف العام من طرف المولى فلم يبق موضوع للرجوع إلى الأصل.

إن قيل: بعد الاعتراف بثبوت حجة أقوى على خلاف العام فليكن الفرد المردد داخلا تحت الخاص الذي هو الحجة الأقوى.

يقال: لا ملازمة بين كونه حجة أقوى بحسب المفهوم بالنسبة إلى العام في الجملة، و بين كونه حجة في الفرد المردد بين كونه داخلا تحته أيضا، بل مقتضى الأصل عدم هذه الملازمة.

هذا إذا كان المراد بأصالة عدم التخصيص الأصل المعروف. و أما إذا كان المراد الأصل الموضوعي فهو صحيح في المقام، و يأتي الكلام فيه.

و القول: بأن أصالة عدم التخصيص معارضة بأصالة عدم حجية العام في المشكوك فيه.

موهون: باختلاف الرتبة بينهما، لأنه بعد جريان أصالة عدم التخصيص لا يبقى موضوع لجريان أصالة عدم الحجية، كما لا يخفى.

و منها: أن مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضا، فيكون العام مبينا للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية، و للحكم

ص: 131

الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوك فيها.

و فيه: أن المنساق من العمومات التكفل للأحكام الواقعية فقط، إلا أن يدل دليل من الخارج على أنها متكلفة للحكمين، أو للحكم الظاهري فقط.

و منها: أن حجية العام في المقام أقوى و أظهر من الخاص. و لكن فساد هذا الوجه غني عن البيان.

و من ذلك يظهر أن ما نسب إلى المشهور هو الأقوى، لأن الفرد المردد مشكوك في دخوله تحت كل من العام و الخاص، فيشك في حجية كل واحد منهما بالنسبة إليه، و الشك في الحجية يكفي في عدم الحجية.

و لا ينفع فيها دخوله تحت ظهور العام، لما تقدم من عدم الملازمة بين الظهور و الحجية، و يقتضي ذلك مرتكز المتعارف أيضا، فلا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا بقرينة خارجية تدل عليه، مع أن فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها، و مع التردد فيها لا وجه لفعليتها.

و حينئذ يرجع في حكم هذا الفرد المشكوك في دخوله تحت كل واحد منهما إلى الاصول الموضوعية، و مع عدمها فإلى الحكمية إن لم يكن دليل خارجي على تعين حكمه في البين.

و أما ما قيل: من أن العام بعد التخصيص يكون كالموصوف و الوصف، فكما لا يصح التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام مثله أيضا.

فهو حسن ثبوتا و لا كلية فيه إثباتا.

و لا فرق في ما ذكرناه بين ما إذا كان الإجمال من حيث المصداق في المخصص المنفصل اللفظي أو اللبي، لأن المناط كله تردد الفرد بين الدخول و الخروج تحت كل من العام و المخصص، و في مثله لا يبادر أهل المحاورة إلى الجزم بدخوله تحت أحدهما إلا بقرينة اخرى.

ص: 132

و عن صاحب الكفاية التفصيل بينهما، فوافق المشهور في المخصص اللفظي، و أما في اللبّي فذهب قدّس سرّه إلى حجية العام في الفرد المردد، و ادعى بناء العقلاء عليه أيضا.

و حاصل ما ذكره في وجه الفرق: أن في المخصص اللفظي قد ورد ظهوران: ظاهر العام، و ظاهر الخاص، و تردد فرد بين الدخول في كل واحد منهما و الخروج، فلا يكون كل واحد منهما حجة فيه. و أما في اللّبّي فليس في البين إلا ظاهر واحد و هو ظهور العام، فيكون ظهوره متبعا ما لم يقطع بخروج فرد عنه، و حيث لا قطع بخروج الفرد المردد، يكون ظهور العام متبعا لا محالة.

و يرد عليه.. أولا: أن ما ادعاه قدّس سرّه من بناء العقلاء على التمسك بالعام في الفرد المردد مع المخصص اللبي دون اللفظي، دعوى بلا شاهد، بل هو على خلافها.

و ثانيا: أن مناط عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المردد هو مجرد التردد بين الدخول و الخروج، و لا ريب في وجود هذا المناط فيهما.

نعم، للتردد مراتب متفاوتة لا بأس بالتمسك بالعام في بعض مراتبه حتى في الدليل اللفظي أيضا، و إن لم يصح في بعض مراتبه الاخرى، و بذلك يمكن جعل النزاع لفظيا.

و الحاصل: أنه لا يصح الرجوع إلى دليل العام في جميع الأقسام الثمانية التي تقدمت الإشارة إليها، إلا في قسم واحد، و هو ما إذا كان المخصص منفصلا و كان مجملا مفهوما لتردد مفهومه بين الأقل و الأكثر، فيرجع في المشكوك فيه إلى العام، و لا يصح الرجوع إلى العام في بقية الأقسام السبعة، كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية، لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.

ص: 133

ختام فيه امور:
الأمر الأول: اذا سلب عنوان الخاص عن المفرد المردد

لو صح سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد بأمارة، أو قاعدة، أو أصل، يشمله العام بلا كلام، لوجود المقتضي حينئذ - و هو ظهور العام في الشمول - و فقد المانع.

و بعبارة اخرى: العام يشمل جميع ما يمكن أن يكون فردا له، سواء كانت الفردية وجدانية أم ثبتت بالأمارة، أو بالقرينة المعتبرة، داخلية كانت أو خارجية، أم ثبتت بالأصل، موضوعيا كان أو حكميا، فإذا قيل: أكرم العلماء، و لا تكرم الفسّاق. و تردد عالم بين كونه فاسقا أو غير فاسق، و قامت البينة على عدالته، أو جرت قاعدة الصحة في ما صدر منه، أو جرى استصحاب العدالة في حقه، فلا ريب في وجوب إكرامه، بل يصح نفي عنوان الخاص بالأصل الأزلي أيضا.

فإذا ورد أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين، و ترددت امرأة بين كونها قرشية أو غير قرشية، فبأصالة عدم انتسابها إلى قريش ينتفي انتسابها إلى قريش، فيشملها العام قهرا، إذ المرأة و انتسابها إلى قريش كانتا معدومتين أزلا، و انتقض العدم بالنسبة إلى أصل وجود المرأة حسا دون الانتساب، فيستصحب العدم بالنسبة إليه.

و قد يقال - أولا: من أن نفس العدم من حيث هو لا أثر له، و ما له أثر هو عدم انتساب هذه المرأة بالخصوص، فما هو المعلوم سابقا لا أثر له، و ما له الأثر غير معلوم سابقا، فكيف يجري الأصل.

و ثانيا: أنه معارض باستصحاب عدم الانتساب إلى غير قريش، فيسقطان بالمعارضة.

و ثالثا: أن جريان الأصل في الأعدام الأزلية خلاف العرف المبني عليه الأدلة.

ص: 134

و يمكن المناقشة فيه..

أما الأول: فلأن المستصحب ليس ذات العدم المطلق، بل الصحة الخاصة منه المقترنة مع هذه المرأة واقعا.

و أما الثاني: فلأنه لا وجه لجريان أصالة عدم الانتساب بالنسبة إلى غير القرشي، لشمول العموم له، فإن مورد العام كل امرأة لم تكن منسوبة إلى قريش و لو كان عدم الانتساب لأجل الأصل المعتبر، فيشمل العام كل امرأة صح نفي القرشية عنها بأي وجه أمكن.

نعم، لو صار العام مجملا لجهة من الجهات لا يصح التمسك حينئذ، فيجري الأصل فيهما و يتساقطان بالتعارض. و أما الأخير فلا يضر بعد شمول إطلاق أدلة الاستصحاب له.

الأمر الثاني: دفع ما يورد من الاشكال على مذهب اليه مشهور من القول بالضمان فى ما اذا ترددت اليد بين كونها أمانية أو ضمانية

نسب إلى المشهور القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية، أو ضمانية مع أنه لا ضمان في الأمانية إلا مع ثبوت التعدي أو التفريط، فيوهم ذلك ذهابهم إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. و يمكن دفع التوهم بأن الضمان في نظائر المقام لأجل أصالة احترام ملك الغير التي هي من الاصول النظامية المعتبرة، و ليس لأجل العموم حتى يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، و التفصيل يطلب من الفقه.

الأمر الثالث: اذا علم بخروج فرد عن حكم العام و شك فى انه لاجل التخصص أو التخصيص جريان الاصل و ردّه

لو علم بخروج فرد عن حكم العام و لم يعلم أنه لأجل التخصيص أو التخصص، فبأصالة عدم التخصيص لا يثبت الأخير، لأنها إنما تكون معتبرة في مفادها المطابقي دون الملزومات، لعدم الدليل على اعتبارها بالنسبة إليها من سيرة أو نحوها إلا إذا كان بينهما تلازم عرفي. فلو قيل: أكرم العلماء، و علم بعدم وجوب إكرام شخص خاص، لا يثبت جهله بأصالة عدم التخصيص بالنسبة إليه، و العرف لا يساعد عليه أيضا.

الأمر الرابع: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص الكلام فى ذلك

كل عام أو مطلق يكون في معرض التخصيص أو التقييد لا

ص: 135

يصح العمل به قبل الفحص، لعدم استقرار حجيته قبله، و المعتبر من الحجة الحجية المستقرة دون الشأنية المحضة، و الشك في الحجية قبله يكفي في عدم الحجية.

و يمكن بيان ذلك بصورة الشكل الأول الذي هو بديهي الإنتاج: بأن ظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد في معرض الزوال، و كل ظاهر يكون في معرض الزوال لا اعتبار به، فظاهر العام و المطلق قبل الفحص عن المخصص و المقيد لا اعتبار به، و إذا سقط عن المعرضية تستقر الحجية و تصير فعلية.

و منه يعلم مقدار الفحص، إذ ليس له حدّ معين، و المناط كله تبدل شأنية الحجية إلى الفعلية و استقرارها و خروج العام أو المطلق عن المعرضية، و يختلف ذلك باختلاف العمومات و المطلقات.

و من ذلك يعلم أنه لا يجب الفحص في ما لا يكون معرضا له و كان احتمال التخصيص و التقييد فيه مما لا يعتني به العقلاء، فيجب العمل بظاهر العام و المطلق حينئذ، و لكن هذا النحو من العام و المطلق قليل جدا.

ثم إنه لا يجب في الفحص المباشرة فتصح الاستنابة أيضا، بل يصح الاعتماد على قول الخبير الأمين، هذا حال الاصول اللفظية، كأصالة العموم و الإطلاق.

و كذا الحال في الاصول العملية، كأصالة البراءة، و التخيير و الاستصحاب، فإن تأخر رتبة اعتبارها عن الأدلة يقتضي أن لا تكون معتبرة إلاّ بعد الفحص و اليأس عنها، و إلا فلا اعتبار لها حينئذ.

و الفرق بين الفحص في الاصول اللفظية و بينه في الاصول العلمية أنه في الاولى لدفع المانع بعد وجود المقتضي، فإن المقتضي للحجية - و هو الظهور - موجود فيتفحص لدفع احتمال المانع، و أما في الاخرى فإنما هو لأجل إثبات

ص: 136

أصل المقتضي للحجية، إذ لا مقتضي لها في الاصول العملية قبله، لأن الشك بالنسبة إلى الاعتبار لا اقتضاء محض، بلا فرق بين الاصول العقلية و النقلية، و التفصيل يطلب في محله.

هذا، و لو عمل بالاصول اللفظية أو العملية قبل الفحص، فإن طابق عمله للواقع و كان جامعا للشرائط يصح، و إلاّ يجب عليه الإعادة أو القضاء، و الوجه في كل منهما معلوم لا يحتاج إلى البيان.

الخطابات الشفاهية

اختلف الاصوليون في أن الخطابات في الشرع - مثل قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... الذي ورد في القرآن في أكثر من ثمانين موردا - هل تختص بالحاضر في مجلس الخطاب، أو يعمه و الغائبين، بل المعدومين أيضا؟ و لا بد أن يعلم أولا أن أحكام الشريعة المقدسة الختمية ثابتة إلى يوم القيامة للجميع بضرورة الدين و إجماع جميع فرق المسلمين، و إنما البحث في شمول الخطابات الشفاهية للغائبين و المعدومين أيضا، و هذه الجهة من البحث مستغنى عنها بعد الإجماع و الضرورة، و حديث: «حلال محمّد صلّى اللّه عليه و آله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة».

ثم إن الكلام يقع من نواح ثلاث:

الاولى: في أصل جعل القانون، الظاهر أنه لا وقع لهذا النزاع بالنسبة إلى مرتبة أصل جعل القانون ثبوتا من حيث هو، إذ لا يعتبر فيه وجود مخاطب حين الجعل خصوصا في القوانين الأبدية، كما جعلت في الشريعة الختمية، فيصدق جعل القانون على ما كتب في اللوح المحفوظ، أو ما انزل على قلب نبينا صلّى اللّه عليه و آله و لو لم يطلع عليه أحد، و كذا في مقام إظهاره و إثباته، إذ يكفي فيه إظهاره بداعي

ص: 137

إتمام الحجة و تمامية البيان على المكلّف، سواء كان موجودا أم غير موجود، و سواء كان الإظهار على نحو الجملة الخبرية أم الإنشائية، أم الكتابة أم غير ذلك مما يمكن به الإظهار و الإعلان، و لو فرض أن توجيه الخطاب فيه يكون إلى شخص أو جمع فهو من باب المرآتية لكل من يصلح لذلك - غائبا كان، أو معدوما - لغرض أن المتكلم في مقام جعل القانون و إنما اختار الكيفية الخاصة من البيان لدواع خاصة و جهات مخصوصة، مثل قوله تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و يدل على ما ذكرنا العرف، و بناء العقلاء، و أصالة عدم اعتبار شيء في الجعل، من حيث أنه جعل القانون و بيانه و إظهاره من طرف الجاعل.

و ما ورد من تعدد نزول القرآن و لا ريب في اشتماله على القوانين الدنيوية و الاخروية، فتارة نزل على اللوح المحفوظ، و اخرى على البيت المعمور، و ثالثة نزل في مكة أو المدينة، متفرّقا بحسب الوقائع و المناسبات، و في جميع أطوار نزوله هو قانون أبدي. هذا في مرتبة أصل جعل القانون.

الثانية: من ناحية الخطاب من حيث أنه خطاب، فالخطاب هو إبراز المراد في الخارج بما اشتمل على أدوات الخطاب، سواء كان ذلك بداعي التفهيم و التفهم - كما هو الغالب فيه - أو بداع آخر، كجعل القانون، أو التحسّر، أو التحزّن، أو التعشق، أو غير ذلك من الدواعي الصحيحة الموجودة في الكلمات الفصيحة نظما و نثرا، و يشهد له خطابات اللّه تبارك و تعالى مع الجمادات، كقوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي. و قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ. فيصح الخطاب بداعي جعل القانون بالنسبة إلى الغائب و المعدوم، كما يأتي لا حقا، فلا أثر لهذا البحث من هذه الجهة.

ثم إن حضور المخاطب لدى المتكلم بما اشتمل على أدوات الخطاب

ص: 138

على أنحاء..

فتارة: هو الحضور الواقعي الإحاطي من كل جهة، كحضور الأشياء لدى اللّه عزّ و جل.

و أخرى: هو الحضور الاعتقادي، كحضور المعبود لدى العابد، و هو في المعبود الواقعي حضور واقعي أيضا.

و ثالثة: خارجي شخصي، كقولك لغريمك: أعطني ما أطلبك.

و رابعة: خارجي مرآتي، كقولك: يا بني صلّ، و أطع اللّه تعالى و خالف الشيطان، و نحو ذلك.

و خامسة: فرضي اعتباري، كتكلم العاشق مع المعشوق في غيبته، و كتكلم من يتمرن درسا يريد أن يدرّسه بعد ذلك في مجمع من الطلاب.

فيكفي في صحة التخاطب مطلق الحضور بأي وجه صحيح، و يمكن أن تكون الخطابات الشرعية بلحاظ حضور الامة حضورا اعتباريا لدى الصادع بالشريعة المقدسة، فلا ثمرة لهذا البحث من هذه الجهة أيضا.

الثالثة: من ناحية البعث و الزجر، فالبعث و الزجر إتمام للبيان من طرف المولى لأجل إمكان الانبعاث من البعث، و الانزجار من الزجر. و لا فرق فيه بين الحاضر و الغائب و المعدوم، لصحة إمكان الانبعاث و الانزجار بالنسبة إليهما أيضا.

نعم، لو كان المراد بالانبعاث و الانزجار الفعليان منهما من كل جهة، لا يصح بالنسبة إلى الغائب و المعدوم، بل و لا أثر بالنسبة إلى الحاضر أيضا ما لم تتحقق جميع شرائط الفعلية، فهذا البحث كسابقيه في انتفاء الثمرة من هذه الجهة أيضا، فيصح نفي الثمرة لهذا البحث أصلا من هذه الجهات.

و أما ما ذكر له من الثمرة من حجية الظواهر بالنسبة إلى الغائبين و المعدومين، و صحة التمسك بالإطلاقات بناء على الشمول.

ص: 139

ففيه: أنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه، و هو باطل، كما يأتي، مع أن من قصد إفهامه جميع الامة لا خصوص المشافهين.

فتلخص: أنه لا ثمرة عملية بل و لا علمية لهذا البحث بشقوقه و فروعه.

و لو شك في تقييد الإطلاقات، و تخصيص العمومات بخصوصية المشافهين، فمقتضى الأصل عدمه، كما في سائر القيود المشكوكة التي يرجع فيها إلى الأصل.

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

إذا تعقب العام بضمير، و تردد بين رجوعه إلى تمام أفراده أو بعضه و لم تكن قرينة على الأخير، فمقتضى أصالة التطابق بين الضمير و المرجع - التي هي من الاصول المعتبرة المحاورية - هو الرجوع إلى التمام.

و أما إذا علم برجوعه إلى البعض و كان مع العام في كلام واحد، كما إذا قيل: أكرم العلماء بإعطائهم الخمس حيث أن إعطاء الخمس يختص بالهاشمي منهم، فلا حجية للعام بالنسبة إلى غير الهاشمي، لاحتفافه بما يصلح للقرينية عرفا و إن كان ذلك في كلامين، أو كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام، كقوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ..

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.

و المراد بالعام الأعم من البائنات و الرجعيات، و بالضمير خصوص الأخيرة، فهناك أصلان متعارضان: أصالة العموم و أصالة التطابق بين المرجع و الضمير - التي تكون عبارة اخرى عن أصالة عدم الاستخدام - و هما من الاصول المعتبرة في المحاورات، و العمل بكل واحدة منهما يستلزم سقوط الاخرى.

ص: 140

و عن الكفاية تقديم أصالة العموم، لأنها جارية في تعيين المراد، و أصالة التطابق بين الضمير و المرجع جارية في بيان كيفية المراد مع القطع بأصل المراد، و المتيقن من بناء العقلاء في هذه الاصول هو الأول دون الأخير.

و يرد عليه.. أولا: سقوط هذا البحث رأسا لابتنائه على أن العام المخصص مجاز، و أما بناء على ما مرّ من التحقيق من عدم كونه مجازا بعد التخصيص و أنه مستعمل في العموم على أي تقدير، فلا ريب في جريان أصالة العموم حينئذ، و عدم محذور فيه بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية، لا الإرادة الجدية الواقعية، و لا دليل على المطابقة بين الإرادتين من كل جهة، بل مقتضى الأصل عدم اعتبارها، كما لا ريب في أن الضمير يرجع إلى تمام العام بالإرادة الاستعمالية أيضا لا الجدية الواقعية، فيتحقق العمل بالأصلين بلا مخالفة بينهما في البين بعد معلومية المراد الواقعي بالقرينة الخارجية، فيكون المقام مثل سائر الموارد التي يستكشف فيها المراد بتعدد الدال و المدلول.

إن قيل: بعد معلومية المراد الواقعي الجدي من الخارج فلا وجه لإرجاع الضمير إلى تمام العام.

يقال: هذا نحو من التفنن في الكلام و هو من المحسنات، كما لا يخفى و يمكن أن تترتب عليه أغراض صحيحة اخرى أيضا.

و ثانيا: دعوى أن المتيقن من بناء العقلاء إجراء هذه الاصول في تعيين المراد، لا في كيفية ما اريد أول الدعوى، لجريان بنائهم على الأخير أيضا.

و الحاصل: أنه يعمل بكلا الأصلين في الإرادة الاستعمالية، و لا تعارض في البين مع وضوح المراد الواقعي في الإرادة الجدية، و على أي تقدير فلا ثمرة عملية لهذا البحث بعد تعيين المراد الواقعي بالقرينة، و مع عدمها فالمرجع الاصول العملية بعد سقوط العام عن الحجية.

ص: 141

تخصيص العام بالمفهوم

لا ريب في أن مناط التخصيص إنما هو لأجل تقديم القرينة على ذي القرينة، و الأظهر على الظاهر، و هذا مما اتفق عليه أهل اللسان في جميع الملل و الأزمان، و مهما تحقق هذا المناط يصح التقديم بلا كلام، سواء كان بين المنطوقين أم المفهومين، أم بين المنطوق و المفهوم، و سواء كان المفهوم موافقا أم مخالفا. و لا إشكال في تحققه في مفهوم الموافق الذي هو عبارة عن موافقة المفهوم مع منطوقه في الإيجاب و السلب، لقوة المفهوم حينئذ، لكونه من الحكم القطعي، سواء كان بينه و بين العام الذي يخصص به عموم مطلق، أو من وجه.

و كذا في المفهوم المخالف الذي هو عبارة من مخالفة المفهوم مع منطوقه فيهما إن ثبت كونه أقوى من العام، مثل ما إذا كانت دلالة المفهوم وضعية و دلالة العام بمقدمات الحكمة، أو كانت الأقوائية مستندة إلى جهات اخرى - داخلية كانت أو خارجية - و لا تضبطها ضابطة كلية، و يمكن أن يجعل النزاع في هذا البحث لفظيا، فمن أثبت تخصيص العام بالمفهوم يثبته في ما إذا ثبتت الأقوائية، و من ينفيه إنما ينفيه في ما لم تثبت، فلا ثمرة عملية في هذا النزاع بعد ثبوت كلية الكبرى و إمكان إرجاع النزاع إلى الصغرى.

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة، كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا...

ص: 142

فالمتبع هو القرائن المعتبرة داخلية كانت أو خارجية، فقد تدل على الرجوع إلى الكل، و قد تدل على الرجوع إلى البعض، و قد يظهر منها الإجمال، و مع عدمها فالمتيقن الرجوع إلى الجملة الأخيرة لو لم يكن الكلام مجملا، و ليس في البين قاعدة كلية يحكم بها بالرجوع إلى الكل أو البعض أو الإجمال.

و أما ما قيل: من أنه مع وحدة الفعل يرجع إلى الجميع، كأكرم الفقهاء و السادات و الزهاد إلا الفساق، و مع تكرار الفعل الواحد أو تعدده فيرجع إلى الأخيرة، فلا ريب في أنه من القرائن في الجملة. و لكن لا كلية فيه بحيث تكون قاعدة كلية تنفع في جميع موارد الشك.

تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد

استقرت السيرة من عصر الأئمّة عليه السّلام على تخصيص عمومات الكتاب و تقييد إطلاقاته بما اعتبر من خبر الواحد، و ذلك لما ارتكز في الأذهان من تقديم القرينة على ذيها، و الأظهر على الظاهر. و الخبر المعتبر - الذي يصلح للتقييد و التخصيص - قرينة على بيان المراد من عمومات الكتاب و إطلاقاته، و أظهر بالنسبة إليهما فلا بد من تقديمه عليهما، و لو لا ذلك لانسد باب الاجتهاد و لزم طرح جملة كثيرة من الأخبار.

و ما استشكل في المقام ليس إلا شبهة في مقابل البديهة. مثل: أنه لو جاز التخصيص و التقييد لجاز النسخ أيضا، و لا ريب في بطلانه، و لأن الخبر ظني الصدور، و الكتاب قطعي الصدور، و لا وجه لتقديم الظني على القطعي، و للأخبار المستفيضة الواردة في أن ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف، أو يضرب على الجدار.

و الكل باطل.. أما الأول: فلأنه لا ملازمة بينهما لا شرعا و لا عقلا و لا عرفا مع الفرق الواضح بين التخصيص و النسخ، فإن الأول خروج بعض الأفراد عن

ص: 143

حكم العام مع بقاء أصل وجوده و ظهوره و حجيته، و الثاني إزالة أصل وجوده و تحققه بجميع مراتبه.

و أما الثاني: فلأنه من تقديم الأظهر في الدلالة على الظاهر فيها، لا أن يكون من تقديم الظني على القطعي من جهة الصدور، و نسبة الأخبار إلى الكتاب نسبة الشرح و التفسير و البيان.

و أما الأخير: فلأن موردها المخالفة و المباينة المطلقة من كل جهة، و التخصيص و التقييد ليس منها قطعا.

الدوران بين التخصيص و النسخ

تاريخ صدور كل من العام و الخاص..

تارة يكون مجهولا.

و اخرى: يكون زمان صدورهما معلوما تفصيلا، و أن العام مقدم على الخاص.

و ثالثة: بالعكس.

رابعة: يعلم بأنهما صدرا متقارنين.

و خامسة: يكون زمان صدور العام معلوما تفصيلا و الخاص مجهولا.

و سادسة: بالعكس.

و مقتضى شيوع التخصيص و غلبته في المحاورات - حتى قيل ما من عام إلا و قد خص - و ندرة النسخ جدا، و الاهتمام بإثباته في الكتاب و السنة أكثر من الاهتمام لإثبات التخصيص، هو الحكم بالتخصيص في جميع تلك الأقسام، و يمكن أن يجعل هذا أصلا محاوريا، و ليس في البين قاعدة معتبرة كلية عند دوران الأمر بين النسخ و التخصيص تعين أحدهما إلا هذا، فيقال الأصل عدم النسخ مطلقا إلا إذا ثبت بدليل قطعي لا سيما في أحكام الشريعة الأبدية، و هذا

ص: 144

الأصل أقوى من أصالة عدم التخصيص، لما مرّ من كثرة التخصيص، فأصالة عدم النسخ بمنزلة الأصل الموضوعي، و أصالة عدم التخصيص كالأصل الحكمي في تقدم الأول على الثاني.

و ما قيل: من أنه إذا تأخر زمان صدور الخاص عن العام يتعين النسخ، لأن الخاص بيان للعام، و مع التأخر يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح.

مدفوع.. أولا: بأن تأخير البيان القبيح إنما هو في ما إذا علم أن المقتضي له موجود من كل جهة و المانع مفقود كذلك، و أما مع عدم العلم به فلا محذور فيه، بل قد يجب ذلك، فكيف بما إذا علم بالعدم؟! و قد جرت سيرة العقلاء أنهم يجعلون القوانين العامة ثم يذكرون مخصصاتها في طول شهور بل أعوام، هذا حال القوانين الوضعية الزائلة فكيف بالقوانين الأبدية التي يختلف الحكم فيها باختلاف الموضوعات و الأحوال مع أن موجبات تأخير البيان كثيرة جدا، كقصور الظروف، و الأفهام و التقية و نحو ذلك.

و ثانيا: أن الناسخ بيان أيضا للمنسوخ كالخاص، غاية الأمر أن الخاص بيان لأفراد العام، و الناسخ بيان لأزمانه، فلا فرق فيهما من هذه الجهة، فالنسخ تصرّف في المنسوخ زمانا، و التخصيص تصرّف في العام فردا، مع اشتراكهما في جامع البيانية.

و أما ما قيل: من أنه إذا ورد العام أو الخاص قبل حضور وقت العمل بالآخر، يتعين التخصيص و لا يصح النسخ حينئذ، لعدم صحة النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ.

فهو فاسد: لأن الغالب في النسخ و إن كان بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ و لكن ليس ذلك من مقوماته الذاتية بحيث يقبح بدونه، بل المناط كله وجود مصلحة فيه، سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ، أو في أثنائه، أو بعده.

ص: 145

ثم إن المعروف في الثمرة بين النسخ و التخصيص، أن أثر التخصيص خروج الخاص عن حكم العام رأسا، و النسخ ارتفاع الحكم عن المنسوخ من حين ظهور النسخ. و إثبات الكلية لهذه الثمرة يحتاج إلى الدليل، و هو مفقود.

و مما لا مناسبة له بالاصول ما تعرض له القوم في المقام و هو مسألتا النسخ و البداء، و لا بد أن ينقح الكلام فيهما في غير المقام، و إنما تعرضنا لهما تبعا لهم.

النسخ

مما تعارف في جميع القوانين النسخ - و قد اصطلح عليه في ما قارب هذه الأعصار ب (إلغاء القانون)، و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف بين البشر من الكيفيات و الخصوصيات - من العام و الخاص، و المطلق و المقيد، و المجمل و المبين، و الناسخ و المنسوخ إلى غير ذلك - و لو قيل بأن هذه الامور من لوازم جعل القانون لم يكن به بأس -. فلا ريب في وقوعه، و قد دلّت الأدلة الثلاثة من الكتاب و السنة و الإجماع عليه في الجملة أيضا، و إنما الكلام في حقيقته و عمدة الوجوه المحتملة فيه خمسة:

الأول: ظهور خلل في الحكم المنسوخ، و علم مستأنف ببعض خصوصياته مسبوقا بالجهل، بحيث لو علم به ابتداء لم ينشأ الحكم المنسوخ البتة.

الثاني: إبداء القانون بصورة الدّوام لمصلحة في نفس الأمر، أو من دون مصلحة في المجعول و المتعلق، بل لمحض المصلحة في الإنشاء الصوري فقط، ثم تبدل المصلحة الظاهرية بمصلحة اخرى واقعية في المتعلق تقتضي نسخ ما أنشأ أولا، نظير التكاليف الصورية الامتحانية.

الثالث: كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحدّ خاص في

ص: 146

الواقع و لكن انشأ في صورة الدوام لمصلحة في ذلك، فليس في الحقيقة نسخ بالنسبة إلى شيء و إنما أظهر ثانيا أن الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حدّه، ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة اخرى يقتضيها الوقت، و تبدل المصالح و المفاسد بحسب الظروف و المقتضيات و الحالات مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.

الرابع: كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات، و مقتضية للدوام أيضا كذلك، ثم تبدلت تلك المصلحة باخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه، فيكون النسخ تخصيصا زمانيا، و التخصيص - المصطلح عليه - تخصيصا فرديا.

الخامس: كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك، و إنما انشأ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان الحكم الناسخ في ظرفه.

و كل هذه الوجوه صحيحة في النسخ في القوانين المجعولة، و في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية في شرائعه المقدسة إلا الوجه الأول، فإنه مستحيل بالنسبة إليه تعالى، و إن كان هو الغالب في القوانين المجعولة.

و لكن لا محذور في صحة استناد البقية إلى اللّه تعالى من عقل أو نقل إلا شبهة واهية، و هي: أنه إن علم اللّه تعالى بأنه يرفع المنسوخ فلا وجه لإظهاره في صورة الدوام، و إن لم يعلم فهو مستلزم لجهله تعالى و هو محال، مع أنه إن كانت في المنسوخ مصلحة فلا وجه للنسخ، و إن لم تكن فيه مصلحة فلا وجه لجعله حتى ينسخ.

و لكنه مردود: بأنه تعالى يعلم بالنسخ بلا إشكال، إلا أنه اقتضت المصلحة لإظهاره بصورة الدوام و لا محذور فيه، و منه يعلم أنه كانت في المنسوخ مصلحة موقتة تختلف باختلاف المقتضيات و الجهات.

و بعبارة اخرى: دليل الناسخ كاشف عن أن المنسوخ كان موقتا في الواقع

ص: 147

و إنما ذكر بصورة الدوام لمصلحة، بلا فرق بينه و بين سائر الموقتات، إلا أن التوقيت في النسخ كان بتعدد الدال و المدلول، و في غيره من الموقتات يمكن أن يتكفل دليل واحد لذلك، و إن شئت فقل: إن التوقيت في سائر الموقتات بجعل واحد، و في النسخ بتعدد الجعل.

ثم إنه لا يخفى أن النسخ في الشرائع الإلهية بالنسبة إلى اصول الدين قليل جدا، بل لا وجه له، و كذا بالنسبة إلى الفطريات العقلية التي كشف عنها الشارع، و كذا بالنسبة إلى مهمات فروع الدين - من الصلاة، و الصوم، و الزكاة و نحوها - و إنما التغيير في جزئيات قليلة تقتضيها الظروف و الأزمان، فتبدل الأحكام و الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في الشريعة الختمية من الصحة و المرض، و فقد بعض الشرائط و وجدانه. فما قيل: إن الأصل في كل شريعة أن ينسخ ما قبلها.

ساقط لا أساس له أصلا. و قد فصّلنا القول فيه في التفسير فراجع.

البداء

و هو وجداني لكل فاعل مختار، و قد دل الكتاب الكريم، و السنّة المستفيضة على ثبوته بالنسبة إلى اللّه تعالى أيضا. قال تعالى: يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ما عبد اللّه بمثل البداء، و ما بعث اللّه نبيّا إلاّ بالإقرار بالبداء».

و حقيقته تجدد الاختيار للفاعل المختار لمصلحة، و ليس متقوّما بالجهل و الندامة و إن تحققا بالنسبة إلى بداء غيره عزّ و جلّ، كما أن السميع و البصير بمعنى العلم بالمسموعات و المبصرات و ليسا متقوّمين بالجارحة الخاصة و إن تقوّما بها في السمع و البصر الحيوانيين، و لا ريب في صحة إطلاقهما عليه عزّ و جلّ مع امتناع الجارحة بالنسبة إليه تعالى، و كذا لا ريب في صحة الإطلاق

ص: 148

على ما نرى و نسمع في النوم مع تعطيل السمع و البصر فيه عن العمل.

و لا إشكال في أن البداء من صفات الفعل، كالإرادة، و المشيئة، و القضاء و القدر. فهو تبديل لما وقع من القضاء، لا أن يكون في مرتبة الذات و لا العلم حتى يستلزم التغيير في الذات و هو محال. و اشكل على البداء للّه تعالى بوجوه:

الأول: أن البداء يستلزم الباطل، لأنه تعالى إن علم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بشيء فهو لغو، و هو قبيح، و القبيح محال بالنسبة إليه تعالى. و إن لم يعلم فهو جهل، و هو أيضا محال عليه عزّ و جلّ.

و يرد عليه: أنه تعالى عالم بأنه سيبدو له و مع ذلك قضى بالقضاء الأول ثم نقضه و قضى بالقضاء الثاني، لمصالح كثيرة في كل منهما، منها ترغيب الناس إلى الدعاء و الأعمال الصالحة و التحذير عن الأعمال السيئة التي لها آثار في تنقيص الأعمار و حبط ثواب الخيرات و قطع الأرزاق و غير ذلك، و منها أنه تعالى كل يوم - بل كل آن - في شأن، و لم يفرغ من الأمر، و ليست يده مغلولة كما قال به اليهود.

الثاني: أنه إن كانت مصلحة القضاء الأول محدودة بحدّ خاص به فلا وجه لتغييره، و إلا فلا وجه للقضاء الأول بذلك الحدّ.

و يرد عليه.. أولا: أنها كانت بالنسبة إليه تعالى لا اقتضاء فيصح معه القضاء الأول.

و ثانيا: أنها كانت محدودة بذلك الحد الخاص لو لم تعرض مصلحة أقوى، و قد تحققت فتبدل القضاء لا محالة.

الثالث: بأنه مستلزم لتكذيب الرسل و عدم اعتماد الناس على إخبارهم بالمغيبات.

و فيه: بعد النقض بالنسخ في الأحكام، أن الإخبار بالمغيبات مع تلقين الأنبياء لاممهم صحة البداء بالنسبة إلى اللّه تعالى، لا يستلزم التكذيب لفرض

ص: 149

التفات الناس إلى البداء. أما قبل إخبار الأنبياء بالمغيبات أو بعده فلا مورد للتكذيب أصلا، فيكون الإخبار بالمغيبات على نحو الاقتضاء لو لا البداء، كإخبار الطبيب بشفاء المريض مثلا لو ساعدت المقادير.

ثم إنه لا ريب في عدم صحة تعلّق البداء بالممتنعات، لاشتراط كون مورده مقدورا مقضيا و هما من أسباب الفعل الخارجي، و لا خارجية بالنسبة إلى الممتنعات، و لا قضاء و لا تقدير بالنسبة إليها، و كذا لا بداء بالنسبة إلى كليات العوام - كانقلاب كرة الشمس مثلا - و إنما مورده ما يتعلّق بالناس من حيث دخل عملهم فيه خيرا كان أو شرا. و بالجملة مقتضى الأصل عدمه إلا في ما دلت عليه النصوص، فيكون مورد البداء خصوص بعض الممكنات في الجملة.

هذا، و قد اجيب عن شبهة البداء بوجوه..

منها: ما تقدم من أنه تجدد الاختيار، و لا إشكال فيه ثبوتا و لا إثباتا.

و منها: أنه بمعناه الحقيقي بالنسبة إلى خصوص هذا العالم لا جميع العوالم، كما في قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ و قوله تعالى: حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصّابِرِينَ. مع أن علمه الأزلي يتحقق بالنسبة إلى جميع الأشياء أزلا و أبدا، فقول: بدا للّه، أي ظهر له في هذا العالم ما لم يكن ظاهرا، و لا ينافي ذلك ظهوره له في سائر العوالم و المراتب. و في البداء أبحاث اخرى ليس هنا محل ذكرها.

هذا ما يتعلّق بالبداء إجمالا. و أما ما يتعلّق بلوحي المحو و الإثبات الذين هما محور البداء، فلا يعلم حقيقتهما و خصوصياتهما و كيفية الثبت و المحو و غير ذلك مما ينوط بهما إلاّ خالقهما أو من أفاض عليه الخالق، و التفصيل يطلب من محله.

ص: 150

القسم الخامس: المطلق و المقيد - و المجمل و المبين

المطلق و المقيد

و هما من الأمور الشائعة في المحاورات في جميع الألسنة، و لا تختص بلغة دون أخرى، و يتقوم بهما الإفادة و الاستفادة، و بحث الأصولي فيهما من هذه الجهة لا لأمر يختص به دون غيره، فكل ما هو مطلق عند متعارف الناس مطلق لديه أيضا، و كذا المقيد و ليس يحد اصطلاح خاص فيه. و معناه عند الكل:

ما لم يحدّ بحدّ و لم يقيّد بقيد، و بالتعبير الإيجابي ما هو الشائع في الجنس، كالماء. أو الفرد، كرجل. و أما البدلية و الشمولية فتستفاد من القرائن، خارجية كانت أو داخلية.

و لا فرق بين العام الشمولي و البدلي و بين المطلق الشمولي و البدلي ثبوتا، و إنما الفرق بينهما بحسب مقام الإثبات، إذ لكل منهما لفظ يختص به.

ثم إن الإطلاق و التقييد من شئون المعاني أولا و بالذات و يتصف اللفظ بهما بالعرض، لمكان الاتحاد بين اللفظ و المعنى فيتصف كل منهما بصفات الآخر في الجملة، و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في جعلهما من صفات المعنى أولا و بالذات أو بالعكس، لظهور كل منهما في المعنى و في اللفظ أيضا، كظهور حسن المعنى و قبحه في اللفظ كذلك.

و لا ريب في كون الإطلاق و التقييد من الأمور الإضافية، فربّ مقيد يكون

ص: 151

مطلقا من جهة و ربّ مطلق يكون مقيدا من جهات، فهما من الأمور الإضافية و كذا العام و الخاص. و المطلق الحقيقي هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن عنوان اللابشرطية.

و ذلك لأن كل شيء إما أن يلحظ بذاته، و لا يتصف في هذا اللحاظ بالإطلاق و التقييد، لفرض قصر اللحاظ على الذات من حيث هي و هما ليسا في مرتبة الذات قطعا. أو يلحظ بالنسبة إلى ما هو خارج عن الذات، و حينئذ تتحقق الاعتبارات الثلاثة المعروفة.

لأنه إما أن يلحظ مقيدا و مشروطا به و يعبّر عنه (بشرط شيء)، أو مشروطا بعدمه و هو (بشرط لا)، أو لا مقيدا به و لا بعدمه و هو (اللابشرط)، و لا ريب في أن المقسم لهذه الأقسام لا بد أن يكون مهملا عن كل جهة، كما هو الشأن في كل مقسم بالنسبة إلى أقسامه، و هنا لا بد أن يكون مجردا حتى عن عنوان اللابشرطية أيضا حتى يصح أن يكون مقسما للأقسام التي منها اللابشرط .

و قد وقع البحث في أن المطلق هل هو اللابشرط المقسمي، أو القسمي؟ و على الثاني لا يحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة، لفرض لحاظ الإرسال فيه بخلاف الأول فإنه يحتاج إليها، لفرض إهماله حتى عند قيد الإرسال.

و الحق هو الأول لأنه المطلق الحقيقي المجرد عن جميع القيود حتى لحاظ الإطلاق و الإرسال، و يمكن إرجاع قول من قال بالثاني إلى الأول كما لا يخفى على من راجع و تأمل.

و أما احتمال أن يكون المطلق هو الذات من حيث هي فهو خطأ. أما أولا:

فلأن لحاظه من حيث هي نحو قيد يخرج به عن الإطلاق الصرف. و أما ثانيا:

فلأن المطلق في المحاورات ما لوحظ فيه الذات مهملا بالنسبة إلى عوارض

ص: 152

الذات لا بالنسبة إلى نفس الذات من حيث هي. و بالجملة: إن المطلق هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كل قيد حتى عن الإطلاق فيحتاج في ثبوته له إلى مقدمات الحكمة، و العرف و العقل يشهد لذلك أيضا.

الفاظ المطلق

منها: اسم الجنس، و هو اللفظ الموضوع للذات المهمل عن كل قيد حتى قيد الإطلاق، سواء كان جوهرا، أم عرضا، أم عرضيا، أم اعتباريا - كالماء، و الأبيض، و البياض، و الزوجية.

و منها: علم الجنس، و ليس لكل جنس علم، بل هو مقصور على السماع، و لذا قيل:

و وضعوا لبعض الأجناس علم *** كعلم الأشخاص لفظا و هو عم

و لا فرق بينه و بين اسم الجنس إلا من جهتين:

الاولى: أن اسم الجنس نكرة بخلاف علم الجنس، فإنه معرّف لفظي تجري عليه أحكام المعرفة في الجملة - من صحة الابتداء به و نحو ذلك - و لكن تعريفه اللفظي لا يسري إلى المعنى، كما أن التأنيث اللفظي لا يسري إلى الذات، و لكن هذا القسم نادر في غالب الاستعمالات المحاورية خصوصا في الفقه.

الثانية: أن اسم الجنس وضع لذات المعنى على نحو ما مر، بخلاف علم الجنس، فإنه وضع لذات المعنى في حال تميزه عن غيره من دون أن يكون اللحاظ قيدا حتى يكون مقيدا و يمتنع صدقه على الخارجيات، بل بنحو القضية الحينية لا الشرطية، و هذه العناية أو جبت كونه معرفا لفظيا، و هذا الفرق يرجع إلى الأول في الواقع.

و منها: النكرة، و هو المفرد المبهم في الجملة، إلاّ أن التردد و الإبهام فيه

ص: 153

يتصور على أقسام ثلاثة:

الأول: التردد ثبوتا و إثباتا.

و فيه: أنه خلاف المعهود في النكرات عند المحاورات، و ليس له واقع إلا الفرض، إذ لا تحقق للمبهم كذلك إلا في الفرض و التقدير، لا بحسب التحقق حتى في الذهن و التصوير، لأن كلما كان له حظ من التحقق كان له نحو من الوجود.

الثاني: أنه المتردد ظاهرا لا في الواقع، بل هو متعين واقعا.

و فيه: أن الظاهر من موارد استعمال النكرة في المحاورات العرفية إخبارا و إنشاء غير ذلك، كما لا يخفى.

الثالث: أنها الطبيعة من حيث الوحدة البدلية السارية لكلما يصلح أن يكون فردا، و الظاهر أن هذا هو المتبادر منها في الاستعمالات.

فالمطلق على أي تقدير الطبيعة المهملة، فإن كانت متوغلة في الإبهام من كل جهة - نوعا و صنفا و فردا - فهو اسم الجنس، و إن اتصف بالتعريف اللفظي مع الإهمال المعنوي من كل جهة فهو علم الجنس، و إن كان إهمالها في خصوص الفردية البدلية السارية فقط فهي النكرة، فليس المطلق إلا الذات المتطورة بهذه الأطوار، و بعروض هذه الأطوار عليه يختلف اسمه فيسمى باسم الجنس، و بعلم الجنس، و بالنكرة. و إن لوحظت من حيث التحقق الخارجي فهو الفرد، و يخرج بذلك عن الإطلاق، و هذا هو الموافق للعرف و العقل مع أدنى تأمل في البين.

و منها: المفرد المعرّف باللام جنسا، و استغراقا، أو عهدا بأقسامه الخارجي و الذهني و الذكري، و البحث فيه من جهتين:

الاولى: في أن اختلاف اللام بهذه الأقسام هل هو وضعي، أو لأجل القرائن - خارجية كانت أو داخلية - و على الأول فهل هو بالاشتراك اللفظي،

ص: 154

أو المعنوي؟

و الحق سقوط هذا البحث عن أصله، لأن اللام لم توضع في لغة العرب إلا لغرض تزيين الكلام، و الربط بين جزئيه، و جميع هذه الأقسام لا تستفاد إلا من القرائن و المناسبات داخلية كانت أو خارجية، لفظية كانت أو غيرها، لأن التزيين و الربط الحاصل باللام معلوم، و صحة انتساب الأقسام الى القرائن مع وجودها كذلك أيضا، و الباقي مشكوك فيه فيدفع بالأصل، و قد تقدّم في بحث العام و الخاص أن المفرد المعرّف باللام من ألفاظ العموم أيضا، و أن استفادة العموم منه ليست مستندة إلى الوضع بل تكون من مقدمات الحكمة، و على هذا فاستفادة العموم و الإطلاق من المفرد المعرف باللام لا بد أن تكون لأجل مقدمات الحكمة.

الثانية: في دلالتها على الإطلاق، و الحق أن استفادة الإطلاق إنما هو من نفس المدخول من حيث هو.

إن قلت: المعهودية بأقسامها نحو من التعين، مع أن المشهور بين الأدباء أن الألف و اللام أداة التعريف و التعيين، و التعريف ينافي الإطلاق، فكيف يكون المعرّف باللام من أقسام المطلق؟!

قلت: أما التعريف فهو لفظي فلا ينافي الإبهام المعنوي، مثل ما تقدم في علم الجنس، و كذا التعين الحاصل بالعهد لا ينافي الإطلاق أيضا، لأنه ليس الإطلاق مقيدا به حتى ينافيه، بل يكون من باب انطباق المطلق و صدقه عليه قهرا، و فرق واضح بين انطباق المطلق على شيء خاص و بين تقييده به، و الثاني ينافي الإطلاق دون الأول.

و بعبارة اخرى: العهدية و الإطلاق من باب تعدد الدال و المدلول لا وحدة المطلوب، حتى ينافي الإطلاق.

ص: 155

مقدمات الحكمة و ما يتعلق بها
اشارة

و هي من القرائن العامة غير المختصة بمورد دون آخر، و قد جرت سيرة أهل المحاورة على استفادة الإطلاق منها بعد تحققها، و تتركب من امور:

الأول: كون المتكلم في مقام بيان المراد.

الثاني: عدم ما يصلح لتقييد الكلام بحيث يصح الاعتماد عليه لدى العرف.

الثالث: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب في البين، و يمكن إرجاع الأخيرين إلى واحد، و هو عدم وجود قرينة على التقييد، و وجود القدر المتيقن قرينة. فمقدمات الحكمة في الواقع اثنتان، كون المتكلم في مقام البيان، و فقد القرينة على التقييد و مع تماميتها فالعاقل المتكلم إما أنه أراد الإهمال الواقعي، أو أراد المقيد مع عدم القرينة عليه، و هما خلاف المحاورات العرفية المتداولة بين العقلاء، فيتعين الإطلاق لا محالة، فكما أن ظاهر اللفظ حجة لدى العقلاء، فظاهر مقام التخاطب، و حال اللافظ أيضا كذلك ما لم تكن قرينة على الخلاف.

ثم إنه قد يعدّ من المقدمات كون المورد قابلا للإطلاق و التقييد، فلا تجري المقدمات في المعاني الربطية و الحرفية.

و فيه.. أولا: أن هذا مقوم موضوع جريان المقدمات، و مقومات الموضوع لا ينبغي أن تعد من لواحقه.

و ثانيا: أنه ليس في الألفاظ و المعاني ما لا يتصف بالإطلاق و التقييد إلاّ أن بعضها يتصف بهما مستقلا، كالمعاني الاستقلالية، و بعضها تبعا كالمعاني الحرفية، فلا وجه لهذا الشرط على كل تقدير، فهو ساقط من أصله.

و ينبغي التنبيه على امور
اشارة

ص: 156

الأول: ما يتعلق بالقدر المتيقن

القدر المتيقن إما خارجي، أو في مقام التخاطب. و كل منهما لا يضر بالإطلاق ما لم يوجب ظهور اللفظ في المتيقن.

الثاني: ظاهر حال كل متكلم أنه في مقام بيان مراده

إلا إذا كان هناك مانع، و يصح التمسك بالأصل المقبول في المحاورات أيضا، فيقال: الأصل كون المتكلم في مقام البيان إلاّ مع الدليل على الخلاف، و لو شك في وجود المانع يدفع بالأصل.

و يكفي في إحراز كونه في مقام البيان فعلا ما هو المتعارف منه لدى الناس في البيانات الفعلية، سواء كان أبديا أو لا. لأن البيان له مراتب متفاوتة منها دائمية، و منها ماداميّة بحسب الظروف و المقتضيات، و هي تارة مع قصر المدة، و اخرى مع طولها، و الكل يكفي للإطلاق مع عدم القرينة على التقييد.

و لو شك في أنه أبدي أو غير أبدي، فمقتضى الأصل و الظاهر هو الأول، لا سيما في الأحكام الشرعية.

الثالث: الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو لنفي القيد و البشرطشيئية لا لنفى غيره

و أما احتمال بشرط لائية فليس من الاحتمالات التي يعتني بها العقلاء حتى يحتاج في نفيه إلى مقدمة الحكمة.

نعم، لو كان احتماله مما يعتنى به - كما في بعض الامور المبنية على الدقة من كل جهة - لاحتاج في نفيه إليها أيضا.

و لا فرق في الإطلاق بين أن يكون حاليا، أو مقاميا، أو لفظيا، فالجميع يحتاج في إثباته إلى جريان مقدمات الحكمة، بعد فرض اعتبار الكل في المحاورات العرفية.

و الفرق بين الأولين و الأخير أنه يصحّ استفادة فيهما من السكوت أيضا كما لا يخفى.

الرابع: طرق احراز الإطلاق من كلام المتكلم

إحراز الإطلاق من كلام المتكلم تارة بالقطع، و اخرى بالظاهر،

ص: 157

و الأصل على نحو ما تقدم في الأمر الثاني.

و على كل منهما فإما أن يكون في البين ما يشك في كونه قيدا، أو لا يكون، فهذه أقسام أربعة. و لا ريب في ثبوت الإطلاق في ثلاثة منها، و هي ما إذا احرز الإطلاق بالقطع، و سواء كان في البين ما يشك في كونه قيدا، أو لا، و ما إذا احرز بالأصل و لم يكن في البين ما يشك في كونه قيدا، كما لا ريب في عدم ثبوته في ما إذا أحرز بالأصل و كان في البين ما يصلح للتقييد، لعدم صحة الاعتماد على هذا الأصل حينئذ.

و أما إذا لم يكن كذلك، بل كان من مجرد الشك فيه فأصالة الإطلاق محكمة، فيجري هذا الأصل في الشك في أصل التقييد، كما يجري في الشك في قيدية الموجود إلا إذا كانت أمارة معتبرة على التقييد.

الخامس: جريان مقدمات الحكمة فى المعانى الافرادية و التركيبية و الانشائية، الكلام فى المعانى الربطية و التبعية

لا فرق في جريان مقدمات الحكمة و ثبوت الإطلاق بها بين المعاني الإفرادية، و التركيبية، و الإخبارية، و الإنشائية مطلقا، فيتصف الجميع به مع جريانها، و لا يتصف به مع عدم جريانها، كما هو واضح. و قد استقرت السيرة على التمسك بإطلاق العقود، و الجمل الشرطية، و الأوامر و الجمل الطلبية في الفقه.

و تتصف المعاني الربطية، و التبعية - كالحروف و ما يلحق بها - بالإطلاق و التقييد بتبع متعلقاتها، لمكان الوحدة الاعتبارية بينهما، فتسري عوارض المعاني الاستقلالية إلى المعاني التبعية المتقوّمة بها أيضا.

نعم، إذا لوحظت تلك المعاني التبعية منسلخة عن المعاني الاستقلالية، لا وجه لعروض الإطلاق و التقييد عليها، إذ لا ذات لها إلا في الغير و بالغير، و ما كان كذلك لا معنى لاتصافها ذاتا بأية صفة كانت.

و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن يقول بعدم اتصاف المعاني التبعية بهما أي بالذات، و من يقول باتصافها بهما أي بالتبع، و هذا وجه صحيح.

ص: 158

السادس: عدم اتصاف الاعلام الشخصية من حيث التشخص بالاطلاق و التقييد

لا تتصف الأعلام الشخصية من حيث التشخّص بالإطلاق، لأن التشخّص ينافي الإرسال و السريان، فلا تتصف بالتقييد من هذه الحيثية أيضا، لما يأتي من أن بين الإطلاق و التقييد تقابل العدم و الملكة، فكل ما لا يتصف بالإطلاق لا يتصف بالتقييد أيضا.

نعم، يصح اتصافها بهما من حيث عوارضها، كالزمان و المكان و سائر صفاتها المحفوفة بها، كالطول و القصر، و السواد، و البياض و نحوها، إذ كل شيء محفوف بعوارض لا تحصى، لأن من شئون الممكن الاحتفاف بالعوارض، بل يتصف الواجب تعالى بالأوصاف الإضافية الكثيرة، كالخالقية، و الرازقية، و الرأفة، و القهارية و غير ذلك مما لا يحصى.

السابع: تعدد الاطلاق و التقييد فى كلام واحد من جهات متعددة

يمكن أن تكون للكلام جهات عديدة قابلة للإطلاق و التقييد، فإن تمت مقدمات الحكمة بالنسبة إلى جميعها يثبت الإطلاق كذلك، و إلا فبالنسبة إلى ما تمت فقط، و لا يثبت بالنسبة إلى ما لم تتم إلا إذا كانت ملازمة بين الجهات عقلية كانت، أو عرفية، أو شرعية فيثبت الإطلاق حينئذ بالنسبة إلى جميع الجهات، و إن تمت المقدمات بالنسبة إلى بعضها فقط، لفرض تحقق الملازمة بين الجهات جميعها.

الثامن: سقوط احتمال ورود التقييد المعصومي لاطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى

لا وجه لاحتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى، لانقطاع طريق الوصول إليه (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) فينحصر احتماله بتحقق الإجماع و دليل العقل المعتبرين شرعا.

التقييد

المشهور أن التقابل بينه و بين الإطلاق من تقابل العدم و الملكة، لأن المطلق عبارة عن عدم التقييد بما يصلح أن يكون مقيدا به، هذا إن عرف المطلق بالعنوان السلبي، و أما إذا عرف بالعنوان الإيجابي، كالإرسال و السريان

ص: 159

فيصح أن يكون بينهما تقابل التضاد، لكون كل منهما وجوديا لا يصح اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة، و ليس التضاد إلا ذلك.

و لا بأس باجتماع بعض أقسام التقابل مع بعضها الآخر مع اختلاف العنوان و الجهة.

و أما تقابل السلب و الإيجاب - بناء على تفسير المطلق بالتعبير السلبي - فعن بعض عدم صحته بينهما، لما ثبت من أنه لا يمكن ارتفاع النقيضين و في المقام يجوز ذلك، كما في أخذ قصد الأمر في متعلقه، حيث لا يصح تقييد الأمر به و لا إطلاقه بالنسبة إليه، فيرتفع الإطلاق و التقييد في هذا المورد.

و يرد عليه.. أولا: أن قصد الأمر ممكن أخذه في متعلقه، كما تقدم بيانه.

و ثانيا: أن الممتنع من ارتفاع النقيضين إنما هو بحسب الواقع، و لا ريب في عدم جوازه في الواقع، لأن الأمر بالنسبة إلى متعلقه إما مطلق في علم اللّه تعالى، أو مقيد، و إن لم يمكن الإطلاق و التقييد بحسب الاعتبار الصناعي، فارتفاع الإطلاق و التقييد الصناعي لا محذور فيه، و لا تعتبر الموافقة بين كل أمر صناعي و بين الامور الواقعية، لأن الأول اعتباريات محضة، و ارتفاع الضدين و اجتماعهما في الاعتباريات لا بأس به.

و لا ثمرة عملية معتد بها في تحقيق أن التقابل بينهما من أي الأقسام، بل و لا ثمرة علمية أيضا.

ثم إن صدق المطلق على المقيد - كصدقه على نفسه - حقيقي، لما تقدم من أنه اللابشرط المنقسم إلى الأقسام، و لا ريب في تحقق المقسم في جميع أقسامه، و صدقه عليها صدقا حقيقيا، بل و كذا لو كان المطلق عبارة عن اللابشرط القسمي، فيصح أن يكون صدقه على المقيد حقيقيا من باب تعدد الدال و المدلول، فيكون لفظ المطلق قد استعمل في ذات المعنى و يستفاد التقييد من دال آخر، فلا يكون من استعمال اللفظ في غير الموضوع له حتى يكون مجازا،

ص: 160

لتحقق الإرادة الاستعمالية بالنسبة إلى كل منهما و هي تكفي في الصدق الحقيقي، و مقتضى الأصل عدم اعتبار شيء آخر. نعم لو اعتبرت الإرادة الجدية الواقعية في الصدق الحقيقي يكون مجازا حينئذ، لعدم تحقق تلك الإرادة إلا بالنسبة إلى القيد.

ختام فيه أمران:
الأول: يعتبر في حمل المطلق على المقيد، و سقوط الإطلاق عن الاعتبار إحراز وحدة التكليف و ثبوت التنافي بينهما

، و إلا فيصح الأخذ بمفاد كل واحد من الدليلين و لا موضوع للتقييد حينئذ، و لذا اشتهر بين الفقهاء أنه لا موضوع له في غير الإلزاميات، لعدم إحراز وحدة التكليف فيها، بل القيود الواردة فيها من باب تعدد المطلوب غالبا إلا إذا دل دليل من الخارج على وحدته، و لو شك في مورد أنه من باب وحدة المطلوب أو تعدده فلا موضوع للتقييد أيضا، لعدم إحراز وحدة المطلوب، و تجري أصالة الإطلاق بلا محذور.

و الحاصل أن الأقسام ثلاثة:

فتارة: يحرز وحدة المطلوب.

و أخرى: يحرز عدمها.

و ثالثة: يشك فيها.

و يتعين التقييد في الأول دون الأخيرين، فيصح الأخذ بالإطلاق فيهما أيضا.

الثاني: كل ما ورد لبيان الجزئية أو الشرطية...

أو المانعية أو القاطعية، لا ريب في تحقق موضوع التقييد بالنسبة إليها و إلا لبطل وجوبه و تشريعه، بلا فرق فيه بين الإلزاميات و غيرها. و كذا ما كان واجبا نفسيا في شيء آخر، بحيث لو لم

ص: 161

يكن الآخر لكان وجوبه لغوا، كبعض واجبات الحج.

و استفادة ما ذكر إما من القرائن الداخلية أو الخارجية، و مع الشك في شيء مما ذكر فمقتضى الأصل اللفظي و العملي عدم وجوبه، فلا موضوع للتقييد، كما أنه مع تحقق موضوعه لا وجه لحمل القيد على الندب و الأخذ بالإطلاق، لأنه خلاف طبع القيدية و يحتاج إلى قرينة دالة على ذلك.

ثم إن جميع ما تقدم في أقسام إجمال العام و المخصص و أحكامها تجري في إجمال المطلق و المقيد أيضا، و كل مورد لا يصح فيه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لا يصح فيه التمسك بالمطلق أيضا.

و كل مورد يجوز ذلك هناك، يجوز هنا أيضا. و كذا ما تقدم في الدوران بين النسخ و التخصيص يجري هنا أيضا، إذ المطلق ملحق بالعام و التقييد ملحق بالتخصيص، فهما متحدان حكما من هذه الجهة.

ص: 162

المجمل و المبين

و هما من المفاهيم المعروفة في المحاورات، و ليس للعلماء فيهما اصطلاح خاص. فالمجمل ما لم يتضح المراد منه و لو بالقرائن. و المبين بخلافه عند الجميع حتى الاصوليين، هذا بحسب المفهوم.

و أما بحسب المصداق فالمرجع في تعيينه الأذواق السليمة، و الأذهان المستقيمة، و الظاهر كونهما من الامور الإضافية، فربّ مجمل عند بعض مبين عند آخر و بالعكس.

و للإجمال مناشئ كثيرة، كتشابه اللفظ و اختلاف القراءة و نحو ذلك، و يصح وقوع الإجمال في كلام الحكيم تعالى، إذ قد يتعلق الغرض بالإجمال و الإهمال لمصالح شتى.

و أما حكمه فهو أنه إن كان مما يتعلّق بالأحكام فلا بد من التفحّص التام لعله يزول الإجمال و الإبهام، و مع عدم الزوال يرجع إلى أدلة اخرى، و مع عدمها فإلى الاصول العملية و هي مختلفة باختلاف الموارد.

ص: 163

القسم السادس: التعارض

اشارة

لا بد أن يذكر هذا البحث في مباحث الألفاظ، لرجوعه إلى كيفية الاستفادة من الدليلين المتعارضين بحسب المحاورات العرفية.

امور تمهيدية:
الأول: مفهوم التعارض من المبينات عند العرف

، و هو أعم من التناقض و التضاد المعروفين في علم المنطق، فيكون المراد به في المقام مطلق التنافي عند المتعارف بين الناس. و لا اختصاص له بعلم دون آخر بل يجري في جميع العلوم النظرية، و الحرف و الصنائع الفكرية مطلقا.

و الظاهر كونه في غير الأخبار منتهيا إلى غير الاختيار، لأن منشأه اختلاف الأنظار في استخراج الواقعيات، و هو يحصل من اختلاف الاستعدادات، و هي ذاتية لا دخل للاختيار فيها.

و أما الأخبار فمنشأ حصول التعارض فيها أحد امور على سبيل منع الخلو:

منها: أنهم عليه السّلام تعمدوا في ذلك، كما يستفاد ذلك من جملة من الأخبار، كموثق زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام المنقول في الحدائق.

و منها: قصور نقل الناقلين و فهمهم خصوصا بعد التفاتهم إلى جواز النقل بالمعنى.

ص: 164

و منها: التقية.

و منها: اختفاء القرائن، إلى غير ذلك من الامور التي تظهر بعد التأمل.

و ليس ذلك من الإغراء بالجهل - كما قد يتوهم - لأنه بعد اهتمام الأئمّة عليه السّلام ببيان أحكام التعارض و شدة ترغيبهم في الوصول إلى الحقيقة، لا وجه لتوهم لزوم الإغراء بالجهل.

الثاني: التعارض من صفات المدلول ثبوتا، و يسري إلى الدلالة إثباتا

و إلى الدليل المركب منهما أيضا، و ذلك لمكان التضايف بين المدلول و الدلالة و الدليل، فتسري صفات كل منها إلى الآخر في الجملة، و لا ثمرة عملية في أنه من صفات أي منها إلا ما يتوهم من أنه إن كان من صفات المدلول يتحقق التعارض في مورد مثل النص و الظاهر، ثم يرفع بالجمع العرفي المحاوري من تقديم النص على الظاهر و نحوه، بخلاف ما إذا كان من صفات الدلالة، فلا يكون في موارد الجمع العرفي المحاوري تعارض أصلا، إذ لا يرى أهل المحاورة فيها تعارضا لما ارتكز في أذهانهم من الجمع بينهما فيها.

و يرد عليه: أن ما يأتي من أحكام التعارض إنما يترتب على التعارض الثابت المستقر في الجملة إلا ما يزول بأدنى توجه و التفات، و التعارض في موارد الجمع العرفي مما يزول بأدنى توجه و التفات فلا موضوع للتعارض فيها، سواء كان من صفات المدلول أو الدلالة، لأن موضوعه التحير الثابت المستقر، لا المتزلزل الزائل، سواء كان الزوال بالتخصص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص، أو الجمع العرفي أو غير ذلك.

الثالث: قد شاع استعمال التزاحم و التعارض، و اشتباه الحجة بغير الحجة في الفقه و الاصول.

و الأول عبارة عما إذا كان امتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف فقط لا من ناحية الشارع، فإنهما تامان ملاكا و تشريعا، بل و حجة

ص: 165

عليهما في مقام الإثبات أيضا من كل جهة، و يلزم ذلك كونه اتفاقيا، لأن جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائما قبيح، و أن يكون الترجيح بحسب الملاك فقط لفرض تمامية الحجة عليهما في مقام الإثبات فلا منشأ للترجيح من هذه الجهة، و لو لم يوجد الترجيح الملاكي يتعين التخيير الثبوتي لا محالة.

و الثاني عبارة عن عدم إمكان تشريع الحكمين ثبوتا لكن مع اجتماع دليلهما لشرائط الحجية إثباتا.

و لا قصور له في مقام الإثبات، بل هو منحصر في مقام الثبوت فقط، إذ ليس في البين إلا حكم واحد، و أما مقام الإثبات فالدليلان جامعان لشرائط الحجية. فيكون الترجيح في مقام الإثبات لا محالة و مع عدمه فالتخيير الإثباتي، كما يأتي.

و الأخير يشترك مع الثاني في أنه ليس فيه أيضا إلا حكم واحد في مقام الثبوت، و يفترق عنه في مقام الإثبات، فإن الدليل فيه واحد لا تعدد فيه بوجه، فيكون خارجا تخصصا عن مورد التعارض و التزاحم، و لكنه يتردد بين كونه حجة أو غير حجة، كتردد رجال السند بين الثقة و غيره، و تردد الحديث بين كونه للتقية و عدمها، إلى غير ذلك من الجهات الموجبة لعدم الحجية، و المرجع فيه التفحص في ما يتكفل لبيان هذه الامور، و بعد الفحص و اليأس عن الحجية يرجع إلى الاصول العملية.

الرابع: من المحاورات الشائعة النص، و الأظهر، و الظاهر.

و لا ريب في تقدم الأول على الأخيرين، و الثاني على الأخير، لصلاحية النص للتصرّف فيهما بخلاف العكس، كما أن الأظهر يصلح للتصرف في الظاهر من دون عكس، و هذا من المسلّمات المحاورية. كالتسالم على اعتبار الظواهر، فلا يحتاج إلى إقامة دليل عليه من الخارج.

كما أن صحة الجمع العرفي كذلك، و هو عبارة عن التصرف في الدليلين

ص: 166

أو أحدهما، بحيث إذا عرضا على المتعارف من أهل اللسان يعترفون بأنه لا تعارض بينهما مع هذا الوجه من التصرّف، بشرط أن تدل قرينة معتبرة على هذا الجمع و التصرّف، و إلا يكون من الجمع التبرعي الافتراضي. الذي يكون لغوا و باطلا.

و قد شاع عند من قارب هذه الأعصار من الأعلام لفظا الورود، و الحكومة، مع خلو كلمات القدماء عنهما.

و الورود: عبارة عن خروج مورد أحد الدليلين عن مورد الدليل الآخر موضوعا بعناية الجعل، فيكون مشتركا مع التخصص في الخروج الموضوعي إلا أن التخصص تكويني - كخروج الجاهل عن مورد أكرم العلماء - و الورود يكون بعناية الجعل - شارعا كان الجاعل أو غيره - كخروج مورد الاصول العقلية عن مورد الأمارات المعتبرة الشرعية، لأن اعتبار تلك الاصول إنما هو في مورد عدم وصول الحجة المعتبرة، و مع الوصول لا يبقى مورد لها قهرا. و استعمال الورود قليل الابتلاء في الفقه، كما لا يخفى على الفقهاء.

و الحكومة - و هي التي يكثر الابتلاء بها في الفقه - عبارة عن أن يكون أحد الدليلين صالحا لتوسيع مورد الدليل الآخر، أو تضييقه، أو يصلح لهما معا.

و الأول كقوله عليه السّلام: «التراب أحد الطهورين» بالنسبة إلى قوله عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» حيث يوسع الطهور إلى الطهارة الترابية أيضا.

و الثاني كقوله عليه السّلام: «لا شكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى قوله عليه السّلام: «إذا شككت فابن على الأكثر» حيث يضيقه بالنسبة إلى خصوص الشكوك المتعارفة دون الكثيرة.

و الثالث كقوله عليه السّلام: «العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا فعنّي يؤدّيان» فإنه يوسع العلم في قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إلى مورد الأمارات

ص: 167

المعتبرة أيضا، كما يضيق موارد اعتبار الاصول مطلقا إلى غير موارد الأمارات المعتبرة.

و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم أن الحكومة تارة واقعية، كما إذا كان مورد الحاكم و المحكوم من الأحكام الواقعية.

و اخرى ظاهرية، و هي ما إذا كان موردهما من الأحكام الظاهرية.

و لكن لا ثمرة فقهية لهذا التقسيم أبدا، لأن الحاكم مقدم على المحكوم مطلقا بأي نحو كان.

و بالجملة أن الحكومة بحسب مقام الثبوت تارة للتوسعة. و اخرى للتضييق. و ثالثة لهما معا، و كل منها إما بالنسبة إلى الموضوع أو المحمول أو هما معا، فتصير تسعة، و كل من التسعة إما واقعية أو ظاهرية، فتكون ثمانية عشر.

ثم إن التخصيص مما يكون شائعا في المحاورات مطلقا و هو إخراج بعض أفراد العام عن حكمه فقط بلا عناية أن يكون دليل الخاص ناظرا إلى التضييق في أفراد العام و إن كان يترتب عليه ذلك قهرا.

و فرّق بينه و بين الحكومة..

تارة: بأن التخصيص من شئون الألفاظ، و الحكومة من شئون المعاني.

و فيه: أنه مجرد الدعوى، مع أن اللفظ طريق إلى المعنى فيصير التخصيص من شئون المعنى بالآخرة.

و اخرى: بأن إجمال الحاكم يسري إلى المحكوم مطلقا - متصلا كان أو غير متصل - بخلاف الخاص، فإنه إن كان منفصلا و تردد بين الأقل و الأكثر، يؤخذ بالعام بالنسبة إلى الأكثر.

و فيه: أنه يمكن أن يقال في الحكومة بهذا التفصيل أيضا.

و ثالثة: بأن التخصيص للتضييق دائما بخلاف الحكومة، فإنها ربما توسع كما تقدم.

ص: 168

و فيه: أنه تستفاد التوسعة من التخصيص أيضا، لأن قول: لا تكرم الفساق، يضيق مفاد أكرم العلماء و يوسع الفساق بشموله لفساق العلماء أيضا.

و قد ذكر وجوه اخرى ضعيفة، و لعل الفرق حيثية الشارحية التي تتقوّم بها الحكومة دون التخصص.

الخامس: استقرت سيرة العقلاء على تقديم الخاص على العام مطلقا

، سواء كانا قطعيين من حيث السند و الدلالة، أو ظنيين كذلك، أو بالاختلاف، لأن الخاص قرينة للتصرّف في العام، و تقديم القرينة على ذيها من القطعيات في المحاورات، و لا فرق بين كونهما في كلام واحد أو لا. مع أن فرض تعدد الكلام حقيقة في شريعة خاتم الأنبياء مما لا وجه له، لأن ألسنة المعصومين عليهم السّلام من بدء البعثة إلى بدء الغيبة الكبرى لسان واحد يحكي عن واحد، و لا تلاحظ النسبة بينهما، فيقدم الخاص مطلقا على العام مطلقا، إذ ليست ملاحظة النسبة بين القرينة و ذيها من دأب العقلاء في أنحاء المحاورات، و كذا الكلام في المطلق و المقيد مع تحقق شرط التقييد، أي إحراز وحدة المطلوب.

السادس: قد اشتهرت قضية: «أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح»

و استدل عليها.. تارة: بالإجماع.

و اخرى: بأن الطرح طرح للدلالة الأصلية، و هي المطابقة، و في الجمع طرح للدلالة التضمنية أو الالتزامية، و طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية.

و ثالثة: بأن الأصل في الدليل الاعتماد عليه.

و الكل باطل.. أما الأول: فلا رسم و لا إشارة إليه بين القدماء مع كون المسألة ابتلائية بين العلماء، و على فرض الاعتبار فالمتيقن منه مثل المطلق و المقيد، و العام و الخاص و نحوهما من العرفيات المسلّمة في المحاورات، و هي مما ينبغي أن يستدل بها، لا أن يستدل عليها.

ص: 169

و أما الثاني: فلأن طرح الدلالة و بقاءها تدور مدار الأغراض الصحيحة المحاورية، فمع وجود الغرض الصحيح في البين يؤخذ بالدلالة الالتزامية و تطرح المطابقية - كما في الكنايات و نحوها - و مع عدمه تنتفي جميع الدلالات.

و بالجملة فإن ذلك كله يدور مدار الأغراض المعتبرة، و نفس هذه الجملة: طرح الدلالة التبعية أولى من طرح الدلالة الأصلية، يحتاج في إثباتها إلى دليل و هو مفقود، مع أن هذا الدليل عين المدعى بعد التأمل كما لا يخفى.

و أما الثالث: فهو بمعنى الغلبة في الجملة، لا بأس به، لكن في تمام مدلوله لا في بعضه، فلا دليل على كلية هذه القضية بوجه.

نعم، لو كان المراد بالجمع الجمع العرفي المقبول عند ذوي الأذهان القويمة و السلائق المستقيمة.

و المراد من الإمكان القياسي منه بالنظر إلى القرائن الخارجية و الداخلية، فهو حق لا ريب فيه، فيكون المراد بالاولى حينئذ هو اللزوم، كما في قوله تعالى:

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.

و هذا النحو من الجمع شائع في الفقه؛ بل في جميع العلوم مطلقا، فتكون القضية بناء على هذا التفسير من القضايا التي يغني تصورها عن الاستدلال عليها.

و أما إذا كان المراد بالجمع مطلق الجمع و لو كان بعيدا عن الأذهان و لم يكن عليه دليل و لا برهان. و كان المراد بالإمكان الذاتي منه في مقابل الاستحالة الذاتية، أو الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع العادي العرفي، فلم يقل بصحة هذا النحو من الجمع أحد من العقلاء فضلا عن العلماء.

و موضوع هذا الجمع إنما هو صدور المتعارضين عن واحد، أو من هو كالواحد - كالأئمة عليهم السّلام - و أما لو كان صدورهما عن المتعدد فلا موضوع للجمع

ص: 170

حينئذ، كما في رأي مجتهدين في موضوع واحد، و إن كان الجمع حسنا و كان صحيحا في نفسه.

ثم إن القرائن الشاهدة على صحة الجمع لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد، كما أن ما يأتي من أحكام التعارض من الترجيح، و التخيير أو التساقط، لا تشمل موارد الجمع العرفي مطلقا، لأن موضوعها التعارض المستقر لا البدوي الزائل بأدنى التأمل و النظر.

السابع: إن كان النص و الأظهر معلومين، فلا ريب في تقدم النص على الأظهر

، كتقدمهما على الظاهر. و إن لم يكن أحدهما معلوما فإن أمكن تعينه بقرينة خاصة تتبع لا محالة، و إلا فتصل النوبة إلى القرائن العامة.

و قد يقال: بوجود القرينة العامة في بعض الموارد..

منها: ما إذا تعارض العام الاصولي - كأكرم العلماء - و المطلق الشمولي - كلا تكرم الفاسق - فيدور الأمر بين تخصيص الأول، أو تقييد الثاني.

فقيل: بأن العام الاصولي أظهر في العموم فلا بد من تقييد المطلق، لأن التصرف في المطلق أكثر، و لأن عموم العام وضعي، و إطلاق المطلق بمقدمات الحكمة و هي لا تجري مع ما يصلح للقرينية و العام يصلح لها، فلا موضوع للمقدمات مع وجوده.

و يرد الأول بأن ذلك من مجرد الدعوى، كيف و قد اشتهر أنه ما من عام إلا و قد خص.

و الثاني بأنه صحيح إن كان العموم بالوضع، كلفظ (كل) و ما يرادفه، لا ما إذا كان ذلك بمقدمات الحكمة أيضا، كالعام الاصولي.

ثم إنه لا فرق بين كون صدورهما متقارنا أو متلاحقا، لأن تشريع الحكم و جعل القانون بجميع حدوده و قيوده - فصل الزمان بين بيانها، أو لم يفصل، طال أو قصر - كتشريع واحد و جعل فارد و لا سيما في أحكام الشريعة التي

ص: 171

تكون جميع ألسنة تشريعها من المعصومين عليهم السّلام كلسان واحد، فإنها و إن تعددت صورة لكنها واحدة حقيقة.

فما عن صاحب الكفاية قدّس سرّه من أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة، عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا خلاف التحقق، مع أنه خلاف مبناه في الفقه أيضا.

ثم إنه بعد عدم إحراز ترجيح التقييد على التخصيص و لا العكس، لا بد في مورد الاجتماع من الرجوع إلى الأصول العملية، لصيرورة الكلام مجملا حينئذ.

و منها: ما إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام شيء، و دار الأمر بين كونه ناسخا أو كاشفا عن المخصص السابق، أو مخصصا فعلا.

و عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه استحالة الثاني، فتكون الناسخية أظهر لا محالة، لتوفر الدواعي على ضبط ما ورد، فالعادة تقضي باستحالة التخصيص كشفا أو فعلا.

و فيه: أن الاهتمام بالضبط مسلّم و لكن وصول كل ما ضبطوه إلينا أول الدعوى، و قد ذكر أن المحقق قدّس سرّه ينقل عن اصول لا رسم لها عندنا و لا أثر راجع الجواهر بحث تطهير إناء الولوغ.

و قيل: بتقديم التخصيص على النسخ لكثرة الأول و قلة الثاني.

و فيه: أن ذلك لا يوجب الأظهرية، كما هو معلوم.

و قيل: بالعكس لأن النسخ تصرّف في زمان العام و التخصيص تصرّف في أفراده، و ظهور العام في الأفراد أقوى من ظهوره في الأزمان، لأن الأول بالوضع، و الثاني بمقدمات الحكمة.

و فيه: أن السريان الزماني في الأحكام ليس بمقدمات الحكمة، بل بالأدلة القطعية. منها ما دل على أن: «حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله حلال الى يوم القيامة، و حرامه

ص: 172

حرام إلى يوم القيامة» فيكون التخصيص أظهر.

و يمكن أن يقال: إن بناء المحاورات العقلائية في الدوران بينهما على تقديم التخصيص، و هذا البناء كالقرينة المعتبرة.

حكم المتعارضين
اشارة

لا بد أن يذكر حكم التعارض في المبادئ لعدم اختصاصه بعلم دون آخر، أو يذكر في ختام المطلق و المقيد - كما فعلناه - لكونه من الامور المحاورية المتعارفة، و لكن مشايخنا قدس سرّهم تعرضوا له بعد الاصول العملية.

التعارض في الأدلة و الأقوال من الامور الشائعة في جميع العلوم، بل هو متحقق في العرفيات، و لا يختص بأدلة الفقه، و يمتنع عادة أن لا يكون للعقلاء في حكمه بناء مستمر، و سيرة مستقرة. و لأجل ذلك لا بد أولا من تحقيق بناء العقلاء في مورد التعارض، ثم الرجوع إلى الأدلة الشرعية، فإن كان ردع عن بنائهم فهو المتبع لا محالة، و إلا فيكفي عدم ثبوت الردع في اعتبار بنائهم في هذا الأمر العام البلوى، كسائر السير العقلائية، و إذا تأملنا في بنائهم نجدهم يحكمون بالفطرة في مورد التعارض بامور ثلاثة:

الأول: عدم الحجية الفعلية للمتعارضين بعد التعارض، لأن حجيتهما معا لا تعقل، و أحدهما بالخصوص ترجيح بلا مرجح، و هذا مما تحكم به الفطرة في جميع موارد التعارض مطلقا، و قد اتفق العلماء على ذلك أيضا.

و هذا الأصل من الاصول العقلائية المعتبرة لديهم، و لا إشكال فيه بناء على الطريقية المحضة التي استقرت عليها السيرة في الحجج المعتبرة.

و كذا بناء على السببية الباطلة أو الصحيحة التي هي عبارة عن وجود المصلحة السلوكية المتداركة للواقع عند التخلّف، لأن الظاهر عدم القائل بوجود مصلحتين كذلك في صورة التعارض، أو السببية المحضة، و على فرض وجود

ص: 173

القول بذلك يكون من التزاحم في المصلحة السلوكية، لأنه يمكن ثبوتا جعل المصلحة كذلك في كل منهما.

و أما بناء على السببية الباطلة فلا يكون منه، لأن مورد التزاحم ما كان ثبوته ممكنا، و المفروض عدمه.

هذا، و لكن الحجية الاقتضائية ثابتة لا محذور فيها، إذ لا تعارض في مقام الاقتضاء و إنما هو في المرتبة الفعلية و التأثير.

إن قلت: كيف تسقط الحجية الفعلية مع كون المتعارضين حجة في نفي الثالث.

قلت: نفي الثالث مستند إلى التفحّص في الأدلة و عدم الظفر به، لا إلى المتعارضين، مع أن نفي الثالث مستند إلى الدلالة الالتزامية، و هي تابعة للدلالة المطابقية، لا لحجية المدلول المطابقي. أصل الدلالة شيء و حجيتها شيء آخر، و الساقط بالتعارض هو الثاني دون الأول، و لا فرق في ما ذكر بين الإلزاميات و غيرها، كالمندوبات و نحوها.

الثاني: أنهم بعد سقوط الحجية الفعلية يتأملون و يتفحصون في إيصال الحجية الاقتضائية إلى مرتبة الفعلية بإعمال ما يمكن أن يصير منشأ لذلك من المرجحات التي لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص، و الظاهر أن هذا أيضا من الامور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل و برهان.

الثالث: بعد استقرار التحيّر المطلق و اليأس عن الظفر على المرجح من كل حيثية و جهة، تبعث الفطرة إلى التخيير و تحكم به، و هو تخيير عقلائي، و قد يكون عقليا، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين، هذه امور كلها يغني الوجدان فيها عن إقامة البرهان، و تجري في الجميع من البينات المتعارضة القائمة على الموضوعات، و أقوال اللغويين، و المفسرين و أهل الرجال، و آراء

ص: 174

المجتهدين و غير ذلك مما يقع فيه التعارض و التنافي مما يكون موردا للابتلاء، فإن ثبت من الشرع ما يكون رادعا يتبع، و إلا فهو المحكم.

و ما ورد في حكم المتعارضين أقسام:

منها: ما يدل على الأخذ بالأخير، و المناقشة فيه

، كما في مرسل حسين بن المختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أ رأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: كنت آخذ بالأخير. فقال عليه السّلام: رحمك اللّه» أو الأحدث، كما في خبر الكناني: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا عمرو أ رأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما و أدع الآخر. فقال عليه السّلام: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّه عزّ و جلّ لنا و لكم في دينه إلاّ التقيّة». و المراد منها واحد.

و فيه: مضافا إلى مخالفتهما للمشهور - إذ لم أجد عاملا بهما في ما تفحصت - و معارضتهما بغيرهما مما هو كثير، أنهما ليسا في مقام بيان حكم المتعارضين، بل في مقام التنبيه على أن الاختلاف إنما كان لأجل التقية أو نحوها من المصالح، و لا ربط لهما ببيان حكم العلاج بين المتعارضين، و يشهد لذلك ذيل خبر الكناني، مع أنه لا وجه يتصور في الأخير إلا النسخ، و بناء عليه لا ربط لهما بالمقام أيضا، لعدم التعارض بين الناسخ و المنسوخ. فإنه لا وجه لاحتمال الأخذ بالأخير و لو كان مخالفا للكتاب و موافقا للعامة، و كان الأول بالعكس، و لا يرضى بذلك فقيه فكيف بالمعصوم عليه السّلام. فلا وجه لعدّ هذه الأخبار من أخبار علاج المتعارضين.

و منها: ما يدل على التوقف، و الجواب عنه

كموثق سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمره بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال عليه السّلام: يرجئه حتّى يلقى من يخبره

ص: 175

فهو في سعة حتّى يلقاه»، و عن الرضا عليه السّلام: «و عليكم بالكفّ و التثبّت و الوقوف و أنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»، و عن أبي جعفر عليه السّلام: «و إن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده و ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»، و عن سماعة عن الصادق عليه السّلام: «يرد علينا حديثان، واحد يأمر بالأخذ! و الآخر ينهانا عنه. قال عليه السّلام: لا تعمل بواحد حتّى تلقى صاحبك. قلت: لا بدّ و أن نعمل بواحد منهما!! قال عليه السّلام: خذ بما فيه خلاف العامة»، و هناك روايات اخرى.

و فيه: أنه مضافا إلى مخالفتها للمشهور، و معارضتها بما يأتي من مقبولة ابن حنظلة، أن المراد بالتوقف ترك العمل ابتداء، و ترك الاستعجال بالعمل، أو الطرح من غير تأمل و تفحص في الأخبار و القرائن، بل لا بد من التفحّص حتى الظفر بالمرجح ثم العمل بالراجح.

و ليس المراد التوقف إلى الأبد و ترك العمل مطلقا حتى لو ثبت الرجحان في أحدهما.

و المراد من الإرجاء حتى يلقى من يخبره، أو حتى يأتي البيان من عندهم، أو حتى نشرح لكم...، أو حتى تلقى صاحبك. هو العرض على ما صدر منهم عليهم السّلام في هذا الباب، ثم الحكم بمحصول ما يستفاد من المجموع، فإذا ظفرنا بالمتعارضين و عرضناهما على المقبولة يصدق أنه توقفنا، أي تركنا العمل بدوا و رجعنا إلى بيانهم عليهم السّلام، و ما شرحوه لنا، و لقينا صاحبنا - يعني ما ورد من صاحبنا - إلى غير ذلك من التعبيرات التي تقدمت في أحاديث التوقف.

فالتوقف عن العمل في المتعارضين اللذين يكونان مورد الابتلاء ملازم عرفا للتفحص عن القرائن الموجبة لصحة العمل بأحدهما، و المقبولة تشمل على تلك القرائن، فيكون لها نحو حكومة على غيرها من الأخبار التي تدل على التوقف الذي يكون عبارة اخرى عن التثبت و التفحص عما يوجب الرجحان و الاطمئنان بأحدهما.

ص: 176

و ما يقال: من أن التوقف ذكر في خبر سماعة قبل المرجح الذي هو المخالفة للعامة، و في المقبولة ذكر بعد تمام المرجحات، فيتعارضان من هذه الجهة.

مدفوع: بأن ما ذكر في خبر سماعة هو التوقف عن العمل لأجل الفحص و الظفر بالمرجح، و ما ذكر في المقبولة هو التوقف بعد الظفر به و اليأس عن غيره، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يثبت التعارض.

و الحاصل: أنه ليس في أخبار التوقف ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم في المتعارضين.

و منها: ما دل على الأخذ بما وافق الاحتياط و ردّه

و فيه: مضافا إلى معارضته بالمقبولة و غيرها، و إلى أنه قد يكون المورد مما لا يمكن فيه الاحتياط، و إلى أنه خلاف المشهور، و خلاف سهولة الشريعة، أنه إرشاد إلى حسنه و لا يستفاد منه أكثر من ذلك، فليس فيه أيضا ما يخالف بناء العقلاء و سيرتهم.

و منها: ما يدل على التخيير - و الجواب عنه

و هي عدة روايات يأتي بعضها - ففي مرسل الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد عليه»، و في مرسله الآخر عن الرضا عليه السّلام:

«قلت: يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ، فقال عليه السّلام: إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».

و فيه: أن التخيير بحسب المرتكزات إنما هو في مورد التحير المطلق، و هو منتف مع المرجح، فتختص بصورة فقد المرجح، فلا تشمل مورد تحقق الترجيح و لهذه القرينة الارتكازية المحفوفة بها، فلا إطلاق لها حتى يعارض بها المقبولة و نحوها مما يدل على الترجيح. فلا وجه لحمل ما يدل على الترجيح على الندب.

ص: 177

و منها: مقبولة عمر به حنظلة الاشكال عليها و الجواب عنه

المقبولة: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعه في دين أو ميراث فتحاكما إلى السّلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال عليه السّلام: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت و إنّما أمر اللّه أن يكفر به. قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. قلت: فكيف يصنعان؟ قال عليه السّلام: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ و علينا قد ردّ. و الراد علينا الراد على اللّه، و هو على حدّ الشرك باللّه.

قلت: فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا في ما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال عليه السّلام: الحكم ما حكم به أعدلهما، و أفقههما، و أصدقهما في الحديث، و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ فقال عليه السّلام: ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكمنا به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا و يترك الشّاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه مما لا ريب فيه - إلى أن قال - قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقات عنكم؟ قال عليه السّلام: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السّنّة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السّنّة و وافق العامة. قلت: جعلت فداك أ رأيت إن كان

ص: 178

الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السّنّة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال عليه السّلام: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ فقال عليه السّلام: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكّامهم الخبران جميعا؟ قال عليه السّلام: إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

و الظاهر أنه لا إشكال في هذه المقبولة من حيث السند، فإنه قد يحصل الوثوق بصدورها من قرائن، كوقوع صفوان بن يحيى في الطريق، و اعتناء المشايخ الأجلاء - من المحدثين و الفقهاء في كل طبقة - بها ضبطا و عملا و بحثا، و قول الصادق عليه السّلام في ما ورد في الأوقات عن عمر بن حنظلة: «إنّه لا يكذب علينا» إلى غير ذلك مما يمكن استفادة توثيقه، كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال، فلا إشكال فيها من هذه الجهة.

نعم، قد أشكل عليها بوجوه:

منها: أنها في مورد الحكومة فلا تشمل غيرها.

و فيه: أنها ظاهرة؛ بل ناصّة في أن المدار على منشأ الحكم و دليله، لا أن يكون لنفس الحكم من حيث هو موضوعية خاصة، و لا فرق حينئذ بين كون الدليل دليلا للحكم أو للفتوى، فتشمل جميع الأحاديث المتعارضة الصالحة للدليلية مطلقا.

و منها: معارضتها بمرفوعة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام فقلت له:

جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران و الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السّلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال عليه السّلام: خذ بما يقول أعدلهما

ص: 179

عندك و أوثقهما في نفسك. فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال عليه السّلام:

انظر ما وافق منهما العامة فاتركه، و خذ بما خالف، فإن الحق في ما خالفهم.

قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين، فكيف أصنع؟ قال عليه السّلام: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك و اترك الآخر. قلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال عليه السّلام: إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر»، و في هذه المرفوعة ذكرت الشهرة أول المرجحات بخلاف المقبولة، حيث ذكرت فيها بعد صفات الراوي، مع أن سيرة العلماء على تقديم الترجيح بالشهرة على سائر المرجحات مطلقا.

و فيه: أن أول المرجحات الخبرية الشهرة، نصا و فتوى، و في المقبولة ذكرت في أول المرجحات الخبرية أيضا، و إنما ذكرت الصفات للحاكم من حيث أنه حاكم لذكر منصب الحكومة في صدر المقبولة، لا للخبر المتعارض من حيث أنه خبر متعارض، بل ظاهر قوله عليه السّلام: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما...» ذلك، كما أن ظاهر قوله عليه السّلام: «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه..» أن الشهرة أول المرجحات الخبرية، فلا تنافي بين المقبولة و المرفوعة و ما استقر عليه عمل المشهور من تقديم الشهرة على جميع المرجحات.

و قد أرسل صاحب الجواهر في كتاب الكفارات إرسال المسلّمات أن الشهرة أقوى المرجحات، و لا يخفى أن المرفوعة غير مسبوقة بذكر الحكومة، فلا بد أن تذكر الشهرة أولا بخلاف المقبولة المسبوقة بها، فإنه لا بد من الإشارة إجمالا إلى مرجحات الحاكم ثم بيان مرجحات مدرك حكمه.

و منها: اختصاص المقبولة بزمان الحضور، لما ذكر في ذيلها: «فأرجئه حتى تلقى إمامك».

و فيه: أن التعبيرات مختلفة، ففي المقبولة: «حتّى تلقى إمامك»، و في موثّق

ص: 180

سماعة: «حتّى يلقي من يخبره»، و في خبر آخر: «حتّى يأتيكم البيان من عندنا»، و في خبر آخر: «حتّى ترى القائم فترد إليه».

و يستفاد من الكل أنه ليس لملاقاة الإمام عليه السّلام، و رؤية القائم موضوعية خاصة، بل المناط كله الوصول إلى الحجّة المعتبرة الصادرة عن المعصوم.

و بعد التأمل في جميع الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السّلام ورد مشابهاتها إلى محكماتها، يعلم أن الحجة المعتبرة عندهم إنما هي التخيير بعد التكافؤ من جميع الجهات.

و الحاصل: أنه لم يزد ما صدر عنهم عليهم السّلام في حكم التعارض على ما ارتكز في العقول من العمل بالراجح ثم التخيير، بل جميع ما صدر إرشاد إلى الفطرة وداع إليها.

ثم إنه قد ذكر في المرجحات في المقبولة الأصدقية، و لا وجه لها بالنسبة إلى نفس مطابقة الواقع، لأنها تتصف بالوجود و العدم، و لا تقبل الشدة و الضعف حتى يتحقق فيها التفضيل.

نعم، يصح التفضيل بالنسبة إلى جهة اخرى بأن يكون أحد الراويين يصدر منه الكذب الجائز شرعا أحيانا، و الآخر لا يصدر منه حتى ذلك. فتدبر.

و لا بد من بيان امور:
الأول: انواع المرجحات المذكورة فى المقبولة، الاشكال عليها و الجواب عنه المراد من مخالفة العامة

المرجحات المذكورة في المقبولة أنواع ثلاثة: سندية، و مضمونية، و جهتية.

و الأول، كالأعدلية، و الأصدقية، و كون الخبر مشهورا.

و الثاني كموافقة الكتاب و السنّة.

و الثالث كمخالفة العامة، و مقتضى ذكرها في سياق موافقة الكتاب كونها من المرجحات المضمونية أيضا، فينطبق عليها المرجح المضموني و الجهتي معا، و لا محذور فيه.

ص: 181

و بحسب الأفراد ثمانية: 1 - الأعدلية. 2 - الأفقهية - 3 - الأصدقية. 4 - الأورعية. 5 - الشهرة. 6 - موافقة الكتاب. 7 - موافقة السنة. 8 - مخالفة العامة.

و جميعها مذكورة في المقبولة.

ثم إن الظاهر أن المرجحات في المتعارضات العرفية الدائرة بينهم تنحصر في هذه الثلاثة أيضا، إلا أن المرجح المضموني عبارة عن موافقة أحد المتعارضين لما كان معتبرا لديهم بحسب متعارفهم من القوانين المعتبرة لديهم، خالقية كانت أو خلقية، فكما أن أصل الترجيح في المتعارضين في الجملة عقلائي، كذلك يكون نوع الترجيح أيضا.

و مقتضى السيرة أن الشهرة أقوى المرجحات، و قد صرح بذلك صاحب الجواهر في أول كتاب الكفارات، كما عرفت.

ثم إنه قد يقال: إن الشهرة، و مخالفة العامة، و موافقة الكتاب لا يمكن إلا أن تكون لتمييز الحجة عن غير الحجة، لأن الشاذ و موافق العامة و مخالف الكتاب، ساقط عن الاعتبار بالمرة، فلا وجه لعدها من المرجحات.

و فيه: أنه ليس الترجيح باعتبار الحجية الفعلية من كل جهة في كل واحد من المتعارضين، لعدم تصورها كذلك فيها. بل معناه جعل الحجة الاقتضائية فعليا، و لا ريب في صحة ذلك، لفرض اعتبار السند فيهما.

و بعبارة اخرى: الترجيح ابداء المانع عن الحجية، لا إسقاط المقتضي لها، و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن قال بكونها من المرجحات، أي لما فيه اقتضاء الحجية، و من قال بالعدم، أي في مقام الحجية الفعلية من كل جهة.

ثم إنه لا يخفى أن المعصوم عليه السّلام داع إلى كتاب اللّه تعالى و مفسّر و مبين له، و الداعي إلى الشيء و المفسر و المبين له لا يعقل أن يكون مخالفا له و مباينا معه، فعدم صدور مخالف الكتاب من المعصوم عليه السّلام من الفطريات التي تلازم دعوته إلى الكتاب و ليس من التعبديات، كما أن الأخذ بمخالف العامة أيضا كذلك، لأن

ص: 182

أهل كل مذهب و ملة - حقا كان أو باطلا - لا يقدمون على أخذ شيء من أحكام مذهبهم من المذهب المخالف لهم إلا إذا ثبت الاتحاد فيه بالدليل المعتبر، و هذا أيضا في الجملة من الفطريات، و أوجب الشارع ذلك أيضا احتفاظا على المذهب الحق أن تتدخل فيه المذاهب الفاسدة. و قد احتمل فيه وجوه أخر:

منها: أنه لأجل التعبد المحض.

و فيه: ما لا يخفى.

و منها: أن لنفس المخالفة من حيث هي موضوعية خاصة.

و فيه: أنه إن رجع إلى ما قلناه فهو، و إلا فيحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و منها: أن الصواب في خلافهم، و هو حق في الجملة.

و منها: أن الموافق صدر تقية.

و فيه: أنه يرجع إلى ما قبله.

و منها: أنه لأجل إلقاء الخلاف و إن كان الموافق أقرب إلى الواقع، و يشهد له صحيح زرارة حيث قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم النّاس علينا و لكان أقل لبقائنا و بقائكم»، و في خبر أبي خديجة: «لو صلّوا على وقت واحد عرفوا فأخذوا برقابهم»، و هذا وجه حسن جدا، كما لا يخفى على من تأمل في حالاتهم عليهم السّلام و ما ورد عنهم. و قد ذكر غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المبسوطة.

و لا يخفى أن طرح الموافق عند التعارض لا ينافي وجوب الأخذ به أحيانا للتقية، لأن كلا من الطرح و الأخذ جهتي، لا أن يكون مطلقا.

الثاني: المراد من موافقة الكتاب

قد عرفت أن موافقة الكتاب من المرجحات، و المنساق منها ما إذا كان الحكم في الكتاب و كان موافقا له، و يمكن حملها على عدم المخالفة - كما في بعض الأخبار الأخر - ثم حمل عدم المخالفة على عدم المخالفة و لو على نحو السالبة بانتفاء الموضوع، فيصير عدم المخالفة حينئذ أوسع دائرة من

ص: 183

الموافقة، كما هو معلوم.

و لا ريب أن في الكتاب الكريم مبينات و متشابهات، و المراد بالمخالف له ما كان مخالفا لمبيناته لا المجملات، لأنها ذات وجوه يستدل بها كل من المذاهب الإسلامية لمذهبه، و كما أن المراد بالمخالفة ما تحير أبناء المحاورة في الجمع بينهما، لا ما أمكن الجمع عرفا، كالمطلق و المقيد، و العموم و الخصوص و نحوهما.

و المراد بالسنّة أيضا ذلك، أي السنّة المبينة التي علم صدورها من النبي صلّى اللّه عليه و آله فهي التي لم يصدر من المعصومين عليهم السّلام خلافها بالمعنى الذي تقدم.

و الظاهر أن المراد بمبينات الكتاب التي لم يصدر منهم عليهم السّلام ما يخالفها أعم مما كان مبينا بذاته أو بواسطة السنّة النبوية، و لذا ذكرت السنّة أيضا في قولهم عليهم السّلام: «يترك ما خالف الكتاب و السنّة».

و الوجه في ذلك كله أن الداعي إلى الشيء و الحافظ له لا يخالفه و لا ينافيه، كما هو واضح لا ريب فيه، فالمراد بالكتاب الكتاب المبين بذاته، أو المشروحة بالسنّة المعتبرة.

الثالث: هل يمكن التعدى من المرجحات المنصوصة الى كل ما يحصل به الاطمئنان؟ الدليل على ذلك

وقع الكلام في أن المرجحات المنصوصة هل تكون لها موضوعية خاصة - فلا يصح التعدي إلى غيرها - أو إنها ذكرت لأجل كونها موجبة للاطمئنان بالصدور غالبا، فيتعدى إلى كل ما كان كذلك؟ أقواهما الأخير، لأن اعتبار نفس الأمارة من حيث الطريقية المحضة فتكون المرجحات أيضا كذلك، فكلما يوجب الاطمئنان العقلائي بالصدور يوجب الترجيح ما لم يردع عنه الشرع، هذا مع أنه لا وجه للتمسك بإطلاقات التخيير مع موجود محتمل الترجيح، لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية.

و أما الاستدلال على التعدي بقوله عليه السّلام: «الرشد في خلافهم» فإن إطلاقه يدل على أخذ كل ما كان فيه الرشد بالنسبة، و بقوله عليه السّلام: «فإنّ المجمع عليه ممّا

ص: 184

لا ريب فيه»، إذ ليس المراد مما لا ريب فيه مطلقا صدورا و دلالة و جهة، فإنه مختص بالنصوص القرآنية، بل المراد ما لا ريب فيه بالإضافة، فكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، يكون له ترجيح بالنسبة إليه.

فهو مخدوش: لعدم دلالته في الكلام على أن قوله عليه السّلام: «الرشد في خلافهم»، و قوله عليه السّلام: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» من العلة التامة المنحصرة المستقلة للحكم، و من الممكن، بل الظاهر أنه من قبيل بيان الحكمة، و الشك في ذلك يكفي في عدم استفادة العلية التامة المنحصرة حتى يدل على صحة التعدي، مع أنه يمكن أن يكون المراد بقوله عليه السّلام: «المجمع عليه لا ريب فيه» أي عند الناس لا بالنسبة إلى الواقع، فإن الناس مجبولون على الأخذ بالمشهور لديهم مطلقا.

ثم إنه قد ذكر صاحب الوسائل في الفائدة الثامنة من خاتمة الوسائل امورا يمكن منها حصول الوثوق بالصدور، فراجع فإن جملة منها مما لا بأس به.

و يشهد له قول الصادق عليه السّلام لجميل بن دراج: «لا تحدّث أصحابنا بما لم يجمعوا عليه فيكذّبوك»، و قول الرضا عليه السّلام ليونس بن عبد الرحمن: «يا يونس حدّث الناس بما يعرفون و اتركهم عمّا لا يعرفون»، و تشهد له التجربة القطعية أيضا، و من مثل هذه الأخبار يمكن استفادة صحة التعدي.

الرابع: سقوط الترتيب بين المرجحات المنصوصة بناء على التعدى، الجواب هما ورد من الاشكال

بناء على ما تقدم من أن المرجحات لا موضوعية فيها، بل تكون طريقا إلى الوثوق بالصدور و الوصول إلى الواقع، لا يبقى موضوع للبحث عن الترتيب بينها، لفرض تحقق مناط الترجيح في الجميع، مع أن مقتضى الأصل عدم الترتيب أيضا، و لا دليل على الخلاف إلا ما يتوهم من ذكرها مرتبة في المقبولة.

و فيه: أن الترتيب الذكري أعم من الواقعي، مع أنها مذكورة في سائر الأخبار غير مرتبة و سياقها آب عن التخصيص.

ص: 185

إن قيل: إن مع وجودها في المتعارضين بلا ترتب يشك في شمول إطلاق أدلة التخيير، فلا بد من مراعاة الترتيب.

نقول: لا وجه للشك مع إحراز اتحاد المناط و إطلاقات الأدلة في المرجحات الآبية عن التقييد، و كون الترتيب في المقبولة لفظيا لا واقعيا.

نعم، المشهور بين الفقهاء فتوى و عملا أن الشهرة أقوى المرجحات، فلا يبقى مجال معها لإعمال سائر المرجحات، كما لا موضوع معها لإطلاق أدلة التخيير، و يشهد له العرف أيضا، فإن الظاهر أنهم يقدمون الشهرة الاستنادية في أمورهم المعاشية و المعادية على سائر المرجحات في موارد التعارض.

الخامس: اقسام الشهرة

الشهرة تارة: استنادية، بأن احرز استناد القدماء إلى الرواية لاعتمادهم عليها في الاحتجاج و العمل بها.

و اخرى: نقلية، بأن كانت مضبوطة في الجوامع و المجامع من غير إحراز استنادهم إليها في العمل و الاحتجاج.

و ثالثة: فتوائية محضة، بأن اشتهرت الفتوى بشيء عند القدماء قدس سرّهم مطابقة للرواية من غير إحراز استنادهم إليها.

و تحقق الاولى بالنسبة إلى خبر ضعيف جابرة لضعفه، لأن جمعا من خبراء الفن إذا اعتمدوا على شيء من فنهم و احتجوا به لا محالة يحصل من ذلك الاطمئنان العقلائي باعتبار ذلك الشيء. كما أن إعراضهم كذلك عن خبر صحيح موهن له، لأن إعراض الخبراء عما هو صحيح يكشف عن ظفرهم بما يوجب الوهن.

و الثانية: قد تكون من المرجحات و قد لا تكون، و لا كلية في ذلك.

كما أن الثالثة أيضا كذلك، و سيأتي بعض القول في حجية الظن إن شاء اللّه تعالى.

و المناط في كل ذلك حصول الوثوق و الاطمئنان بالصدور، و هو دائمي

ص: 186

في الشهرة الاستنادية، و اتفاقي في الأخيرتين.

السادس: معاملة المرجح من الظن ان لم يقم دليل على اعتباره و لا على عدم اعتباره

الظن إن قام على اعتباره الدليل يصلح للترجيح، و إن قام على عدم اعتباره دليلا فلا يصح عليه التعويل، و إن لم يكن من الأول و لا من الأخير فقد جرت سيرة الفقهاء على معاملة المرجح معه أيضا، فتراهم يقولون: «عليه الأكثر»، و «عليه جمع من القدماء»، و «كما عليه الشهيدان و المحققان» إلى غير ذلك من التعبيرات الكثيرة الموجبة للاعتماد.

و لعل الوجه في ذلك أنه مع وجود هذه الظنون يحصل الشك في شمول إطلاقات أدلة التخيير، فلا يصح التمسك بها حينئذ مع ثبوت ملاك سائر المرجحات فيها، و هو حصول الاطمئنان في الجملة، بل قد جرت عادة الفقهاء على عدّ الموافقة للأصل من المرجحات، فراجع الجواهر و غيره.

حكم المتعارضين بعد التكافؤ
اشارة

لا يخفى أنه كما أن حجية أصل الخبر الموثوق به إنما هو ببناء العقلاء كذلك متممات الحجية و فروعها أيضا تكون ببناء العقلاء، فإن التعارض و أحكامه من لوازم الحجة الموجودة بين العقلاء و الدائرة بينهم، و لا يمكن أن يكون هذا الأصل النظامي دائرا بينهم بينما تكون لوازمها و فروعها مغفولا عنها لديهم، مع كونها من مقومات محاوراتهم و احتجاجاتهم، و قد تقدم أن الأنواع الثلاثة للمرجحات ثابتة عند المتعارف أيضا في محاوراتهم الشائعة لديهم، و لا بد و أن يبحث عن حكم المتعارضين بعد التكافؤ من جميع الجهات عند العقلاء، و أنه بعد استقرار الحيرة لديهم هل يختارون الاحتياط في العمل إن أمكن، أو يتوقفون عنه مطلقا، أو أنهم يرجعون إلى التخيير بحكم فطرتهم؟

اقسام التخيير
اشار الى امور
أما الأول: عدم اختصاص التخيير بزمان الغيبة بناء على كونه عقليا الكلام فى ذلك

فهو و إن كان حسنا ثبوتا و لكنه خلاف البناء المحاوري النوعي في الطرق المعتبرة لديهم و الحجج الدائرة بينهم، مع أنه تشديد في الأمر الذي

ص: 187

التحير و عدم إمكان رفعه، و على هذا لا وجه لإتعاب النفس في ملاحظة النسبة بين الأخبار الدالة على التخيير و سائر الأخبار الواردة في حكم المتعارضين، لأنه مع استقرار التحير و عدم إمكان رفعه عرفا يثبت التخيير، سواء كان عقلائيا أو شرعيا، و سواء كان في زمان الحضور أو زمان الغيبة. و مع عدم استقراره و إمكان رفعه عرفا لا موضوع له أصلا، بلا فرق بين الزمانين، و لا بين كونه عقلائيا أو شرعيا.

الثاني: التخيير لا يكون إلاّ بعد الفحص عن المرجحات و الياس عنها

لا موضوع للتخيير مطلقا إلا بعد الفحص عن المرجحات و اليأس عنها، لأن موضوعه إنما هو قبح الترجيح بلا مرجح، فمع وجوده أو احتماله لا موضوع له لا عقلا و لا شرعا.

الثالث: اختصاص موضوع التخيير بالمجتهد

موضوع هذا التخيير - سواء كان عقلائيا أو شرعيا - إنما هو في أخذ الحجة أي المسألة الاصولية، فيختص بالمجتهد، إذ العامي بمعزل عن ذلك، و لا يكون استمراريا، لأنه بعد الأخذ بأحدهما يصير ذا حجة معتبرة فلا يبقى موضوع للتخيير حينئذ، كما لا وجه لاستصحاب التخيير بعد صيرورته ذا حجة معتبرة.

الرابع: الجواب عما يتوهم من حمل اخبار الترجيح على الاستحباب و الاخذ باطلاق اخبار التخيير

بعد كون موضوع التخيير مطلقا - إنما هو صورة فقد المرجح - لا وجه لتوهم حمل أخبار الترجيح على الاستحباب، و الأخذ بإطلاق أخبار التخيير، لأنه من إثبات الإطلاق في ما لا موضوع له، و هو قبيح. نعم، يمكن أن يقال: إن مجرد الوثوق بالصدور في كل واحد من المتعارضين يكفي في الحجية، لإطلاق أدلة اعتبار الخبر الموثوق به و إطلاق السيرة العقلائية، فيتحقق موضوع التخيير بمجرد الحجة الاقتضائية و إعمال المرجحات إن كان لزيادة الوثوق فلا دليل على أصل اعتباره، لفرض حصول أصل الوثوق في الجملة. و إن كان لجهة اخرى فهي مدفوعة بالأصل. و لعل نظر من حمل المرجحات على الندب إلى ذلك و إن كان بعيدا عن ظاهر كلماتهم، و لم أجد ما ذكرناه محررا في كلامهم فراجع.

ص: 188

يكون أصله مبنيا على التسهيل و التيسير، لأن هذه كلها من فروع اعتبار الخبر الموثوق به الذي هو من أهم الامور النظامية التسهيلية.

و كذا الثاني مع أنه قد يؤدي إلى اختلال النظام لديهم، مضافا إلى أنه قد لا يكون المورد قابلا للتوقف بل لا بد من العمل به في الجملة فيتعين الأخير، فيكون التخيير أيضا في تعارض الحجج المعتبرة بعد التكافؤ و استقرار الحيرة من الاصول النظامية الدائرة لديهم في محاوراتهم عند تحقق الحيرة المستقرة.

و الأخبار الواردة في التخيير عند الحيرة المستقرة وردت على طبق هذا الأمر المرتكز في الأذهان بحكم فطرة الإنسان فلا يكون من الامور التعبدية، و ما ورد من الشارع إنما هو لأجل التقرير و عدم الردع عن هذه الطريقة المعهودة المرتكزة عند العرف.

فالتخيير إما تكويني محض، كما في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم كون أحدهما قربيا. أو عقلائي، كما في نظائر المقام. أو شرعي، كما في خصال الكفارات مثلا. و على هذا لا اختصاص له بخصوص تعارض الروايات، بل يشمل جميع موارد التعارض، سواء كان فيها، أو في أقوال الرجال، و أهل اللغة أو غيرها.

نعم، بناء على كون التخيير في المقام شرعيا محضا لاختص بخصوص مورد الأخبار المتعارضة، لاختصاص أدلة التعارض بها، و لكن عرفت أنها وردت في مقام عدم الردع عن طريقة العقلاء، فلا وجه للاختصاص، و لذا يمكن القول بشموله لموارد اختلاف النسخ و اختلاف النقل أيضا بعد التكافؤ المطلق و التحير المستقر.

و ينبغي الإشارة إلى امور:

الأول: بناء على كون التخيير عقلائيا لا يختص بزمان الغيبة، بل يشمل زمان الحضور أيضا بعد عدم قدرته عليه السّلام ظاهرا على رفع التحير، إما لعدم المقتضي أو لوجود المانع، بل و كذا لو كان تعبدا من الأخبار لفرض استقرار

ص: 189

موضوع حكم التعارض

يختص حكم التعارض - من الترجيح، ثم التخيير - بالمتباينين فقط و لا وجه له في العام و الخاص، و لا المطلق و المقيد، لتحقق الجمع العرفي المقبول فيهما، بل تقدم عدم كونهما من التعارض في المحاورات أصلا، فيخرجان عنه تخصصا.

و كذا موارد العموم من وجه، لأن المتفاهم من أدلة حكم التعارض ما إذا لم يمكن الأخذ بالدليلين في الجملة، و هو ممكن في مورد الافتراق من الدليلين، بل و كذا في مورد الاجتماع أيضا، لأن المنساق من دليل حكم التعارض - ترجيحا أو تخييرا - إنما هو في ما إذا لزم من الطرح و الرجوع إلى الأصل محذور شرعي، و لا يلزم ذلك في مورد الاجتماع من العامين من وجه، بل الشائع في المحاورات هو الطرح، و لا محذور فيه إلا لزوم التفكيك في العمل بمدلول الدليل و لا إشكال فيه، بل هو كثير في الفقه، كما لا يخفى.

حكم التعارض إن كان بين أكثر من دليلين

التعارض بين أكثر من الدليلين كثير في الفقه، كما في تحديد الكر، و انفعال البئر، و حكم السلام المخرج عن الصلاة، و حكم الركعتين الأخيرتين من الرباعيات من حيث القراءة و التسبيحات، و حكم ذبيحة الكتابي، و حكم أكثر النفاس إلى غير ذلك مما لا يستقصى. و لا تضبطها ضابطة كلية حتى تذكر في الاصول، و يختلف حكمها حسب اختلاف الأبواب و الموارد، و قد يضطرب في بعض موارده الخبير الماهر.

قال في الجواهر في بحث السلام: «و يكفيك أن الشهيد مع شدة تبحره

ص: 190

و حسن وصوله إلى المطالب الغامضة قد اضطرب عليه المقام، كما لا يخفى على كل ناظر للذكرى...».

التعرض لبعض صور التعارض بين الادلة، و هى كثيرة

ثم إنه قد تعرض الاصوليون لبعض صور التعارض بين الأدلة:

منها: ما إذا ورد عام، كأكرم العلماء، و خاصان بينهما التباين، كلا تكرم الكوفيين منهم و لا تكرم البصريين منهم. و حكمه تخصيص الخاص بكل واحد من الخاصين ما لم يكن محذور في البين من التخصيص المستهجن و نحوه، و إلا فيعامل معاملة التعارض بين العام و مجموع الخاصين، و يؤخذ بالأرجح منهما في البين، و مع فقده فالتخيير.

و منها: ما إذا ورد عام و خاصان، و كان بينهما العموم المطلق، كأكرم العلماء و لا تكرم العراقيين، و لا تكرم الكوفيين. و حكمه كالقسم الأول، كما هو الظاهر من المحاورات.

و ما يقال: من تخصيص العام بأخص الخاصين ثم ملاحظة النسبة بينه و بين الخاص الآخر، لا شاهد عليه من عرف أو عقل أو شرع، و كونه القدر المتيقن من التخصيص، لا يوجب الظهور في التخصيص به أو لا. نعم، لو كانا متصلين بالعام يصادم الظهور في العموم، و حينئذ يكون التعارض بين الدليلين لا أكثر، فيخرج عن مورد البحث.

و دعوى: أنه مع ملاحظة التخصيص بأخص الخاصين قد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه، فلا بد من ملاحظة النسبة المنقلب إليها.

و هذه الدعوى فاسدة: لأن المدار في النسب الملحوظة في الظواهر، النسبة الظاهرة الأولية المنساقة من ظاهر الكلام، لا المنقلبة إليها بعد التخصيص.

و منها: ما إذا ورد عام و خاصان بينهما العموم من وجه، كأكرم العلماء و لا تكرم النحاة، و لا تكرم الصرفيين. و ظاهرهم الاتفاق على تخصيص العام بكل منهما ما لم يلزم محذور في البين.

ص: 191

و منها: ما إذا ورد عامان من وجه، ثم ورد دليل آخر لإخراج مورد افتراق أحد العامين، مثل أكرم النحويين، و لا تكرم الصرفيين، و بعد ذلك قال: يستحب إكرام النحوي غير الصرفي. فتنقلب النسبة إلى العموم المطلق، إذ يصير مفادهما هكذا: أكرم النحويين و لا تكرم النحوي الصرفي، فيعمل معه معاملة المطلق و المقيد.

و منها: ما إذا كان بينهما التباين، كأكرم العلماء و لا تكرم العلماء، ثم ورد دليل آخر على إخراج العدول من لا تكرم العلماء، فتنقلب إلى العموم المطلق، إذ يصير مفادهما أكرم العلماء و لا تكرم فساقهم، و الحكم في الجميع تخصيص العام بتمام المخصصات ما لم يلزم محذور التخصيص القبيح، بلا فرق بين ورودها في عرض واحد أو متقدما و متأخرا. هذا بعض ما يتعلق بالمقام و التفصيل يطلب من الفقه في المواضع المناسبة.

ثم إنه لا يخفى أنه لا فرق في الأحكام العامة للتعارض بينهما إذا كان التعارض بين الدليلين أو أكثر، فيجري جميع ما تقدم في المقام أيضا.

ص: 192

المقصد الثاني الملازمات العقلية

اشارة

ص: 193

ص: 194

و هي على قسمين:

تمهيد

اشارة

اتفق العقلاء على أن العقل أعلى الكمالات الإمكانية، و أغلى الجواهر الروحانية، و عليه يدور نظام المعاش و المعاد، و على ذلك أجمعت الشرائع الإلهية. و من المعلوم أنه ليس كل عقل له حظ للإصابة إلى الواقع، كما أنه ليس كل واقع يمكن أن يدرك بالعقول، فكم من واقع مستور و كم من عقل أليف الضعف و القصور و إن بذل غاية الجهد و نهاية الوسع، و في العيان و الوجدان في ذلك غنى عن إقامة البرهان، و من ذلك حصلت الاختلافات الكثيرة في العلوم مطلقا.

ثم إن ما يتعلق بمباحث العقل كثير جدا، و الذي يبحث عنه في الفقه و الاصول أربعة:

المبحث الأول: أنه مناط التكليف

، فلا تكليف بدونه، و عليه يدور الثواب و العقاب، و تدل عليه الأدلة الأربعة، كما فصّل في محله. و هذا يذكر في الفقه، كما يذكر في فني الحكمة و الكلام، و في كتاب العقل و الجهل من كتب الأحاديث، كالكافي و غيره.

المبحث الثاني: الملازمة بين حكم العقل المستقل و بين حكم الشرع

، و عبّروا عنها ب (قاعدة الملازمة) و هي من القواعد الهامة التي تعرضوا لها في الكلام و الحكمة و الاصول.

و هي تعني أنه كل ما حكم به الشرع يحكم به العقل، و هذه القاعدة قديمة

ص: 195

جدا، بل كانت في قديم الأزمان معتقد بعض أعاظم حكماء يونان، و تظهر من كلمات بعض أهل العرفان، حيث يقولون: إن العقل شرع داخلي و الشرع عقل خارجي، و لا فرق بينهما في حاق الواقع، فلو تجسّم العقل لكان بصورة النبي، كما لو تجرد النبي لصار العقل بعينه؛ بلا فرق بينهما إلا باختلاف النشأة و العالم، و لهذا بحث طويل عريض جدا، و سنشير إلى بعض ما يتعلق بهذه القاعدة في مباحث حجية الحجج إن شاء اللّه تعالى، و ليس المقام مناسبا لذكرها، لأن المقام يبحث فيه - كما أشرنا إليه - عن صغريات الحجة، و قاعدة الملازمة لا بد و أن تذكر في كبراها.

و أما أن العقل شرع من الداخل، و الشرع عقل من الخارج فهو صحيح في الجملة، كما ورد فيه الحديث.

المبحث الثالث: الملازمات العقلية غير المستقلة

، أي: حكم العقل المتوقف على شيء خارج عن حكمه. مثل الملازمة بين وجوب المقدمة و ذيها، إذ لو لا وجوب المقدمة في الخارج لما حكم العقل بهذه الملازمة، و أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء، إذ لو لا وجود المأمور به في الخارج، لا موضوع لحكم العقل بذلك.

و الملازمات غير المستقلة كثيرة، لأن الفقه مبني على الاستظهارات الصحيحة و الاستنباطات الحسنة، و هذه تتوقف على الذوق السليم و الذهن المستقيم، و هما من أهم أجنحة العقل الذي يطير بهما في العلوم مطلقا، و إنما نتعرض هنا لبعض مهماتها، و لا اختصاص لها بصناعة الاصول، بل كل علم و فن و صنعة تكون لها جهات خارجية تجري فيها الملازمات العقلية غير المستقلة.

المبحث الرابع: بناء العقلاء و سيرتهم

، و قد جرت سيرة العلماء على التمسك بهما، و هما من أهم الامور النظامية ما لم تردع عنه الشريعة الإلهية، و قد بنينا جملة كثيرة من الفروع خصوصا في المعاملات عليهما، فليراجع كتابنا في

ص: 196

الفقه.

ثم إن الملازمات العقلية غير المستقلة عبارة عما إذا كان طرفا الملازمة من غير العقل، و لكن الحاكم بها إنما هو العقل. بخلاف الملازمات المستقلة، فإن طرفي الملازمة و الحكم بها من مدركات العقل من دون توقف على صدور حكم من الشارع، كقاعدة التحسين و التقبيح العقليين، و وجوب شكر المنعم، و تبحث عنهما في علم الكلام و قاعدة الملازمة بين حكم الشرع و حكم العقل، و سيأتي البحث عنها في بحث الحجج.

أما الملازمات العقلية غير المستقلة فهي كثيرة، و عمدتها في فن الاصول امور:

اشارة

ص: 197

الامر الأول: الإجزاء
اشارة

إذا ورد ذكر من الأمر و تحقق امتثال من المأمور به كما قرره و جعله الآمر، فالعقل يحكم بالملازمة بين امتثال المأمور به على ما قرره الآمر و سقوط الأمر به، و هذا البحث - في الجملة - من صغريات المسألة المبرهن عليها في العلوم العقلية: من استحالة تخلّف المعلول عن العلة التامة المنحصرة، على ما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

تمهيد فيه امور:
الأول: لا ربط لهذا البحث بمبحث المرة و التكرار

الذي تقدّم البحث عنه، و لا بمبحث تبعية القضاء للأداء و عدمه الذي يبحث عنه في علم الفقه، لأن البحث فيهما إنما هو في مقام بيان أصل المأمور به و تعيين حدوده و قيوده شرعا بحسب الثبوت و مقام التشريع، و البحث في المقام في أنه بعد ثبوته بحدوده و قيوده شرعا هل يكون امتثاله موجبا لسقوطه أو لا؟ فلا ربط له بهما.

الثاني: الاستغناء عن كلمة (على وجهه) الواردة فى عنوان البحث

قد ذكر القوم في عنوان البحث: «الإتيان بالمأمور به على وجهه»، و أطالوا القول في بيان معنى الوجه - كما هي عادتهم في غالب الموارد - و نحن في غنىّ عن ذلك بعد إسقاط هذا اللفظ لعدم الفائدة فيه رأسا، و أبدلنا عنه بقولنا:

«كما قرره و جعله الآمر» بالمعنى الأعم من التقرير و الجعل حتى يشمل المجعولات الثانوية التسهيلية المتممة للجعل الأولى.

الثالث: هذا البحث يشمل الامر الواقعي و الاضطراري و الظاهري و الاعتقادي

الأمر إما واقعي، أو اضطراري و يعبّر عنه بالواقعي الثانوي أيضا، أو ظاهري يكون مفاد الأمارات و الاصول و القواعد المعتبرة، أو اعتقادي، و مورد البحث يشمل جميع هذه الأقسام الأربعة.

ص: 198

الرابع: المراد بالامتثال

بما له من العرض العريض، لا سيما في الصلاة و الحج لكثرة ما ورد من التسهيلات الامتنانية فيهما. و سقوط الأمر به أعم من القبول، لأنه عن القبول موانع كثيرة، كما له مراتب كثيرة، و بعض مراتبه ملازم لسقوط الأمر، و إن كان بعض مراتبه الاخرى ملازما للتقوى، فلا يختلط القبول بسقوط الأمر بالامتثال. إذا عرفت ذلك فنقول:

إن البحث في مسألة الإجزاء من جهات:
الجهة الاولى: في سقوط كل أمر بالنسبة إلى امتثاله

، كسقوط الأمر الواقعي عند امتثاله، و سقوط الأمر الظاهري عند امتثاله، و سقوط الأمر الاضطراري مع امتثاله، و سقوط الأمر الاعتقادي عند امتثاله، و هذا السقوط واضح لا ريب فيه، لأن الامتثال مطابقا للوظيفة المقررة فيه علة تامة لحصول الغرض، و هو داعوية الأمر للامتثال، و الداعوية وجدانية، و مطابقة المأتي به للمأمور به كذلك أيضا فلا بد من سقوط أمره، لأن فرض عدم السقوط إما لأجل عدم تحقق الداعوية، أو لأجل عدم مطابقة المأتي للمأمور به؛ أو لأجل دخل شيء آخر في السقوط.

و الكل خلف الفرض، أو لأجل الشك في القبول، و قد مر أنه أعم من الامتثال و سقوط الأمر، فيتعين أن يكون امتثال الأمر الواقعي مسقطا لأمره، فلا يبقى موضوع للامتثال بداعي الأمر بعد ذلك لسقوط الأمر.

و أما الامتثال بدواع صحيحة اخرى فلا بأس به رجاء للأصل، بل قد يكون راجحا إذ انطبق عليه عنوان حسن شرعا، و قد ورد في الصلاة المعادة: «إنّ اللّه تعالى يختار أحبّهما إليه»، و قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ.

و إذا انطبق عنوان المجاهدة في اللّه على الاتيان ثانيا يصير راجحا قهرا ما لم يكن من الوسوسة. و لا فرق في هذه الجهة بين الأوامر الواقعية و الاضطرارية و الظاهرية و الاعتقادية.

ص: 199

الجهة الثانية: في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن التكليف الواقعي تفضيل الكلام فيه
اشارة

النفس الآمري عند رفع الاضطرار. و يمكن إدخال هذه الجهة، و الجهة الآتية في ما مر من الجهة الاولى بالنسبة إلى الأمر الواقعي بأن يقال: إن امتثال الأمر الواقعي بما له من الأطوار، و البروز و الشئون و عرضه العريض، يجزي عن الواقع، و لا ريب في أن الأوامر الاضطرارية و الظاهرية من أطوار الواقع، فلا تصير جهات البحث متعددة حينئذ. و كيف كان، فالاحتمالات الثبوتية فيها خمسة:

الأول: سقوط الواقع بالمرة خطابا و ملاكا فعلا في موارد الاضطرار، فلا واقع إلا ما استفيد من أدلة التكاليف العذرية، لأن الشارع مسلط على مجعولاته - وضعا و رفعا، و إتماما و تنقيصا - و لا محذور فيه من عقل أو شرع، و لكن مع بقاء الواقع على الشأنية و الاقتضاء في الجملة.

الثاني: وجود الواقعي الأولي و تطابق مصلحته مع الواقعي الثانوي من كل حيثية و جهة، لكن طولا لا عرضا حتى يلزم التخيير، و على نحو الاقتضاء لا الفعلية حتى يلزم تحصيلها.

الثالث: نفس الصورة مع لزوم تداركها.

الرابع: هذه الصورة مع استحباب التدارك.

الخامس: هذه الصورة مع عدم إمكان التدارك.

و هذه كلها صور فرضية في مقام الثبوت، و يمكن أن يمثل لها بفروع فقهية قد تعرضنا لها في مهذب الأحكام في موارد مختلفة.

و أما في مقام الإثبات فمقتضى إطلاقات أدلة التكاليف العذرية و الاضطرارية، و تسالم العلماء على حكومتها بالنسبة إلى الواقعيات الأولية و سهولة الشريعة المقدسة هو القسم الأول، إذ لا معنى للحكومة المتسالمة بينهم إلا تنزيل التكاليف الاضطرارية منزلة الواقعيات الأولية و إسقاطها عن الفعلية

ص: 200

و إبقاؤها على الشأنية الصرفة في الجملة، إلا أن يدل دليل على الخلاف في بعض الموارد، على ما فصل في الفقه.

امور تتعلق بالتكاليف الاضطرارية
اشارة

ثم إن في التكاليف الاضطرارية مباحث لا بأس بالإشارة إليها:

منها: المناط فى الاضطرار و العذر هل هو صرف الوجود أو العذر المستوعب؟

أن الاضطرار و العذر الذي هو موضوع هذه التكاليف هل هو صرف وجود الاضطرار في الموقتات، أو العذر المستوعب للوقت، فلا يجوز البدار إلى امتثالها في أول الوقت؟ مقتضى ما هو المرتكز في الاضطراريات إنما هو العذر المستوعب، و عليها تنزّل إطلاقات أدلة تلك التكاليف إلا مع الدليل على الخلاف، كما ورد في التيمم و التقية، فيرجع في غير المستوعب إلى قاعدة الاشتغال، و إطلاقات أدلة التكاليف الأولية إلا مع وجود دليل خاص في البين.

و منها: اذا ترك التكليف الاضطرارى و أتى بالتكليف الواقعى

أنه لو أتى المكلف في مورد التكاليف الاضطرارية بالتكليف الواقعي و ترك تكليفه الاضطراري، هل يجزي أو أنه لا يجزي؟ المسألة مبنية على بقاء الملاك في التكاليف الواقعية في مورد الاضطرار، فمع بقائه يصح بداعي الملاك، و مع عدمه لا وجه للصحة، إذ لا خطاب و لا ملاك فكيف يصح و بأي داع يؤتى به، فلا طريق لإحراز الملاك إلا إطلاق الخطاب من باب كشف المعلول عن العلة، و قد اختلفت الكلمات، ففي بعض الموارد يحكمون بالصحة، و في بعضها يحكمون بالبطلان، و في البعض الآخر يترددون في الفتوى مع عدم دليل خاص لهم أصلا.

و منها: فى اضطرار الشخصى أو النوعي

أن موضوع الاضطرار يلحظ بالنسبة إلى شخص المكلف دون النوع، فلو كان تكليف اضطراريا بالنسبة إلى شخص دون النوع، ينقلب تكليفه الواقعي إليه، و في العكس يبقى على تكليفه الواقعي. و هذه المباحث لا بد و أن ينقح الكلام فيها في الفقه.

الجهة الثالثة: في إجزاء الإتيان بما يصح الاعتذار به - كما في مورد الأمارات و الاصول، و القواعد المعتبرة - عن الواقع عند انكشاف الخلاف

فهو

ص: 201

من لوازم اعتبارها، و صحة الاعتذار بها، لأنها إن طابقت الواقع فلا ريب في الإجزاء، و إن خالفت فالمكلف معذور في ترك الواقع، لعموم أدلة اعتبارها و امتنان الشارع على امته في هذا الأمر العام البلوى، و حكومة أدلة اعتبارها على الواقعيات، و يشهد له الطريقة العقلائية في الطرق المعتبرة لديهم، فإنهم عند تبين الخلاف فيها يرتبون الأثر من حين تبين الخلاف من دون استئناف العمل من الأول، و هذا لسعة فضل اللّه تعالى أنسب. فكما أنه تعالى يسقط العمل المأتي به عن الاعتبار لأجل بعض الجهات، كذلك ينزل العمل غير المطابق للواقع منزلة الواقع.

و دعوى: أن العذرية و صحة الاعتذار مادامية، أي ما لم ينكشف الخلاف، لا دائمية. من مجرد الدعوى بلا شاهد و مخالفة لإطلاقات أدلة اعتبارها، و إجماعهم على الإجزاء عند تبدل رأي المجتهد، فإطلاق أدلة اعتبار مفاد الأمارات و الاصول و القواعد - تأسيسا كانت أو إمضائية - يقتضي الإجزاء مطلقا إلا في مورد الدليل على الخلاف، فلا مجرى لجريان قاعدة الاشتغال في المقام.

و لم يرد عن الأئمة عليهم السّلام في هذا الأمر العام البلوى لا سيما عند الإمامية المفتوح عندهم باب الاجتهاد حديث، و ما ورد في عدم إجزاء الرأي و النظر من الأخبار الكثيرة التي جمعها في كتاب القضاء من الوسائل، لا ربط لها بالمقام، بل المقصود منها الآراء الفاسدة الباطلة في مقابل الإمام عليه السّلام، لا ما حصل من الجد و الاجتهاد في أحاديثهم عليهم السّلام، فأي مانع من أن يكون المقام مثل أعمال العامة إذا استبصروا، حيث ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح: «كل عمل عمله في حال نصبه و ضلاله فإنه يؤجر عليه»، بل ما نحن فيه أولى بذلك كما لا يخفى، و ليس ذلك من التصويب و الانقلاب الباطل، بل هو تنزيلي تسهيلي لغير الواقع منزلة الواقع، و إسقاطه عن الفعلية لمصالح كثيرة، فبين المقام و بحث التصويب و الانقلاب بون بعيد جدا.

ص: 202

و لا فرق في جميع ما ذكرناه بين كون تبين الخلاف بالقطع، أو الظنون الاجتهادية، و قد تعرضنا لجملة من المباحث المتعلقة بالمقام في بحث الاجتهاد و التقليد، و في كتاب القضاء من مهذب الأحكام.

الجهة الرابعة: العمل بما حصل به الاعتقاد مع تبين الخلاف

، فإن كان هذا الاعتقاد مستندا إلى الاجتهاد الصحيح فهو من تبدل الرأي الذي أجمعوا فيه على الإجزاء، و إن كان من غيره فمقتضى الأصل عدم الإجزاء من غير دليل حاكم عليه. و اللّه تعالى هو العالم.

ص: 203

الامر الثاني: مقدمة الواجب
اشارة

يقع البحث في فن الاصول عن الوجوب المولوي الترشحي عن وجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى مقدمته، بعد تسليم اللابدية العقلية التي تكون بين المقدمة و ذيها.

و إذا كان نفس الملازمة الواقعية بين طلب الشيء و طلب مقدماته مورد البحث، فيكون من المسائل العقلية غير المستقلة، و حيث يقع في طريق الاعتذار لدى المولى، فإنه يكون من المسائل الاصولية. و فيه ملاك المسألة الفقهية، و المسألة الكلامية أيضا، كجملة كثيرة من مسائل الاصول.

تقسيمات المقدمة:
التقسيم الأول: المقدمة إما داخلية محضة، كالأجزاء. أو خارجية كذلك،

كالفاعل، و الغاية. أو برزخ بينهما، كالشرط و المعد، فإن فيهما جهتين: التقيد، و نفس القيد، و من الجهة الاولى داخلية و من الجهة الثانية خارجية.

و يصح أن يقال: إن المقدمة إما داخلية بالمعنى الأخص، و هي الأجزاء. أو بالمعنى الأعم، و هي الأجزاء، و الشرط، و المعدّ.

و الكل صحيح و إن اختلف التعبير. كما أن بعض الأشياء برزخ بين الشرطية المحضة و الجزئية الصرفة، كالنية في العبادات - مثلا - فإن الفاتحة جزء للصلاة، و الاستقبال شرط لها، فالنية برزخ بينهما، كما فصلناه في الفقه.

و حيث أن المقدمة المبحوث عنها في المقام متقوّمة بالتغاير الوجودي مع ذيها، فالمقدمات الداخلية - و هي الأجزاء - خارجة عن مورد البحث، لاتحاد الكل مع تمام الأجزاء وجودا، و وجود أحدهما عين وجود الآخر كذلك عقلا

ص: 204

و عرفا، فلا اثنينية في البين حتى تتحقق المقدمية المتقوّمة بها. و التغاير الاعتباري و إن كان موجودا بينهما فإن الكل عين الأجزاء باعتبار الاجتماع، و الأجزاء الفعلية غير الكل مع قطع النظر عن هذا الاعتبار، لكن ليس هذا النحو مع التغاير مناط المقدمية عرفا، فوجوب الأجزاء عين وجوب الكل و بالعكس، فليس في البين إلا وجوب واحد منسوب إلى الكل بنحو الجمع، و إلى الأجزاء بنحو الانبساط.

و كذا الكلام في التوليديات، كالإحراق و الإلقاء في النار، فإنه ليس فيها إلا وجوب واحد منسوب إلى السبب المولد (بالكسر) و المسبب المولد عنه، فلا اثنينية في البين عرفا و إن كانت متحققة واقعا، فهي أيضا خارجة عن مورد الكلام في المقام.

التقسيم الثاني: قد قسّموا المقدمة إلى الشرعية، و العقلية، و العادية، و مقدمة الصحة، و مقدمة الوجود، و مقدمة الامتثال

و لا وجه لهذا التقسيم أبدا.

فإن الثلاثة الاولى إن كان بلحاظ أصل الدخالة و المقدمية فالجميع عقلية، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه، و المركب بانتفاء جزئه، سواء كان المشروط أو المركب عقليا أو شرعيا أو عاديا، و لا حكم للأخيرين إلا ما حكم به العقل و لو حكما بشيء لكان إرشادا إلى حكم العقل.

نعم، لهما تنزل الفاقد للشرط أو الجزء منزلة الواجد في مجعولاتهما، لفرض استيلائهما عليها موضوعا و حكما، و لا ربط لذلك بأصل المقدمية التي هي مورد البحث.

و إن كان ذلك بلحاظ الجاعل فهو أجنبي عن بحث المقدمة، كما هو أوضح من أن يخفى.

و الرابع ليس إلا المقدمات الداخلية أو الخارجية، فلا وجه لتسمية اخرى و زيادة قسم آخر.

ص: 205

و الخامس يرجع إلى الرابع، فلا وجه لعدّه قسما مستقلا إن كان المراد الوجود الصحيح، و إن كان المراد مطلق الوجود فهو خارج عن مورد البحث قطعا، لأن البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمّى، كما أنه لا بد من خروج مقدمة الوجوب عن مورد البحث أيضا، لأنه قبل حصول المقدمة لا واجب في البين حتى يترشح منه الوجوب إلى مقدمته، و بعد الحصول لا معنى للترشح، لأنه من تحصيل الحاصل.

و كذا لا ريب في خروج مقدمة الامتثال عن مورد البحث، إذ ليس فيه إلاّ اللابدية العقلية و ليس فيه وجوب مولوي ترشحي حتى يكون مورد البحث، و لو ورد دليل عليه لا يكون إلا إرشادا محضا فانحصرت المقدمة - التي تكون مورد البحث - في الخارجية و الداخلية بالمعنى الأعم.

التقسيم الثالث: قد قسّموا المقدمة بلحاظ الزمان الى المقارنة،

كالاستقبال للصلاة، و عربية الإيجاب و القبول في العقود مثلا. و المتقدمة، كتقدم الوصية على حصول الملكية للموصى له بعد موت الموصي في الوصايا التمليكية.

و المتأخرة، كالإجازة لعقد الفضولي في حصول الملكية من حيث العقد بناء على الكشف. فيلزم تخلل الزمان - قليلا كان أو كثيرا - بين العلة و المعلول في الأول، و تقدم المعلول على العلة في الثاني، و هما ممتنعان، كما ثبت ذلك في فن الحكمة بالدليل و البرهان، و العلة بجميع أجزائها و جزئياتها مقدمة على المعلول رتبة لا زمانا، كتأخر المعلول عن العلة فإنه رتبي فقط.

و المراد بأجزاء العلة و جزئياتها ما إذا تحققت في ضمن العلة التامة لا بدونها، إذ العلية و المعلولية من الامور الإضافية، فالأجزاء و الجزئيات غير المتحققة في ضمن العلة التامة أجزاء استعدادية لا فعلية، و الكلام في الثانية دون الاولى. و العلة التامة مقارنة مع المعلول زمانا و إن اختلفا رتبة، كقولك: «تحركت

ص: 206

اليد فتحرك المفتاح» فزمان الحركتين متحد، و لكن رتبة حركة اليد متقدمة على حركة المفتاح فإن الأخيرة مستندة إلى الاولى.

و قد وقعت في الشريعة المقدسة موارد انتقضت فيها القاعدة العقلية، منها ما تقدم فيها المعلول على العلة زمانا، كالعقود الفضولية بناء على الكشف، فإنه يحصل الأثر قبل حصول العلة التي هي الإجازة، و موارد تقدم فيها العلة على المعلول زمانا، كعقد الوصية التمليكية الحاصلة قبل الموت بزمان مع أن الملكية تحصل بعده و لو بزمان كثير، و كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة الصوم الحادث بعد الفجر.

و قد اضطربت كلماتهم في حل هذه المشكلة، و قد تعرضنا في الفقه لبعض الكلام، و لنشر لبعضه الآخر بما يناسب المقام. و قد اجيب عن أصل الشبهة بوجوه:

الأول: ما عن صاحب الكفاية أن الشرط إما شرط للوضع، كعقد الوصية للملكية بعد الموت، و الإجازة في العقود الفضولية لحصول الأثر قبلها. أو شرط للتكليف، كالعقد، و الإجازة لوجوب الوفاء. أو شرط للمكلف به، كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحة صومها.

و مرجع الأولين إلى أن لحاظ الشرط عند الشارع دخيل في حكمه وضعا أو تكليفا، فاللحاظ هو المؤثر لا أن يكون الأثر للوجود الخارجي حتى يلزم المحذور، فما هو الشرط - و هو اللحاظ - مقارن، و ما هو متقدم أو متأخر لا ربط له بالشرطية فلا محذور في البين أصلا.

و فيه: أولا: أنه تصرف في ظواهر الأدلة بلا شاهد، بل على خلافه الشواهد.

و ثانيا: أن اللحاظ طريق إلى ما في الخارج لا أن تكون له موضوعية خاصة، و إذا كان كذلك، فالمحذور باق على حاله.

ص: 207

و مرجع الأخير - أي ما كان شرطا للمكلف به - إلى أن المتقدم أو المتأخر له دخل في صيرورة المكلف به معنونا بعنوان حسن، فصوم المستحاضة يصير ذا عنوان حسن بتقدم الغسل عليه يوجب بذلك صلاحيته للتقرب به، فيرجع إلى الشرط المقارن.

و فيه: أنه إن كان الشرط من حيث الوجود الخارجي فهو عين الإشكال قرر بوجه آخر، و إن رجع إلى شرطية اللحاظ فهو عين ما أجاب به عن شرط الوضع و التكليف، و مرّ بطلانه.

الثاني: ما عن بعض مشايخنا قدس سرّهم، فعن شيخنا المحقق العراقي قدّس سرّه أن المشروط في جميع تلك الموارد إنما هو الحصة التوأمة مع الشرط، فالشرط حينئذ قرين المشروط و حليفه، لا أن يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه.

و فيه: أن ذلك إن كان بحسب الوجود اللحاظي فهو عين ما تقدم عن صاحب الكفاية، و قد أشكلنا عليه. و إن كان بحسب الوجود الخارجي فالشبهة باقية، مع أن الحصة من الاعتبارات الذهنية لا الموجودات الخارجية.

الثالث: أن أصل المحذور إنما هو في العلة الموجدة، أما ما توجب القابلية كالشروط و المعدات فلا محذور فيه.

و يرد عليه: أن حصول القابلية للوجود إن كان من ناحية العلة فهو عين المحذور، و إن كان من ناحية المعلول فهو باطل، كما ثبت في محله، راجع الأسفار.

الرابع: أن الشرط في موارد النقض إنما هو العنوان الانتزاعي المقارن مع المشروط، كما هو شأن كل أمر انتزاعي فإنه خفيف المئونة جدا، كتعقب العقد للإجازة في الفضولي، و تعقب عقد الوصية التمليكية بالموت، و اتصاف الصوم بسبق الغسل في المستحاضة، إلى غير ذلك مما يمكن فيها انتزاع شيء هو مقارن مع المشروط، و قد اختار ذلك شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه بعد جعل

ص: 208

القضايا التشريعية من القضايا الحقيقية.

و فيه: أنه خلاف ظواهر الأدلة و المنساق منها عرفا بلا دليل ملزم عليه من عقل أو نقل، مع أن كون القضايا المستعملة في تشريع الأحكام و تقنين القوانين - خالقية كانت أو خلقية - من القضايا الحقيقية مما لا يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.

الخامس: - و هو أحسنها - و يمكن أن يكون مقصود الجميع ذلك و إن قصرت عبائرهم عن الانطباق عليه، و هو: أن أصل الإشكال يختص بالعلل و المعلولات التكوينية و الموجودات المتحققة الأصيلة التي يدور نظم المباحث الدقية العقلية، و البراهين المتقنة الحكمية عليها، بشرط كون العلة بسيطة غير مركبة من الأجزاء المتدرجة الوجود، لأن فرض تركب العلة من تلك الأجزاء المتدرجة الوجود في الزمان فرض تقدم بعض أجزاء المؤثر على بعض، و إلا لزم الخلف و هذا أيضا مغالطة اخرى، فهنا غولط بين العلة البسيطة و المركبة التدريجية. نعم، في العلة المركبة بعد تحقق جميع الأجزاء و الشرائط يعتبر التقارن الزماني مع المعلول أيضا، من دون اعتبار التقارن الزماني بين كل جزء و جزء من أجزاء العلة.

و أما الاعتباريات التي يدور جعلها - بجميع جهاتها و خصوصياتها - على الاعتبار كيف ما اعتبره المعتبر، فلا موضوع للإشكال فيها بعد فرض عدم استنكار عرف المعتبرين لذلك، فربّ شيء يكون ممتنعا في التكوينيات يكون صحيحا في الاعتباريات، و كذا بالعكس. و لا ريب في أن جميع القوانين المعتبرة بجميع حدودها و قيودها من الاعتباريات الحسنة العقلائية. و هذه الشبهة - و أمثالها - إنما حصلت من الخلط بين الامور التكوينية و الامور الاعتبارية.

ص: 209

الأقوال في وجوب المقدمة
اشارة

وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط، إذ لا معنى للتبعية إلا ذلك. و اختلفوا في معروض الوجوب لعنوان المقدمة على أقوال، و تجري هذه الأقوال في الوجوب الشرعي الترشحي، و اللابدية العقلية أيضا:

الأول: ان معروض الوجوب لعنوان المقدمة هو ذاتها

ما نسب إلى المشهور من أنه ذات المقدمة بلا قيد و شرط، لأن المناط في المقدمة التمكن بها من إتيان ذيها، و هذا ينطبق على الذات بلا قيد و لا شرط.

الثاني: انه ذات المقدمة عند ارادة ذيها الاشكال عليه

ما يظهر عن صاحب المعالم قدّس سرّه من أنه ذات المقدمة عند إرادة ذيها، لأن عنوان المقدمية متقوّم بالغير فلا بد من إرادته.

و فيه: أنه إن أراد ما هو المتعارف من أن إتيان المقدمة إنما هو عند إرادة ذيها، فهو مع أنه مخالف لما تسالموا عليه من أن وجوبها في الإطلاق و الاشتراط تابع لوجوب ذيها.

يرد عليه.. أولا: أنه لا وجه لتعليق الوجوب على الإرادة مطلقا، و إلا ينسلخ الوجوب عن وجوبه.

و ثانيا: أنه لا يتم في المقدمات التوصلية غير المتوقفة على القصد و الإرادة فضلا عن قصد ذيها، و ما كانت منها عبادية يغني أمرها النفسي في عباديتها، فينطبق عليها عنوان المقدمية قهرا - قصد ذاها أو لم يقصد -

الثالث: انه ذات المقدمة مع قصد التوصل الى ذيها، ذكر المحتملات من هذا القول، الاشكال عليها

ما عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من أن معروض الوجوب ذات المقدمة مع قصد التوصل بها إلى ذيها، لأن حيثية المقدمية حيثية التوصل بها إلى ذيها فلا بد من قصد ذلك في ثبوتها و تحققها، و هذا أخص من قول صاحب المعالم، لأن ما قصد به التوصل بها إلى ذيها واجبة على كلا القولين، فإن قصد التوصل قصد إجمالي لإرادة ذي المقدمة، و ما لم يقصد بها التوصل إن كانت

ص: 210

مقرونة بإرادة ذي المقدمة فواجبة على قول صاحب المعالم دون الشيخ، فتتحقق الأخصية حينئذ و إن لم يقترن بها، فلا وجوب على كلا القولين.

ثم إن محتملات مراد الشيخ قدّس سرّه من قوله أربعة:

أحدها: اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل، فيكون وجوبها مشروطا و وجوب ذي المقدمة مطلقا، و هذا خلاف تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها، كما مر و الشيخ يعترف به في فقهه و اصوله.

ثانيها: أن ذلك من باب غلبة الوقوع في الخارج، حيث أن المقدمة إنما يؤتى بها غالبا بقصد التوصل بها إلى ذيها، لا أن يكون ذلك من الاشتراط و التقييد الاصطلاحي، و هذا حق و وجداني لكل أحد، و ليس ذلك على نحو التقوّم بحيث لو أتي بها غفلة، أو بقصد عدم التوصل لم يتحقق وجود المقدمة، بل المشهور يقولون بتحقق الواجب حينئذ بخلاف ما يظهر من قول الشيخ، فلا وجوب لذيه بناء على اعتبار قصد التوصل في الاتصاف بالوجوب.

ثالثها: أن قصد التوصل دخيل في ترتب الثواب أو الامتثال فقط، لا في الاتصاف بالوجوب، و هذا بالنسبة إلى ترتب الثواب صحيح، لكنه ليس من محل الكلام، لأن البحث في معروض الوجوب لا في استحقاق الثواب، مع أن اعتبار ذلك في ترتب الثواب أيضا أول الدعوى، كما حررناه في الفقه.

و أما دخله في الامتثال فهو مردود: بأن المقدمة لغة و عرفا و شرعا ما يتمكن بها المكلف من إتيان ذيها، و ليس موضوع الوجوب - شرعيا كان أو عقليا - إلا هذا، و لا ينفك ذلك من قصد التوصل إجمالا و ارتكازا، فيكون اعتبار قصد التوصل بعد ذلك من قبيل لزوم ما لا يلزم، و إن كان مراد الشيخ قدّس سرّه من اعتبار قصد التوصل هذا المعنى الإجمالي الارتكازي، فهو صحيح لا إشكال فيه.

رابعها: اشتراط ذات مقدمية المقدمة.

و فيه: أنه خلاف الوجدان في التوصليات، و خلاف الأصل و الإطلاق في

ص: 211

التعبديات، و خلاف مبنى الشيخ في فقهه.

الرابع: اعتبار ترتب ذى المقدمة خارجا على المقدمة الاشكال عليه بوجوه، و ابطالها، التحقيق فى المقام

ما عن صاحب الفصول من اعتبار ترتب ذي المقدمة خارجا على المقدمة في الوجوب الترشحي، لأنه لا فعلية للمقدمة إلا بذلك، و هذا هو الذي اصطلح عليه بالمقدمة الموصلة. و اشكل عليه بوجوه كلها باطلة:

منها: أنه إن كان قيدا للوجوب فهو من تحصيل الحاصل، و هو باطل. و إن كان قيدا للواجب فهو من الدور الباطل، لتوقف ذي المقدمة على المقدمة، و توقف المقدمة على ذيها، و هذا هو الدور.

و فيه: أنه لا يكون قيدا للوجوب و لا للواجب حتى يلزم المحذور، بل مراده قدّس سرّه أن فعلية وجوب المقدمة تدور مدار فعلية وجوب ذيها، لأنهما من المتلازمين المتكافئين قوة و فعلا، فكما لا محذور في التلازم في مطلق المتلازمين من كل جهة فليكن المقام أيضا كذلك.

منها: أنه يلزم كون شيء واحد واجبا نفسيا و واجبا غيريا، لأن ذا المقدمة واجب نفسي بذاته، و من حيث كونه قيدا للمقدمة يصير واجبا غيريا.

و فيه.. أولا: أنه لا محذور فيكون شيء واحد واجبا نفسيا و غيريا من جهتين، كصلاة الظهر مثلا، فإنها واجبة نفسا بذاتها و من حيث كونها شرطا لصلاة العصر تتصف بالوجوب الغيري، فليكن المقام كذلك.

و ثانيا: أن ترتب ذي المقدمة على المقدمة ليس من التقييد الاصطلاحي حتى يلزم المحذور، بل المراد أن فعلية المقدمة و فعلية وجوبها تنتزع من فعلية ذي المقدمة خارجا على نحو القضية الحقيقية لا الشرطية.

و منها: أنه مستلزم للخلف، فإن ذات المقدمة أيضا لها مدخلية في ترتيب ذيها عليها، فيلزم كون الذات أيضا موردا للوجوب الترشحي، و هو قدّس سرّه لا يقول بذلك.

و فيه: أنه مسلم، لأن الذات أيضا له دخل في الترتب في الجملة، لكن

ص: 212

مدخلية الذات إمكانيته لا فعليته من كل جهة، و مراد صاحب الفصول المدخلية الأخيرة دون الاولى.

و منها: أنه بناء على المقدمة الموصلة ينحصر وجوبها بالعلة التامة المنحصرة. و لا يشمل غيرها، و هو خلاف الإطلاقات و الكلمات.

و فيه: أن الوجوب الفعلي من كل جهة منحصر فيها عند الجميع، و لكن الوجوب الشأني الاستعدادي يشمل غيرها بلا إشكال. و لا ينكرها صاحب الفصول و غيره.

و منها: أنه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري، لأن من أجزاء المقدمة الموصلة الإرادة و هي غير اختيارية، و إلا لزم التسلسل.

و فيه.. أولا: أنه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقدمة الموصلة، لتوقف كل واجب على الإرادة - نفسيا كان أو غيريا - موصلا أو غير موصل.

و ثانيا: يكفي في الإرادية و الاختيارية كون الإرادة بذاتها و نفسها مرادة و مختارة في صحة التكليف بها.

و ثالثا: لو كانت مرادة بإرادة زائدة على ذاتها، تكون جميع تلك الإرادات مندمجة في ذاتها لكمال سعة النفس، و هذا النحو من التسلسل لا امتناع فيه، كما ثبت في محله، و يعبّر عنه بالتسلسل اللايقفي، أي لا يمكن فرض العلية في مرتبة إلا و يمكن فرض علية اخرى فوقها، و هذا لا يستلزم الوجود الفعلي لسلسلة غير متناهية حتى يمتنع.

و منها: أن إتيان المقدمة يوجب سقوط طلبها من غير انتظار ترتب ذيها عليها.

و فيه.. أولا: أنه عين الدعوى.

و ثانيا: أن السقوط جهتي لا من جميع الجهات، و السقوط المطلق إنما هو بإتيان ذي المقدمة، و للمكلف تبديل المقدمة بمقدمة اخرى ما لم يأت بها.

ص: 213

و الحاصل: أنه قد اشتملت المقدمة على جهات و حيثيات:

إحداها: التمكن بها إلى ذيها.

ثانيتها: قصد ذيها إجمالا المندرج في قصد ذات المقدمة.

ثالثتها: التوصل بها إلى ذيها، و هي أيضا مندرجة في قصد المقدمة إجمالا.

رابعتها: ترتب ذيها عليها خارجا.

و هذه كلها جهات و حيثيات تعليلية، فيكون معروض الوجوب بالآخرة ذات المقدمة بنحو الاقتضاء، و ليست هذه الجهات دقيات عقلية فقط، بل العرف يعتبر هذه الجهات أيضا، فيصير النزاع بين الجميع جهتيا لفظيا، كما لا يخفى على المتأمل لانطباق جميع الأقوال على المرتكزات في مقدمات الأفعال الصادرة منهم، فأشار كل واحد من الأعلام إلى جهة من تلك الجهات بلا نزاع في حاق الواقع في البين.

ثم إن ما قلناه من أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق و الاشتراط، إنما هو في نفس الوجوب المقدمي من حيث هو مع قطع النظر عن دليل آخر. و أما بحسب الأدلة الخاصة فيمكن أن يكون وجوب المقدمة مشروطا بشيء مع قطع النظر عن ذي المقدمة، بل يمكن أن يجتمع فيه أنحاء من الوجوب.

الثمرات بين كونها من المسألة الاصولية أو غيرها

بعد ثبوت الوجوب الشرعي الترشحي للمقدمة يكون البحث فيها من المسائل الاصولية. لوقوعه في طريق استنتاج الحكم الفرعي، فيقال: هذه مقدمة الواجب، و كل مقدمة الواجب واجبة شرعا، فتجب هذه.

و كذا بناء على اللابدية العقلية، فيقال: هذه مقدمة الواجب و كل مقدمة

ص: 214

الواجب لا بد من إتيانها عقلا، فلا بد من إتيان هذه عقلا، و يستنتج منه الحكم الفرعي بواسطة قاعدة الملازمة، فيكون هذا الاستنتاج - سواء كان بلا واسطة أو معها - من ثمرات هذا البحث، و قد ذكروا ثمرات اخرى أيضا.

منها: فساد العبادة التي يكون تركها مقدمة لواجب أهم، كالصلاة في أول الوقت مع فعلية وجوب إزالة النجاسة عن المسجد، لأن ترك الصلاة حينئذ واجب بالوجوب المقدمي فيكون فعلها حراما، لأن الأمر بالشيء يكون نهيا عن ضده، فتقع فاسدة لأن النهي في العبادة يوجب الفساد.

و فيه: أن هذه الثمرة مبنية على مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، و سيأتي - إن شاء اللّه تعالى - بطلان الاقتضاء.

كما أنها مبنية على أن النهي الذي يوجب فساد العبادة هو الأعم من النهي النفسي و الغيري و هو محل البحث أيضا.

و أما صاحب الفصول رحمه اللّه فأبطل هذه الثمرة بناء على ما اختاره من المقدمة الموصلة بأن ترك الصلاة مطلقا ليس بواجب، بل الواجب إنما هو الترك الموصل إلى الإزالة، و مع فعل الصلاة لا وجه لكون تركها مطلقا واجبا، فيصير فعلها صحيحا لوجود المقتضي و فقد المانع عن الصحة.

و أشكل عليه شيخنا الأنصاري قدّس سرّه: بأنه لا ريب في أن ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة واجب فيصير نقيضه حراما - بناء على المقدمية - و نقيضه ترك الصلاة الموصل، و هو كلي له أفراد، منها نفس الصلاة فتصير فاسدة لأجل النهي المنطبق عليها انطباق الكلي على الفرد.

و أورد عليه في الكفاية: بأن الصلاة لازم للنقيض لا أن تكون عينه، و لا دليل على لزوم كون لازم النقيض محكوما بعين حكم النقيض، بل يجوز أن لا يكون محكوما بحكم في الظاهر أبدا.

نعم، لا بد أن لا يكون محكوما بحكم مغاير لحكم النقيض، لمكان

ص: 215

الملازمة بينهما.

و الحق أن إشكال الشيخ قدّس سرّه صحيح بحسب الأنظار العرفية المبنية عليها الأدلة الشرعية، و إشكال صاحب الكفاية لا بأس به بحسب الدقة العقلية، فكل منهما صحيح في مورده، و لكن الحق مع ما ذهب إليه الشيخ قدّس سرّه عرفا.

و منها: بر النذر لمن نذر إتيان واجب بإتيان مقدمة الواجب بناء على وجوبها و عدم البر بناء على عدم الوجوب.

و فيه: أنه مسألة فرعية تابعة لقصد الناذر، و مع الإطلاق و الغفلة عن هذه الحصة ينصرف إلى الواجب النفسي، و ليس ثمرة للمسألة الاصولية، لأنه لا بد و أن يستنتج منها الحكم الكلي.

و منها: عدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة مع وجوبها، و جوازها بناء على عدم الوجوب.

و فيه: أنه لا دليل على عدم جواز أخذ الاجرة على الواجب بالنحو الكلي، بل مقتضى الأصل، و قاعدة السلطنة جوازه إلا في موارد خاصة دل عليها الدليل بالخصوص على عدم الجواز، و هو تابع لدلالة الدليل عموما أو خصوصا، و قد فصّلنا المسألة في الفقه، فراجع.

و منها: حصول الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة، لتعدد ترك الواجب، فيتحقق الإصرار على المعصية.

و فيه: أنه ليس لترك واجب واحد إلاّ معصية واحدة إجماعا - تعددت مقدماته أو لم تتعدد - نعم، لو كان واجب نفسي مقدمة لواجب آخر و تركهما، تعددت المعصية، و لكنه خارج عن محل البحث، لأنه في الوجوب المقدمي الصرف دون الواجب النفسي.

و منها: اجتماع الوجوب و الحرمة لو كانت المقدمة محرمة، كالدخول في ملك الغير لإنقاذ النفس المحترمة.

ص: 216

و فيه: أنها إن كانت توصلية يصح التوصل بها إلى ذيها - قيل بوجوب المقدمة أو لا، و قيل بجواز الاجتماع أو لا - و كذا إن كانت تعبدية بناء على جواز الاجتماع.

نعم، بناء على الامتناع و تغليب جانب الحرمة لا تصح المقدمة العبادية، سواء قيل بوجوب المقدمة أو لا. فهذه الثمرة ساقطة أيضا.

إجراء الأصل في المقدمة

أما اللابدية العقلية الواقعية لإتيان كل مقدمة بالنسبة إلى ذيها من الفطريات و الوجدانيات لكل أحد، فلا يتصور الشك فيها حتى يجري فيها الأصل.

نعم، قد تتوجه النفس إليها و قد تغفل عنها، كما هو الشأن في جميع فطريات النفس و وجدانياتها، فإنه قد تكون مغفولا عنها، و قد تكون متوجها إليها، و لا ربط لذلك بالشك فيها.

و أما الوجوب الترشحي الشرعي فلا تجري البراءة العقلية بالنسبة إليها، لأنها تدور مدار العقاب لابتناء قاعدة قبح العقاب بلا بيان عليه، و لا عقاب في ترك المقدمة مطلقا إلا ما كانت عين ذيها خارجا، كما في التوليديات.

و أما البراءة الشرعية فلا محذور في جريانها، لكفاية مطلق الأثر الشرعي في مجريها، و لا ريب في أن مطلق الوجوب أثر شرعي.

الحق في المقام

و الحق في المقام وجوب مقدمة الواجب بالوجوب التبعي لذيها، فإنا نرى بالوجدان عند طلبنا لشيء تعلّق الطلب أيضا بالنسبة إلى مقدماته مع

ص: 217

الالتفات إليها و لو مع الغفلة عن اللابدية العقلية، بل ربما يجعل الأمر بالمقدمة أصيلا و الأمر بذيها تبعيا، فيقال: اركب السيارة و اذهب إلى الزيارة، فينطوي في الطلب التفصيلي لذي المقدمة طلب جميع المقدمات، انطواء الفرع في الأصل، و الإرادة الإجمالية في الإرادة التفصيلية الالتفاتية، هذا مع اتفاق العقلاء على وجود أوامر غيرية فيما بينهم، و وجود أوامر غيرية في الشرع أكثر من أن تحصى، و صحة استعمال الأمر فيها في المحاورات العرفية بلا شبهة.

و جعل ذلك كله إرشادا إلى الشرطية، و الجزئية و المانعية، و هذا لا ربط له بكون نفس الأمر الغيري إرشادا، كما لا يخفى. فالوجدان و الاتفاق على الوقوع من أكبر الأدلة عليه.

و بعد ذلك لا نحتاج إلى ما يقال: من أنها لو لم تجب فلا مانع من طرف الشارع في تركها، و مع الترك إن بقي الواجب على وجوبه فهو تكليف بما لا يطاق، و إلا انقلب الواجب المطلق مشروطا، و هو باطل.

و هذا الاستدلال فاسد من أصله، لأن عدم المنع من طرف الشارع في ترك الواجب لا يوجب التكليف بما لا يطاق، لتمكن المكلف من الإتيان به و حكم العقل باللابدية، فيصح العقاب على ترك الواجب حينئذ.

كما لا وجه للتفصيل بين السبب و غيره بدعوى وجوبها في الأول و عدمه في الأخير، لأن المسبب بدونه غير مقدور، و التكليف إنما توجه بالسبب، و ذلك لأن القدرة بالواسطة تكفي في توجّه التكليف، مع أنه ليس بتفصيل في وجوب المقدمة و إنما هو قول بتوجّه الوجوب النفسي إلى السبب فقط.

و كذا لا وجه للتفصيل بين الشرط الشرعي و غيره بالوجوب في الأول دون الأخير، بدعوى: أنه لو لا وجوبه شرعا لما جعله الشارع شرطا. فإنه باطل أيضا.

ص: 218

أما أولا: فلأنه مستلزم للدور.

و ثانيا: أن مناط المقدمية توقف ذي المقدمة عليها و دخالة المقدمة في ذيها، بلا فرق بين كون منشأ التوقف و الدخل عقليا أو شرعيا أو عرفيا.

ثم إنه يمكن جعل النزاع في مطلوبية المقدمة شرعا و عدمها من المنازعة اللفظية، فمن قال بالمطلوبية فيها أي المطلوبية الفعلية في ما إذا كان ملتفتا إليها تفصيلا، أو متوجها إليها كذلك، و من قال بالعدم أي في صورة الغفلة المحضة عنها بلا فعلية للطلب حينئذ، فتتحقق اللابدية العقلية فقط.

مقدمة المندوب و الحرام

أما مقدمة المندوب فإنها مندوبة بعين ما تقدم في مقدمة الواجب، بلا فرق في المطلوبية العرضية التي تكون للمقدمة بين مراتب الطلب، شديدا كان أم ضعيفا.

و أما مقدمة الحرام فلا ريب في الفرق بينها و بين مقدمة الواجب و المندوب، لأن انتفاء إحدى المقدمات في الاولى يوجب عدم التمكن للمكلف من ذي المقدمة، حيث أن المطلوب فيه الترك و هو يحصل بترك إحدى المقدمات بعكس الأخيرتين، لتوقفهما على إتيان جميع المقدمات، إذ المطلوب فيهما الفعل و هو متوقف على إتيان كل ما له دخل في التحقق. فتحرم إحدى مقدمات الحرام لا بعينها بناء على الملازمة، فلو أتى بجميع مقدمات الحرام إلاّ إحداها فترك الحرام، لم يأت بحرام غيري أبدا، لعدم تحقق ذي المقدمة، بل و لم يفعل ما يوجب التجري أيضا، لأن مورده إنما هو في ما إذا كان الفعل حراما اعتقادا و حلالا واقعا.

و في المقام لم تتحقق الحرمة الاعتقادية و لا الواقعية، و لا يبعد تحقق بعض مراتب التجري إن كان بانيا على إتيان الحرام على كل تقدير، فبترك

ص: 219

المقدمات، ينترك الحرام قهرا. هذا و قد ورد في الرشوة، و الربا، و الخمر ما يستفاد منه تعميم الحرمة الشرعية الغيرية لجملة كثيرة من مقدماتها، فراجع أبواب الوسائل عند تعرضه لها.

خاتمة البحث

قد ورد الثواب في جملة من مقدمات الواجبات أو المندوبات و هي كثيرة جدا. فإن قلنا بأن الثواب تفضل، و استحقاقه أيضا تفضل من اللّه يؤتيه بما يشاء على ما يشاء لمن يريد، كما هو المنساق من جملة من الآيات و الروايات - كما فصلنا الكلام في محله - فلا إشكال فيه، لأن تفضله تعالى غير محدود بحد، و لا يعلم منشأه إلا ذاته الأقدس، و حينئذ يسقط أصل البحث رأسا.

و إن قلنا: باختصاصه بالتكاليف النفسية العبادية، فيصح أن ينبعث الثواب من التكاليف النفسية العبادية إلى جميع مقدماتها، نظير ما ورد من أن اللّه تعالى يحفظ لصلاح الرجل أهله و جيرانه و أهل قريته، و في سياق هذا المعنى آيات و روايات كثيرة جدا، و هذا هو المرجو من سعة فضل اللّه غير المتناهي، فيكون التكليف النفسي من الواسطة في الثبوت لثواب جميع مقدماته، سواء أتى بالتكليف النفسي، أو منع عنه مانع شرعي.

قال تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ...، و قد ورد في أبواب السعي في قضاء حاجة المؤمن من الثواب و لو لم تقض الحاجة، و المشي الى الحج، و زيارة الحسين عليه السّلام و لو منع عن حصول المقصود مانع.

و لا يبعد حصول المبغوضية من بعض المحرمات النفسية إلى مقدماتها في الجملة أيضا، حصل الحرام النفسي أو لم يحصل، كما يشهد به الوجدان.

ص: 220

هذا كله لو لم تكن مقدمات الواجبات و المندوبات بنفسها مطلوبة بالذات و لم تكن مقدمة مبغوضة كذلك، و إلا فترتب الثواب و العقاب معلوم لا شبهة فيه.

ثم إنه لا إشكال في حرمة السفر لغاية محرّمة و وجوب الإتمام في مثل هذا السفر و ليس ذلك مبنيا على حرمة مقدمة الحرام، بل لأجل دليل مخصوص، كما فصلناه في المهذب، فراجع.

ص: 221

الامر الثالث: اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده
تمهيد

هذه المسألة أيضا من المسائل الاصولية العقلية غير المستقلة بناء على الملازمة، أو المقدمية. و أما بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، أو أن النهي عن الضد جزء مدلوله، أو من لوازمه العرفية المتوقفة على الاستظهار من الأدلة، فتكون من مباحث الألفاظ.

و حيث أن الأولين باطلان، و الأخير يرجع بالآخرة إلى الملازمات العقلية، بل من بعض مراتبها، جعلناها من العقليات غير المستقلة.

ثم إن المراد بالاقتضاء في كلماتهم أعم من العينية و الجزئية و اللزوم مطلقا، إذ قال بكل قائل، فلا بد أن يكون مورد النزاع مجمع الأقوال.

كما أن المراد بالضد مطلق المعاند و المنافي، أي الضد العرفي لا خصوص الضد الاصطلاحي الحكمي، فيشمل الترك الذي يعبّر عنه بالنقيض.

و الضد الخاص، كالضدين اللذين لا ثالث لهما، و القدر المشترك بين الأضداد الوجودية الذي اصطلحوا عليه بالضد العام.

الأقوال في المسألة
1 - الترك:

فقد قيل فيه - الذي يعبّر عنه بالنقيض - بأن الأمر بالشيء عين النهي عنه بالمطابقة. و لكنه مردود بانتفاء العينية - لا المفهومية و لا الخارجية - وجدانا فيكون من مجرد الدعوى بلا دليل.

و قيل: بأنه جزء مفهومه فيدل عليه بالدلالة التضمنية، و فيه ما سبق تحقيقه

ص: 222

من أن الوجوب بسيط لا تركب في حقيقته. و إنما هو في مقام شرح الاسم تسهيلا للأفهام، فجعلوا المركب مشيرا إلى العنوان البسيط، و كم له نظير عقلا و عرفا، لا أن يكون التركب في مرتبة الذات و الحقيقة، كما لا يخفى على ذوي البصيرة.

و عن جمع أنه بالملازمة، لأن طلب الشيء يلازم مبغوضية تركه، و هذا وجه حسن ثبوتا و إثباتا.

2 - الضد العام و الخاص:
اشارة

و قد استدل على الاقتضاء فيهما بوجهين:

الوجه الأول: عن جهة الملازمة، و دليلهم

مركب من مقدمات ثلاث:

أولاها: وجوب كل ضد ملازم لعدم الضد الآخر فيما لا ثالث له، و عدم الأضداد الأخر فيما له ثالث، و هذه المقدمة من الواضحات التي لا ينكرها أحد.

ثانيتها: المتلازمان متحدان في الحكم، فلو كان أحدهما واجبا يكون الآخر أيضا كذلك، لاقتضاء التلازم ذلك، فإذا كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجبة نفسية ذاتية فورية، يكون ترك الصلاة الملازم لها أيضا واجبا نفسيا ذاتيا، لمكان الملازمة بينهما خارجا.

ثالثتها: تقدم أن وجوب الشيء ملازم لمبغوضية نقيضه، فإذا كان ترك الصلاة الملازم مع وجود الإزالة واجبا نفسيا ذاتيا فوريا، يكون فعل الصلاة مبغوضا و حراما، لأن الفعل نقيض الترك و بديله بالوجدان فتفسد لا محالة، لأن مبغوضية العبادة عبارة اخرى عن فسادها، كما لا يخفى.

فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده - خاصا كان الضد أو عاما -.

و يرد على هذا الاستدلال: بأن المقدمة الاولى و الأخيرة و إن كانت

ص: 223

صحيحة إلا أن المقدمة الثانية باطلة، إذ لا دليل من عقل أو نقل على أن التلازم الوجودي بين المتلازمين موجب للتلازم الحكمي أيضا بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

نعم، لا يصح اختلافهما في الحكم الفعلي، و لكن يصح أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلي ظاهري أبدا.

و ما يقال: من عدم جواز خلوّ الواقعة من الحكم، إنما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي النفس الأمري دون الظاهري الفعلي. نعم، لو كانت الملازمة موجبة لتحقق المصلحة أو المفسدة في اللازم فلا ريب في كونه موجبا للمشاركة في الحكم، و بذلك يمكن أن يجعل النزاع لفظيا، فمن قال بأن التلازم يوجب الاتحاد في الحكم، أي في ما إذا أوجب وجود الملاك للحكم أيضا.

و من قال بالعدم، أي فيما إذا لم يوجب ذلك.

و الحاصل: أن في مورد الملازمة الوجودية إما أن يكون التلازم الوجودي موجبا لوجود مناط الحكم في اللازم أو لا، و على الثاني إما أن يكون اللازم محكوما بخلاف حكم ملازمه فعلا، أو لا حكم له ظاهرا، أو تكون الملازمة موجبة للحكم بلا ملاك.

و الأول صحيح لا بأس به. و الثاني باطل. و الثالث لا بأس به. و الأخير باطل، لبطلان الحكم بلا ملاك.

الوجه الثاني: من جهة مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر

، و قد تشتّت أقوالهم في ذلك.

1 - فمن قائل بأن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر، و بالعكس.

2 - و عن آخر أن ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر من دون عكس.

3 - و عن ثالث عكس ذلك.

4 - و عن رابع التفصيل بين الضد الموجود خارجا، فيتوقف وجود الآخر

ص: 224

على رفعه، و في غير هذه الصورة توقف في البين رأسا.

و هذه الأقوال كلها باطلة لا يمكن المساعدة عليها بوجه.

أما الأول: ففساده غني عن البيان، لأنه دور واضح بالعيان، إلا أن يقال: بأن التوقف من طرف الوجود فعلي، و من طرف الترك - الذي هو ضد العدم - شأني اقتضائي، إذ لا عليّة و لا معلولية في الأعدام، كما ثبت في محله - فلا محذور في هذا النحو من الدور - بل التعبير بالاقتضاء أيضا باطل، لأن هذه التعبيرات من شئون الوجوديات، و لا حظ للأعدام فيها بوجه.

و يمكن أن يقال: إن هذا صحيح في العدم المطلق و المقام من عدم الملكة، مع أنه لا ينافي أصل التوقف في الجملة، و إن لم تصح بعض التعبيرات بالنسبة إلى العدم.

و حق القول أن يقال: إن وجود أحد الضدين في ظرف عدم الآخر، و عدم الآخر في ظرف وجود ضده من قبيل القضية الحينية الحقيقية، و هذا حق لا ريب فيه؛ و لكنه لا ربط له بالمقدمية أصلا، هذا إذا اريد بالترك العدم. و إن اريد به الأمر الوجودي - الذي هو فعل اختياري للنفس - فلزوم الدور لا مدفع له.

و أما القول الثاني - و هو كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر من دون عكس - فقد استدل له بأن عدم المانع من أجزاء علة الشيء، و لا ريب في أن العلة بأجزائها و جزئياتها من مقدمات المعلول، و مقدمة الواجب واجبة فيكون فعلها حراما، لما تقدم من الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة نقيضه.

فالنتيجة أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده من جهة المقدمية.

و اشكل عليه بوجوه..

الأول: أن العدم لا يصلح لأن يكون منشأ لتحقق الشيء، فلا وجه لمقدمية عدم المانع.

و فيه: أنه لم يقل أحد بصدور الوجود من العدم، بل المقصود أن عدم

ص: 225

المانع من شرائط قابلية المحل لوجود أحد الضدين، و عدم المانع ليس من العدم المطلق حتى لا يصلح لشيء أبدا، بل هو من عدم الملكة القابل لمثل هذه الامور باعتبار ملكته المضاف ذلك العدم إليها.

الثاني: أنه لا مانعية لوجود أحد الضدين عن الضد الآخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمه لوجود الآخر، لأن وجود أحد الضدين مستند إلى إرادة فاعلة. و مع تحققه لا يكون المحل قابلا لوجود الضد الآخر، و عدم قابلية المحل لهما من اللوازم الذاتية للمحل، و الذاتي لا يتخلف و لا يعلل.

الثالث: ما عن الكفاية من منع المقدمية حتى بناء على التمانع بين الضدين أيضا، إذ لا منافاة بين أحدهما و وجود الآخر، بل بينهما كمال الملاءمة و المعية الخارجية، كما في عدم أحد النقيضين مع وجود الآخر بلا تقدم و لا تأخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر.

و فيه: أنه على فرض التمانع و أن عدم المانع له دخل في وجود الضد يكفي في المقدمية التقدم الرتبي العقلي، و هو يجتمع مع المعية الخارجية، كما في العلة التامة مع المعلول.

الرابع: بأنه على فرض تسليم التمانع و تسليم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر، لا وجه لعروض الوجوب المقدمي من وجود الضد إلى ترك ضده، لما تقدم من أن مورد عروض الوجوب المقدمي إنما هو صورة تعدد وجود المقدمة مع وجود ذيها خارجا، و لا تعدد كذلك في المقام، فهو مثل الأجزاء الداخلية التي تقدم عدم اتصافها بالوجوب المقدمي.

الخامس: ما عن بعض الأعاظم من أنه من الدور الباطل، فإنه لو توقف وجود أحد الضدين على ترك الآخر توقف الشيء على عدم مانعة، لتوقف عدم الآخر عليه توقف الشيء على العلة التامة، فيثبت التوقف من الطرفين إلا أنه من أحدهما على نحو العلية التامة و من الآخر بغيرها، و لا ينافي ذلك أصل التوقف

ص: 226

في الجملة الذي هو مناط تحقق الدور الباطل.

و فيه: أن عدم الآخر لا يستند إلى وجود ضده؛ بل يستند إلى عدم إرادته مع إرادة ضده، و يكفي في عدم إرادته الإجمال و الارتكاز بلا احتياج إلى الالتفات التفصيلي، فيكون عدم إرادته منطويا في إرادة ضده من دون احتياج إلى إرادة مستقلة، كانطواء إرادة إجمالية في إرادة تفصيلية مما هو كثير شائع.

ثم إنه بعد بطلان أصل المقدمية رأسا يظهر بطلان القول الثالث، و هو مقدمية وجود أحد الضدين لترك الآخر من دون عكس، كظهور بطلان التفصيل بين تحقق الضد فيتوقف وجود الضد الآخر على رفعه، و بين فراغ المحل عن الضدين، فلا توقف في البين لابتناء ذلك كله على ثبوت المقدمية في الجملة، و قد أثبتنا بطلان المقدمية مطلقا، فلا يبقى موضوع لهذه الأقوال رأسا.

كما اندفع بما ذكر الشبهة المنسوبة إلى الكعبي أيضا حيث قال في تقرير الشبهة:

إن ترك الحرام متوقف على فعل من الأفعال فيكون إتيان ذلك الفعل مقدمة له، و ترك الحرام واجب، و مقدمة الواجب واجبة فيلزم من ذلك انتفاء المباح.

وجه الدفع.. أولا: ما أثبتناه من نفي المقدمية رأسا، فلا موضوع لأصل الشبهة.

و ثانيا: أنه يكفي في ترك الحرام وجود الصارف عنه، بأي وجه اتفق من جهة دينية أو دنيوية مطلقا. نعم، لو انحصرت علة ترك الحرام في فعل من الأفعال على نحو العلية التامة المنحصرة لا ريب في وجوب ذلك الفعل حينئذ.

و الحاصل: أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا، لا بنحو الملازمة و لا بنحو المقدمية.

ص: 227

ثمرة البحث في مسألة الضد

و هي فساد العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم بناء على الاقتضاء، فيكون تركها مقدمة للواجب الأهم، فيجب ترك العبادة من باب المقدمة فيكون فعلها محرما، لما مرّ من الملازمة العرفية بين وجوب الشيء و حرمة تركه، و يأتي أن النهي في العبادة يوجب الفساد فتفسد العبادة لا محالة، هذا بناء على الاقتضاء.

و أما بناء على عدم الاقتضاء - كما أثبتناه - فلا وجه للفساد أصلا، بل و كذا بناء على الشك في الاقتضاء و عدمه، لأصالة الصحة، و عدم المانعية في العبادة التي يكون تركها مقدمة لإتيان الواجب الأهم، مع أنه قد أثبتنا عدم الاقتضاء و استقرت عليه آراء المحققين، فيسقط أصل هذه الثمرة، لبطلان أصل المبنى و سقوطه.

و عن الشيخ البهائي قدّس سرّه بطلان الثمرة تخصصا، فقال: إن الثمرة إنما تتصور في العبادة المأمور بها عند ابتلائها بمزاحمة الضد الأهم، و هو غير ممكن لعدم إمكان صدور الأمر بالضدين من العاقل فضلا عن الحكيم تعالى، فتبطل العبادة من حيث عدم الأمر، فلا تصل النوبة إلى القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده أولا، و لا إلى أن النهي في العبادة يوجب الفساد، لأن كل ذلك مبني على إمكان تحقق الأمر للعبادة المبتلاة بالضد الأهم، و هو غير ممكن، و الاستدلال للبطلان بعدم المقتضي للصحة أولى من الاستدلال بوجود المانع عنها، كما لا يخفى.

و يرد عليه أولا: إمكان تصحيح العبادة المبتلاة بالضد الأهم لأجل الملاك، فلو سلّم عدم الأمر للتضاد فلا وجه لزوال الملاك و لا موجب له، إلا احتمال أن سقوط الأمر كاشف عن سقوطه أيضا، و هو باطل، لأن الملاك ليس معلول الأمر، بل الأمر معلول له، فسقوط المعلول لا يكشف عن سقوط العلة،

ص: 228

كما هو واضح.

و ما يقال: إنه لا يصح التقرب بالملاك مع النهي بناء على الاقتضاء.

نقول: إن النهي المانع عن صحة التقرب ما إذا كان تعلّقه بالعبادة بحسب الذات لا بالعرض، و المقام من الثاني دون الأول، إذ النهي تعلّق بترك الأهم، و حيث أن المهم ملازم خارجا مع ترك الأهم، يصير مورد النهي بالعرض لا بالذات. و بعبارة اخرى: النهي في المقام من باب الوصف بحال المتعلق لا الذات، و لا دليل على كون مثل هذا النهي موجبا للفساد، بل مقتضى الأصل عدمه.

و ثانيا: بإمكان إثبات الأمر بالضدين على نحو الترتب، كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 229

الترتب
اشارة

لم يكن لبحث الترتب في كلمات القدماء عين و لا أثر، و إنما حدث عند متأخري المتأخرين و قد كتبت فيه رسائل، و كانت المسألة نظرية و كان الغالب على الكلمات الامتناع. و لكن المعروف في هذه الأعصار و ما قاربها الجواز.

و الترتب: عبارة عن صحة تصوير أمرين فعليين بالضدين - الأهم و المهم - في آن واحد - و هو آن قبل الإتيان بالمهم - و صلاحية كل منهما للداعوية، فيصح إتيان كل منهما فعلا بداعي الأمر الفعلي، و يتحقق الامتثال حينئذ، كما في سائر الموارد التي يمتثل فيها الأمر مع عدم تزاحم في البين.

و النزاع في الترتب إنما هو في مقام الامتثال و قدرة المكلف فقط، لا في مقام الجعل و الثبوت، إذ لا إشكال من أحد في صحة جعل المتزاحمين خطابا و ملاكا. فيصير أصل هذه المنازعة لفظيا، فمن يثبت قدرة المكلف على الامتثال يقول بوقوع الترتب لا محالة، و لكنه معترف بالامتناع مع عدم القدرة، و من يثبت عدم القدرة على الامتثال لا مناص له إلا القول بالامتناع، و هو معترف بالوقوع مع القدرة.

شروط الترتب:

يعتبر في صحة الترتب و وقوعه امور، و مع اختلال أحدها لا يبقى موضوع للصحة فضلا عن الوقوع، و هي:

الأول: وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتا، و تمامية الحجة

ص: 230

على كل واحد منهما إثباتا، لما مرّ من أن المانع - على فرض تحققه - إنما هو منحصر بمرحلة قدرة المكلف على الامتثال. هذا مضافا إلى إجماع المجوزين و المانعين على اعتبار هذا الشرط.

الثاني: كون الأهم مضيّقا، سواء كان المهم أيضا كذلك أو لا، و سواء كان التضييق من جهة الملاك الذاتي - كإنقاذ الغريق - أو من جهة فورية الخطاب فورا ففورا، كإزالة النجاسة عن المسجد - مثلا - و الوجه في اعتبار هذا الشرط معلوم، لأنه لو لم يكن الأهم مضيّقا و كان موسّعا لما كان تزاحم في البين، لقدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين، فلا تصل النوبة لبحث الترتب.

الثالث: كون الضدين مما لهما ثالث، و ألا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الامور التكوينية، و يكون الأمر به حينئذ من الشارع إرشاديا لا أن يكون مولويا، و مورد البحث في الترتب إنما هو اجتماع الأمرين المولويين في آن واحد.

الرابع: انحصار مورد البحث بمرحلة قدرة المكلف فقط من دون أن يكون في البين مانع آخر من موانع التكليف، لأنه لا موضوع للخطاب مع وجود مانع عنه في البين، فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتى يتحقق موضوع الترتب.

الخامس: كون الأهم و المهم متعددين وجودا على ما هو المعلوم من كلماتهم، فلا يكون مورد تداخل الأغسال، و اجتماع الأمر و النهي - بناء على الجواز - من موارد الترتب، لفرض اتحاد الوجود في متعلق الخطاب فيهما.

السادس: إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم و تقييد خطاب المهم بترك الأهم، و إلا فمع فرض بقاء إطلاق الخطابين من كل جهة، فلم يقل أحد بالجواز حينئذ.

و إذا تمت هذه المقدمات، فالبحث في جواز الترتب..

ص: 231

تارة: بحسب الدليل العقلي.

و اخرى: بحسب الاستظهار الصناعي الاصولي.

و ثالثة: بحسب الاعتبار العرفي.

أما الأول: فالمقتضي للجواز - و هو الملاك و الخطاب - موجود، و المانع عنه مفقود، فلا بد من الوقوع حينئذ، لأن ما يتوهم من المانعية امور تأتي الإشارة إليها في أدلة المانعين مع دفعها.

و أما الثاني - و هو الاستظهار الاصولي - فإن كان الخطابان عرضيين من كل جهة فلا ريب في الامتناع، و أما إذا كانا طوليين، أي كان خطاب المهم مشروطا بترك الأهم و لو عصيانا، فأي امتناع فيه حينئذ، لأن القدرة الطولية موجودة وجدانا، فأي امتناع في أن يقال: أزل النجاسة عن المسجد و صلّ، و إن تركت الأول عصيانا لا تترك الثاني بجعل الجملة الأخيرة بيانا لكيفية صدور الأمرين.

و أما الثالث: فالمحاورات العرفية أصدق شاهد على الصحة و الوقوع، يقول المولى: اسقني الماء و افرش سجادتي، و إن عصيتني في الأول فلا تعصني في الأخير.

إن قلت: لا ريب في الإمكان و الوقوع في مثل ما ذكرت من المثالين، لوقوع الاشتراط اللفظي فيه، فيدفع بذلك محذور الامتناع.

أقول: بعد ما جعلنا من المقدمات كون خطاب الأهم مطلقا و خطاب المهم مشروطا بتركه و لو عصيانا، فأي فرق بين الشرط اللفظي حينئذ و الشرط الواقعي السياقي العقلي في حاق الواقع صونا للكلام عن القبح و اللغوية، فإن مدار جميع هذه الامور على إمكان التصرفات العرفية المحاورية، فيصح بكلما أمكن للتصحيح طريق عرفي، بل العقلي إن أمكن بالدقة العقلية طريق للتصحيح، و ذلك لفرض أنهم أخرجوا المسألة عن العرفيات و أدخلوها في الدقيات.

ص: 232

الكلام في جواز الترتب

و استدلوا على امتناع الترتب بوجوه:

الأول: أنه من طلب الضدين و هو ممتنع عقلا و قبيح

، فيكون محالا بالنسبة إلى الشارع، لاستحالة صدور المحال منه تعالى.

و فيه: أنه طرد لطلب الضدين، لا أن يكون جمعا بينهما في الطلب، لما مرّ من كون المهم مشروطا بعصيان الأهم، فكيف يكون حينئذ طلبا للضدين؟!

و القول: بأن المشروط يصير مطلقا بعد تحقق شرطه، فيعود المحذور من الجمع في الطلب بين الضدين و عدم قدرة المكلف على الامتثال.

مدفوع: بأن المكلّف إن كان عاصيا في خطاب الأهم، كيف لا يكون قادرا على امتثال المهم، سواء كان خطاب المهم مطلقا أو لم يكن كذلك، و مع أنه لا إطلاق في الخطابين من كل جهة بل خطاب المهم ثبوتا مشروط بترك الأهم، فلا يكون الخطابان من الجمع في طلب الضدين.

إن قلت: الأمر بالمهم و إن لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم لفرض اشتراطه بعصيانه، و لكن الأمر بالأهم موجود في مرتبة الأمر بالمهم بداهة ثبوت المطلق في المشروط، و تحققه فيه كتحقق المقسم في الأقسام، فيلزم الجمع في الطلب بين الأمرين و الضدين و عدم قدرة المكلف عليه، كما لا يخفى.

قلت: مرتبة عصيان الأمر بالأهم و مخالفته غير مرتبة المهم، فلا اجتماع للأمرين في تلك المرتبة، و على فرض الاجتماع لا مانع من الجمع بين الأمرين و طلب الضدين إلا عدم قدرة المكلف على امتثالهما، و مع عصيان المكلف للأمر بالأهم، لا ريب في قدرته على إتيان الأمر بالمهم، فقد أقدر المكلف نفسه على الامتثال بعصيان أمر الأهم، و الوجدان يحكم بأنه حين امتثال الأمر بالمهم قادر عليه و عاص للأهم، فيكون مجمع العنوانين فعلا، و لا محذور فيه.

فآنات امتثال أمر المهم آنات عصيان الأهم، و بالعصيان تحقق القدرة للأمر بالمهم فتثبت فعليته لا محالة، إذ لا مانع في البين إلا من ناحية القدرة،

ص: 233

و المفروض أنه أقدر نفسه على الامتثال بالعصيان فارتفع المحذور.

فالأقسام في الأمر بالضدين ثلاثة: عصيانهما معا، و عصيان أحدهما و إطاعة الآخر، و إطاعتهما معا في آن واحد، و العقل حاكم بإمكان الأولين و امتناع الأخير، و الترتب المبحوث عنه في المقام من الثاني لا الأخير، فلا وجه لتوهم الامتناع.

إن قلت: هذا إذا كان عصيان الأمر بالأهم آنيا، كما في الغريق المشرف على الهلاك، فإن عصى و لم ينقذه و شرع في الصلاة فمات الغريق.

و أما إذا كان تدريجيا فلا يتحقق العصيان إلا بعد الفراغ من المهم، فلا يتحقق شرطه حين الاشتغال بإتيانه، فلا يثبت موضوع الأمر حينئذ بالنسبة إليه أصلا، لفرض أن موضوعه عصيان أمر الأهم و المفروض عدم تحققه إلا بعد الفراغ من المهم.

قلت: في كل آن من آنات إتيان المهم عصيان ترك الأهم فهو منبسط على جميع الآنات انبساط الظلمة على الساعات، لفرض وجوبه فورا ففورا، ففي كل آن عصيان فعلي و مخالفة عملية للأهم و يتحقق بذلك موضوع أمر المهم، مع إمكان أن يكون الشرط عزم المكلف على العصيان، و كونه في مقام الهتك و العصيان، كما يجوز جعل العصيان الخارجي على نحو الشرط المتأخر شرطا للأمر بالمهم. و تقدم أنه لا محذور في الشرط المتأخر في الاعتباريات، شرعية كانت أو عرفية.

الثاني: - مما استدل به على امتناع الترتب - أن جوازه مستلزم لتعليق وجوب المهم على إرادة المكلف و اختياره، فيلزم خروج الواجب عن وجوبه

، لأنه إن اختار ترك الأهم يجب المهم، و إلا فلا يجب، مع أنه من تعليق الواجب على العصيان و مستلزم لتعدد العقاب عند تركهما معا، و هو بعيد عن ساحته تعالى.

ص: 234

و يمكن المناقشة فيه: أما تعليق الوجوب على الاختيار و العصيان فكثير في الفقه، كتعليق وجوب القضاء على ترك الأداء و عصيان أمره، و كتعليق الكفارات على ارتكاب المحذورات في الصوم و الإحرام و غيرهما مما هو كثير.

و أما الأخير فيمكن أن يقال بفعلية عقاب الأهم و تداخل عقاب المهم فيه عند تركهما معا، و لا محذور فيه من عقل أو شرع، فيكون منشأ إمكان تعدد استحقاق العقاب إمكان تعدد الخطاب حقيقة أو اعتبارا أو انحلالا، كما في الواجبات الكفائية. هذا بحسب القواعد، و أما التفضلات الإلهية على عبيده فهي أمر خارج عن درك عقولنا.

ثم إنه قد اعترف القائلون بامتناع الترتب بإمكانه و وقوعه في العرفيات، و هذا تهافت منهم من حيث لا يشعرون، فإن أدلة الشرعيات منزلة على العرفيات، و الدقيات العقلية بمعزل عن الشرعيات، كما هو أوضح من أن يخفى على الأصاغر فضلا عن الأكابر.

الثالث: أنه على فرض صحته و إمكانه ثبوتا، فالأدلة قاصرة عن إثباته

، لأنه خلاف المتفاهم العرفي المنزلة عليه الأدلة الشرعية، إذ ليس كل ما هو ممكن ذاتا بواقع خارجا.

و فيه: أن الترتب من المداليل السياقية، نظير المفاهيم، و الجمع العرفي عند أهل المحاورة، و إذا اعترف من ذهب إلى امتناع الترتب شرعا بوقوعه عرفا، فلا وقع لهذا الاستدلال أصلا.

فإذا ورد خطاب مطلق بالأهم و كذا بالنسبة إلى المهم، و تحققت شروط التزاحم، فإما أن يسقطا معا، أو يسقط الأهم دون المهم، أو يكون بالعكس، أو يثبتان معا.

و الأول باطل عند الكل، و الثاني ترجيح المرجوح على الراجح، و الثالث إسقاط لأحد الخطابين بلا وجه مع إمكان إبقائه، فيكون المتعين هو الأخير عقلا

ص: 235

و عرفا.

ثم إنه يكفي في تأخر الامتثال عن الأمر، و كذا تأخر عصيانه عنه، التأخر الرتبي فقط. و لا يعتبر التأخر الزماني، لعدم دليل عليه، بل مقتضى الأصل عدم اعتباره، فيكون أول آن الشروع في امتثال المهم و عصيان الأهم رتبة ثبوت الأمرين معا، فتتحقق الإطاعة و العصيان في الرتبة المتأخرة قهرا، فيصح أن يكون عصيان أمر الأهم شرطا مقارنا للأمر بالمهم، أو البناء على العصيان شرطا متقدما، أو تحققه خارجا شرطا متأخرا، و الكل صحيح لا بأس به.

هذه خلاصة الكلام في الترتب.

ص: 236

الامر الرابع: النهي عن الشيء هل يوجب الفساد و هو على قسمين:
القسم الأول: النهي في العبادة
تمهيد:
اشارة

يمكن جعل هذا المبحث كلاميا إن كان مورد البحث هكذا: «المفسدة في الشيء تسقطه عن صلاحية التقرب به إلى المعبود». كما يمكن أن يجعل فقهيا إن كان هكذا: «في العبادات المحرمة تجب الإعادة أو القضاء». كما يصح جعلها من الملازمات غير المستقلة الاصولية إن عنون هكذا: «كل عبادة منهي عنها فاسدة عقلا». و القوم جعلوه من الأخير، و حيث لم يعقدوا في الاصول بحثا مستقلا للملازمات أدرجوه في مباحث الألفاظ.

و كيف كان، فهذا البحث إنما يجري في مقام الثبوت و الإثبات معا، فعلى الأول يبحث عن أنه هل يكون ملازمة واقعية بين النهي عن العبادة و فسادها؟ و على الثاني هل يدل النهي بإحدى الدلالات المعتبرة اللفظية على فساد مورده إن كان عبادة؟ و لا وجه للاختصاص بالأخير - كما عن الكفاية - بدعوى أن في جملة الأقوال قولا بدلالة النهي على الفساد مع إنكار الملازمة رأسا، فلأجل

ص: 237

شمول مورد البحث لهذا القول لا بد من الاختصاص. و ذلك لأن القول الذي ثبت فساده بالدليل لا وجه لتغيير عنوان البحث لأجله.

و هذا البحث مغاير مع بحث اجتماع الأمر و النهي عنوانا و عرفا و دقة، لأن البحث في المقام في أن النهي بعد تعلّقه بالعبادة يوجب فسادها؛ و في مسألة الاجتماع في أن النهي هل يتعلق بالعبادة مع تعدد الجهة أو لا؟ فالفرق بين البحثين ظاهر، و تقدم في أول مسألة الاجتماع. فراجع.

و لا بد من التنبيه على امور:
الأول: إطلاق النهى يشمل جميع أقسامه الكلام فى النهى التبعي

إطلاق النهي يشمل كل ما يسمى نهيا نفسيا كان - كالسجود للصنم - أو غيريا، كقوله عليه السّلام: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، أصليا كان - كما في المثالين المتقدمين - أو تبعيا، كما في مورد ترك الأهم و الإتيان بالعبادة في ظرف الترك، بل و كذا النواهي التنزيهية أيضا إن فرض تعلّقها بذات العبادة، و لكنه فرض غير واقع، لأن النواهي التنزيهية متعلّقة بالجهات الخارجة عن ذات العبادة، لتقوم العبادة بالرجحان الذاتي، عرفا و شرعا و عقلا.

و لكن اتفاق الفقهاء على صحة العبادات و المعاملات المكروهة، و سيرة المتشرعة عليها، يخرج النواهي التنزيهية عن مورد البحث مطلقا، فيختص مورده بخصوص النهي التحريمي.

ثم إن دخول النهي التبعي مبني على كونه موجبا لسقوط العبادية خطابا و ملاكا، و إلا فمع بقاء الملاك يمكن تصحيح العبادة به بناء على الترتب، كما مر.

الثاني: المراد بالعبادة و اقسامها

المراد بالعبادة ما هو المرتكز في الأذهان - المعبّر عنها في الفارسية ب (پرستش) - أي الوظائف التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى، سواء كان ذلك من لوازمها الذاتية، كالسجود، و قراءة القرآن، و الدعاء و نحوها مما يكون قصد الخلاف مانعا عن صحتها، لا أن يكون قصد القربة معتبرا فيها، أو متقومة بقصد القربة، كالصلاة و الصوم و الحج و نحوها، و يطلق على هذين القسمين

ص: 238

العبادة (بالمعنى الأخص) في اصطلاح العلماء، و هذا هو مورد البحث في المقام.

و قد تطلق العبادة على ما يمكن أن يقصد بها التقرّب إليه عزّ و جلّ، و يطلق عليها العبادة (بالمعنى الأعم)، فيشمل جميع المباحات و المندوبات التوصلية، بل ترك المحرمات أيضا، لإمكان قصد التقرب بالجميع، و ترتب الثواب عليه، كما تطلق المعاملات تارة على خصوص العقود و الإيقاعات، و اصطلح عليها بالمعاملات بالمعنى الأخص، و اخرى على ما يقابل العبادات بالمعنى الأخص، فيشمل الجميع، أي كلما لم يكن عبادة بالمعنى الأخص، و هذا هو المراد من قولهم في المقام، النهي في المعاملة لا يوجب الفساد، كما ستعرف.

الثالث: النسبة بين الصحة و الفساد و كونهما من الأمور الاعتبارية الاضافية

الصحة و الفساد من الاعتباريات الإضافية تنتزعان من مطابقة الشيء لما هو المطلوب منه و مخالفته له، و يطلق عليهما التمامية و عدمها، و لا يختصان بالمجعولات الشرعية أو العرفية، بل تجريان في التكوينيات أيضا، و حيث أنهما من الامور الإضافية فيمكن أن يتصف شيء واحد بالصحة و الفساد بالنسبة إلى شخصين، بل بالنسبة إلى شخص واحد من جهتين و حالتين.

الرابع: كيفية تعلق النهي بالشىء

النهي إما أن يتعلّق بذات العبادة، كقوله تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ. أو بجزئها، كقوله عليه السّلام: «لا تقرأ العزيمة في المكتوبة». أو شرطها، كقوله عليه السّلام: «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه»، و يسري النهي في الآخرين إلى الذات أيضا عرفا، لأن التقرّب بالمشتمل على المبغوض مما يستنكر لدى العقلاء، هذا مع أن النهي بكلا قسميه - جزء كان أو شرطا - إرشاد إلى فساد المركب أو المقيد به، كما هو المعروف بين الفقهاء، فيكون فساد العبادة المنهي منها بقيدها من باب الوصف بحال الذات لا المتعلق، و هو

ص: 239

مثل فساد العبادة المنهي عنها بذاتها من غير فرق، إلا أنه بحسب الدقة العقلية يكون من باب الوصف بحال المتعلّق، لكن الأدلة غير منزّلة عليها، كما هو معلوم.

و بهذا يمكن أن يجمع بين الكلمات، و قد تعرضنا للأمثلة في (مهذب الأحكام) في موارد شتى، كالرياء في جزء العبادة، و قراءة سورة العزيمة، و القرآن بين السورتين، و الزيادة العمدية و غير ذلك مما هو كثير، و الكبرى واحدة و إن تعددت الصغريات.

الدليل على اقتضاء النهي في العبادات - الفساد

مما يشهد به وجدان كل عاقل أن التقرب إلى المعبود بما هو مبغوض و منفور لديه مستنكر و قبيح و باطل، فهذه المسألة مما يكفي نفس تصورها بالاستدلال عليها، و تكون من القضايا التي قياساتها معها.

و لو شك في المسألة الاصولية في أنه هل تثبت الملازمة بين النهي و الفساد ثبوتا؟ فمقتضى الأصل عدم الثبوت بالعدم الأزلي، فإن العدم النعتي ليست له حالة سابقة، كما هو واضح، مع أن نفس الشك في الثبوت و عدمه يكفي في عدم الثبوت، فلا بد من قيام حجة معتبرة عليه، و إلا فمقتضى الأصل عدم الاعتبار، و كذا لو شك في دلالة النهي عليها في مقام الإثبات بإحدى الدلالات المعتبرة، فبالأصل الجاري في عدم الدلالة بالعدم الأزلي تنتفي تلك الدلالة، مع أن الشك في ثبوت الدلالة يكفي في عدمها، كما مرّ فتكون النتيجة في المسألة الاصولية مطلقا عند الشك فيها عدم إحراز الفساد، بلا فرق في ذلك بين العبادات و المعاملات، فيصح التمسك بإطلاقات الأدلة و عموماتها للصحة لو لم يكن التمسك بها من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، لا سيما في العبادات - لما تقدم آنفا - من أن قبح التقرّب إلى المعبود بما هو

ص: 240

مبغوض لديه من الامور الارتكازية لدى كل عابد. هذا حكم الأصل في المسألة الاصولية.

و أما الأصل العملي في المسألة الفقهية، فهي من صغريات الأقل و الأكثر في العبادات، فإن خروج معلوم الفساد عن الإطلاقات و العمومات أمر معلوم، و لكن خروج مشكوك الفساد غير معلوم. فمن قال في الأقل و الأكثر بالبراءة، يقول بها هنا أيضا، و من قال فيه بالاحتياط، يلزمه القول به في المقام.

لكن الشأن في جريان العمومات و الإطلاقات مع تلك القرينة المعهودة في الأذهان - التي تعرضنا لها - إلا أن يقال: إن القرينة إنما تجزي فيما إذا كان الفساد محرزا بالحجة المعتبرة، و لذا اشتهر أن النواهي التحريمية في العبادات مطلقا إرشاد إلى الفساد.

و أما إذا شك فيه لأجل جهة من الجهات فلا مجرى لتلك القرينة المعروفة في الأذهان، فتصل النوبة إلى الأصل حينئذ، بلا فرق بين الجزء و الشرط، لأن تقييد الذات بكل واحد منهما يوجب اتصاف الذات بالمبغوضية و إن أمكن التفكيك عقلا. نعم، لو كان شيء واجبا في العبادة من دون تقييدها به جزء أو شرطا فلا يوجب النهي عنه فسادها، لفرض عدم تقييد في البين، سواء كان ذلك الشيء عبادة أيضا، كوجوب صلاة الظهرين - مثلا - لمن كان صائما في شهر رمضان، أو لم يكن عبادة، كإزالة النجاسة عن المسجد لمن كان معتكفا فيه، فلو فسدت صلاة الصائم في شهر رمضان لا يضر بصومه، و كتسليم الأجنبي على الأجنبية التي تشتغل بصلاة الفريضة فردت عليه السلام في أثناء الصلاة، و قلنا إن صوت الأجنبية عورة.

إن قلت: نعم، و لكن الأصل في العبادات المشكوكة البطلان مطلقا، و قد اشتهر أن العبادات توقيفية لا بد من الاقتصار على المعلوم صحتها التي علم

ص: 241

بصدورها من الشارع، فهي من هذه الجهة كالحجية، حيث أن مجرد الشك فيها يكفي في عدم الحجية، فلا يبقى موضوع حينئذ للتمسك بالإطلاقات و العمومات.

قلت: لا أصل لهذا الأصل من عقل أو نقل، و كون العبادات توقيفية مسلّم في الجملة، بمعنى أنها منوطة بجعل الشارع، و لكن بعد الجعل لا بد و أن يعمل فيما يشك في اعتباره فيها بالرجوع الى القواعد المعتبرة و الاصول المقررة، كما هي السيرة المعروفة عند الفقهاء.

إن قلت: إن مورد النهي في العبادة إما أن يكون نفس العمل من حيث هو، أو العمل مع قصد القربة. و الأول خارج عن مورد البحث، إذ لا عبادية ذاتية في غالب العبادات و إنما تكون عباديتها لأجل قصد القربة. و الثاني باطل من حيث التشريع، فلا يبقى موضوع لبحث أن النهي في العبادة هل يوجب الفساد أو لا؟

قلت أولا: أن هذه المغالطة لا تجري في ما إذا كانت عبادية العبادية ذاتية، كالسجدة، و قراءة القرآن، و الذكر و الدعاء و نحوها.

و ثانيا: أن متعلّق النهي إنما هو العمل مع قصد القربة، و الفساد ينتهي لا محالة إلى النهي و هو العلة الأولية الذاتية للفساد، و مع وجود العلة الذاتية لا وجه لاستناد الفساد إلى العلة العرضية و هو التشريع، لأن ما بالذات أولى بأن يعلل به، بل هو المتعين، لانتهاء العلة العرضية بالآخرة إلى الذاتية.

و الحاصل: أنه ليس في البين أصل عملي في المسألة الفرعية - عند الشك في أن النهي عن العبادة يدل على الفساد - أو لا يستفاد منه بطلان العمل و فساده، لكن مع تعلّق النهي بحجة معتبرة لا وجه للشك، لما ذكرناه من الارتكاز العرفي و الملازمة بين النهي عن العبادة و فسادها عند العقلاء، فيكون الشك في الفساد بعد تعلّق النهي من مجرد الفرض فقط.

ص: 242

القسم الثاني: النهي في المعاملات
النهي في المعاملات على أقسام ثلاثة:
الأول: أن يكون إرشادا إلى الفساد

، سواء تعلّق بالمنشإ في الإيقاعات، أو بأحد الطرفين في العقود، كإيقاعات الصبي و المجنون و عقودهما، أو بأحد العوضين في العقود، كبيع الخمر و الكلب مثلا. أو بالمورد في الإيقاعات، كالبطلان مع فقد الشرط مثلا. أو بمطلق التسبب، كبيع المنابذة و نحوها.

و لا ريب في الفساد حينئذ، لفرض أن النهي إرشاد إليه، كما إذا كان النهي الوارد في العبادة إرشادا إلى الفساد فإنه لا إشكال في فسادها، بلا فرق بين العبادات و المعاملات من هذه الجهة و في هذا القسم من النهي.

الثاني: ما إذا كان النهي تكليفيا محضا

، كالنهي عن البيع في وقت النداء، و عن غسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب، فلا ريب في الإثم لتحقق المخالفة، كما لا ريب في ترتب الأثر و عدم الفساد للإطلاقات و العمومات، و أصالة الصحة و عدم منشأ للفساد، لأن منشأه عدم صحة التقرّب بالمبغوض، و لا موضوع له في المعاملات أصلا، لعدم اعتبار قصد التقرّب فيها، فمقتضى أصالة الصحة و العمومات و الإطلاقات الصحة في جميع موارد الشك.

نعم، مقتضى أصالة عدم ترتب الأثر و عدم النقل و الانتقال هو الفساد لو لا العمومات و الإطلاقات، و أصالة الصحة، الدالة كل ذلك على النفوذ و الصحة.

ص: 243

و توهم: أن التمسك بالإطلاق و العموم فيها مع الشك، تمسك بالدليل في الموضوع المشكوك فيه.

مردود: بأن المناط في المعاملات صدق العنوان عرفا، و مع الصدق كذلك يصح التمسك بالدليل عند الشك في اعتبار شيء أو مانعية شيء شرعا، و مع عدم الصدق العرفي لا يجوز، و المفروض هو الأول.

الثالث: ما إذا لم يستظهر من الأدلة أن النهي إرشاد إلى الفساد حتى يدل على البطلان

، أو تكليفي محض حتى لا يتحقق البطلان. و مقتضى الإطلاق و العموم و أصالة الصحة، عدم البطلان في هذا القسم أيضا، و المرجع في تعيين كون النهي تكليفيا محضا أو أنه إرشاد إلى الفساد، القرائن المعتبرة من نص أو إجماع معتبر.

ثم إنه قد يستدل للفساد بمطلق النهي التكليفي بالتعليل الوارد في نكاح العبد بدون إذن سيده: «بأنه لم يعص اللّه و إنما عصى سيده فإذا أجاز جاز».

بدعوى: أنه يدل على أن في كل عقد أو إيقاع تحققت فيه معصية اللّه تعالى يكون باطلا.

و فيه: أن المراد بقوله عليه السّلام: «إنه لم يعص اللّه» أنه لم يرتكب ما لم يأذن به اللّه تعالى حتى يكون باطلا، كنكاح المحارم مثلا، فإن مقتضى الإطلاقات و العمومات أن كل نكاح مأذون فيه من الشارع إلا إذا قام الدليل على فساده بالخصوص. نعم، لا بد للعبد من الاستئذان من سيده في النكاح لأنه مملوك له، فحيث ارتكب العبد ما لا يأذن به سيده، يتوقف لزوم عقد نكاحه على إذن السيد و إجازته، فيكون مفاد الحديث أن العبد لم يتركب ما لم يأذن اللّه تعالى في صحة نكاحه - كنكاح المحارم - حتى يقع باطلا رأسا و لا ينفعه إذن السيد، و إنما ارتكب ما لم يأذن سيده، فإذا أذن نفذ، و يدل عليه صحيح ابن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه، أ عاص للّه تعالى؟ قال عليه السّلام:

ص: 244

عاص لمولاه. قلت: هو حرام. قال عليه السّلام: ما أزعم أنه حرام». و المراد بالحرام الحرمة التي لا تزول برضاء السيد.

ثم إنه قد قيل: بدلالة النهي على الصحة، لأن تعلّقه بشيء لا بد و أن يكون بلحاظ أثره المترتب عليه، و الفساد لا أثر له.

و فيه: أنه إن أراد الصحة الفعلية من كل حيثية فبطلان هذا القول غني عن البيان في العبادات، بل و في المعاملات أيضا إن كان النهي إرشادا إلى الفساد.

و إن كان المراد الكشف عن الصحة لو لا النهي فهو حق لم يختلف فيه أحد.

و الحمد للّه رب العالمين

تمّ الكتاب

ص: 245

ص: 246

الفهرس

المدخل 5-6

المقدمة - و فيها أمور عامة - 7-48

الأمر الأول: تعريف الأصول، و غايته، و مرتبته، و فضله 7-8

الأمر الثاني: يتقوم كل علم بالموضوع و المسائل و المبادئ و البحث في ذلك 8-9

الأمر الثالث: تعريف المسألة الأصولية، الفرق بينه و بين القاعدة الفقهية 9-10

الأمر الرابع: الكلام في ما هو المعروف من أن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. و المراد من العرض الذاتي، و القول في تمايز العلوم بتمايز الموضوعات 11

الأمر الخامس: موضوع علم الأصول، الإشكال في كونه الأدلة الأربعة و الجواب عنه ثم التعريف بما هو الحق 11-13

الأمر السادس: تعريف الوضع، الفرق بينه و بين استعمال اللفظ، تعيين الواضع، تقسيم الوضع و الموضوع له، وقوع هذه الأقسام. الكلام في وضع اللفظ الكلي. الاستدلال لوقوع الوضع العام و الموضوع الخاص له، و المناقشة فيه، الكلام في لحاظ الاستقلالية في الأسماء و الآلية في الحروف، و المناقشة في كونها من خصوصية المعنى، تعيين الحق في المقام. الأقوال في المعاني الحرفية و اختيار الحق منها. تعيين المراد بما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام المراد من المعاني الحرفية، الثمرة في البحث عن المعاني الحرفية، و المناقشة فيها 13-19

تذنيبات: 19-20

الأول: الأول اتصاف المعاني الحرفية بالإيجادية و الإخطارية، و الكلية و الجزئية و نحو ذلك.

ص: 247

الثاني: تعميم النسب و الإضافات على جميع الموجودات، و الكلام في ذلك.

الثالث: تقسيمات الجملة إلى إخبارية و إنشائية، و قد تستعمل فيهما، و الإخبارية و الإيجادية من الأمور القصدية الكلام في وضع مواد الجمل و وضع هيئاتها.

الأمر السابع: الكلام في الحقيقة و المجاز، الاحتمالات في وضع المعاني المجازية و المناقشة فيها، و الحق أن استعمال المجاز منوط بعدم استنكار أهل المحاورة، عدم انحصار الاستعمال في الحقيقة و المجاز، عدم انحصار العلائق المجازية بل هي دائرة مدار الأذواق السليمة 20-22

الأمر الثامن: تعريف الحقيقة و المجاز، علامات الحقيقة. الأولى التبادر الإشكال عليه و الجواب عنه. الثانية: عدم صحة السلب. الثالثة: الاطراد، قد يقال إن هذه العلامة أيضا تجري في المجاز فلا تكون علامة للحقيقة، الإشكال فيه. 22-23

الأمر التاسع: حالات اللفظ، الرجوع إلى الأصول العقلائية إن اشتبه اللفظ، و هي أصالة عدم القرينة، و أصالة الإطلاق و العموم، و أصالة عدم النقل، أصالة عدم الوضع. و مع عدم جريان هذه الأصول حكم على اللفظ بالإجمال. 23

الأمر العاشر: الدلالة إما تصديقية أو تصورية. تعريفهما، و كلتاهما متوقفان على الإرادة. و عن جمع نفي الدلالة التصورية، الجمع بين القولين. 24

الأمر الحادي عشر: المعاني إما تكوينية أو اعتبارية، أو من المخترعات، و قد وقع نزاع الأصوليين في الأخيرة - دون الأوليين لأنها حقائق لغوية - من جهتين:

الأولى في أنها من المعاني المستحدثة أولا.

الثانية: في أنها مسبوقة بالعدم قبل شرع الإسلام أولا و في القول بالأخيرة يجري نزاع الحقيقة الشرعية فيها. و الحق عدم ثبوت الحقيقة الشرعية في الألفاظ. و كذا الحقيقة المتشرعة خصوصا بعد إثبات كون الألفاظ المستعملة في لسان الشارع حقائق لغوية. 25-26

الأمر الثاني عشر: وقع النزاع في الألفاظ مطلقا - بلا اختصاص للمخترعات الشرعية - و هل

ص: 248

هي موضوعة للمعاني الصحيحة، أو للأعم منها و من الفاسدة؟ و الظاهر هو الأخير و الدليل على ذلك و قد نسب إلى المشهور أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعاني الصحيحة و المناقشة في ذلك. 27-33

التنبيه على أمور: 28-31

1 - الصحة و الفساد بما لهما من المعنى العرفي الواقعي يكون مورد البحث في المقام.

2 - الصحة و الفساد من الأمور الاعتبارية الاضافية لهما أفراد طولية و عرضية.

3 - الصحة و الفساد إنما يكون بالنسبة إلى الذات من حيث التقييد بالشرائط، و أما المشخصات فهي خارجة عن الحقيقة، ثم الكلام في الجامع و الأقوال فيه.

الاستدلال للصحيح و المناقشة فيه، الاستدلال للأعم و المناقشة فيه، الثمرة لهذا البحث و الكلام في هذه الثمرة.

الأمر الثالث عشر: ينقسم اللفظ الى متحد المعنى و اللفظ، و المتباين، و المترادف، و المشترك. وقع الكلام في الأخير من جهات ثم الكلام في التثنية و الجمع، و الفرق بينهما و بين المشترك ثم المراد بالأخبار الواردة في أن للقرآن بطونا. 34-37

الأمر الرابع عشر: المشتق: المراد من المشتق، تقسيم الحمل. حالات الموضوع مع المحمول.

37-39

بيان أمور: 39-43

الأول: هل يعتبر في صدق المحمول على الموضوع فعلية تلبس الموضوع بالمحمول؟

الثاني: خروج المصادر و الأفعال عن مورد النزاع، لعدم حملها على الذات. الفرق بين المصدر و الفعل. إطلاق الأفعال بالنسبة إلى اللّه تعالى.

الثالث: في اشتقاق الأفعال، و المناقشة في ما ذكره القوم. الفرق بين المصدر و اسم المصدر و غيرهما.

الرابع: الفرق بين مفاد هيئات الأفعال و مفادها في الأسماء المشتقة.

الخامس: تأسيس الأصل في المسألة الأصولية بحيث يثبت به الوضع

ص: 249

للمتلبس أو للأعم. و المناقشة في ما ذكره القوم، إمكان صحة التمسك بالأصول العملية في المسألة الفقهية.

اختيار الحق في مسألة المشتق - و هو الوضع لخصوص المتلبس - و مناقشة ما يورد على المختار...

أدلة القائلين بأن الوضع للأعم و الجواب عنها. الكلام في بساطة المشتق لحاظا و اعتبارا، و في مقام التبادر اللفظي و مناقشة ما قد يتوهم كونه مركبا في مقام التبادر اللفظي. 43-47

فائدتان: 47-48

الأولى: صحة حمل المشتق بخلاف المبدأ، و يكفي في صحة الحمل حسن الاضافة بين المحمول و الموضوع مطلقا و لكن يعتبر في الحمل المغايرة و الاتحاد في الجملة، و أقسامها

الثانية: لا ريب في أن إطلاق صفات الكمال على اللّه تعالى على نحو الوجوب و التمام و على غيره بالإمكان و النقصان و إنما الكلام في أن هذا الإطلاق على نحو الاشتراك المعنوي أو أنه بمعنى نفي الضد، و الحق هو الأخير، و الدليل عليه.

المقصد الأول - مباحث الألفاظ 51-190

القسم الأول - الأوامر - البحث في الأوامر يقع ضمن أمور - الأول: في مادة الأمر، و فيه جهات من البحث. 51-88

الجهة الأولى: معاني الأمر في اللغة، و هل هو مشترك لفظي أو معنوي ذكر المعنى العرفي الذي منه الاصطلاح الأصولي. 51

الجهة الثانية: تقوم الأمر بالعلو، و أما الاستعلاء فلا دليل عليه، و البحث في ذلك. 52

الجهة الثالثة: اختلاف الطلب و الإرادة مفهوما، و إن الطلب مبرز للإرادة لا أن يكون عينها البحث في اتحاد الطلب و الإرادة إنشاء. 52

الكلام في شبهة الجبر: 53-59

نقل الأقوال في ذلك و المناقشة فيها، أسباب الفعل، بيان المراد من قولهم عليهم السّلام: «الأمر بين الأمرين» و ما ذكر فيه من الوجوه، الجواب عن ما هو المعروف من أن السعيد سعيد في بطن أمه، الجواب عن ما

ص: 250

ورد في الطينة.

الكلام في شبهة تخلف المراد عن الإرادة: 59-60

تقرير الشبهة، ذكر الأجوبة عنها و المناقشة فيها.

الكلام في شبهة الكلام النفسي: 60-61

تقرير الشبهة، و الجواب عنها، ثم المناقشة فيه. و من فروع الكلام النفسي مسألة كون القرآن مخلوقا أو قديما.

الأمر الثاني - في صيغة الأمر، و الكلام فيها من جهات. 62-72

الجهة الأولى: معاني صيغة الأمر، هل أن هذه المعاني من تعدد الوضع، أو أنها من دواعي الاستعمال و المتيقن من تلك المعاني هو البعث نحو المطلوب. 62

الجهة الثانية: الاختلاف في كون الصيغة حقيقة في مطلق الطلب، أو في الوجوب، أو في الندب، الظاهر سقوط هذا البحث برأسه و الدليل عليه. 63

الجهة الثالثة: الجملة الخبرية تكون كصيغة الأمر في إفادة الوجوب إذا وردت مورد البعث. 36

الجهة الرابعة: لا تدل الصيغة لا على المرة و لا على التكرار بأي الدلالات الثلاث إلا إذا دلت قرينة خاصة على أحدهما، ثم بيان مقتضى الأصل العملي فيها. 64

التعرض إلى أمور: منها: بين المرة و الدفعة عموم مطلق في ما إذا أمكن التعدد في متعلق الأمر. 64-65

و منها: حكاية ما ذكره صاحب الفصول في أن نزاع المرة و التكرار بالنسبة إلى الهيئة فقط و المناقشة فيه.

و منها: قد يقال بأن المرة و التكرار خصوص الدفعة و الدفعات ثم ردّه.

و منها: إن القرينة إما أن تدل على المرة و إما أن تدل على التكرار، أو على الإطلاق المحض فيحمل على المرة لانطباقه عليها قهرا، و هل يجوز التكرار عليها.

الجهة الخامسة: الكلام في أن الصيغة لا تدل على الفور و لا على التراخي بشيء من الدلالات، مقتضى آيتي المسارعة و الاستباق حسن المسارعة إلى الامتثال. 65

ص: 251

الجهة السادسة: الواجب إما تعبدي أو توصلي، الكلام في اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة - جزءا أو شرطا - و الإشكال عليه بالدور ثم الجواب عنه. ثم إنه إذا لم يمكن الإطلاق اللفظي يرجع حينئذ إلى الأصل العملي، و الكلام فيه. 66-68

ختام فيه أمور: 69-72

أحدها: تعتبر المباشرة في العبادات، و عدم سقوطها بالمحرم.

ثانيها: إطلاق دليل الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا، و مقتضى الأصل العملي.

ثالثها: وقوع الأمر بعد الحظر لا يكون من القرينة العامة على الإباحة بل هي تابعة للقرائن الخاصة.

رابعها: إيجاب شيء على المكلف مع انتفاء شرطه قبيح عند العقلاء.

خامسها: في الأمر بالأمر بشيء و استفادة الوجوب بالنسبة إلى المأمور الثاني تابعة للقرائن.

سادسها: إذا ورد الأمر بشيء ثم ورد أمر آخر به قبل امتثاله يكون الثاني تأكيدا للأول، و إن ورد بعد امتثاله فهو إيجاب آخر.

سابعها: لا دلالة لدليل نسخ الوجوب و لا دليل المنسوخ على بقاء الجواز بعد النسخ و الأقوال فيه ثم ردها، ذكر ما تقتضيه الأصول العملية و الحكيمة.

ثامنها: متعلق الإلزام هل هو الطبيعة أو الفرد؟

الأمر الثالث - أقسام الواجب 73-88

القسم الأول - المطلق و المشروط: 73-75

تعريفهما، الفرق بين قيود الوجوب و قيود الواجب، مذهب المشهور في القيود في الواجبات المشروطة، مختار المحقق الأنصاري، نقل استدلاله ثم ردّه، مراتب التكاليف المجعولة.

القسم الثاني: المعلق و المنجز: 75-80

تعريفهما، طرق إحراز كون الوجوب و الواجب مقيدا، علّة اختيار الشيخ و صاحب الفصول لهذا التقسيم، الإشكالات على المعلق

ص: 252

و المناقشة فيها. اختيار الحق في المقام، نقل آراء المحقق الأنصاري و صاحب الفصول و صاحب الكفاية من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، الجواب عن ذلك تحقيق الكلام في وجوه ثلاثة، و الجواب عما يورد عليه.

فوائد: 80-81

الأولى: الواجب المشروط يصير مطلقا بعد حصول شرطه من جهة هذا الشرط فقط.

الثانية: مقتضى الأصل في ما إذا شك في الاشتراط و عدمه.

الثالثة: إذا كان الواجب مشروطا و شك في حصول الشرط و عدمه.

الرابعة: إذا شك في وجوب تحصيل الشرط، مقتضى الأصل فيه، نقل القول بتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة، و الجواب عنه.

القسم الثالث - النفسي و الغيري: 81-83

تعريفهما، طريق إحراز النفسية و الغيرية، ترتب الثواب على الواجب النفسي و الغيري نقل الآراء في ذلك و الجواب عما يورد من الإشكال.

القسم الرابع - التعييني و التخييري: 83-85

تعريفهما، الكلام في تصوير الثاني ثبوتا، نقل الأقوال فيه و الجواب عنها: أقسام التخيير.

القسم الخامس - العيني و الكفائي: 85-86

تعريفهما، الفرق بينهما، قيل إن الواجب الكفائي هو التخييري مع فرق، و المناقشة في ذلك.

القسم السادس - الموسع و المضيق: 86-87

تقسيم الواجب إلى الموقت و غير الموقت، و الأول إما مضيق أو موسع و هو إما فوري أو لا، و التقييد بالوقت إما على نحو وحدة المطلوب أو على نحو تعدد المطلوب. هل إن القضاء يكون بأمر جديد أو على الأمر الأول؟ تحقيق الحال فيه، بعض الإشكالات الواردة و الجواب عنها. إذا شك بعد الوقت في الإتيان بالمأمور به في الوقت و عدمه تحقيق الحكم بحسب الدليل و الأصول.

ص: 253

القسم السابع - الأصلي و التبعي: 87-88

تعريفهما إيجابيا، جريان الأصل عند الشك فيهما حينئذ و يسقطان بالمعارضة، كما يصح تعريفهما سلبيا فلا يجري الأصل حينئذ لكونه مثبتا، و يمكن تعريف الأول سلبيا و الأخير إيجابيا فيجري الأصل و لا تعارض حينئذ، كما يمكن تعريف الأول إيجابيا و الأخير سلبيا فيجري الأصل في الأصلي فيكون مفاده مطابقا للتبعي، مقتضى الأدلة في مقام الإثبات.

القسم الثاني - النواهي 89-105

الأمر الأول: تحقيق الكلام في المراد من النهي. الطلب وجودي و الترك عدمي الإشكال عليه و الجواب عنه، تعلق النهي بالطبيعة، و من لوازمه الفورية و الاستمرار بخلاف الأمر الذي يدل على إيجاد الطبيعة فقط القول بأنهما لا يفترقان إن أخذت الطبيعة مهملة و إلاّ افترقا إن أخذت بعنوان السريان.

الأمر الثاني - اجتماع الأمر و النهي في الواحد حكما تقرير المبحث فقهيا و أصوليا و كلاميا 90

بيان أمور: أولها: الفرق بين هذا المبحث و بحث النهي في العبادات. 90-93

ثانيها: النزاع في المقام صغروي لاتفاقهم على أن تعدد الوجه و العنوان يكفي في رفع التناقض.

ثالثها: المراد من الواحد في عنوان البحث.

رابعها: شمول عنوان البحث لجميع أقسام الأوامر و النواهي، و عدم إمكان تصوير النهي الكفائي و التخييري.

خامسها: اعتبار جمع قيد المندوحة، و عن آخرين عدم اعتباره، الجمع بين الكلمات.

سادسها: المشهور أن المقام من موارد التزاحم لا التعارض، أدلة المشهور.

المشهور القول بتغليب جانب النهي ملاكا و خطابا، الإشكال عليه و الجواب عنه 93

الاستدلال على جواز الاجتماع بأمور و الجواب عنها 94-97

ص: 254

الاستدلال على الامتناع 97-99

ختام فيه أمران 100-105

الأمر الأول: لو اضطر إلى الكون في المحل المغصوب، التفصيل بينما إذا لم يكن بسوء اختياره فيجب الخروج إن تمكن و إلاّ يحرم، و ما إذا كان بسوء الاختيار، فالبحث حينئذ يقع تارة في حكم خروجه عرفا و أخرى بحسب مسألة اجتماع الأمر و النهي بناء على الجواز و ثالثة بحسب تلك المسألة بناء على الامتناع تفصيل ذلك، و حكم الصلاة حال الخروج 100-103

الأمر الثاني: اجتماع الاحكام في واقعه، تفصيل الحكم فيه تارة بحسب القول بالجواز، و أخرى بحسب القول بالامتناع على الأخير فقد قيل بتغليب جانب الحرمة في مورد الاجتماع أما لدليل أو لقرينة عامة أو لأصل عملي تفصيل ذلك. 103-105

ثمرة البحث في مسألة الاجتماع 105

القسم الثالث - المفاهيم 106-124

تمهيد فيه أمور 106-108

الأول: لفظ المفهوم من الأمور المحاورية العرفية، الدلالية و المدلولية من الأمور الإضافية.

الثاني: المفهوم إما موافق أو مخالف

الثالث: مورد البحث في المفهوم، النزاع فيه إنما هو صغروي، إمكان إدخال بحث المفاهيم في مباحث الملازمات.

الرابع: تأسيس الأصل في المسألة الأصولية و المسألة الفرعية

عدد المفاهيم 108

الأول - مفهوم الشرط 109-116

ثبوت المفهوم للجمل الشرطية متوقف على قيود ثلاثة، الأدلة على بيان قاعدة كلية في جميع القضايا الشرطية و المناقشة فيها، الاستدلال على انتفاء المفهوم للشرط و ردّه.

مبحثان

المبحث الأول 111-112

ص: 255

الشرط و الجزاء إما متحدان أو يكون الشرط واحدا و الجزاء متعددا أو بالعكس، و الكلام وقع في القسم الأخير، فهل يقيد إطلاق كل واحد من الشرطين بالآخر، أو يكون كل واحد شرطا مستقلا؟ الدليل على كل منهما

المبحث الثاني 113-116

إذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء، فهل يتعدد الجزاء بتعدد الشرط؟

بيان أمور 113

أحدها: الشروط المتعددة إما من صنف واحد أو لا، و على كل منهما فإما أن يكون المحل قابلا لتعدد الجزاء أو لا.

ثانيها: تداخل الأسباب، و تداخل المسببات

ثالثها: ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط إلاّ مع القرينة على الخلاف، و هي على قسمين:

القسم الأول: القرينة الخاصة و هي في موارد مخصوصة 113

القسم الثاني: القرينة العامة، و هي كثيرة و المناقشة فيها 114-115

تذنيبان

الأول: تعيين المرجع في حالة الإجمال، و عدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط.

الثاني: قد ورد الدليل على كفاية جزاء واحد عن شروط متعددة في موارد خاصة

الثاني - مفهوم الوصف 117-119

الثالث - مفهوم الغاية 120

البحث في الغاية من جهتين: الأولى: دخول الغاية في المغيّا، التحقيق في المقام. الثانية: هل تدل الغاية على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية؟

الرابع - مفهوم الاستثناء 121-123

المراد من مفهوم الاستثناء، المناقشة في ذلك و الجواب عنها.

الكلام في كلمة التوحيد، بعض أدوات الاستثناء.

الخامس، و السادس - مفهوم اللقب و العدد. 124

المراد من مفهوم اللقب، الكلام في اعتبار مفهومه

ص: 256

أقسام العدد، الكلام في اعتبار مفهومه

القسم الرابع - العام و الخاص 125-150

تعريف العام و الخاص 125

أقسام العموم 126

ألفاظ العموم 127

استعمال الخاص في المخصص 127-128

أقسام إجمال المخصص و أحكامها 129-132

إذا كان العام مبينا و الخاص مجملا، أقسامه، الجواب عما يورد عليها من الإشكال.

ختام فيه أمور 134-137

الأول: إذا سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد، مثل ما ورد في أن المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا إذا كانت امرأة قرشية فتراها إلى ستين جريان الأصل الأزلي، المناقشة في هذا الأصل و الجواب عنها الثاني: دفع ما يورد من الإشكال على ما ذهب إليه المشهور من القول بالضمان في ما إذا ترددت اليد بين كونها أمانية أو ضمانية

الثالث: إذا علم بخروج فرد عن حكم العام و شك في أنه لأجل التخصص أو التخصيص جريان الأصل و رده

الرابع: التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص الكلام في ذلك الخطابات الشفاهية 137-140

وقوع الكلام في ذلك من نواح ثلاثة: في أصل جعل القانون، و من ناحية الخطب، و من ناحية البعث و الزجر بيان الثمرة و المناقشة فيها

تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده 140-141

إذا شك في الضمير المتعقب للعام أنه يرجع إلى تمام أفراده أو بعضها، فيجري أصلان متعارضان، و عن الكفاية تقديم أصالة العموم المناقشة في ما ذكره، الجواب عما يورد من الإشكال.

تخصيص العام بالمفهوم 142

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة 142

تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد 143

ص: 257

الدوران بين التخصيص و النسخ، أقسام صدور الخاص و العام 144

النسخ 146

البداء 148-150

القسم الخامس - المطلق و المقيد و المجمل و المبين 151-163

المطلق و المقيد 151

تعريفهما، الإطلاق و التقييد من شئون المعاني، و هما من الأمور الإضافية، الكلام في الاعتبارات الثلاثة المعروفة: بشرط شيء، و بشرط لا، و لا بشرط. و هل المطلق هو اللابشرط المقسمي أو القسمي؟

ألفاظ المطلق 153

مقدمات الحكمة 156

التنبيه على أمور: 157-159

الأول: ما يتعلق بالقدر المتيقن

الثاني: ظاهر حال كل متكلم أنه في مقام بيان مراده، و ما يتعلق به

الثالث: الاحتياج إلى مقدمات الحكمة إنما هو لنفي القيد و البشرطشيئية لا لنفي غيره.

الرابع: طرق إحراز الإطلاق من كلام المتكلم.

الخامس: جريان مقدمات الحكمة في المعاني الإفرادية و التركيبية و الإنشائية، الكلام في المعاني الربطية و التبعية.

السادس: عدم اتصاف الأعلام الشخصية من حيث التشخص بالاطلاق و التقييد.

السابع: تعدد الإطلاق و التقييد في كلام واحد من جهات متعددة.

الثامن: سقوط احتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب و السنة بعد الغيبة الكبرى.

التقييد: 159-161

التقابل بينه و بين الإطلاق، الإشكال على كون التقابل من قبيل السلب و الإيجاب، صدق المطلق على المقيد

ص: 258

ختام فيه أمران 161-162

الأول: يعتبر في حمل المطلق على المقيد إحراز وحدة التكليف و ثبوت التنافي بينهما.

الثاني: تحقق موضوع التقييد في كل ما ورد لبيان الجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية. جريان أقسام إجمال المطلق و المقيد.

المجمل و المبين 163

تعريفهما، تعيينهما بحسب المصداق، حكمهما

القسم السادس - التعارض 164-192

سبب ذكر هذا المبحث في مباحث الألفاظ

أمور تمهيدية 164-173

الأول: مفهوم التعارض، النسبة بينه و بين التناقض و التضاد، منشأ حصول التعارض في الأخبار و غيرها.

الثاني: التعارض من صفات المدلول و يسري الى الدلالة و الدليل لمكان التضايف بينها، الجواب عما يتوهم خلاف ذلك.

الثالث: تعريف التزاحم و التعارض، و اشتباه الحجة بغير الحجة

الرابع: ما يتعلق بالنص و الأظهر و الظاهر. تعريف الورود و الحكومة، تقسيمات الحكومة، الفرق بين التخصيص و الحكومة بوجوه ثلاثة

الخامس: تقديم الخاص على العام مطلقا سواء كانا قطعيين أو ظنيين أو بالاختلاف

السادس: ما يتعلق بالقضية المعروفة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) الاستدلال عليها. المراد من الإمكان و الجمع.

السابع: النص و الظاهر إما أن يكونا معلومين أو مشكوكين أحكامهما، الرجوع إلى القرائن العامة في بعض الموارد، و المناقشة فيها.

حكم المتعارضين 173-187

سبب ذكر حكم التعارض في المبادئ أو في ختام المطلق و المقيد.

التعارض من الأمور المحاورية. التماس حكمه من السيرة العقلائية.

ما ورد في حكم المتعارضين من الشارع الأقدس و هو على أقسام:

منها: ما يدل على الأخذ بالأخير، و المناقشة فيه 175

ص: 259

و منها: ما يدل على التوقف و الجواب عنه 175

و منها: ما يدل على الأخذ بما وافق الاحتياط و ردّه 177

و منها: ما يدل على التخيير و الجواب عنه 177

و منها: مقبولة عمر بن حنظلة الإشكال عليها و الجواب عنه

178-181

بيان أمور 181-187

الأول: أنواع المرجحات المذكورة في المقبولة، الإشكال عليها و الجواب عنه المراد من مخالفة العامة.

الثاني: المراد من موافقة الكتاب

الثالث: هل يمكن التعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل ما يحصل به الاطمئنان؟ الدليل على ذلك

الرابع: سقوط الترتيب بين المرجحات المنصوصة بناء على التعدي، الجواب عما يورد من الإشكال

الخامس: أقسام الشهرة

السادس: معاملة المرجح مع الظن إن لم يقم دليل على اعتباره و لا على عدم اعتباره

حكم المتعارضين بعد التكافؤ 187

الاحتمالات في المتعارضين بعد التكافؤ، الرجوع إلى بناء العقلاء،

أقسام التخيير

الإشارة إلى أمور 188-189

أحدها: عدم اختصاص التخيير بزمان الغيبة بناء على كونه عقلائيا الكلام في ذلك.

ثانيها: التخيير لا يكون إلاّ بعد الفحص عن المرجحات و اليأس عنها

ثالثها: اختصاص موضوع التخيير بالمجتهد

رابعها: الجواب عما يتوهم من حمل أخبار الترجيح على الاستحباب و الأخذ بإطلاق أخبار التخيير.

موضوع حكم التعارض 190

اختصاص حكم التعارض بالمتباينين فقط فلا يجري في غيره تحقيق

ص: 260

الكلام فيه.

حكم التعارض إن كان بين أكثر من دليلين 190

التعرض لبعض صور التعارض بين الأدلة، و هي كثيرة 191

المقصد الثاني - الملازمات العقلية 195-251

تمهيد 195-197

المباحث المتعلقة بالعقل: أنه مناط التكليف، الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، الملازمات العقلية غير المستقلة و هي أمور، بناء العقلاء.

الأمر الأول - الإجزاء 198-203

تمهيد فيه أمور 198-199

الأول: لا ربط لهذا البحث بمبحث المرة و التكرار، و لا بمبحث تبعية القضاء للأداء.

الثاني: الاستغناء عن كلمة (على وجهه) الواردة في عنوان البحث.

الثالث: هذا البحث يشمل الأمر الواقعي و الاضطراري، و الظاهري و الاعتقادي.

الرابع: المراد من الامتثال

البحث في مسألة الإجزاء من جهات 199-201

الأولى: في سقوط كل أمر مطلقا بالنسبة إلى امتثاله

الثانية: إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن التكليف الواقعي، تفصيل الكلام فيه.

أمور تتعلق بالتكاليف الاضطرارية 2001-203

منها: المناط في الاضطرار و العذر هل هو صرف الوجود أو العذر المستوعب؟

و منها: إذا ترك التكليف الاضطراري و أتى بالتكليف الواقعي.

و منها: في الاضطرار الشخصي أو النوعي

الجهة الثالثة: الإجزاء بما يصح الاعتذار به عن الواقع، كالأمارات و الأصول و القواعد. إشكال و جواب.

الجهة الرابعة: العمل بما حصل به الاعتقاد مع تبين الخلاف.

ص: 261

الثاني - مقدمة الواجب 204-221

تقرير البحث في مقدمة الواجب

تقسيمات المقدمة 204-210

التقسيم الأول: المقدمة إما داخلية أو خارجية أو برزخ بينهما، تفصيل الكلام في ذلك

التقسيم الثاني: المقدمة إما شرعية أو عقلية أو عادية أو مقدمة الصحة، أو مقدمة الوجوب أو مقدمة الامتثال، رد هذا التقسيم و الدليل عليها.

التقسيم الثالث: المقدمة إما مقارنة أو متقدمة أو متأخرة الموارد التي انتقضت في الفقه فيها قاعدة تقديم العلة على المعلول و مقارنتهما، الجواب عن الشبهة بوجوه و المناقشة فيها، التحقيق في الجواب.

الأقوال في وجوب المقدمة 210-214

الأول: إن معروض الوجوب لعنوان المقدمة هو ذاتها.

الثاني: إنه ذات المقدمة عند إرادة ذيها الإشكال عليه.

الثالث: إنه ذات المقدمة مع قصد التوصل إلى ذيها، ذكر المحتملات من هذا القول، الإشكال عليها.

الرابع: اعتبار ترتب ذي المقدمة خارجا على المقدمة الإشكال عليه بوجوه، و إبطالها، التحقيق في المقام.

الثمرة بين كونها من المسألة الأصولية أو غيرها 214-217

و هي كثيرة الإشكال عليها و الجواب عنها

إجراء الأصل في المقدمة 217

الحق في المقام 217

مقدمة المندوب و الحرام 219

خاتمة البحث 220

تحقيق القول في الثواب على جملة من مقدمات الواجبات و المندوبات، و الكلام في مقدمات الحرام.

الثالث - اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده 222-241

تقرير المبحث المراد من الاقتضاء و الضد.

الأقوال في المسألة 223-228

1 - الترك 223

ص: 262

القول بالعينية، رده، و القول بالدلالة التضمنية، إبطاله. القول بالملازمة.

2 - الضد العام و الخاص 224

الاستدلال على الاقتضاء فيهما من وجهين: من جهة الملازمة، و ردّه.

و من جهة المقدمية نقل الأقوال فيه، ذكر ما أشكل على القول بأن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر و الجواب عنه، ذكر شبهة الكعبي و إبطالها.

ثمرة البحث في مسألة الضد 229

فساد العبادة إذا كانت ضد الواجب الأهم بناء على الاقتضاء، و أما بناء على عدمه فلا وجه للفساد و عن الشيخ البهائي بطلان الثمرة تخصصا الرد عليه.

بحث الترتب 231

تعريفه، النزاع في الترتب، شروط الترتب

الكلام في جواز الترتب 233

إما بحسب الدليل العقلي، و إما بحسب الاستظهار الأصولي و إما بحسب الاعتبار العرفي.

أدلة القائلين بامتناع الترتب و الجواب عنها 234-237

الرابع - النهي عن الشيء هل يوجب الفساد، و هو على قسمين 238 - 246

القسم الأول - النهي في العبادة 238

تمهيد 238

تقرير المبحث، تغايره مع بحث اجتماع الأمر و النهي

التنبيه على أمور: 239-241

الأول: إطلاق النهي يشمل جميع أقسامه، الكلام في النهي التبعي

الثاني: المراد من العبادة و أقسامها

الثالث: النسبة بين الصحة و الفساد و كونهما من الأمور الاعتبارية الإضافية

الرابع: كيفية تعلق النهي بالشيء.

الدليل على اقتضاء النهي في العبادات الفساد 241-243

ص: 263

الدليل إما بحسب العرف أو من حيث الأصل. إما في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية، بعض الإشكالات الواردة و الجواب عنها.

القسم الثاني - النهي في المعاملات 244-246

أقسام النهي في المعاملات، الاستدلال للفساد و الجواب عنه، القول بدلالة النهي على الصحة و ردّه.

ص: 264

المجلد 2

اشارة

بطاقة تعريف: سبزواري، عبدالاعلی، 1288 - 1372

عنوان واسم المؤلف: تهذیب الاصول/ تالیف عبدالاعلی الموسوی السبزواري

تفاصيل المنشور: [قم]: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري: موسسة المنار، - 1376.

الطبعه الثالثة 1417 ه - 1996 م

ISBN : بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2) ؛ بها:8000ریال(ج.1،2)

عنوان : أصول الفقه الشيعي

المعرف المضاف: مکتب سماحة آیة الله العظمي السید السبزواري

ترتيب الكونجرس: BP159/8/س22ت9 1376

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 76-8156

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله الطّيّبين الطّاهرين

مقدّمة

قد تقدم في أول الكتاب أن علم الاصول: هو ما يبحث فيه عن كيفية تعيين الوظيفة، و ما يصح أن يعتذر به لها. و نتائج مسائله لا بدّ و أن تقع في طريق استفادة الوظائف و الاعتذار.

و الكلام في هذا القسم من الكتاب يقع في ما يصح الاعتذار به عند العقلاء و لم يردع عنه الشارع.

و هو إما عذر بنفسه أو لا، و الثاني إما أن تعتبر العذرية فيه لأجل الكشف الناقص الموجود فيه أو لا. و الأول هو القطع، و الثاني الظن، و الثالث الشك الذي يكون موردا لاعتبار الاصول العملية الأربعة.

و إن شئت قلت: الاعتذار إما بما فيه الكشف التام، أو الكشف الناقص، أو بما لا كشف فيه.

و المقصود بالقطع و الظن و الشك هنا، ما حصل للمجتهد الباحث في الأدلة الفاحص عنها، لأن ما حصل من هذه الصفات لغيره لا يترتب عليه هذا الأثر قطعا، فلا يكون من مسائل الفن رأسا، و اعتبار القطع لكل من حصل له في

ص: 5

الجملة. و كذا اعتبار الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية لغير المجتهد أيضا لا يصلح لأن يكون من مسائل الاصول، إذ ليس كلما اعتبر لكل أحد من مسائله، بل هو نحو اعتبار خاص يتوقف على مقدمات مخصوصة من البحث و الفحص و اليأس، و الوقوع في طريق الاستنتاج الفرعي، و غير المجتهد بمعزل عن ذلك كله.

ثم إن الحق تثليث الأقسام، كما مرّ لأن المقام من قبيل ذكر الفهرس لما يأتي من المباحث المتعلّقة بالقطع و الظن و الشك، فينبغي ذكر الثلاثة بالخصوص إرشادا إلى الموضوعات الآتية.

إن قلت: الظن غير المعتبر بحكم الشك، و المعتبر منه بحكم القطع مع أن متعلّقهما إنما هو الحكم الفعلي، و هو إما مقطوع به أو لا، فلا وجه للتثليث.

قلت: أما الإلحاق حكما فهو لا يضرّ بالتعدد - موضوعا - الذي لا بد من ذكره في المقام مقدّمة للمباحث الآتية.

و أما أن متعلّقهما الحكم الفعلي، و هو إما مقطوع به أو لا، فليس ذلك إلا مجرد التغيير في التعبير، لاشتمال قول (أو لا) على الظن و الشك، و لذا فسّره بهما في الكفاية، فراجع. مع أن الحكم الفعلي معتبر طريقا إلى الواقعي و لا موضوعية فيه بوجه، فلا وجه لذكره بالخصوص.

ثم إنه مع حصول الشك يتحقق موضوع الاصول العملية، و المتداول منها في الفقه الأربعة المعروفة: الاستصحاب، و الاحتياط، و التخيير، و البراءة. و هي من الاصول المعتبرة العقلائية التي لم يردع عنها الشرع، بل أمضاها، و لا تختص بباب دون باب بل تجري في جميع الأبواب، و حصرها في الأربعة استقرائي، و يصح أن يكون عقليا بالعرض، كما يأتي.

و هناك أصول اخرى ليست بذلك العموم و السريان فتختص ببعض الأبواب فقط، كأصالة احترام المال و العرض و النفس، و أصالة الحرية، و أصالة

ص: 6

الصحة، و أصالتي الطهارة و الحلية، و أصالة عدم التذكية، إلى غير ذلك من الاصول المعتبرة.

و يمكن تقرير حصر مجاري الاصول الأربعة المعروفة بوجه عقلي، بأن يقال: الشك إما أن تلحظ فيه الحالة السابقة أو لا تلحظ، و على الثاني إما أن يعلم بالتكليف و لو بجنسه أو لا يعلم. و على الأول إما أن يمكن الاحتياط أو لا يمكن.

و الأول مجرى الاستصحاب، و الثاني مجرى الاحتياط، و الثالث مجرى التخيير، و الرابع مجرى البراءة.

و حيث أن هذه الاصول الأربعة مختصة بمجاريها اختصاص العرض بموضوعه، يكون الحصر فيها عقليا، لكن بالعرض لا بالذات - كما لا يخفى - و ليس في البحث عن كيفية الحصر مطلقا ثمرة عملية، بل و لا علمية.

ثم إن الاستصحاب برزخ بين الأمارة المحضة و الأصل المحض، فيصح أن يقال: إن ما اعتبر إما أمارة محضة، أو أصلا محضا، أو برزخا بينهما.

و الأول كخبر الواحد مثلا، و الثاني كالبراءة، و الثالث كالاستصحاب.

ص: 7

ص: 8

المقصد الأول ما يكون معتبرا في نفسه

اشارة

ص: 9

ص: 10

و هو القطع و البحث فيه عن امور:

الأمر الأول و فيه جهات من البحث:
الاولى: المعروف أن مبحث القطع ليس من مسائل فن الاصول

، لعدم وقوعه في طريق استنباط الحكم الفرعي، لأنه إذا قطع بحكم أو موضوع يقال:

هذا واجب، أو هذا ماء - مثلا - و لا يقال: هذا مقطوع الوجوب أو مقطوع المائية، لكونه بالنسبة إلى متعلّقه طريقا من دون أن يكون مأخوذا فيه بوجه من الوجوه.

و يرد عليه: ما مرّ في أول الكتاب من أن علم الاصول ما يبحث فيه عن كيفية استفادة الوظائف العملية، و ما يصح أن يعتذر به لها، و لا ريب في أن القطع مما يصح الاعتذار به، بل هو الأصل فيه، فلا فرق بينه و بين الأمارات و الاصول العملية من جهة صحة الاعتذار في الوظائف العملية، التي هي المناط في المسألة الاصولية، ففي المقام يقال: هذا واجب للقطع به، و كلما وجب للقطع به يصح الاعتذار به، فهذا يصح الاعتذار به، و كذا في القطع بالنسبة إلى الموضوع، كالمائية و نحوها.

الثانية: لا ريب في أن القطع، كسائر الصفات النفسانية له حقيقة خاصة و آثار مخصوصة

، و حقيقته الكشف و المرآتية، و آثاره وجوب العمل على طبقه

ص: 11

و استحقاق العقاب على مخالفته، و كونه عذرا مع المخالفة للواقع، قصورا لا تقصيرا، و هذه الآثار من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل، فوجوب العمل على طبقه ليس وجوبا شرعيا، بل هو من الوجوب الارتكازي العقلي، كوجوب دفع الضرر.

و يصح تعلّق الجعل الشرعي بهما إثباتا للتأكيد و ردعا لمصالح يعرفها الشارع، بل الظاهر صحة تعلّق الجعل بجهة الكاشفية أيضا للتأكيد و إتمام الحجة، كما يصح ردع الشارع عنها، لأن اعتبار الكواشف مطلقا في الشريعة معلق على عدم ردع الشارع عنها، فالقاطع و إن كان يرى الواقع باعتقاده و لكن الشارع الحكيم له أن يقول: لا اعتبر الواقع، و لا أريده منك و لا محذور فيه.

ثم إن تحقق القطع بالنسبة إلى القاطع و جعله له إنما هو بالجعل البسيط، و هو إيجاده بما يوجب حصوله في النفس من ترتيب المقدمات الدخيلة في حصوله.

و أما الجعل المؤلف - و هو جعل الحجية و الكاشفية له - فهو غير معقول، لأنه إنما يكون بين الشيء و عوارضه المفارقة، لا بينه و بين ذاتياته، لأن مناط هذا الجعل إنما هو الفقدان، و لا يعقل أن يكون الشيء فاقدا لذاتياته، فلا يعقل الجعل التكويني بين القطع و الكشف و الحجية لهذه الجهة - على المعروف بين الفلاسفة و إن ناقشنا فيه خصوصا بالنسبة إلى مجعولات اللّه تعالى في محله - لا لأنه مستلزم للتسلسل، كما عن جمع من الاصوليين بدعوى: أن حجية كل شيء لا بد و أن تنتهي إلى العلم، فإن كانت حجيته مجعولة يلزم التسلسل، و ذلك لأن التسلسل إنما يلزم إن كان جعل الحجية للقطع بنحو القضية الخارجية. و أما إذا كان على نحو القضية الطبيعية، فلا يلزم ذلك، كما لا يخفى.

و حيث لا يعقل جعل الحجية للقطع على المشهور، فلا يعقل سلبها عنه أيضا، لأن كل ما لا يمكن تعلّق الجعل بوجوده لا يمكن تعلّقه بعدمه أيضا، لأن

ص: 12

معنى القدرة - كما ثبت في محله - هو إن شاء فعل و إن شاء ترك، فالقدرة تساوي المشية بالنسبة إلى طرفي الوجود و العدم، و عدم إمكان تعلقها بالنسبة إلى طرف يستلزم عدم إمكانه بالنسبة إلى الطرف الآخر، كما هو واضح، هذا كله في الجعل التكويني.

و أما الجعل التشريعي، فقالوا بعدم إمكانه أيضا، لأنه لإيجاد الداعي و هو حاصل للقاطع لأجل قطعه، فيكون الجعل التشريعي لحجية القطع حينئذ من تحصيل الحاصل المحال.

و يردّ: بأنه كذلك لو لم يكن غرض صحيح عقلائي في البين، كإيجاد الداعى من قبل الشارع أيضا و إتمام الحجة، و هما من أكمل الأغراض الصحيحة العقلائية، و أتمها في تشريع الشرائع الإلهية، فيكون القطع حينئذ، كسائر الحجج العقلائية التي شملتها عناية الشارع و لو بعنوان عدم الردع، هذا بالنسبة إلى جعل الحجية الشرعية للقطع.

و أما بالنسبة إلى سلب الحجية عنه، فقد قالوا أيضا بأنه لا يمكن للشارع سلب الاعتبار و الحجية عن القطع، لأنه إما أن يحكم حينئذ في مورده بعين الحكم المقطوع به، و هو تحصيل للحاصل، أو بمثله، و هو من اجتماع المثلين في نظر القاطع، أو بضده، و هو من اجتماع الضدين فيه، أو لا يحكم بشيء أبدا، فيلزم خلوّ الواقعة عن الحكم، و هو خلاف ما تسالموا عليه من عدم جوازه.

و يردّ الأول بما مرّ من إمكان تصوير الغرض الصحيح العقلائي فيه، فيخرج من موضوع تحصيل الحاصل حينئذ، و الثاني و الثالث بأن الأحكام اعتبارات عقلائية، و يعتبر في اجتماع المثلين أو الضدين أن يكونا من الموجودات الخارجية، كما ثبت في محله، و على فرض كونها موجودات خارجية، أو يكون المراد بهما مطلق المعاندة العرفية، يكفي اختلاف الحيثية في رفع محذور الاجتماع، فمن حيث صلاحية متعلق القطع للداعوية يكون مورد

ص: 13

الحكم الشرعي المجعول، و من حيث تعلّق القطع به يكون مورد حكم آخر، و لا ريب في كونهما حيثيتين مختلفتين عرفا قابلتين لرفع محذور التماثل و التضاد.

و يردّ الرابع بأن الممنوع هو الخلو عن الحكم الواقعي النفس الأمري دون الفعلي الظاهري، فلنا أن نلتزم بعدم حكم للشارع ظاهرا، و إن كان له فيها حكم واقعا.

فتلخّص: أنه يمكن جعل الحجية للقطع من الشارع، كما يمكن له سلبها عنه، و ربما يأتي بعض ما ينفع المقام في مستقبل الكلام.

الثالثة: للحجية إطلاقات ثلاثة
اشارة

منها: ما يصح الاعتذار و الاحتجاج به، و بهذا الإطلاق يصح إطلاقها على القطع و جميع الأمارات المعتبرة، بل و الاصول العملية و القواعد الفقهية أيضا، و لا محذور فيه أبدا من عقل أو نقل.

و منها: ما اصطلح عليه أهل الميزان، و هو ما كان علة لتحقق الشيء و ثبوته و يذكر في البرهان عليه - كالتغير الذي هو علة للحدوث، و يذكر في البرهان على الحدوث، فيقال: العالم متغير، و كل متغير حادث، فالعالم حادث - و ظاهرهم بل صريح بعض عدم صحة إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع، لعدم كونه علة لثبوت المقطوع به، بل يكون كاشفا عنه.

و فيه: إن القطع علة لثبوت المقطوع به الأوّلي الذاتي القائم بالنفس.

نعم، هو كاشف عما يكون في الخارج و بينهما نحو اتحاد، فيصح إطلاق الحجة بهذا المعنى عليه أيضا.

و لنا أن نفرض ما يكون القطع فيه علة للثبوت خارجا أيضا، لأن القطع بشيء علة لاستحقاق العقاب على مخالفته و الثواب على الموافقة، فيقال - مثلا - هذا مقطوع الوجوب، و كل مقطوع الوجوب يستحق العقاب على مخالفته، فهذا يستحق العقاب على مخالفته، فلا وجه لنفي إطلاق الحجة بهذا المعنى على

ص: 14

القطع على نحو الإطلاق.

و منها: ما اصطلح عليه في الاصول، و هو ما يكون واسطة في الإثبات شرعا، كالأدلة الاجتهادية و القواعد المعتبرة التي نثبت بها الأحكام، و كالبيّنة و قول ذي اليد و نحوهما مما تثبت به موضوعاتها، فكل ما يكون معتبرا شرعا تأسيسا أو إمضاء و يثبت به حكم أو موضوعه، تطلق عليه الحجة باصطلاح الاصول.

و الظاهر عدم الاختصاص لها بالاصول حتى تكون اصطلاحا خاصا فيه، لأن الواسطة في الإثبات شائعة في جميع العلوم، فكل ما يكون منشأ لإثبات مورده عقلا أو عرفا أو شرعا، يسمى دليلا و حجة، و واسطة في الإثبات.

و عن جمع منهم شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه: عدم صحة إطلاق الحجة على القطع بهذا المعنى أيضا، لعدم كونه واسطة في الإثبات شرعا، لما قالوا من أن اعتباره عقلي و لا يمكن الجعل الشرعي بالنسبة إليه.

و يرد عليه: ما تقدم من إمكان تعلّق الجعل الشرعي به و لو على نحو الإمضاء، و سيأتي أن حجية جلّ الحجج الشرعية - لو لا كلها - إمضائية و لو بنحو عدم ثبوت الردع، فليكن القطع أيضا كذلك، بل يصح إطلاق الحجة بهذا المعنى على الاصول العملية أيضا، لكونها واسطة لإثبات متعلّقاتها في الجملة، فيقال:

هذا مما قامت عليه أصالة البراءة، و كل ما قامت عليه أصالة البراءة لا إلزام بالنسبة إليه، فهذا لا إلزام بالنسبة إليه، و كذا في سائر الاصول العملية، و لا فرق فيه بين كونها اصولا عقلائية ممضاة شرعا، - كما اخترناه على ما سيأتي في محله - أو كانت اصولا شرعية، كما يظهر عن جمع.

و يصح إطلاق الحجة بهذا المعنى - أي بالاصطلاح الاصولي - على القطع أيضا، فيقال بالنسبة إلى الموضوعات: هذا خمر، لأني أقطع بخمريته، و بالنسبة إلى الأحكام هذا صحيح، لأني أقطع بصحته، و في جملة من كلمات الفقهاء هذا

ص: 15

حرام - مثلا - قطعا، أو هذا مما قطع به الأصحاب، إلى غير ذلك مما هو كثير في العرف و في الفقه.

فتلخّص من جميع ما مرّ صحة إطلاق الحجة على القطع بإطلاقاتها الثلاثة بلا محذور فيه أبدا، هذا كله في القطع الطريقي.

و أما القطع الموضوعي فلا إشكال من أحد في صحة إطلاق الحجة عليه بالإطلاقات الثلاثة، لصحة تعلّق الجعل به، إذ لا معنى لأخذه في الموضوع إلاّ ذلك، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه بنحو الصفتية الخاصة أو بنحو الكشف.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: القطع إما طريق محض إلى الواقع

بلا دخل له في الموضوع أصلا، كما هو الغالب فيه في العقليات و الشرعيات و العرفيات.

أو مأخوذ في الموضوع إما بنحو تمام الموضوع أو جزئه، و كل منهما إما بنحو الكاشفية و الطريقية، أو بنحو الصفة الخاصة، فهذه الأربعة مع القسم الأول تصير خمسة أقسام.

و المراد بتمام الموضوع أنه هو المناط في الحكم، لا أن يكون الموضوع مركبا منه و من متعلّقه و إن كان يلزمه المتعلّق، لأن القطع من الصفات ذات الإضافة لا تحقق له بدون المتعلّق، فيكون زواله من تبدّل الموضوع لا من تبين الخلاف.

و المراد بجزء الموضوع أن الموضوع مركب منه و من متعلّقه و لكل منهما دخل في تحقق الموضوع.

و يتصور هذه الأقسام الخمسة في جميع الأمارات، بل يصح فرضها في الاصول العملية أيضا، لأن الفرض و الاعتبار قليل المئونة، و لكن لا مصداق

ص: 16

لجميع هذه الأقسام مطلقا في الفقه إلا للطريقي منها فقط، و إن قيل أن لها مصاديق لكن لا تخلو من مناقشة فلا وجه لتعطيل الوقت فيها.

ثم إن جميع الأمارات تقوم مقام القطع الطريقي المحض، و كذا في ما أخذ في الموضوع من جهة الكشف و الطريقية بنفس دليل اعتبارها، بخلاف ما أخذ في الموضوع بنحو الصفتية الخاصة.

الثاني: لا ريب في كون الاطمئنان العقلائي حجة عقلائية

، و له مراتب متفاوتة أعلاها القطع و أدناها الظن، و كل ما هو حجة عقلائية حجة شرعية أيضا إلا إذا ثبت الردع عنها، فاللازم على الاصولي إثبات دليل الردع، فيكون البحث عن الحجية مطلقا من التطويل بلا طائل، و يكفي في عدم الردع - في الامور العامة الابتلائية بين الناس - أصالة عدمه، و كما لا يخفى.

الثالث: ذكروا أن حكم العقل باعتبار القطع

تنجّزي غير معلّق على شيء بخلاف الظن الانسدادي بناء على الحكومة، فإن أصل اعتباره معلّق على عدم ثبوت الردع من الشارع، فلا يقاس أحدهما على الآخر.

و استدل عليه: بأن العقل لا يحكم بشيء إلا مع إحاطته بجميع ما له دخل في حكمه، فمع إحاطته بذلك يحكم و ينتجز، و مع العدم فلا حكم له أصلا.

و فيه: أنه صحيح في العقل المحيط بالواقعيات إحاطة واقعية من كل جهة.

و أما العقول التي هي في طريق الاستكمال في كل آن فلا وجه لذلك، فكم قد ثبت الخطأ في الأحكام العقلية، و ليس لأحد أن يدعي أن مطابقة القطع للواقع أكثر من مطابقة الأمارات المعتبرة، و مخالفة الأمارات أكثر من مخالفة القطع له، مع أنه لا بد و أن يكون اعتبار الكواشف مطلقا بالنسبة إلى واقعية كل شريعة - اصولا و فروعا - تحت حيطة صاحب الشريعة. و إلا اختل النظام.

الرابع: قد أشرنا إلى أنه لا يمكن الجعل التأليفي بين الشيء و ذاتياته

، و لكن لا بد و أن يعلم أن الذاتي على قسمين: ذاتي واقعي، و ذاتي إدراكي،

ص: 17

و بينهما عموم من وجه، و ما لا يمكن الجعل فيه هو الأول دون الثاني، و مع الشك يصح الجعل، لأن موضوع الامتناع إحراز الذاتية الواقعية، كما أن المراد بلوازم الذات التي لا يصح الجعل التأليفي فيها اللوازم للماهية و الذات الواقعية دون اللوازم العقلائية للشيء، فيصح فيها الجعل التأليفي بلا إشكال.

و الظاهر أن استحقاق العقاب على المخالفة و لزوم الموافقة و العذر لدى القصور بالنسبة إلى القطع من القسم الثاني دون الأول، فيصح فيها الجعل التأليفي تكوينا و تشريعا. و لو شك في أنها من القسم الأول أو الثاني يلحق بالأخير، لعدم إحراز الذاتية الأولية.

الخامس: عن المحقق الخراساني قدّس سرّه أن للحكم مراتبا أربع..
الاقتضاء:

و يعبّر عنه بالشأنية أيضا، و هذه المرتبة عبارة عن المصالح

و المفاسد

المقتضية لتشريع الحكم على طبقها.

و الإنشاء:

و هي عبارة عن مجرد الجعل و التشريع.

و الفعلية:

و هي عبارة عن وصوله إلى المكلف.

و التنجز:

و هي عبارة عن استجماع المكلف لجميع شرائط التكليف و فقده لموانعه.

و يرد عليه.. أولا: أنه إن أراد الإطلاق الحقيقي، فلا يطلق الحكم حقيقة على مرتبة الاقتضاء، لأنه من التكوينيات، و لا ريب في أن الحكم من المجعولات الاعتبارية. و إن أراد الأعم منه و من المجازي، فمبادئ الحكم من العلم بالصلاح، و الإرادة، و نحوهما أيضا، يصح إطلاق الحكم عليها مجازا، فلا وجه للتخصيص بالأربع، إلاّ أن يريد بالاقتضاء المعنى الأعم الشامل لجميع ذلك كله.

و ثانيا: أن التحقيق - كما يأتي إن شاء اللّه تعالى - في مورد الأمارات المعتبرة إنما هو جعل الحجية فقط دون الحكم، فلا وجه لهذا التقسيم في مورد

ص: 18

الأمارات، بل لا وجه له في مورد القطع أيضا، إذ لا أثر للقطع بالحكم الاقتضائي و الإنشائي أصلا، كما صرح هو قدّس سرّه بذلك أيضا.

و الحق أن الحكم - خالقيا كان أو خلقيا - جعل القانون بداعي صيرورته فعليا بالنسبة إلى واجدي الشرائط، سواء كانوا كذلك حين صدوره أو بعد ذلك فهو فعلي أبدا من طرف الجاعل لصلاحيته لإتمام الحجة و البيان، كما أنه كذلك بالنسبة إلى واجدي الشرائط مطلقا. و بالنسبة إلى غيرهم لا حكم أبدا حتى يبحث عن أنه إنشائي أو لا، لأن الإنشاء إن كان بلا داع فهو محال عليه تعالى و قبيح بالنسبة إلى غيره، و إن كان بداع آخر غير الفعلية فلا وجه لصيرورته فعليا حين تحقق الشرائط.

و خلاصة القول:

أنه ليس للحكم إلا مرتبة واحدة، و هي الفعلية، سواء اضيف إلى الحكم أو إلى المحكوم فلا وجه للتقسيم إلى مرتبة الاقتضاء و الإنشاء و التنجز، مع أنه لا تترتب على هذه المراتب ثمرة عملية بل و لا علمية، فالإعراض عنها أولى و أجدر، مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

ص: 19

الأمر الثاني التجري و ما يتعلق به
تمهيد:

هذه المسألة - كجملة من مسائل الاصول - فيها ملاك الفقهية و الاصولية و الكلامية، فإن كان عنوان البحث في أن التجري حرام أو لا؟ و أن الفعل المتجرى به محرم أو باق على ما كان عليه؟ فهو فقهي.

و إن كان عنوان البحث في أن أدلة التكاليف الواقعية هل تشمل الموضوعات الاعتقادية أو لا؟ فهو اصولي.

و إن كان العنوان في أن التجري هل يوجب استحقاق العقاب أو لا؟ فهو كلامي.

فيصح أن يكون بكل من هذه الجهات مورد البحث و النظر.

و لا اختصاص للتجري بخصوص القطع، بل يجري في جميع ما هو معتبر شرعا، قطعا كان أو أمارة أو أصلا مع تبين الخلاف.

نعم، لو كان القطع أو الأمارة مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية الخاصة، فلا وجه لجريان التجري فيه، فإن مخالفته حينئذ تكون معصية حقيقية و زواله يكون من تبدل الموضوع لا من تبين الخلاف، كما لا يخفى.

ص: 20

حكم التجري:

التجري و الانقياد من الموضوعات العرفية في جميع الأزمان و المذاهب و الأديان، فلا بد في الحكم بقبح الأول و كونه موجبا لاستحقاق الذم أو العقاب، و حسن الثاني، و كونه موجبا لاستحقاق المدح أو الثواب، من الرجوع إلى المرتكزات العقلائية، و لو ورد دليل من إجماع أو نص فهو إرشاد محض إلى المرتكزات، لا أن يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

نعم، يمكن أن يلاحظ فيه جهة المولوية أيضا مضافا إلى الإرشاد.

فالتجري إما أن يوجب استحقاق العقاب أو لا، و على الثاني إما أن يوجب القبح الفاعلي أو لا، و قال بكل من هذه الاحتمالات قائل.

و الحق أن التجري يوجب استحقاق العقاب، لأن المناط في إيجاب المعصية الحقيقية لاستحقاق العقاب ليس إلا هتك المولى و المبارزة معه و الظلم عليه، و لا ريب في تحقق ذلك كله في مورد التجري لدى العقلاء كافة، فيصح تشكيل القياس على نحو الشكل الأول، فيقال: التجري هتك للمولى، و كل هتك له يوجب استحقاق العقاب، فالتجري يوجب استحقاق العقاب.

إن قلت: نعم، و لكن لتفويت الغرض و تحقق المخالفة مدخلية أيضا.

قلت: تفويت الغرض في الرتبة المتأخرة عن الهتك و الظلم على المولى، و هما في الرتبة الاولى، فيقال تجرأ على المولى ففوت غرضه.

إن قلت: إن ذلك موجب لتعلّق استحقاق العقاب بأمر غير ملتفت إليه، بل غير اختياري، و هو باطل، لأن عنوان التجري، كالناسي من حيث أن النسيان غير ملتفت إليه، و كما أن الناسي لو التفت إلى نسيانه لزال نسيانه بلا إشكال فكذا التجري، و إذا لم يكن ملتفتا إليه لم يكن اختياريا، فيلزم ما ذكر.

قلت: مورد الاستحقاق هو حيثية الهتك و الطغيان، و لا ريب في كونهما

ص: 21

ملتفتا إليهما و كونهما اختياريين، كما لا يخفى.

إن قلت: مع تحقق الاستحقاق في مورده إن بقي الواقع على ما كان عليه من عدم استحقاق العقوبة عليه فهو من اجتماع الضدين، و إن انقلب عما كان عليه فلا موجب له، لما يأتي من عدم تغير الفعل المتجري به بالتجري.

قلت: يبقى الواقع على ما كان عليه و لا يلزم اجتماع الضدين، لاختلاف الجهتين، فإن جهة الطغيان التي هي مورد الاستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرى به، و لا ربط لإحداهما بالاخرى.

إن قلت: استحقاق العقاب على المخالفة الاعتقادية مستلزم لشمول الخطابات الأولية للمخالفة الواقعية و الاعتقادية معا، و لا جامع بينهما إلا الإرادة و الاختيار و العلم، و الأولان غير اختياريين مع أنهما غير ملتفت إليهما حين الفعل، و الأخير طريقي إلى المخالفة الواقعية و موضوعي في الاعتقادية.

و موضوعية العلم لشيء - خلاف الأصل - تحتاج إلى دليل بالخصوص، و هو مفقود.

قلت: كل ذلك تطويل بلا طائل، لأن الهتك و الطغيان على المولى من المستقلات العقلية لاستحقاق العقوبة، و هو الجامع للمخالفة الواقعية و الاعتقادية، و تشمل الأدلة الأولية لهما بهذا الجامع القريب.

إن قلت: ورد في جملة من الأخبار العفو عن قصد المعصية، و إطلاقها يشمل المقام أيضا.

قلت: مع أنها معارضة بأكثر منها، مما تدل على ثبوت الاستحقاق من الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ . و الأخبار التي أشار إلى بعضها شيخنا الأنصاري قدّس سرّه محمولة على التفضل، فلا ينافي أصل الاستحقاق.

و يمكن الجمع بينهما. إما بحمل ما دلّ على الاستحقاق على ما إذا لم

ص: 22

يمت مؤمنا بل مات كافرا و العياذ باللّه، و ما دلّ على العفو على ما إذا مات مع الإيمان، فيشمله التفضل حينئذ.

أو بحمل ما دلّ على العفو على ما إذا ارتدع بنفسه. و ما دلّ على الثبوت على ما إذا منعه عن قصده مانع خارجي.

أو بحمل ما دلّ على الثبوت على بعض المراتب، و ما دلّ على العدم على بعض مراتب اخرى، لأن للعقوبة و الاستحقاق مراتبا متفاوتة جدا، أدناها الحرمان عن الالتذاذ بالمناجاة مع اللّه تعالى، و سلب التوفيق لصلاة الليل - مثلا - و أعلاها الخلود في النار، و بينهما مراتب كثيرة شدة و ضعفا.

و يمكن أن يحمل على الأشخاص، فإن إرادة المعصية بالنسبة إلى الأولياء و العلماء العاملين تعدّ معصية لدى العرف أيضا، بخلاف إرادتها بالنسبة إلى الجهّال و نحوهم من الغافلين.

و قد يستدل على استحقاق العقاب في التجري بأنه لو فرض أن شخصين قطع كل واحد منهما بخمرية ما في إنائه الخاص به و شرباه، فصادف أحدهما الواقع و لم يصادف الآخر. فإما أن نقول باستحقاق كل منهما للعقاب، أو بعدم استحقاقهما له، أو باستحقاق المصادف للواقع دون غيره. و الأخير مستلزم لتعلّق الاستحقاق بأمر غير اختياري، و الثاني مخالف للضرورة فيتعين الأول.

و فيه: أن العرف و الوجدان شاهد بصحة الأخير لتطابقهما على أن من صادف قطعه الواقع، شارب للخمر باختياره، و أن غير المصادف لم يشرب الخمر، بل لم يحصل منه إلا مجرد الجرأة و الطغيان و الهتك بالنسبة إلى المولى.

و بالجملة يكفينا التأمل في مفهوم التجري و الجرأة في الحكم باستحقاق العقاب بالنسبة إلى التجري.

ثم إنه قد تكرر في كلمات شيخنا الأنصاري قدّس سرّه أن التجري كاشف عن سوء السريرة و خبثها و شقاوتها. و تبعه صاحب الكفاية على ذلك أيضا.

ص: 23

و يردّ: بأن صدور المعصية الحقيقية أعم من خبث السريرة و الشقاوة، لأن السعيد أيضا قد يصدر منه الذنب و الطغيان. لغلبة الجهالة و الشهوة، كما هو معلوم، بل لا يترصد الشيطان إلاّ للسعداء.

نعم، الشقاوة و الخبث الذاتي منشأ للطغيان و صدور المعاصي على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة، و ليس كل من تصدر منه المعصية شقيا و خبيثا، كما أنه ليس كل من تصدر منه الطاعة سعيدا و طيبا ذاتا، و قد ورد في جملة من الأخبار أن اللّه تعالى قد يحب العبد و يبغض عمله، و قد يبغض العبد و يحب عمله، و هذا موافق للأدلة العقلية أيضا.

و قد صرّح صاحب الكفاية قدّس سرّه بأن استحقاق العقاب في التجرّي و الثواب في الانقياد من تبعات البعد و القرب بالنسبة إلى اللّه تعالى، و يرجعان بالآخرة إلى الاستعداد الذي يكون ذاتيا، كذاتية الإنسانية للإنسان، و ذاتي الشيء ضروري الثبوت له و يكون غير معلل.

و هذا الكلام مخالف لما ثبت في محله من نفي الشقاوة و السعادة الذاتيّتين. بل للاختيار دخل فيهما. و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم أنه: «كان بصدد حذف هذه الجملات من هنا و ما كانت مثلها في الطلب و الإرادة فلم يوفق له».

هذا بالنسبة إلى نفس صفة التجرّي من حيث هو.

و أما الفعل المتجرّى به فيمكن القول بقبحه أيضا، لكونه من مظاهر الطغيان و الظلم على المولى عرفا، و يكفي في ذلك قبحه لدى العقلاء من دون أن يستلزم الحرمة الشرعية، لكونها بلا ملاك بعد القبح العقلائي، و لو فرض وجود دليل شرعي عليها يكون إرشادا، كما في الإطاعة و المعصية الحقيقية، و لو لم يكن ما قلناه كافيا في قبحه فلا موجب له أصلا، لأن القطع بالحسن و القبح لا يغير الواقع عما هو عليه، بل هو باق على ما كان قبل التجري.

و الحاصل: أن التجري الخارجي قائم عرفا بالفعل و الفاعل معا، فينطبق

ص: 24

قبحه عليهما كذلك، فإثبات الحرمة إما بالعقل أو بالعرف أو بالشرع، و الأولان أجنبيان عن إثبات الحرمة، لأنه من شأن الشارع لا غيره، مضافا إلى أنهما يشهدان بعدم الحرمة. و أما الأخير فلا دليل في البين إلا ما ادعي في بعض صغريات التجري، كالإجماع المدعى على أنه مع خوف ضيق الوقت يأثم في تأخير الصلاة و إن بان السعة، و الإجماع المدعى على وجوب إتمام الصلاة على من خاف الضرر في سفره و إن بان الخلاف.

و فيه.. أولا: عدم الاعتماد على مثل هذه الإجماعات.

و ثانيا: بأن للخوف موضوعية في أمثال المقام، فيكون ذلك من المعصية الحقيقية، فلا موضوع للتجرّي حينئذ أصلا، كما مرّ من أن التجرّي إنما يتصور في ما هو طريقي فقط لا في ما له دخل في الموضوع و لو في الجملة.

و ينبعي التنبيه على امور:
الأول: تظهر الثمرة في القبح الفعلي و عدمه

في ما إذا كان عبادة، فلا يصح التقرّب به مع قبحه، كما إذا اعتقد غصبية المكان و مع ذلك صلّى فيه و حصل منه قصد القربة ثم بان الخلاف، فإن قلنا بالقبح الفعلي لا تصح الصلاة، لعدم صلاحية القبيح للتقرّب به، و إن لم نقل به تصح الصلاة و لا شيء عليه. هذا إذا احرز أن القبح الفعلي العرفي لازم للقبح الشرعي أيضا و موجب لاستحقاق العقاب. و أما إذا لم يحرز ذلك فلا وجه للبطلان أصلا، و لا طريق لنا لإثبات هذه الملازمة من عقل أو نقل على نحو الكلية.

الثاني: التجري طغيان و ظلم على المولى

، و قبحهما من المسلّمات لدى العقلاء، و لا يزول ذلك إلا بعروض عنوان حسن أرجح منه مع كونه ملتفتا إليه عمدا و اختيارا.

ص: 25

فما عن الفصول من أنه لو اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب القتل، و قطع بأنه الكافر و مع ذلك تجرى و لم يقتله، لا يستحق الذم على التجري لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس المحترمة.

مردود: بأن الطغيان صدر منه عن عمد و اختيار، بخلاف حفظ النفس المحترمة فإنه لم يكن ملتفتا إليه أصلا، فلا يوجب الحسن و استحقاق المدح، و ما كان كذلك كيف يرجح على القبيح الصادر منه بالعمد و الاختيار، و لا فرق في ذلك بين كون قبح التجري ذاتيا أو بالوجوه و الاعتبار، إذ الترجيح مطلقا لا بد و أن يكون بما يصدر عن العمد و الاختيار.

نعم، ملاك الحسن موجود فيه، و لكنه أيضا غير ملتفت إليه مع الالتفات إلى القبح و ملاكه المتحقق في التجري.

الثالث: لا ريب في تباين التجري الاصطلاحي مع المعصية الحقيقية،

لاعتبار عدم المصادفة مع الواقع في الأول و اعتبارها في الثاني.

فما عن صاحب الفصول من أنه مع مصادفة التجري للمعصية الحقيقية يتداخل عقابهما.

مخدوش.. أولا: بعدم تعقل مصادفة التجري الاصطلاحي للمعصية الحقيقية.

و ثانيا: على فرض التعقل بأن يكون مراده رحمه اللّه إتيان الحرام لأجل مبغوضيته لدى المولى لا لغلبة الشهوة و نحوها، فلا وجه حينئذ للتداخل مع كونه خلاف الأصل. إلاّ أن يكون مراده بالتداخل اشتداد العقاب لا التداخل الاصطلاحي.

نعم، لو شرب مائعا بقصد شرب جنس الحرام و اعتقد أنه خمر، فبان كونه مائعا نجسا، يمكن أن يتحقق فيه الحرام و التجري من جهتين.

الرابع: للتجري مراتب متفاوتة جدا..

ص: 26

فتارة: يكون في مجرد القصد فقط.

و أخرى: يكون فيه مع ارتكاب بعض المقدمات.

و ثالثة: مع الإتيان بما يعتقد كونه حراما.

و رابعة: يتحقق بمجرد عدم المبالاة في الدين.

و خامسة: في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.

و سادسة: في ارتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم الإصابة.

و يجمع الجميع مفهوم التجري في الجملة مع الاختلاف في الضعف و الشدة، و المتيقن من استحقاق العقاب و قبح الفعل هو القسم الثالث.

و يمكن القول بالاستحقاق و القبح في باقي الأقسام أيضا مع اختلاف المراتب.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ في التجري - من الأحكام و الأقسام - بين القطع و غيره، فتجري في الأمارات و الاصول المعتبرة أيضا.

و لا يخفى أنه يجري جميع ما مرّ في التجري - من الأحكام و الأقسام - في الانقياد أيضا، لكن مع استحقاق الثواب و حسن الفعل المنقاد به بالأدلة الأربعة.

ص: 27

الأمر الثالث أقسام القطع و ما يتعلّق بها

لا يخفى أن مقتضى طبع القطع أن يكون طريقا محضا إلى متعلّقه - كسائر الحجج و الأمارات - فأخذه في الموضوع مطلقا يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه، و يكون فيه تابعا لمقدار دلالة الدليل فقط..

فتارة: يؤخذ فيه على نحو يكون تمام الموضوع، بأن يدور الحكم مدار القطع، أخطأ أو أصاب.

و أخرى: يكون بنحو جزء الموضوع، بأن يدور الحكم مدار القطع و متعلقه معا بحيث ينتفي بانتفاء أحدهما.

و على كل منهما إما أن يؤخذ فيه من حيث أنه كاشف عن الواقع، أو من حيث أنه صفة خاصة من صفات النفس في مقابل الظن و الوهم و سائر الصفات النفسانية، فهذه أربعة أقسام.

و على كل منها إما أن يؤخذ القطع بموضوع خارجي في متعلق حكم، مثل أن يقال: إن قطعت بدخول الوقت وجب عليك الصلاة، أو يؤخذ القطع بحكم في متعلّق حكم آخر، مثل أن يقال: إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الطهارة، و هذه ثمانية أقسام؛ و هى اصولها فى الجملة و يمكن تشعب أقسام أخر منها. و سيأتي إمكان أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أيضا، فتكون الأقسام تسعة، و بضميمة القطع الطريقي المحض تصير عشرة كاملة، بل قد تكون أكثر.

ص: 28

و لو شك في قطع أنه أخذ في الموضوع - بأي نحو كان - أو لم يؤخذ فيه، فمقتضى الأصل عدم أخذه فيه، لأن هذه خصوصية زائدة منفية بالأصل، مضافا إلى أصالة الطريقية المحضة و الكشف في القطع مطلقا إلا ما خرج بالدليل.

ثم إنه لا ريب في أن أهم آثار القطع صحة الاعتذار به و الاستناد إليه، و هذا هو الأثر الذي يكون ملتفتا إليه لدى العقلاء.

و أما الكشف عن الواقع و إن كان من لوازمه أيضا، و لكنه مغفول عنه غالبا، لأن القاطع لا يرى إلا الواقع و لا يلتفت إلى قطعه و جهة الكشف غالبا، و حينئذ فكل ما صح به الاعتذار و جاز الاستناد إليه يقوم مقامه من هذه الجهة و الحيثية بنفس دليل اعتباره، سواء كان أمارة أو أصلا، موضوعيا أو حكميا، أي أصل كان، إذ لا وجه لاعتباره إلا صحة الاعتذار به و الاستناد إليه، و لا نحتاج إلى ملاحظة جهة الكشف فيها أبدا، لما مرّ من أنها في القطع - الذي هو ام الأمارات و أصلها - مغفول عنها فضلا عن غيره.

إن قلت: هذا صحيح في الأمارات التي يستند إليها و يعتذر بها، و أما في الاصول العملية التي ليس فيها إلا العمل على طبقها، فلا وجه لذلك.

قلت: المقصود الأصلي في الأمارات و الاصول مطلقا هو العمل، فلو لم يكن لها أثر عملي لما كان لاعتبارها وجه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة، و تسمية الاصول بالعملية في مقابل الاصول اللفظية التي لها دخل في العمل بالواسطة، لا في مقابل الأمارات، بأن تكون الاصول العملية دخيلة في العمل بخلاف الأمارات، فإن ذلك فاسد قطعا، بل جميع مباحث الاصول لا بد و أن يكون لها ثمرة عملية، كما تقدم ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. و حينئذ فنقول الأمارات و الاصول العملية و القواعد المعتبرة في حدّ أنفسها امور معتبرة يصح الاسناد إليها لدى العقلاء، كشف عنها الشارع أو لم يردع عنها، و كل ما كان كذلك يقوم مقام القطع، إما في عرض إمكان تحصيله أو بعد تعذر حصوله، إذ

ص: 29

المناط كله صحة الاعتذار بها و جواز الاستناد إليها، و هذه الجهة موجودة في الجميع.

ثم إن ما ذكرناه إنما هو بحسب أصل قيامها مقام القطع في الجملة و لا ينافي ذلك تقدّم بعضها على بعض في أنفسها، كما سيأتي في محله من تقدّم الأمارات على الاصول مطلقا و تقدّم الاصول الموضوعية على الحكمية، و في الاصول الحكمية يقدّم الاستصحاب على الجميع.

و بالجملة: أن نفس أدلة اعتبار الأمارات و الاصول متكفلة بتنزيلها منزلة القطع، لتحقق حيثية الاعتبار و الاعتذار فيها، و يمكن التمسك لذلك بالسيرة العقلائية، فإنهم لا يزالون يعتذرون بها مثل اعتذارهم بالقطع، هذا في القيام مقام القطع الطريقي المحض.

و أما القيام مقام ما أخذ في الموضوع فالحق صحته أيضا فيما أخذ فيه من حيث الكشف و الاعتذار، لا من حيث صفة القطعية فقط، لأنه في قوة أن يقال:

إن القطع فقط دون غيره مأخوذ في الموضوع، و حينئذ فلا وجه لقيام شيء مقامه بخلاف ما أخذ فيه من جهة الكشف و الاعتذار، لأن العلة التامة للدخل في الموضوع، و المناط فيه كله ليس إلا صحة الاعتذار و الاعتبار لدى العقلاء، فإذا كان مناط الدخل فيه ذلك فكل ما كان فيه، هذا المناط يقوم مقامه قطعا بنفس دليل الاعتبار، لفرض تحقق المناط فيه و يكون الدخل في الموضوع بالملازمة العرفية العقلائية قهرا، لأنه لا مناط للدخل فيه غير جهة الاعتبار و الاعتذار.

و لكن اورد عليه بوجهين:

الأول: أنه مستلزم للجمع بين اللحاظ الاستقلالي و الآلي في آن واحد في مورد واحد و استعمال واحد من متكلم واحد، و هو باطل، لأنه من الجمع بين الضدين، لأن لحاظ الدخل في الموضوع يستلزم اللحاظ الاستقلالي، و لحاظ الكشف عن الواقع يستلزم اللحاظ الآلي، فيلزم المحذور.

ص: 30

و يرد.. أولا: بأنه مبني على القول بجعل المؤدي، فيتحقق حينئذ اللحاظ الاستقلالي بالنسبة إلى الدخل في الموضوع و اللحاظ الآلي بالنسبة إلى المؤدي.

و أما بناء على القول بجعل نفس العذرية و الاعتبارية فليس في البين إلا لحاظ واحد استقلالي فقط، و هو لحاظ الاعتبار الذي هو عين الدخل في الموضوع، فلا موضوع للجمع بين اللحاظ الاستقلالي و الآلي حينئذ.

و ثانيا: أنه لا يلزم المحذور حتى بناء على القول بجعل المؤدي لعدم تعدد اللحاظ حتى يلزم المحذور و إنما هو واحد انبساطي على المؤدي و على ما نزل منزلة القطع و إن تفاوتا من جهتين، نظير لحاظ وجوب الصلاة و الحج المنبسط على الأجزاء المتفاوتة بالركنية و غيرها، و لحاظ المركب - حقيقيا كان أو اعتباريا - المنبسط على الأجزاء مع كمال الاختلاف بينها.

و ثالثا: بأن التنزيل إنما هو باعتبار الصحة الخاصة من المؤدي المقارنة مع ما قام عليه، فلا اثنينية في اللحاظ حينئذ، لأن لحاظ الحصة بما هي تلك الحصة عين لحاظ ما تحققت به، فقد نزلت الحصة الخاصة من غير المقطوع منزلة الحصة الخاصة منه، فاللحاظ متعلّق بالحصة و هو مستلزم للحاظ ما قام عليها، أمارة كان أو أصلا.

الثاني: أنه مستلزم للدور، إذ الموضوع مركب من جزءين، المؤدي و ما قام عليه، و تنزيل المؤدي منزلة الواقع يتوقف على تنزيل ما قام عليه منزلة القطع، و هو يتوقف على تنزيل المؤدي، إذ لا أثر لكل واحد منهما منفردا عن الآخر، لفرض تركب الموضوع و تقوّمه بجزءين، و هذا هو الدور.

و يرده.. أولا: أنه مبني على القول بجعل المؤدي. و أما بناء على القول بجعل الاعتبار و الاعتذار، فلا يرد الدور أصلا.

و ثانيا: أنه لا دور حتى على القول بجعل المؤدي، لتقوّم الدور بالتعدد الوجودي في المتوقف، و المتوقف عليه، و ليس المقام كذلك، إذ لا تعدد

ص: 31

للتنزيل و المنزل حتى يتوقف أحدهما على الآخر، بل ليس في البين إلا تنزيل واحد انبساطي على جزئي الموضوع في عرض واحد من دون تعدد و توقف فيه أبدا، نظير انبساط الوجوب العيني النفسي على أجزاء الصلاة في عرض واحد مع ترتب الأجزاء و اختلافها واقعا، و سيأتي مزيد بيان لدفع الدور إن شاء اللّه تعالى. هذا كله في القطع الطريقي، سواء كان مأخوذا في الموضوع أو لا.

و أما ما أخذ فيه من حيث الصفتية الخاصة فلا وجه لتوهم قيام غيره مقامه، لأنه مثل التصريح بأن القطع دون غيره مأخوذ في الموضوع، فعدم قيام الغير مقامه لمانع في البين لا لقصور في دليل الاعتبار، كما لا يخفى. و من ذلك كله ظهرت الخدشة في ما ذكره في الكفاية، فلاحظ و تأمل في عباراته المشكلة.

ص: 32

الأمر الرابع أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده
اشارة

المعروف أنه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده.

أما الأول: فللزوم الدور

، لأن الحكم متأخر عن الموضوع طبعا، و هو متقدّم عليه كذلك، فإن كان الموضوع نفس هذا الحكم بعينه يلزم تقدّم الشيء على نفسه، و هو دور.

و فيه.. أولا: أن الدور المحال ما إذا تعدد المتوقف و المتوقف عليه وجودا و حقيقة، و ليس المقام كذلك، إذ التعدد فيه اعتباري محض، كما هو كذلك بين كل علم و معلوم، و قد ثبت في محله اتحاد العقل و العاقل و المعقول وجودا و بالأدلة القطعية، فراجع و تأمل.

و ثانيا: أنهما مختلفان جهة، لأن متعلّق القطع ذات الحكم و ماهيته، لما ثبت في محله من تعلّق العلم بالذوات و الماهيات، و قد قال الحكيم السبزواري:

للشيء غير الكون في الأعيان *** كون بنفسه لدى الأذهان

و أما الحكم فهو بوجوده العيني الخارجي يتوقف على القطع به، فيختلف المتوقف و المتوقف عليه فلا دور، هذا إن كان الأخذ على نحو التقييد الاصطلاحي.

و أما إذا كان على نحو نتيجة التقييد فلا محذور أصلا، و ذلك بأن يستفاد من القرائن الخارجية اختصاص الحكم بالعالم به، كما أن نتيجة الإطلاق أن

ص: 33

يستفاد منها شمول الحكم للعالم و الجاهل به.

و أما الثاني و الثالث: فللزوم اجتماع المثلين أو الضدين،

و هما باطلان.

و فيه: أن الضدين و المثلين أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد، و الأحكام مطلقا ليست وجودية و لا من العوارض الخارجية، بل هي اعتبارات عقلائية، كسائر اعتباراتهم التي يقوم بها نظام معاشهم و معادهم، فلا موضوع لاجتماع المثلين و الضدين في المقام حتى يمتنع، هذا إذا كانت الأحكام عبارة عن نفس الاعتبارات.

و أما إذا كانت عبارة عن نفس الإرادة و الكراهة فلا اجتماع للمثلين إن كانا من نوع واحد، بل يكون من التأكيد و الاشتداد، و لا من اجتماع الضدين إن كانا من نوعين لاختلاف موضوعهما، لأن أحدهما قائم باعتقاد القاطع و الآخر بنفس الحاكم، فلا يكون الموضوع واحدا حتى يلزم المحذور.

نعم، الموضوع الخارجي مورد إضافتهما بالعرض، و ليس هذا مناط الاجتماع المحال.

إن قلت: نعم، و لكن جعل حكم آخر من الشارع مثل ما قطع به المكلف يكون لغوا و هو قبيح عليه، فيمتنع من هذه الجهة.

قلت: لا لغوية فيه، بل يكون من تأكد الداعي و هو حسن، بل قد يلزم.

فتلخّص: أنه يصح أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده، و كذا في الظن بلا فرق بينهما أبدا من هذه الجهة.

ثم إنه قد صرّح جمع بإمكان أخذ القطع بالحكم الإنشائي في موضوع آخر فعليّ مثلا كان أو ضدا، لأن اختلاف المرتبة يرفع الغائلة.

و فيه: أن الإنشاء بلا داع أصلا محال على الشارع، و إن كان بداع آخر من غير أن يصير فعليا فلا يكون فعليا عند تحقق الشرائط، و هو خلف. و إن كان بداعي صيرورته فعليا عند تحققها فيعود المحذور بعد الفعلية.

ص: 34

الأمر الخامس الموافقة الالتزامية و بعض ما يتعلّق بها
اشارة

لا ريب في وجوب الالتزام بما جاء به النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بنحو الجملة و الإجمال، لأنه عبارة اخرى عن الاعتقاد بالنبوة، كما لا ريب في وجوب الاعتقاد بالمعارف الحقة على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و إنما الكلام في وجوب الالتزام بالتكاليف الفرعية بأن يكون بالنسبة إلى كل واجب و حرام، كالصلاة و الكذب مثلا تكليفين مستقلين لا ربط لأحدهما بالآخر، أحدهما الالتزام بالوجوب أو الحرمة قلبا، و الآخر الإتيان بالوظيفة خارجا، فيكون في البين موافقتان. التزامية و عملية، و مخالفتان كذلك مع صحة التفكيك بينهما، بأن يأتي به عملا و لا يلتزم به قلبا، أو بالعكس، و كما في مورد دوران الأمر بين المحذورين، حيث لا يمكن المخالفة العملية مع إمكانها التزاما.

و المعروف عدم وجوب الموافقة الالتزامية بهذا المعنى، و أنه ليس في البين إلا تكليف واحد متعلّق بالجوارح، لا اثنان و يكون الآخر متعلّقا بالجوانح فلا تجب الموافقة الالتزامية و لا تحرم المخالفة الالتزامية أيضا، للأصل بعد عدم الدليل عليهما من عقل أو نقل في هذا الأمر العام البلوى، و عدم كونها من شئون ذات التكليف حتى تدلّ عليها أدلة التكليف الأولية، لأن المناط فيها إنما هو الإتيان بها خارجا، التزم بها أو لا، و ليس الالتزام - على فرض الوجوب - إلا طريقا للإتيان بها.

نعم، لا ريب في حسنها، لأنها نوع من الطاعة و الانقياد، و من دواعي

ص: 35

الصلاح و السداد خصوصا للعوام و أهل السواد.

و يمكن أن يكون مراد من قال بوجوبها ما مرّ من وجوب الالتزام على نحو الجملة و الإجمال بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله من الحق المتعال، و لا ريب في وجوب ذلك عند الكل فيصير النزاع لفظيا.

مع أنهم لم يستدلوا على الوجوب إلا بقاعدة الاشتغال. و هو مردود بأن المقام من الشك في أصل التكليف، و المرجع فيه البراءة عقلا و نقلا، و مورد قاعدة الاشتغال في ما إذا كان الشك في الخروج عن العهدة بعد العلم بأصل التكليف. و إن أريد شرطية الموافقة الالتزامية لصحة العمل الذي علم المكلف به، فهو باطل أيضا، لتطابق آراء المحققين إلى الرجوع إلى البراءة مع الشك في الشرطية.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية للتكاليف الفرعية لا بد من البحث فيه من جهات
الاولى: أن وجوب الموافقة الالتزامية تابع لكيفية العلم بالتكليف تفصيلا

أو إجمالا، فإن علم تفصيلا فالالتزام به يكون تفصيليا، و إن علم إجمالا - أو كان دائرا بين المحذورين - يكفي الالتزام بالواقع على ما هو عليه، لأن الالتزام بالمعين تشريع مع أنه ترجيح بلا مرجح، و التخيير في الملتزم به لا وجه له في التكليف العيني النفسي، و التخيير في نفسي الالتزام من حيث هو تخيير بين الواجب و غيره، فينحصر مورده بالالتزام بالواقع على ما هو عليه.

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية، إذ قد لا تمكن الثانية، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين بخلاف الاولى، لإمكان الالتزام، بالواقع على ما هو عليه، مع أنه يمكن العصيان بالنسبة إلى الثانية و الإطاعة بالنسبة إلى الاولى و بالعكس.

الثالثة: لا تمانع بين وجوبها و جريان الاصول العملية

الثالثة: لا تمانع بين وجوب الموافقة الالتزامية و جريان الاصول العملية

ص: 36

لو كانت جارية بنفسها فلا يمنع أحدهما عن الآخر، لاختلاف موردهما، لأن مورد الالتزام هو العقد القلبي و مورد جريان الاصول بالنسبة إلى الآثار العملية، ففي موارد جريان الاصول - الحكمية أو الموضوعية - يلتزم بالواقع على ما هو عليه، و لا يمنع الالتزام به جريان الأصل، كما لا يدفع بجريانه لزوم الالتزام به و إن أمكن أن يقال إنه على فرض وجوب الموافقة الالتزامية إنما هو في ما إذا لم يكن مؤمّن شرعي في البين، و الأصل مؤمّن فينتفي به موضوع وجوب الموافقة حتى في مورد دوران الأمر بين المحذورين.

إن قلت: لا وجه لجريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين، لأن العقل يستقل فيها بعدم الحرج في الفعل و الترك، فليس في البين أثر عملي يجري الأصل بالنسبة إليه.

قلت: ليس هذا مانعا عن جريانه لو لم يكن مانع آخر في البين، لأن لزوم الأثر العملي من قبيل الحكمة لجريانه لا العلة التامة فيجري الأصل و تثبت الإباحة الظاهرية، و يلتزم بالواقع على ما هو عليه، بل و يصح الالتزام بالإباحة الظاهرية الثابتة بالأصل أيضا، لعدم التنافي بينهما، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه بناء على وجوب الموافقة الالتزامية و حرمة مخالفتها، فلا إشكال في استحقاق العقاب على المخالفة، إذ لا معنى للحرمة إلا ذلك، و هل يصير العقاب فعليا مع الموافقة العملية أو لا؟ وجهان: يمكن القول بالثاني بناء على أن وجوب الموافقة الالتزامية نفسي طريقي لا موضوعية فيه.

نعم لو قيل بالموضوعية فالظاهر هو الأول - لو لم نقل بالسقوط من باب:

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، و لو تركهما معا فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضا إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فالعقاب واحد، و لو أتى بهما معا فمقتضى سعة رحمة اللّه تعالى و فضله تعدد الثواب بناء على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضا، كما يظهر من بعض الآيات، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً - و الروايات التي تعرضنا لها في تفسيرنا (مواهب الرحمن)، هذا بناء على المشهور من أن الثواب يدور مدار قصد القربة. و أما بناء على أنه أعم من ذلك، كما يظهر من بعض الأخبار و اخترناه في كتابنا (مهذب الأحكام)، فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية و لو لم يقصد القربة.

ص: 37

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ، و لو تركهما معا فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضا إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فالعقاب واحد، و لو أتى بهما معا فمقتضى سعة رحمة اللّه تعالى و فضله تعدد الثواب بناء على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضا، كما يظهر من بعض الآيات، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً - و الروايات التي تعرضنا لها في تفسيرنا (مواهب الرحمن)، هذا بناء على المشهور من أن الثواب يدور مدار قصد القربة. و أما بناء على أنه أعم من ذلك، كما يظهر من بعض الأخبار و اخترناه في كتابنا (مهذب الأحكام)، فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية و لو لم يقصد القربة.

و لو ترك العمل و أتى بالموافقة الالتزامية، فالظاهر ترتب الثواب بالنسبة إليها أيضا في الجملة.

ثم إنه كما أن الثواب في الموافقة العملية يدور مدار كون العمل قربيّا، أو قصد القربة بالعمل و إن لم يكن كذلك، فهكذا بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية أيضا.

ص: 38

الأمر السادس القطع الحاصل من العقليات و قطع القطاع

لا خلاف بين الكل في أن القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا تابع لمقدار دلالة دليل الأخذ فيه تعميما و تخصيصا بالنسبة إلى الأسباب الحاصل منها، و الأشخاص الحاصل لهم، و الموارد الحاصل فيها، و المراتب الحاصلة، فهو مما يناله الجعل من كل جهة. كما لا ريب و لا خلاف في أن غير القطع من الحجج المجعولة العقلائية أو الشرعية تأسيسا أو إمضاء هي أيضا مما يصح فيها التعميم من كل جهة، كما يصح تخصيصها ببعض الأسباب دون بعض، و ببعض الأشخاص دون بعض، و ببعض المراتب دون البعض.

و أما القطع الطريقي المحض فقد قيل بعدم حصوله من الامور العقلية لعدم إحاطة العقول بالواقعيات.

و فيه: أنه خلاف الوجدان إن اريد به السالبة الكلية، و إن أريد به أن الخطأ فيه أكثر مما يحصل من غيرها، فهو من مجرد الدعوى و لا شاهد عليه.

و قد قيل: أيضا بعدم اعتباره و لو حصل منها، لعدم وصول دليل من الشرع على تقريره، و كثرة مخالفته للواقعيات.

و فيه: أنه خلاف الطريقة العقلائية من اتباع القطع مطلقا بلا نظر إلى منشأ حصوله أبدا، و عدم ورود ردع من الشارع مثل ما ورد في الردع عن القياس و الاستحسان، و لا يستفاد منهما الكلية بالنسبة إلى غيرهما، و ما ورد في حصر أخذ الأحكام عن المعصوم عليه السّلام أعم من التأسيسيات و الإمضائيات، و لا ريب في

ص: 39

أنه مع عدم ورود الردع بالخصوص يستكشف الإمضاء في مثل هذا الأمر العام البلوى بين العقلاء.

و قد قيل أيضا بعدم اعتبار قطع القطاع - أي: كل من يحصل له القطع بأدنى شيء على خلاف المتعارف بين الناس في أسباب حصول القطع عندهم - و هو قول حسن، لصحة دعوى عدم بناء من العقلاء على ترتب الأثر لهذا النحو من القطع، بل يلومون هذا القاطع على ترتيبه الأثر على قطعه، كالشكاك الذي يكون ملوما عند الناس.

نعم، هو حين حصول قطعه مجبول على اتباعه، و لكن لا بد له حين التفاته إلى حاله - و لو في الجملة - من الرجوع إلى العالم لتنبيهه على تكليفه إن كان عاميا، أو الرجوع إلى الأدلة إن كان مجتهدا.

ثم إن القطاع في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء من الأسباب المتعارفة لحصول القطع عند متعارف الناس، و هو أيضا ملوم عندهم، بل شرعا أيضا، لما في صحيح ابن سنان من أنه من عمل الشيطان.

ثم إنه يمكن أن يوجه قول كل من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد بوجوه..

منها: أن اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع، و قد ورد الردع بمثل قولهم عليهم السّلام: «شرّقوا أو غرّبوا لن تجدوا علما صحيحا إلاّ ما خرج من عندنا أهل البيت»، فكما أن نفس الحكم يكون تحت اختيار الشرع وضعا و رفعا، فما يحصل منه القطع يكون كذلك أيضا.

و منها: أن الأحكام الشرعية مقيدة و لو بنتيجة التقييد بما إذا حصل القطع بها من مباد خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله، و هذا الوجه مثل سابقه في الواقع.

و منها: أن المراد بالقطع في كلماتهم مطلق الاطمئنان لا القطع الاصطلاحي.

ص: 40

و كل هذه الوجوه يصلح لحمل كلماتهم عليها و إن كان بعضها خلاف ظاهرها في الجملة.

و منها: أن مرادهم من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات عدم اعتبار قاعدة الملازمة، و الرد عليها لا عدم ترتب الأثر على القطع المستند إلى المقدمات العقلية مطلقا. و قد استظهر هذا الوجه من مجموع الكلمات بعد رد بعضها إلى بعض، فلا بد من بيان القاعدة أصلا و عكسا بنحو الأسد الأخصر، حتى يتبين مورد صحتها و فسادها، فنقول:

قد اشتهر أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، و كل ما حكم به الشرع حكم به العقل. و المراد بحكم العقل في القضيتين أصلا و عكسا، جزمه بالشيء بعد الإحاطة بخصوصياته، و ليس المراد به البعث و الزجر المولوي لتقومهما بالثواب و العقاب، و هما مختصان بالشارع فقط و ليسا من شأن العقل في شيء أبدا.

كما أن المراد بالعقل ليس العقول الجزئية التي تكون مناط التكليف، و لا العقل الكلي - الذي أثبته الحكماء بأنه أول ما أفيض من المبدأ، و يظهر من جملة من الأخبار التي جمعها الكليني قدّس سرّه في باب العقل و الجهل من كتابه الشريف، كقولهم عليهم السّلام: «العقل أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش». لأن درك أحكامه و شئونه يختص بمن خلقه أو من علمه، بل المراد حكم العقلاء الذي تطابقت عليه آراؤهم، كحسن الإحسان و قبح الظلم، و لزوم شكر المنعم، و نحو ذلك مما لم يتخلّف فيه عاقل، كما لا يحتمل الخلاف فيه من عاقل إلى الأبد.

فالمعنى حينئذ: أن ما تطابقت آراء العقلاء كافة على حسنه، فالشارع بعث إليه في الجملة، و ما تطابقت آراؤهم على قبحه زجر عنه كذلك.

و الظاهر أن هذا المعنى من البديهيات التي لا ينبغي الارتياب فيها من أحد، بل من أهم مقاصد الشرائع الإلهية دعوة الناس إلى فطرتهم السليمة و مرتكزاتهم العقلائية الصحيحة المتفق عليها عند جميعهم، و إثارة دفائن

ص: 41

عقولهم، كما صرّح به علي عليه السّلام.

و تنحصر كبريات مورد الملازمة بالمعنى الذي قلناه في الامور الثلاثة و إن كانت صغرياتها غير محصورة.

إن قلت: إن الملازمة و لو بالمعنى الذي ذكر مبنية على التحسين و التقبيح العقليين، و قد أنكرهما الأشاعرة. أما في فعله تعالى، فلعموم مثل قوله تعالى:

اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ، و لأنه مالك، و للمالك أن يفعل في ملكه ما شاء و أراد.

فلو عاقب المطيع و أثاب العاصي لم يرتكب قبيحا. و أما في أفعال العباد فلكونها غير اختيارية، و الحسن و القبح من شئون الأفعال الاختيارية.

قلت: أما عدم الحسن و القبح في أفعال العباد و عدم اختياريتها فمخالف للوجدان، و قد مرّ في بحث اتحاد الطلب و الإرادة بعض ما يتعلق به.

و أما عدم القبح في أفعاله تعالى فهو مسلّم عند الكل، و دلت عليه الأدلة العقلية المضبوطة في الكتب الحكمية و الكلامية من عدم صدور القبيح منه تعالى، بل عدم صحة تجويزه عليه جلّ و علا.

و أما عدم اتصاف أفعاله بالحسن، و أن له تعالى أن يرجح المرجوح على الراجح، فهو أيضا باطل بإجماع الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام بل الموحدين كافة بل العقلاء، إذ لا يرضى عاقل أن ينسب إلى الحكيم المطلق ما لا يكون حسنا و يكون لغوا، و المراد بقوله تعالى: يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي على حسب المصالح الواقعية التي تعجز العقول عن دركها، و للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء إذا لم يكن سفها و عبثا و إلا فالعقلاء يلومونه مطلقا.

إن قلت: تصح الملازمة بالمعنى الذي قلت، و لكن الأخبار الدالة على أنه لا بد من الرجوع إلى الحجة تبطل هذه الملازمة.

قلت.. أولا: إن المراد بها أعم من الحجة الظاهرية و الباطنية.

و ثانيا: المفروض تحقق التقرير من الحجة الظاهرية، و إلاّ لردع عنها بالخصوص في مثل هذا الأمر العقلائي العام البلوى الثابت في كل عصر و زمان.

ص: 42

إن قلت: نعم، و لكن حكم الشرع في مورد حكم العقل يكون باطلا، لأنه لإيجاد الداعي و هو حاصل من حكم العقل فلا احتياج إليه.

قلت: الاحتياج إليه لتأكيد الداعي و إتمام الحجة و تصحيح الثواب و العقاب، فيصح أن يكون حكم الشارع في موارد حكم العقل مولويا لا إرشاديا.

ثم إنه يمكن أن يجعل النزاع في الملازمة لفظيا، فمن قال بها أي بالمعنى الذي قلناه، و من قال بعدمها أي في حكم العقل الجزئي الذي لا يحيط بشيء و لا يصدقه سائر العقلاء، هذا في أصل القضية.

و أما عكسها - و هو أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل - فان أريد به أن كل ما حكم به الشرع حكم العقلاء به كافة من حيث عقلهم على نحو الجملة و الإجمال، و أن حكم الشرع يكون عن مصلحة أو مفسدة تقتضيه، فهو حق لا ريب فيه. و إن اريد به أن في كل مورد من موارد حكم الشرع يحكم العقل به أيضا بالخصوص مثله، فهو ممنوع لعدم إحاطة العقول بمثل ذلك إلا من طريق الوحي و الإلهام، و هما مختصان بخاصة أولياء اللّه الذين لم تحجب العوائق و العلائق ذواتهم القدسية و نفوسهم النورية عن وصول الإفاضات الغيبية عليهم.

و يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا أيضا، فمن أثبت الملازمة أي بين حكم العقل بنحو الجملة و الإجمال و حكم الشرع، و من نفاها أي بينهما بنحو التفصيل.

و ما اشتهر من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، فإن اريد منه ما ذكرناه فهو حق، و إلا فإثبات كليته يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و يحتمل أن يكون المراد به معنى آخر لا ربط له بالمقام أصلا. و هو أن العبادات الواجبة شرعا توجب استعداد النفس لإفاضة المعارف الإلهية عليها التي هي الواجبات العقلية، و يشير إليه قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا .

ص: 43

الأمر السابع العلم الإجمالي و بعض ما يتعلق به
اشارة

المقصود بالبحث عن العلم الإجمالي في المقام: أنه علة تامة للتنجز، أو أنه مقتض له فقط، و على الأخير هل يكون المانع عن الاقتضاء موجودا أو لا؟ فنقول:

لا فرق بين العلم الإجمالي و التفصيلي في نفس العلم من حيث هو علم، بل و لا في متعلّقه من حيث هو طرف إضافة العلم بالذات، و إنما الفرق بينهما في المعلوم بالعرض المتحقق في الخارج، من جهة سراية الجهل إليه في العلم الإجمالي دون التفصيلي، فيكون محل البحث هو أن هذا الجهل الساري إلى الأطراف هل يصلح للمانعية أو لا؟ فعلى الأول يبقى العلم الإجمالي على مجرد الاقتضاء فقط مطلقا، و على الثاني يكون علة تامة للتنجز؛ كالتفصيلي كذلك من غير فرق بينهما أبدا.

و الحق هو الأخير، إذ المناط كله في كون العلم التفصيلي علة تامة للتنجز ليس إلا أن مخالفته عدم مبالاة بإلزام المولى و هتك بالنسبة إليه، و أما تحقق المعصية الحقيقية، فهو شيء قد يكون و قد لا يكون، إذ لا يجب أن يكون كل علم تفضيلي مطابقا للواقع، و لا ريب في تحقق هذا المناط في المخالفة لبعض أطراف العلم الإجمالي أيضا.

إن قلت: نعم، و لكن بينهما فرقا شدة و ضعفا، و من الممكن اختصاص العلية بالمرتبة الشديدة، فتختص بالعلم التفصيلي حينئذ.

قلت: هتك المولى و عدم المبالاة بإلزاماته و التهاون بالنسبة إليها

ص: 44

و الاستخفاف بها، قبيح بجميع المراتب، لا سيما بالنسبة إلى اللّه جلّ شأنه، فيشترط في جواز الارتكاب إحراز الترخيص، و هو إما عقلي أو شرعي.

و الأول منحصر بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، و لا ريب في عدم انطباقها على مورد العلم لتمامية البيان و وصوله من طرف المولى، و عدم خلل فيه من جهته، و تردد الأطراف خارج عما هو وظيفته، مع أن ارتكاب بعض الأطراف تساهل و تسامح في الدين و عدم مبالاة بإلزامات المولى و هو نحو هتك بالنسبة إليه، و ليس للعقل و العقلاء تجويز ذلك أبدا.

و الثاني عبارة عن العمومات المثبتة للأحكام الظاهرية، مثل «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» و «كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه».

و يرد على مثل هذه العمومات..

أولا: أن الشك في شمولها لمورد العلم الإجمالي كاف في عدم الشمول، لما مرّ من عدم صحة التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية.

و ثانيا: أن ارتكاب بعض الأطراف مع العلم بكونه طرفا للنهي الإلزامي، أو ترك بعض أطرافه مع العلم بكونه طرفا للأمر الإلزامي، عدم مبالاة بشأن المولى لدى المتشرعة، بل العقلاء، و لا ريب في قبح ذلك في الجملة، و ليس للشارع الحكيم أن يأذن في ذلك.

و بالجملة: أن المحتملات في مثل هذه الأخبار ثلاثة:

الأول: أن الشارع رفع اليد عن الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي رأسا، و هو خلف الفرض.

الثاني: أنه أذن في الترخيص في جميع الأطراف، و هو ترخيص في المعصية قبيح بالنسبة إليه.

الثالث: أنه رخّص في بعض الأطراف دون بعض، و هو ترخيص في عدم

ص: 45

المبالاة في الدين، و إذن في التجري في الجملة، و هو أيضا قبيح للشارع مع اهتمامه بأحكامه و المحافظة عليها مهما أمكنه ذلك.

نعم، لو ثبت رفعه للحكم في مورد العلم الإجمالي، أو جعله بعض الأطراف بدلا عن الحكم الواقعي، أو ثبت التخيير شرعا أو عقلا، لجاز ارتكاب الكل في الأول و أحد الأطراف في البقية.

و لكن الجميع باطل.

أما الأول: فلما مرّ من أنه خلف الفرض، و لا دليل على جعل البدل أو التخيير الشرعي، كما لا وجه للتخيير العقلي، لأنه إنما يتحقق في ما إذا كان المناط في الطرفين أو الأطراف واحدا، و ليس كذلك في المقام.

و ثالثا: أنه مناف لقاعدة المقدمية المرتكزة في الأذهان، و ما أحسن قول صاحب الجواهر قدّس سرّه حيث قال: «إنا لم نسمع أحدا تأمل في هذه القاعدة من أصحابنا، بل يقررونها و يذكرون الأخبار الخاصة حيث تكون مؤيدة لها و إن وقع لهم كلام في كيفية تقريرها، و لكنهم مشتركون في الإضراب عن هذه العمومات في الطهارة و الحل و الحرمة، بل عن بعضهم الالتجاء إلى أخبار القرعة دونها مع كونها بمرأى منهم و مسمع...» راجع كلامه عند قول المحقق: (و لو اشتبه الإناءان).

و قد طبق الإمام عليه السّلام هذه الأخبار على الشبهة غير المحصورة، فيعلم من ذلك عدم انطباقها على المحصورة، فراجع و تأمل.

و رابعا: أن المحتملات في قوله عليه السّلام: «إنه حرام بعينه» ثلاثة:

الأول: إرجاع الضمير إلى نفس الحرام من حيث هو حرام، فكأنه قال عليه السّلام: «كل شيء حلال حتى تعلم عين الحرمة»، و لا ريب في العلم بالحرمة في مورد العلم الإجمالي، بل لا تجري هذه العمومات و الإطلاقات بناء على هذا الاحتمال في أطراف الشبهة غير المحصورة أيضا، و يظهر من بعض الأخبار أن

ص: 46

الإمام عليه السّلام أجراها في الشبهة غير المحصورة، فيعلم منه سقوط هذا الاحتمال فيها فقط.

الثاني: أن يرجع الضمير في «بعينه» إلى أن ما هو مورد ابتلاء المكلف حلال حتى يعلم الحرام بعين ما يكون مورد الابتلاء، و لا ريب في تحققه أيضا في مورد العلم الإجمالي، لفرض أن الأطراف مورد الابتلاء.

الثالث: أن يكون المراد بالعين، الشخص الموجود في الخارج من حيث كونه قابلا للإشارة الحسية، و بهذا المعنى لا يصح انطباقه على أطراف المعلوم بالإجمال، لفرض عدم إمكان الإشارة الحسية إلى شخص الحرام فيها، و لكن تعين هذا الاحتمال من بين المحتملات بلا معين.

و الظاهر هو الثاني، و إلا لقال عليه السّلام: (شخص الحرام) لأن التشخّص ينافي التردد، بخلاف العينية فإنها تشمل كل ما تحقق في الخارج و يكون مورد ابتلاء المكلف، فإن التحقق الخارجي لا ينافي التردد عند المكلف، مع أنه يوهن هذا الاحتمال أن تشخيص الموضوع خارجا ليس من وظيفة الشارع حتى يلزم عليه بيانه. و على فرض كون المراد به المعنى الثالث، فقد مرّ قبح ترخيص الشارع فيه.

و خلاصة القول: أن الجهل الذي هو مورد تشريع الأحكام الظاهرية مطلقا، ليس مطلق الجهل، بل خصوص الجهل الذي ليس موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي، و ما كان كذلك فهو خارج عنه تخصصا، و كذا الشك الذي يكون موردا للأصول العملية مطلقا، إنما هو الشك الثابت المستقر الذي لا يكون موردا لاحتمال انطباق تكليف فعلي منجز بالاحتمال العقلائي، و إلا فهو خارج عنه تخصصا، و هذا هو القول الأسد الأخصر الذي لا بد منه، و سيأتي في مقدمات الانسداد عند بطلان الرجوع إلى الاصول ما ينفع المقام.

ص: 47

شرائط تنجز العلم الإجمالي:
اشارة

و هي شرائط عقلائية حاصلة من مرتكزاتهم التي هي المدار في تنجز التكاليف مطلقا في ما لم يرد فيه تحديد شرعي.

الأول: أن يحدث بالعلم الإجمالي تكليف فعلي غير مسبوق بالوجود على كل تقدير

، بأن يكون كل طرف من أطرافه من حيث الطرفية للعلم الإجمالي موردا للتكليف المعلوم في البين، و بصحة انطباقه عليه حدث تكليف مسبوق بالعدم، فلو كان بعض أطرافه المعين محكوما بحكم تفصيلي، مثل الحكم المعلوم بالإجمال، فحدث العلم الإجمالي بعد ذلك، لا أثر لمثل هذا العلم الإجمالي في التنجز، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما المعين نجس، ثم وقعت قطرة بول لا يدري أنها وقعت في أيهما، فلا يحدث بالنسبة إلى الإناء المعلوم النجاسة تكليف زائد، و يكون الشك في نجاسة الإناء غير المعلوم نجاسته من الشك البدوي، فيرجع فيه إلى البراءة، كما في جميع موارد الشكوك البدوية، فإن تنجز التكليف سابقا في الطرف المعلوم بالتفصيل بجعل الطرف الآخر من الشك البدوي المحض، بلا فرق في ذلك بين كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجز، أو مقتضيا لسقوط العلية و عدم تمامية الاقتضاء مع فقد الشرط، فيشمله دليل البراءة العقلية و النقلية.

ثم إن العلم التفصيلي بالتكليف..

تارة: يكون سابقا على حدوث العلم الإجمالي.

و اخرى: يكون متأخرا عنه.

و ثالثة: يكونان متقارنين. و كذا المعلوم بذلك العلم التفصيلي، قد يكون متقدّما على المعلوم بالعلم الإجمالي، و قد يكون متأخرا عنه، و قد يكونان متقارنين.

ص: 48

و المحصل من ضرب الثلاثة في مثلها يصير تسعة، يكون العلم الإجمالي منجزا في ثلاثة منها، و هي: ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال و علمه على المعلوم التفصيلي و علمه، و ما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال فقط على العلم التفصيلي و معلومه و تأخر نفس العلم الإجمالي عنه، و ما إذا تقدّم المعلوم بالإجمال مع تقارن العلمين، و لا تنجز له في ستة منها و هي:

1 - تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي مع تقارن العلمين.

2 - تقدّم العلم و المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي.

3 - تقدّم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي فقط.

4 - تقارن المعلومين مع تقدّم العلم التفصيلي.

5 - تقارن المعلومين مع العلم الإجمالي.

6 - تقارن المعلومين مع تقارن العلمين، و أمثلة الكل واضحة بعد التأمل.

و في جميع هذه الصور الست يكون غير المعلوم بالتفصيل من مجاري البراءة، لكونه من الشبهات البدوية.

ثم إن الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي..

تارة: تكون مثبتة للتكليف.

و اخرى: تكون الجميع نافية.

و ثالثة: تكون بعضها مثبتة و بعضها نافية. و لا ريب في تنجز العلم في الأولين. و أما الأخير فلا يبعد سقوطه عن التنجز، كما إذا علم إجمالا بأنه إما زاد في صلاته ركوعا أو نقص سجدة واحدة، فتجري أصالة عدم زيادة الركوع، و عدم الإتيان بالسجدة، فتصح صلاته و يجب عليه قضاء سجدة واحدة.

الثاني: \أن يصلح للداعوية نحو التكليف، خروج موارد ثلاثة
اشارة

الثاني: من شرائط تنجز العلم الإجمالي: أن يصلح للداعوية و البعث نحو التكليف في عرف العقلاء، و مع عدم صلاحيته لذلك لا تنجز له، إذ لا معنى للمنجزية عندهم إلا الصلوح لذلك، و هذا مما يختلف اختلافا فاحشا بحسب

ص: 49

الموارد و الأشخاص، فقد يكون مورد واحد صالحا للداعوية لبعض، و غير صالح لها لآخر في محل واحد و زمان واحد. و يترتب على هذا الشرط خروج موارد ثلاثة عن تنجز العلم الإجمالي.

منها: ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الابتلاء

، و بيانه أن للقدرة مراتب ثلاث..

الاولى: القدرة العقلية المحضة، بمعنى إمكان المقدور بالنسبة إلى القادر بالإمكان الذاتي، و لا ريب في عدم كون هذه المرتبة منها شرطا في التكاليف الشرعية، لكون جميعها مبنية على القدرة العرفية السمحة السهلة.

الثانية: القدرة العرفية العقلائية، التي هي أخص من الاولى، و تدخل فيها القدرة الشرعية أيضا.

الثالثة: قدرة خاصة هي أخصّ منهما، و هي كون المقدور مورد عمل القادر عرفا مع وجود المقتضي و فقد المانع، بحيث تكون القدرة بالنسبة إلى تمام الأطراف على حدّ سواء من حيث وجود المقتضي و فقد المانع، فلو كان في أحد الأطراف مانع عن إعمال القدرة فهو خارج عن محل الابتلاء، فلا تنجز للعلم الإجمالي المتعلّق به و بغيره.

و المانع إما عقلي، كما إذا علم إجمالا إما بنجاسة هذا الإناء الموجود، أو ما صار معدوما، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي أبدا.

أو شرعي، كما إذا كان هناك إناءان أحدهما للغير و الآخر للمكلف نفسه و علم بنجاسة أحدهما، و حيث أنه لا يجوز له التصرف في إناء الآخر فهو خارج عن مورد ابتلائه، فليس هذا العلم الإجمالي منجزا أيضا، لمانع شرعي.

أو عرفي، كما إذا علم إجمالا بنجاسة إنائه أو إناء جاره الذي ليس بينهما تردد، فإن العرف بمرتكزاتهم لا يرون مثل هذا العلم منجزا، إذ المفروض أنه ليس إناء الجار مورد الحاجة و العمل عرفا.

ص: 50

أو عادي شخصي، كما إذا كان شخص لا يشرب الدخان - مثلا - مطلقا، ثم علم إجمالا بأن الدكان الذي يشتري منه حوائجه إما دهنه مغصوب أو سجائره مثلا، فيصح له شراء الدهن، لخروج أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا الشخص عن مورد الابتلاء، فلا تنجز له، و لهذا القسم أمثلة كثيرة، كما لا يخفى.

ثم الظاهر أن الابتلاء و عدمه من الوجدانيات لمن يلتفت إليه في الجملة، فلا وجه للشك فيه، و مع ذلك لو شك، فسيأتي حكمه في مباحث الاشتغال إن شاء اللّه تعالى.

و يترتب على ذلك ثمرات:
أولها: أنه لو اعتقد عدم كون بعض الأطراف مورد الابتلاء فارتكب بعضها و بان الخلاف،

فالظاهر تنجز العلم بالنسبة إلى ما بقي لكشف ظهور الخلاف عن كونه منجزا حين حدوثه، غاية الأمر أنه كان معذورا في الارتكاب إن لم يكن عن تقصير، و الابتلاء من الشروط الواقعية لا الإحرازية.

ثانيها: لو كانت الأطراف مورد الابتلاء و أثّر العلم الإجمالي أثره

، فخرج بعض الأطرف عن مورد الابتلاء، لا يضر ذلك بتنجز العلم الإجمالي و بقاء أثره في ما بقي تحت الابتلاء، للأصل.

ثالثها: لو علم إجمالا بغصبية إناء مردد بين الإناءين
اشارة

و نجاسة إناء مردد بين إناءين أحدهما المعين ما كان طرفا للغصبية أيضا، فإن كان المجمع خارجا عن مورد الابتلاء، فلا أثر للعلمين الإجماليين، و إن كان الطرف المختص بكل واحد من العلمين خارجا عنه، لا أثر له بالخصوص، و هذا مبني إما على عروض العلمين الإجماليين دفعة واحدة معا، أو مترتبا. و لكن بناء على أن مجرد وجوب الاجتناب - و لو مقدمة في أحد الأطراف - لا يوجب سقوط العلم الإجمالي اللاحق عن التنجز، و إلا فلا أثر للعلم الإجمالي اللاحق.

ص: 51

و منها: موارد دوران الأمر بين المحذورين مع وحدة القضية من كل جهة زمانا و مكانا

، و من سائر الجهات، كما إذا علم إما بوجوب الحركة عليه في الآن الخاص أو بوجوب السكون فيه بعينه، و مثل هذا العلم الإجمالي لا يصلح للداعوية، فإنه لا يقدر المكلف على الجمع بينهما و لا يخلو تكوينا عن أحدهما، فلا يقدر على الموافقة القطعية و لا على المخالفة كذلك، و ما كان هكذا لا يصلح للداعوية.

ثم إنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين الذي لا يصلح العلم للداعوية فيه أمور ثلاثة:

الأول: كونهما توصّليين، إذ لو كانا - أو أحدهما المعين - تعبديا، يمكن المخالفة القطعية بترك قصد التعبد فيهما أو في المعين منهما.

الثاني: وحدة القضية من كل جهة، إذ مع التعدد يمكن المخالفة القطعية، كما إذا علم إما بوجوب القيام عليه في ساعة خاصة أو بوجوب القعود عليه فيها، فإنه لو قام في نصف ساعة و قعد في نصفها تحققت المخالفة القطعية.

الثالث: عدم وجوب الالتزام بالأحكام الواقعية على ما هي عليها، إذ لو وجب ذلك و لم يلتزم تحققت المخالفة القطعية بالنسبة إلى وجوب الالتزام، و يأتي ما له نفع في المقام في محله إن شاء اللّه تعالى.

و منها: الشبهة غير المحصورة

التي هي أيضا من مصاديق خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء، إذ لا موضوعية لعدم الحصر من حيث هو، بل لا بد من انطباق عنوان عدم الابتلاء أو الحرج أو نحو ذلك عليها حتى يسقط العلم عن التنجز، و لعل تعبيرهم بغير المحصورة لأجل أنه ملازم غالبا لعدم الابتلاء أو للحرج، فعبر به اختصارا.

الثالث: من شرائط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي بخصوصه معتبرا في التكليف، و إلا فلا موضوع لتنجز العلم الإجمالي.

الرابع: من شرائط تنجزه: أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم

ص: 52

الواقعي و تبدّله في تمام أطراف العلم الإجمالي أو بعضها من اضطرار، أو إكراه، أو تقية، أو حكم الحاكم الجامع للشرائط، أو إقرار كذلك، فإنه مع وجود أحد منها يسقط الواقع و يتبدل الحكم. و بعد تحقق هذه الشرائط يتنجز العلم الإجمالي و لا اختصاص لها به، بل هي شرائط للتنجز مطلقا، سواء كان في العلم التفصيلي أو الإجمالي، أو سائر الحجج و الأمارات.

نعم، الشرط الثالث لا يجري في العلم التفصيلي، كما لا يخفى.

و أما اشتراط أن تكون أطراف العلم الإجمالي متعلّقة بشخص العالم لا بشخصين، فمرجعه إلى ما مرّ من شرطية الابتلاء، فلا وجه لذكره مستقلا.

تنبيه:

قد ذكر المحقق الأنصاري قدّس سرّه موارد ربما يوهم فيها الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي.

منها: ما إذا حكم الحاكم بتنصيف عين تداعاها اثنان بحيث يعلم صدق أحدهما و كذب الآخر، و حينئذ فإن اشتراها ثالث، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي، مع أنهم حكموا بجواز الشراء منهما تمام المال.

و منها: ما إذا كان لأحد درهم و لآخر درهمان و كان المجموع عند الودعي فتلف عنده درهم، فحكموا بأن لصاحب الاثنين درهما و نصف و لصاحب الواحد نصف درهم فقط، و حينئذ فإن أخذ ثالث الدرهم المشترك بينهما، يعلم تفصيلا بعدم انتقال تمامه إليه من مالكه الواقعي.

و يمكن الجواب عنهما بأن لازم حكم الشارع بالتنصيف فيهما، و ثبوت ولايته لقطع التخاصم على نحو العدل و الإنصاف، هو تبديل الموضوع بالنسبة إلى الثالث، و لكنه يبقى بالنسبة إلى المحكوم له على ما هو عليه لو كان كاذبا، و مع تبدل الموضوع بالنسبة إلى الثالث ينتقل جميع المال من المالك الشرعي إليه، و لا محذور فيه حينئذ.

ص: 53

الأمر الثامن الامتثال الإجمالي

لا ريب في صحة الامتثال الإجمالي مع عدم التمكن من التفصيلي منه، كما ارتكز في أذهان العقلاء. و أما مع التمكن فنسب إلى المشهور بين القدماء عدم جوازه. لأنه مناف للجزم بالنية.

و يرد: بأنه لم يدل دليل من عقل أو نقل على اعتبار الجزم في النية، فمقتضى الأصل عدمه، كما ثبت في محله.

و لأنه خلاف المتعارف. و يرد: بأنه ليس كل ما هو خلاف المتعارف خلاف المشروع.

و لأنه لعب و عبث بأمر المولى. و يرد: بأن اللعب و العبث قصدي اختياري. و المفروض عدمه، و على فرض أن يكونا قهريين انطباقيين فلا يحكم العقلاء بانطباقه على كل تكرار. نعم، لو انطبقا عليه لكان لغوا، بل قد يكون قبيحا، كما إذا كان موجبا للوسواس أو جهة اخرى مما يقبحه الناس.

مع ما هو المتسالم بين الكل أن العلم مطلقا طريق إلى إتيان الواقع، و أن المناط كله إتيانه بأي وجه اتفق، و لذا تصح عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد فالحق جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيلي منه و لو استلزم التكرار.

ثم إنه لا فرق في ما مرّ مما يتعلّق بالعلم الإجمالي بين أن يكون المعلوم عنوانا واحدا، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين. أو مرددا بين عنوانين، كما إذا

ص: 54

علم إجمالا إما بنجاسة أحد الإناءين أو بغصبيته، فيتنجز العلم مطلقا في كليهما.

نعم، لو نسي و توضأ بأحدهما يصح وضوءه، لصحته من المغصوب مع النسيان، و تكون النجاسة حينئذ من الشبهة البدوية، فتجري فيها قاعدة الطهارة، بخلاف القسم الأول فيبطل الوضوء منه حتى مع النسيان، لأن طهارة الطهور شرط واقعي.

ص: 55

ص: 56

المقصد الثاني ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف و فيه مباحث:

اشارة

ص: 57

ص: 58

تمهيد:

:

للاطمئنان مراتب متفاوتة شدة و ضعفا، و أعلى مراتبه القطع الذي مضى بعض القول فيه. و أما سائر مراتبه - شخصيا كان أو نوعيا - فلا ريب في اقتضاء الاعتبار و صحة الاعتذار فيه لدى العقلاء كافة، فلو لم يرد ردع شرعي كفى ذلك في اعتباره و صحة الاعتذار به، لأنه من أهم الامور النظامية العقلائية، و يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع فقط و لا نحتاج إلى التقرير، فاللازم في المقام هو البحث عن أنه هل ورد ردع من الشارع عن الاعتماد عليها أو لا؟ و لا نحتاج إلى تكلّف الاستدلال على الاعتبار و صحة الاعتذار، لأنهما من المرتكزات العقلائية بعد عدم ثبوت الردع، كما لا يخفى. إلاّ أن متابعة المشهور أولى، فنقول:

البحث في غير العلم من جهات..

فتارة: يبحث عن إمكان التعبّد به.

و اخرى: عن تأسيس الأصل في الاعتبار و عدمه.

و ثالثة: عن الأمارات الخاصة.

و رابعة: عن مطلق الظن.

كما أن وجه الاعتبار يمكن أن يكون جعل الحجية، أو جعل وجوب العمل على طبق ما اعتبر، أو جعل المؤدى منزلة الواقع، أو جعل الطريقية فقط، أو جعل تتميم الكشف - إن قيل إنه في مقابل ما ذكر - و بين كل واحد منها

ص: 59

و الباقي ملازمة عرفية و إن اختلفت العبارات أو تعددت المفاهيم، كما لا يخفى.

ثم إن أصالة عدم الحجية في ما هو معتبر من جهة الكشف لا يصح جريانها بالنسبة إلى مرتبة الاقتضاء، لفرض اقتضاء الحجية فيها بوجدان كل عاقل، و إنما تصح بالنسبة إلى التقرير لو اعتبرنا تقرير الاقتضاء في الحجية، و بالنسبة إلى الانتساب إلى الشارع أو اكتفينا بعدم ثبوت الردع، فلا يصح الانتساب إليه قبل استقرار عدم الردع، و مع استقراره لا جعل و لا مجعول في البين رأسا حتى نحتاج إلى إبداء هذه الاحتمالات و الأقوال، لابتناء جميعها على أن ما ثبت من الشارع إنما هو أمر وجودي، و المفروض كفاية الأمر العدمي و هو عدم ثبوت الردع، فهذه التطويلات من التطويل بلا طائل تحتها، و فرض في فرض، إلاّ أنه لا بد من سلوك ما سلكه القوم، فنقول على طريق الشكل الأول البديهي الإنتاج: الظنون مطلقا فيها جهة الكشف. و كل ما كان فيه جهة الكشف يكون فيه اقتضاء الحجية، فالظنون مطلقا فيها اقتضاء الحجية. ثم نقول: الظنون فيها اقتضاء الحجية، و كل ما فيه اقتضاء الحجية تتم حجيته مع عدم ثبوت الردع، فالظنون مطلقا تتم حجيتها مع عدم ثبوت الردع، و سنثبت عدم ثبوت الردع إن شاء اللّه تعالى.

ص: 60

المبحث الأول امكان التعبّد بغير العلم

اشارة

و هو مما يعترف به ذوو الفطرة السليمة و العقول المستقيمة، و الشبهات الواردة من قبيل الشبهة في مقابل البديهة، كما هو معلوم لذوي البصيرة. و ليس المراد به الإمكان الذاتي، إذ ليس البحث عنه من شأن الاصولي، و إنما هو من مباحث فن الحكمة، مع أنه لم يدع أحد أن التعبّد بغير العلم عين اجتماع المثلين أو الضدين حتى يكون ممتنعا ذاتيا في مقابل الإمكان الذاتي.

كما أنه ليس المراد به الإمكان الاحتمالي أيضا، لأنه بمعنى احتمال إمكان الشيء فى مقابل احتمال امتناعه و وجوبه، فيجتمع مع الامتناع الذاتي أيضا.

المراد من الإمكان
اشارة

بل المراد الإمكان الوقوعي، أي ما لا يلزم من وقوعه في الخارج محذور عقلي، كما يقال: المعراج و المعاد الجسمانيان ممكنان، و حينئذ فيكون نفس الوقوع في الخارج من أقوى أدلة وقوعه و إثباته من دون احتياج إلى التماس دليل آخر، و تكفي السيرة المستمرة العقلائية قديما و حديثا في الامور المعاشية و المعادية على ذلك، و لا نحتاج إلى التمسك بأن الأصل في الأشياء هو الإمكان، لأنه لا أصل له أصلا إن كان المراد به الإمكان الذاتي أو الوقوعي.

نعم احتمال الإمكان جار في كل شيء، و لكنه من مجرد الاحتمال العقلي و لا ينفع لشيء أبدا، و هذا معنى ما اشتهر أن: «كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان» يعني: أن كل ما سمعت من الغرائب و العجائب لا تبادر إلى الحكم بامتناعه، بل احتمل إمكانه أيضا في مقابل احتمال

ص: 61

امتناعه و احتمال وقوعه خارجا.

ثم إنه قد استدل على امتناعه الوقوعي، أي أن التعبّد بغير العلم مستلزم للمحذور بامور، و بعضها من الشبهات المشهورة في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي:

الأول: القياس على الإخبار عن اللّه تعالى و الجواب عنه

الأول: أنه لو جاز ذلك في الإخبار عن المعصوم لجاز في الإخبار عن اللّه تعالى أيضا، و التالي باطل فالمقدم مثله.

و يرد: بوضوح بطلان القياس، لأن الإخبار عنه تعالى لا يصح عادة إلا بالنسبة إلى النفوس القدسية المتحلّية بالنبوة، و الإخبار عن المعصوم يصح بالنسبة إلى كل عامي.

نعم يعتبر في قبوله أن يكون ثقة، فلا ريب في بطلان القياس.

الثاني: النقض للغرض المناقشة فيه

الثاني: أنه نقض للغرض، لأن الغرض من جعل التكاليف الواقعية كونها داعية للامتثال و باعثة لإتيانها، و التعبّد بغير العلم ليس بدائم الإصابة، بل قد يخطئ، و حينئذ يحصل نقض الغرض.

و يرد.. أولا: بأن العلم أيضا ليس بدائم الإصابة، فكل ما يقال في العلم يقال في غيره أيضا.

و ثانيا: أن المناط كله في داعوية الامتثال، الداعوية على نحو الاقتضاء و الشأنية، لا الإصابة الفعلية من كل جهة، كما هو الشأن في داعوية العلم فضلا عن غيره من الطرق غير العلمية، و إلاّ لوجب على الشارع إيجاب الاحتياط مطلقا، و هو خلاف سهولة الشريعة، و خلاف الطريقة العقلانية المنزلة عليها الطرق الشرعية، بل و لا طريق إلا الطرق العقلائية التي يكفي في اعتبارها شرعا عدم ثبوت الردع، كما قلناه.

الثالث: تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و الجواب عنه

الثالث: من شروط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي الثالث: تفويت المصلحة إن أدى إلى غير الوجوب و كان في الواقع واجبا، و الإلقاء في المفسدة إن أدى إلى غير الحرمة و كان في الواقع حراما.

ص: 62

و فيه.. أولا: ما مرّ من لزوم ذلك في العلم أيضا عند المخالفة مع الواقع، و ما هو الجواب فيه يكون جوابا في المقام أيضا.

و ثانيا: كما أن الثواب و العقاب بالنسبة إلى الواقعيات يدوران مدار إحرازها و إطاعتها أو مخالفتها. فكذا المصالح و المفاسد أيضا، فلا مصلحة و لا مفسدة فعليّة من كل جهة مع عدم الإحراز، و إن كانت فهي من مجرد الاقتضاء الذي لا بأس بتفويت الاولى و الإلقاء في الثانية، لأن مجرد الاقتضائيات و الاستعدادات المحضة لا يعتنى بها لدى العقلاء ما لم تبلغ مرتبة الفعلية، و لا دليل على كون المصالح و المفاسد في التكاليف من قبيل لوازم الماهية غير القابلة للانفكاك عنها مطلقا، إن لم يكن على عدمه، بل لنا أن نقول:

إن المصالح و المفاسد في التكاليف ليست إلا الثواب و العقاب بعرضهما العريض الأعم من الدنيوي و الاخروي، كما يصح أن نقول: إن ذلك كله من حكم الجعل بنحو الاقتضاء، لا علة المجعول على نحو العلة التامة المنحصرة الفعلية، و هذا الاحتمال هو المتيقن و إثبات غيره يحتاج إلى دليل، و هو مفقود كما هو معلوم.

و ثالثا: بأن تفويت المصلحة أحيانا و الإلقاء في المفسدة كذلك مع التدارك بما هو أهم و أعم لا قبح فيه، لأنه من الشر القليل المتدارك بالخير الكثير، بل يكون العكس قبيحا، لأنه من قبيل ترك الخير الكثير للاحتراز عن الشر القليل، و العقلاء لا يقدمون عليه عند الدوران، و المصلحة الأهم الأعم في المقام هي ما تترتب على اعتبار غير العلم من التسهيل و التيسير النوعي الذي جبلت الطباع على الحكم بحسنه، بل لزومه، و الشريعة المقدسة تهتم به أيضا كمال الاهتمام في جميع تكاليفها.

و بعبارة اخرى: فوت المصلحة أو الإلقاء إما دائمي أو أغلبي أو نادر؛

ص: 63

و الأولان قبيحان بلا إشكال، و الأخير متدارك بالمصلحة، بل قد يكون تركه قبيحا.

هذا بناء على كون الاعتبار من الطريقية المحضة، و أما بناء على الموضوعية و السببية، فإن كان المراد بها خلو الواقع رأسا عن الملاك و الحكم، بحيث كانت الأمارة موجدة للمصلحة واقعا بعد أن لم يكن في البين مصلحة أصلا، أو منقلبة عما في الواقع إلى مفادها، بحيث ينعدم الواقع بعد ما كانت ثابتة، فكلاهما خلاف مرتكزات العقلاء في الأمارات الدائرة بينهم، بل يستنكرونها بمقتضى فطرتهم، فلا نحتاج في رده إلى التمسك بالإجماع، و دعوى تواتر الأخبار على الخلاف، و لا ريب أن الشارع لم يخترع طريقة مستقلة في التعبد بغير العلم في مقابل مرتكزات العقلاء.

نعم، اعتبر امورا، كالتعدد و العدالة في بعض الموارد، و ردع عن امور كالقياس و الاستحسان و نحوهما، و في ما لم يثبت الردع و لم يعتبر شيء يكون المتبع هو الطريقة العقلائية، فهذا المعنى من السببية لا وجه له لدى العقلاء، بل مستنكر لديهم، مضافا إلى دعوى الإجماع و تواتر الأخبار على خلافهما.

و إن كان المراد بها حدوث المصلحة في موردها في طول الواقع - مصلحة تفضلية تداركية للواقع مع اتفاق فوته - فلا بأس به، بل هو حسن و واقع عند العرف و العقلاء، و يقتضيه سماحة الشرع الأقدس و رأفته بامته. و حينئذ فإن وافقت الأمارة مع الواقع فنعم الوفاق، و إن خالفت و كان في الواقع واجبا و أدت إلى خلافه، فمصلحة الواقع و إن فاتت عن المكلف لكن يتفضل الشارع عليه بما يتداركها، و إن كان في الواقع حراما و أدت إلى خلافه فقط ظفر المكلف بالمصلحة التفضلية.

و إنما الكلام في وقوعه في المفسدة الواقعية. و الحق أنه لا يقع فيها لأنها إن كانت العقاب فلا عقاب في صورة الجهل، و إن كانت شيئا آخر غيره فلا نسلم

ص: 64

ثبوته في صورة الجهل أيضا، و على فرض الثبوت فهي مغلوبة بالمصلحة التفضلية، و لا أثر للمفسدة المغلوبة لدى العرف و العقلاء.

إن قلت: هل تحدث المفسدة في الأمارات القائمة على الحرمة بناء على السببية الصحيحة؟

قلت: نعم، و لكن مفسدة طريقية، فإن أصابت الواقع فهو المنجز، و إن أخطأت فلا مفسدة على المكلف في الواقع، و لكنه محكوم بها ظاهرا لغلبة إصابة الأمارات للواقع.

ثم إن غاية ما يمكن الالتزام به من حدوث المصلحة إنما هو في ما لم ينكشف الخلاف، و أما معه فمقتضى الارتكازات عدمه، كما لا يخفى.

و هنا احتمال آخر، و هو إسقاط الشارع للواقع خطابا و ملاكا لمصالح شتى، كما في موارد التقية على ما احتمله جمع، و موارد الضرر و الاضطرار التي يعبّر عنها بالواقعية الثانوية، فاستشكلوا في إجزاء الإتيان بالواقع في هذه الموارد، فتكون موارد الاضطرار و الاختيار - كالسفر و الحضر بالنسبة إلى صوم شهر رمضان - من تبدل الموضوع الموجب لتبدل الحكم.

و من ذلك كله ظهر أنه لا وجه لتوهم التخيير بين مورد الأمارات و الواقع بناء على الموضوعية و وجود المصلحة فيه، لأن التخيير إنما هو في ما إذا كانت المصلحة في كل واحد من الطرفين أو الأطراف واقعية دائمية، و المقام ليس كذلك، مع أنه إنما يتحقق فيما إذا كان الطرفان أو الأطراف عرضية لا طولية.

الرابع: اجتماع المثلين أو الضدين الجواب عنه
اشارة

الرابع: مما استدل به على امتناع التعبّد بغير العلم: اجتماع المثلين إن كان مفادها مثل الواقع، و الضدين إن كان ضده.

و فيه: أنه لا وجه لهذا الإشكال بناء على جعل الطريقية المحضة، إذ لا حكم حينئذ في مورد الأمارات، بل هو منحصر بالواقع فقط، فمع الإصابة يكون الحكم واحدا، و هو الحكم الواقعي، فلا موضوع لاجتماع المثلين مع الإصابة،

ص: 65

لأن موضوعه الاثنينية و هي مفقودة في البين، و كذا مع الخطأ، إذ لم يجعل الحكم في مورد الأمارة بناء على جعل الطريقية المحضة، و ما يستفاد من موردها في صورة الخطأ إنما هو توهم الحكم لا حقيقية، و لا مضادة بين حقيقة شيء و توهم الخلاف فيه مع الجهل بواقعه، كما إذا كان لون شيء أسودا مثلا، و توهم الشخص أنه أبيض، أو أخبر شخص أنه أبيض، و ليس لأحد أن يتوهم أن هذه الموارد من اجتماع الضدين، هذا إذا لم يصدر حكم الضد عن المعصوم عليه السّلام.

و أما إذا صدر منه عليه السّلام فإما أن يكون لأجل التقية أو لأجل مصلحة اخرى، فلا ضدية في البين لاختلاف الموضوع، لأن موضوع الحكم الواقعي إنما هو الواقع بما هو واقع، و موضوع ما قاله المعصوم عليه السّلام إنما هو ملاحظة المصالح الظاهرية، و هما موضوعان متغايران فينتفي موضوع التضاد، لاشتراط التضاد المحال بوحدة الموضوع كما برهن في محله، و قد تقدم احتمال سقوط الواقع بتبدل الموضوع في هذه الموارد، فلا اثنينية في البين حتى يتحقق اجتماع المثلين أو الضدين، بل لا ريب في تغاير الحكم الواقعي و الظاهري مطلقا تغايرا يكفي في دفع المحذور، لأن الأول إنما هو فعل الشارع و قائم بذاته الأقدس، و هو البعث بداعي الانبعاث و الزجر بداعي الانزجار و إتمام الحجة من قبل الشارع. و الثاني إنما هو التسهيل على الناس و التيسير عليهم، و هما موضوعان متغايران يكفي تغايرهما في دفع المحذور على فرض جعل الحكم في مورد الأمارات، هذا مع أن المثلين و الضدين على ما عرّفا في محله: أمران وجوديان لا يجتمعان في محل واحد، و الأحكام اعتباريات عقلائية و ليست من الموجودات الخارجية فلا وجه لاجتماع المثلين أو الضدين بالنسبة إليها أصلا، فتكون مثليّتها اعتبارية بضم اعتبار خاص إلى آخر فيفيد التأكيد لا محالة.

كما لا وجه لاجتماع الضدين، لأن موردهما الوجوديات لا الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها.

ص: 66

نعم، إن رجعا إلى الإرادة و الكراهة يكونا من الضدين حينئذ. و يجاب باختلاف الجهة، كما تقدم.

ذكر أجوبة الاصوليين عن الدليل الرابع و المناقشة فيها

إن قلت: لا إشكال في تضاد الأحكام عرفا.

قلت: نعم، و لكن بالضدية الاعتبارية التي يكفي في رفعها مجرد تعدد الجهة و لو اعتبارا.

و جملة القول: أن في الأمارات المتعارفة لدى العقلاء إن صادفت الواقع فلا يرون في ذلك محذور اجتماع المثلين، بل لا يخطر ذلك في خاطرهم أبدا، بل يستهجنون هذا الاحتمال بفطرتهم إن تحقق الفحص عن المعارض و المنافي و حصل اليأس عن الظفر بهما، ثم اتفقت المخالفة مع الواقع واقعا و لم ينكشف ذلك، يحكم العقلاء كافة بالمعذورية، و سقوط الواقع عن الفعلية عند اتفاق المخالفة، و لا يتوهمون بمجعول في موردها سوى الواقع، و الشارع لم يخترع طريقة غير هذه، بل ترك العقلاء و مرتكزاتهم و لم يردعهم عنها. و إن انكشف الخلاف و الخطأ ظاهرا، فالواقع باق على ثبوته إلاّ أن يدل دليل على سقوطه.

ثم إنه قد يجاب عن الإشكال الرابع بوجوه:

الأول: أن المجعول في الواقعيات نفس الأحكام الواقعية، و في الأمارات نفس الحجية، فيتعدد مورد الجعلين، فلا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين.

و يرد عليه: أن جعل الحجية إما بمعنى جعل نفسها من حيث هي، أو بمعنى جعل العقاب، أو بمعنى جعل المؤدي.

و الأول: لغو لكفاية اعتبارها لدى العقلاء، إلاّ أن يراد به الأعم من التأسيسي و عدم الردع، فيرجع إلى ما قلناه أولا، و لا يكون وجها مستقلا.

و الثاني: مستلزم للدور، لأن تحقق العقاب متوقف على الحجية، و لو توقفت عليه لدار، إلا أن يراد أن جعل العقاب على المخالفة عين جعل الحجية

ص: 67

لا أن يكونا متغايرين، و هو دعوى بلا دليل.

و الثالث: في مقابل جعل الحجية، لا أن يكون عينها، و لا يقول به أحد.

الثاني: أن الواقعيات إنشائيات محضة، و مفاد الأمارات فعليات صرفة، فتختلفان بالمرتبة، فينتفي موضوع شبهة جمع المثلية و الضدية.

و يرد عليه: أن الإنشاء إن كان بلا داع فهو قبيح بالنسبة إلى الشارع، و إن كان بداع آخر غير الفعلية فلا يصير فعليا و إن وافقه مفاد الأمارة. و إن كان بداعي أن يصير فعليا، فهو عين الفعلية، فلا يتصور معنى معقول للإنشائية، فلا يكون الحكم إلا فعليا من طرف الشارع، و هو الجعل بداعي أن يصير فعليا عند تحقق الشرائط و فقد الموانع في المكلف. و إن أراد بالإنشائية الفعلية من طرف الشارع، و بالفعلية: الفعلية من طرف المكلف فله وجه، و لكنه خلاف ظاهر كلامه، فراجع.

الثالث: أن المجعول في مورد الأمارات جعل في ظرف الجهل بالواقعيات، فتتأخر رتبته عنها، فتدفع الشبهة باختلاف الرتبة.

و يرد عليه: أن مفاد الأمارات و إن كان في ظرف الجهل بالواقع فيتأخر رتبة عنه، لكن الواقعيات غير مقيدة بالعلم و الجهل، فتعم مورد مفاد الأمارات و غيرها، فيجيء المحذور حينئذ.

الرابع: أن المجعول في مورد الأمارات عنوان الحكم المجعول بداعي الطريقية المحضة إلى الواقع، لا أن يكون حكما حقيقيا في عرض الواقع بحيث يكون له موافقة و مخالفة مستقلة في مقابل الواقع.

و يرد عليه: أنه حسن ثبوتا، و لكنه لا دليل عليه إثباتا مع إمكان دفع الإشكال بوجه أحسن آخر، كما مرّ.

و من ذلك كله يظهر الأمر في الاصول العملية، إذ الاستصحاب ليس إلا متمم دلالة الدليل و إسراء حكم اليقين إلى ظرف الشك، فلا استقلال فيه بوجه

ص: 68

أصلا، فمع الموافقة يكون المتيقن السابق منجزا، و مع المخالفة و عدم انكشاف الخلاف يكون عذرا، و مع انكشافه لا وجه للإجزاء أصلا إلا أن يدل دليل تعبّدي عليه.

و أما الاحتياط عقليا كان أو شرعيا فليس إلا من آثار منجزية نفس الواقع، و لا اثنينية في البين حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين، بل و لا جعل فيه أصلا غير الواقع المجعول، و لو قيل بوجوب الاحتياط شرعا فهو وجوب طريقي إلى الواقع، لا أن يكون وجوبا مستقلا في عرضه.

و أما البراءة - عقلية كانت أو شرعية - فليست إلا سقوط العقاب عن الواقع المجهول، و يستلزم ذلك الترخيص و الإباحة الظاهرية، و هو غير جعل الحكم في عرض الواقع المجهول.

و كذا التخيير لا اثنينية فيه مع الواقع المجعول حتى يتحقق موضوع اجتماع المثلين أو الضدين، إذ ليس مفاده إلا المعذورية في ما لو كان المختار غير الواقع.

ص: 69

المبحث الثاني أصالة عدم الاعتبار و عدم صحة الاعتذار

اشارة

تقدم أن موردها في مقام الانتساب إلى الشرع لا مرحلة الاقتضاء، إذ لا معنى لجريان الأصل في ما فيه الاقتضاء.

و استدل على عدم الحجية و الاعتبار بالأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: بآية الافتراء و هي قوله تعالى: آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ .

و فيه: أن الافتراء هو الكذب العظيم أو العجيب، و مجرد ما لم يعلم أنه صدق أو كذب ليس افتراء، و لكن الظاهر أنه لا بد في استناد شيء إلى الشارع من التصديق بالصدور، و مع عدمه يكون افتراء بالنسبة إليه، و حينئذ تتم دلالة الآية.

و من السنة: بمرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «القضاة أربعة:

ثلاثة في النار و واحد في الجنّة - إلى أن قال - و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنة».

و فيه: مضافا إلى قصور سنده، أن التأمل في مساق الأخبار الواردة في القضاء يدل على أنه عليه السّلام فى مقام بيان التفصيل بين قضاة الجور و قضاة العدل، فقوله عليه السّلام: «و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم - أي لا يعتقد بالحق - و قوله عليه السّلام:

رجل قضى بالحق و هو يعلم - أي يعتقد بالحقّ» و لا ربط له بالمقام.

و لكن قصور السند منجبر بالعمل، و انطباقه على قضاة الجور من باب أحد المصاديق لا الخصوصية، فلا قصور فيه دلالة و لا سندا.

ص: 70

و من الإجماع: بما عن الوحيد البهبهاني من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات بين العوام فضلا عن الخواص.

و فيه: أنه على فرض تحقق الإجماع به فالظاهر عدم كونه إجماعا تعبديا بل هو حاصل عن مرتكزاتهم العقلائية الدائرة في ما بينهم.

و من العقل: بما ارتكز في أذهان العقلاء من أن الاحتجاج بشيء و اعتباره و صحة الاعتذار به و انتسابه إلى شخص لا بد و أن تكون بحجة معتبرة؛ و أن الشك في الحجية و الاعتذار يكفي في عدمها، كما أن الشك في صحة الانتساب يكفي في عدمها لدى العقلاء، فتكون أصالة عدم الحجية و أصالة عدم صحة الانتساب و الاعتذار من الاصول العقلائية مطلقا، و يكفي فيها عدم الردع من الشارع، فكيف بما ورد من التقرير.

و بالجملة: أصالة عدم الحجية من الاصول المعتبرة النظامية الدائرة عندهم في جميع علومهم، بل في امور معاشهم أيضا، إذ لو كان بناؤهم على ترتيب الأثر على كل ما قيل أو يقال لاختل النظام، فينبغي أن يستدل بها لا عليها، و مع الإغماض عن ذلك نقول: إن نفس الحجية و ترتب الأثر من الامور الحادثة، فيستصحب عدمها ما لم يثبت الدليل عليها.

و ما يتوهم: من أنه لا أثر للاستصحاب، لكفاية نفس الشك في الحجية في عدم ترتيب أثرها.

مخدوش: بأن ما هو المعتبر في الاصول العملية من الأثر هو إمكانه لا فعليته من كل حيثية وجهة، و لذا يجري استصحاب اشتغال الذمة في موارد جريان قاعدة الاشتغال أيضا. و في المقام لو قيل بأن أصالة عدم الحجية ليست من الاصول المستقلة العقلائية فتمسك فيها باستصحابها.

و قد يقرر الأصل في المقام بوجوه اخرى:

الأول: أصالة إباحة العمل بغير العلم.

ص: 71

و يرد: بأنها إن اريد الاعتماد في تفريغ الذمة فلا وجه له، لأن الشك في فراغ الذمة عما علم اشتغالها به - و إن اريد بها إباحة العمل بكل رطب و يابس و غث و سمين - فهو معلوم البطلان لدى العوام فضلا عن الأعلام.

الثاني: أن المقام من صغريات دوران الأمر بين المحذورين، لدوران الأمر في غير العلم بين وجوب العمل به و حرمته، و الحكم فيه هو التخيير.

و يرد: بأن ما هو المرتكز في الأذهان من التثبت و التأمل في العمل بغير العلم إلا مع دليل يدل عليه، يخرج المقام عن الدوران بينهما، كما لا يخفى.

الثالث: أن المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، لاحتمال تعين العمل بخصوص العلم، أو التخيير بينه و بين العمل بغيره.

و يرد: بما مرّ من بطلان العمل بغير العلم مطلقا إلا مع دليل يدل عليه، فكيف يمكن أن يجعل عدلا للعلم و يحكم بينهما بالتخيير، مع أن مسألة دوران الأمر بين التعيين و التخيير محل خلاف و إشكال، فذهب جمع إلى التخيير، كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: الاستدلال على حرمة التشريع، أنحاء ما يضاف إلى الشارع، أقسام التشريع

الأول: لا ريب في حرمة التشريع شرعا، بل الظاهر كونه من المقبّحات العقلائية أيضا، لكونه نحو تصرف في سلطان المولى، لانتساب ما لم يعلم صدوره منه إليه، و ذلك نحو ظلم عليه، و يدل عليه قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ فإن أجلى مصاديق الآية الكريمة التشريع، فلا بد و أن تكون الإرادة التشريعية لإرادة اللّه عزّ و جل، كتبعية الإرادة التكوينية لها، و قوله تعالى:

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ و غيرهما من الآيات الشريفة.

ص: 72

ثم إن ما يضاف إلى الشارع..

تارة: يعلم بصدوره منه.

و اخرى: يعلم بعدم الصدور.

و ثالثة: لا يعلم بالصدور و لا بعدمه، و على كل منها..

تارة: صدر منه في الواقع ما اضيف إليه.

و اخرى: لم يصدر.

و لا ريب في عدم تحقق التشريع في القسمين الأولين، لتقوّم موضوعه بعدم حجة معتبرة في البين و العلم بالصدور حجة معتبرة، كما لا ريب في تحققه في الثالث - و هو ما علم بعدم الصدور و لم يصدر واقعا أيضا - بل و كذا يتحقق في الثلاثة الباقية أيضا، لأن موضوعه عند الفقهاء قدس سرّهم ما إذا لم يكن الاستناد إلى الشارع عن حجة معتبرة في مقام الإثبات، كما لا يخفى على من راجع الكلمات.

و التشريع قد يتحقق بمجرد القول بأن ينسب إلى الشارع قولا لم يقله، و قد يتحقق بالعمل أيضا، و المحرم منه هو الإتيان بما ليس من الدين بعنوان أنه دين، عن قصد جزمي بذلك، فما يؤتى به برجاء المطلوبية لدى الشارع، أو يترك برجاء المبغوضية لديه ليس من التشريع في شيء.

الثاني: حرمة الفعل المشرع فيه

الثاني: الظاهر حرمة الفعل المشرّع به، لكونه مظهر التشريع، بل لا معنى للتشريع عند العرف و العقلاء إلا ذلك، كما لا يخفى.

الثالث: عدم الفرق بين البدعة و التشريع

الثالث: لا فرق بين البدعة و التشريع شرعا. و هما مساويان، و كلاهما أعم من أن يفعل الشخص بنفسه ما ليس في الدين بعنوان أنه دين، أو أن يتسبب لأن يفعل غيره ذلك بهذا العنوان.

الرابع: الرد على صاحب الكفاية في قوله إن حجية شيء في الدين غير مساوق لصحة انتسابها إلى الشارع

الرابع: حجية شيء في الدين مساوقة لصحة انتسابها إلى الشارع، و كذا العكس، فما عن صاحب الكفاية من أن الظن الانسدادي - بناء على الحكومة - حجة مع عدم صحة انتسابه إلى الشارع.

ص: 73

مردود.. أولا: بأن المراد بالحجية في المقام الأعم من التأسيس و التقرير الذي يكفي فيه عدم الردع فقط.

و ثانيا: بأن البحث في المقام عن حجة تقع في طريق إثبات الحكم لا إسقاطه، و الظن الانسدادي من الثاني دون الأول، فراجع و تأمل.

هذه نخبة الكلام في أصالة عدم الحجية و عدم صحة الاعتذار في ما شك في حجيته، و قد خرج عن هذا الأصل امور:

اشارة

ص: 74

الأمر الأول الظواهر
اشارة

قد استقرت السيرة العقلائية على الاعتماد على الظواهر في المحاورات و المخاصمات و الاحتجاجات، و يستنكرون على من تخلف عن ذلك، و هذا من أهم الاصول النظامية المحاورية بحيث يستدل به لا عليه، و قد جرت عادة الشرائع الإلهية عليه أيضا، فبها يكون تبليغ الأحكام، و عليها يدور نظام المعاش و المعاد، و لو اختل ذلك لاختل النظامان، فحق عنوان البحث أن يكون هكذا:

يمتنع عادة عدم اعتبار الظواهر، فحجية الظواهر كحجية الخبر الموثوق به التي هي من الاصول العقلائية أيضا.

اعتبار الظواهر من الاصول النظامية، البحث فيها صغروي و كبروي

ثم إن البحث عن الظواهر..

تارة: صغروي، كالبحث عن موجبات الظهور و مناشئه، و هي بحسب الأفراد غير محصورة لا تضبطها ضابطة كلية.

و اخرى: كبروي، كالبحث عن حجية أصل الظاهر. و لا ريب في أنه بقسميه من مباحث الاصول بناء على ما قدمناه من أنه ما يبحث فيه عما يصح أن يقع في طريق الاعتذار بلا واسطة أو معها.

استدلال الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن و الجواب عنه

أما الكلام في القسم الثاني:

فقد نسب إلى بعض الأخباريين عدم حجية ظواهر القرآن، و استدل عليه..

تارة: بما ورد من اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به، و هم المعصومون عليهم السّلام فلا يفهمه غيرهم.

ص: 75

و يرد.. أولا: بأن المراد بمن خوطب به أهل الحق و مطلق من يريد اتباعه في مقابل من يتبع الهوى، فهذه الأخبار نظير قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .

و ثانيا: أن المراد بها ما يختص بالمعصوم من القرآن، كالبطون السبعة أو السبعين التي قصرت العقول عن دركها، و لا بد فيه من تأييد إلهي، لأن القرآن كمظهر للّوح المحفوظ و ام الكتاب، و الكتاب المبين الذي قال اللّه تعالى فيه:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ و الإحاطة بالقرآن من حيث كونه مظهرا لام الكتاب تختص بنفوس قدسية خاصة، و ليس ذلك من شأن كل أحد و إن بلغ من العلم ما بلغ، و ليس المراد به الظواهر التي يشترك في فهمها العالم و السوقي، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .

و ثالثا: إنا نتمسك بظاهر القرآن بعد المراجعة إلى السنن المعصومية الواردة في بيانه و تفسيره، فقد أخذنا الظاهر عمن خوطب به.

و رابعا: أنها معارضة بالآيات الكريمة الدالة على الترغيب في التدبر في القرآن و التفكّر فيه، و بالأخبار الكثيرة الواردة بمضامين مختلفة في مقام التمسك بالقرآن، و الاحتجاج به على الخصام، و معرفة الأحكام منه، و عرض الأخبار المتعارضة عليه، و غير ذلك مما يستفاد منه استفادة قطعية أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع الأقدس.

و اخرى: بأن العلم الإجمالي بورود مخصصات و مقيدات عليه، يمنع عن التمسك بظاهره.

و يرد: بأن من شرط التمسك بالظاهر هو الفحص و اليأس عن الظفر بما يخالفه، فينحل العلم الإجمالي قهرا بهذا التفحّص التام و يصير من الشك البدوي بلا كلام.

ص: 76

و ثالثة: بأنه من التفسير بالرأي المنهي عنه.

و يرد: بأن الأخذ بالظاهر ليس من التفسير، و على فرض كونه منه فمن شرط الأخذ به عندنا هو الرجوع إلى السنن المعصومية و استفادة تفسيره منها، فلا يكون من التفسير بالرأي حينئذ قطعا.

و رابعة: بأنه من المتشابه، و قد نهي عن اتباعه كتابا، مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ . و سنة ذكرناها في التفسير.

و يرد: بأن النص و الظاهر و الأظهر و المتشابه من الامور العرفية المتعارفة، و لا يطلق أحدها على الآخر لا عرفا و لا لغة و لا شرعا، و قد مرّ أن حجية ظواهره كانت مسلّمة لدى الشرع في جميع الطبقات، فراجع و تأمل. مع أنه لم يبق متشابه في القرآن بعد ما ورد من الشرع في بيان متشابهات القرآن.

و يمكن أن يحمل كلامهم على عدم حجية ظواهر القرآن قبل الفحص عن المعارض و المنافي و اليأس عن الظفر به، فلا نزاع في البين حينئذ لاتفاق الكل عليه.

لا بد من ذكر امور:
الأول: النص و الظواهر و الأظهر من أوصاف اللفظ

الأول: النص و الظاهر و الأظهر، كالفصاحة و البلاغة من أوصاف اللفظ، فكلما تحقق الظهور يتبع لدى العقلاء مطلقا، بلا فرق بين المخاطب و من قصد إفهامه و غيرهما، كما أنه كلما تحققت الفصاحة و البلاغة يمدح الكلام بذلك من غير فرق بين المخاطب و غيره.

مع أن الألفاظ الظاهرة في الأحكام الكلية توجهت إلى جميع من يمكن

ص: 77

أن ينطبق عليه الحكم، و يكون الجميع مقصودين بالإفهام، و الموجود حين الخطاب مرآة للجميع، لا أن يكون ملحوظا على نحو الموضوعية، هذا في الأحكام الكلية، فكيف بالأحكام الأبدية في الشريعة الختمية.

و احتمال وجود قرينة في البين أو جهة اختصاص مخصوصة بخصوص قوم دون آخر.

مدفوع بالأصل العقلائي، و قد تقدّم بعض القول في العام و الخاص، فراجع.

الثاني: عدم دوران حجية الظهور مدار حصول الظن الشخصي

الثاني: مقتضى المرتكزات العرفية أن حجية الظهور لا تدور مدار حصول الظن الشخصي، بل هو حجة و إن كان الظن الشخصي على خلافه.

نعم، لا يبعد أن يكون تحقق الاطمئنان النوعي في مورده حكمة الاعتبار، لا أن يكون علة له يدور مدارها وجودا و عدما.

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفية، فكل ما لا يصدق عليه المجمل يكون ظاهرا إلى أن يبلغ إلى مرتبة النصوصية، و جميع تلك المراتب حجة لدى العقلاء ما دام يصدق عليها الظاهر عرفا.

الرابع: في اختلاف قراءة القرآن
اشارة

الرابع: لا ريب في أن الاختلاف في قراءة آية مثل: يَطْهُرْنَ بالتخفيف و التشديد، يوجب إجمالها و سقوط ظهورها و عدم جواز الاستدلال بها، سواء ثبت تواتر القراءات السبع أو لا - كما هو الحق - لأن المنساق منها على فرض ثبوت التواتر إنما هو مجرد جواز القراءة لا الاستدلال بها على أحكام متضادة متناقضة، و حينئذ فلا بد من الرجوع إلى أدلة اخرى.

نعم، لو كان الترجيح عند التعارض موافقا للمرتكزات العقلائية و سيرتهم، يصح إعمال المرجحات حينئذ، لأن القراءات إما أن تكون من قراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله إن ثبت تواترها، أو تكون من أهل الخبرة إن لم يثبت، و تقدم في التعارض ما ينفع المقام.

ص: 78

مناشئ الظهور

أما الكلام في القسم الأول - و هو مناشئ الظهور - فهي كثيرة جدا كما مرّ و هي بحسب الجزئيات لا تعد و لا تحصى و لا تضبطها ضابطة كلية.

نعم، من كلياتها مقدمات الحكمة، و وقوع الأمر بعد الحظر، و قد مرّ ما يتعلّق بهما.

و منها: قول اللغوي، و استدل على اعتباره..

تارة: بالإجماع.

و يرد: بأنه ليس من الإجماع التعبّدي في شيء مع تحقق الخلاف قديما و حديثا.

و اخرى: بالسيرة العملية مع كونها من أهل الخبرة.

و يرد: بأن المتيقن منها ما إذا حصل الوثوق و الاطمئنان من قوله، و لا ريب في الاعتبار حينئذ إن لم يكن من باب الشهادة، فيعتبر فيه العدد و العدالة.

و ثالثة: بإجراء مقدمات الانسداد.

و يرد: بعدم تماميتها أصلا، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

و رابعة: بأن ما يدل على حجية خبر الواحد يدل على حجية ما يتعلّق به بالملازمة من قول اللغوي و الرجالي و المفسّر و الهيوي و نحوهم مما له دخل في الأحكام في الجملة.

و يرد: بأن أدلة الخبر تدل على التصديق في الحس، و لا تدل على التصديق في الحدس، و قول اللغوي و نظائره مما له دخل في الأحكام من الثاني لا الأول، هذا.

و لكن قد يحصل الاطمئنان العقلائي من كلماتهم فيصح الاعتماد عليه حينئذ من هذه الجهة.

و الظاهر أن اعتبار أقوالهم إنما هو من جهة أنهم من أهل الخبرة، لا الشهادة حتى يعتبر فيه التعدد و العدالة.

ص: 79

و يمكن أن يجعل النزاع لفظيا، فمن أثبت اعتبار قولهم، أي بشرط حصول الاطمئنان، و من نفاه أي بشرط عدم حصوله.

ثم إنه قد شاع في المحاورات أصالة الحقيقة، و أصالة عدم القرينة، و أصالة الظهور، و الظاهر كون كل واحد منها أصلا مستقلا في مقابل الآخر و يتمسك به في المحاورات مع الغفلة عن غيره، فلا وجه لإرجاع بعضها إلى بعض، كما عن الشيخ قدّس سرّه.

و كيف كان، فهذه الاصول لا موضوعية لها بوجه، بل طريق لإثبات الظهور، مع أنه لا ثمرة عملية فيه، لأن المدار كله على الظهور فقط، أرجع البعض إلى البعض أو لا، و يصح أن يكون كل واحد منها مما يعتمد عليه العقلاء في الاستناد الظهوري إذا كانت لظهور لفظ في معنى قرائن متعددة، فيعتمد على الجميع و إن كان البعض كافيا فيه، فالظاهر حجة و لو لم يكن من الحقيقة، و ما ليس بظاهر لا اعتبار به و لو كان حقيقة.

ص: 80

الأمر الثاني الاجماع
اشارة

و هو إما محصل أو منقول بالخبر الواحد.

و البحث عن الثاني من فروع بحث حجية الخبر الواحد، فلا بد و إن يذكر في تنبيهاته، و أنه لا فرق فيه بين أن يكون مفاده قول المعصوم أو فعله أو تقريره، أو الإجماع القائم على شيء من ذلك.

و لعلهم أفردوه بالبحث مقدما على بحث حجية الخبر، لأجل أن الإجماع أيضا من أدلة اعتبار الخبر في الجملة، فأرادوا الإشارة إلى اعتباره إجمالا مقدمة لذلك.

و الإجماع من الامور العرفية العقلائية في كل عصر و زمان، و لا يختص بقوم دون آخرين و لا بملة دون اخرى، ففي كل علم و صنعة اتفاق على امور و اختلاف في اخرى من غير اختصاص بملة الإسلام و فقهاء المسلمين.

فهو عبارة: عن اتفاق آراء من يعتبر رأيه عند العقلاء على شيء في ما يعتبر رأيهم فيه.

و لكن لا موضوعية له في الفقه بما هو إجماع في مقابل الكتاب و السنّة بحيث يكون اعتباره في عرضهما، بل الظاهر أن اعتبار الإجماع لدى العقلاء أيضا ليس لموضوعية فيه، بل لأجل كشفه عن حجة وثيقة لديهم في الجملة.

كما أن دليل العقل في الأحكام لا موضوعية فيه، و لا بد من إضافة اعتباره إلى الشرع و لو بنحو عدم الردع.

ص: 81

فمدرك الأحكام - كما مرّ - الكتاب المفسّر بالسنة المعصومية، أو السنّة المفسرة للكتاب.

طرق استكشاف رأي المعصوم عليه السّلام
اشارة

و على أي حال: لا بد في اعتبار الإجماع من كشفه عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه السّلام، و لهم في طريق استكشاف ذلك أقوال:

الأول: دخول شخص المعصوم عليه السّلام في جملة المجمعين

و فيه: أنه في الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي يدور عليها مدار الإجماعات الفقهية! ممتنع عادة و إن أمكن ذاتا.

نعم، لو تحقق إجماع من زمان ظهور المعصوم عليه السّلام إلى ما بعد الغيبة الكبرى لكان له وجه.

و يمكن أن يكون من الإجماع الدخولي، و لكن كلام الأعلام في المقام في غيره، و لو تشرّف أحد بلقائه عليه السّلام بعد الغيبة الكبرى و أخذ حكما منه عليه السّلام و نقله بعنوان الإجماع، فاعتبار قوله مع ما ورد من التشديد في تكذيب ذلك مشكل، و على فرضه فكونه من الإجماع الاصطلاحي أشكل.

نعم، يمكن أن يراد بدخول شخصه دخول رأيه المبارك و لو تقريرا، و لا بأس به و هو صحيح، كما أن ما دلّ على تكذيب مدعي الرؤية إنما هو فيما إذا ترتبت عليها المفسدة، لا ما إذا كان المدعي ثقة من كل جهة و لم يكن في البين مفسدة.

الثاني: قاعدة اللطف. و اللطف:

عبارة عن عناية اللّه تعالى و لطفه بخلقه و تدبير موجبات كمالهم الذي أعده لهم في علمه الأزلي. و هو إما تكويني، أو تشريعي، و الأول إيصال الممكنات إلى الغايات المعدّة لها، و الثاني إيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الرسل و إنزال الكتب و إتمام الحجة عليه و الوعد و الوعيد، و قد حصل ذلك منه تعالى بأكمل وجه و أتم طريق.

و قد يطلق اللطف على أنه يجب عليه تعالى تقريب العباد إلى الطاعة و تبعيدهم عن المعصية بما لا ينافي الاختيار، فإذا حصل إجماع على ما لا

ص: 82

يرتضيه اللّه، يجب عليه تعالى صرفهم عنه، أو إلهام ما هو الواقع إليهم.

و فيه: أن الواجب على اللّه تعالى إنما هو اللطف بما هو المتعارف بين الناس، و قد حصل ببعث الرسل و إنزال الكتب، و لا دليل على وجوب شيء زائد عنه عليه تعالى، لا بدليل عقلي و لا نقلي. و حينئذ فيكون احتمال الخطأ في إجماع المجمعين كاحتماله في فتوى فقيه يكون مرجعا للتقليد.

الثالث: الحدس

من آراء الرعايا و المرءوسين أن آراء الرئيس معهم.

و اشكل عليه: بأن له وجها إن كان باب المراجعة و المشاورة مع الرئيس مفتوحا و الرعية تشاوره و هو يراجعهم، و أما إذا كان الباب مسدودا بالمرة و حالت بينهما أستار الغيبة، فلا وجه لهذا الحدس أصلا، و لا يعتبر لدى العرف و العقلاء رأسا.

و يرد عليه: بأنه إذا كان باب معظم الأحكام الصادرة منهم عليهم السّلام مفتوحا و كان ذلك في متناولنا و جرت العادة إلى الرجوع إليها في زمان الحضور و الغيبة، يكون ذلك من انفتاح باب المراجعة إليهم عليهم السّلام، و العادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه علماء شيعتهم و رواة أحاديثهم.

و بالجملة: الملازمة العادية بين إجماع الإمامية و رضاء المعصوم عليه السّلام بما أجمعوا عليه ثابتة، و هذه الملازمة معتبرة عرفا، و على هذا لا وجه للفرق بين إجماع القدماء و سائر الأعصار، فلا بأس بهذا الوجه.

الرابع: تراكم الظنون من آراء الأعلام

يوجب القطع بموافقة الإمام عليه السّلام.

و اشكل عليه: بأنه إحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل و الآراء و الأشخاص.

و فيه: أن المدار على حصول الاطمئنان النوعي و هو مختلف بحسب المراتب، و يكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموارد، و هذا الوجه أيضا لا بأس به.

الخامس: لأجل كشفه عن دليل معتبر وصل إليهم

و لم يصل إلينا، لأن بناء

ص: 83

الأئمة عليهم السّلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب، و هم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعا عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص، و هذا وجه حسن متين يصلح أن يكون مدركا لاعتبار الشهرة أيضا، لكنه يختص بما إذا لم يكن في البين مدرك يصح الاستناد إليه، و هو قليل جدا، كما لا يخفى.

السادس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة عقلائية أو شرعية،

قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في صلاة القضاء من كتابه: «و الذي يقوى في ظني أن كثيرا من إجماعات القدماء بمعنى الاتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركا لبعض الأحكام الجزئية»، و قال في كتاب الكفارات: «و إجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء، لا وثوق بالمراد منها على وجه تريح النفس في الفتوى بها بالوجوب و الحرمة، و إن قلنا بحجية الإجماع المنقول لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات و نحوها...» و كلامه في المقامين حسن متين جدا، كما لا يخفى على أهله.

السابع: أن يتفرد فقيه في عصر و لم يكن فقيه آخر في طبقته

و لا الطبقة اللاحقة إلا أن يكون تلميذا له أو تلميذا لتلاميذه، و حيث أن مثل هذا الفقيه لا يرى في الخارج رأيا إلا رأيه يصح له دعوى الإجماع، و هذا كثير في دعوى الإجماع من مثل السيد المرتضى و الشيخ قدّس سرّهما بل و العلامة، و لا اعتبار بمثل هذا الإجماع.

الثامن: الإجماع القهري الانطباقي بعد استقرار رأي فقيه بين الناس
اشارة

و من يتبعه قرنا أو أكثر، يتحقق الإجماع قهرا لعدم ظهور الخلاف، و ينقل في القرون اللاحقة عين ما تحقق في القرن السابق، و هذا أيضا كثير، كما لا يخفى على الخبير، و لا وجه لاعتباره أيضا.

و لو تردد إجماع بين ما هو معتبر و غير معتبر، لا وجه للاعتماد عليه كما هو معلوم إلا إذا عينت القرائن ما هو المعتبر منه.

ص: 84

تحقيق الكلام في الإجماع عند الإمامية

ثم إنه قد يكون الإجماع تقليديا و تشبيها، و ذلك لأن الإجماع كان شائعا بين العامة، و كانت الخاصة جامدين على نصوص الأئمة، و لذا سموا بالمقلّدة لدى العامة في أوائل الغيبة الكبرى، فادعى الإجماع أعلام تلك العصور حتى في المسائل التي تكون النصوص فيها كثيرة، لمصلحة التشابه مع العامة، و إزالة مثل هذه الأسماء عن أنفسهم، و هذا الوجه كثير في الإجماعات التي ادعاها الشيخ رحمه اللّه.

و يمكن زيادة قسم آخر من الإجماع، و هو (الإجماع الاحتفاظي) حيث أن العامة تشتت إلى مذاهب كثيرة بما تجاوز التسعين، كما لا يخفى على من راجع التواريخ، ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذاك الوقت و كان أعلام فقهائنا قدس سرّهم متوجهين إلى هذه الجهات، فادعوا الإجماع في كل المسائل مع وجود الدليل، اهتماما ببقاء وحدة المذهب و عدم تشتته، ثم لما رأوا أن هذا الأمر يضرّ بهم من جهة اخرى، كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في خبر أبي خديجة: «أنا ألقيت الخلاف بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم» ادعوا الإجماعات المعارضة لإلقاء الخلاف حفظا لدماء الشيعة، و ليسمّ الأول (الإجماع الاحتفاظي)، و الأخير (الإجماع الاختلافي) أي لأجل إيجاد الخلاف لمصالح شتى كما لا يخفى، و يأتي في بحث الشهرة بعض ما ينفع المقام أيضا.

ثم إنه لو علم أحد الوجوه الماضية بالقرائن فهو، و إلا فالظاهر تردده بين الخامس و السادس، و لا بد في تعيين أحدهما من ملاحظة القرائن و هي مختلفة بحسب الموارد.

نقل الإجماع:
اشارة

نقل الإجماع.. تارة: يكون من نقل السبب فقط، كما إذا سرد أقوال الفقهاء تفصيلا أو نقلها إجمالا بألفاظ مختلفة.

ص: 85

و اخرى: يكون من نقل المسبب - و هو رأي المعصوم عليه السّلام حدسا - كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة، أو حسا و هو النادر.

فإن كان من نقل السبب فيشمله دليل حجية الخبر إن كان ما نقله عند المنقول إليه سببا تاما للأثر، و أما إذا لم يكن سببا تاما ففي الكفاية و غيرها اعتباره أيضا بمقدار دلالته لشمول دليل اعتبار الخبر لمطلق الأخبار عن حس بما كان منشأ لأثر شرعي و لو بنحو جزء السبب، كما هو المنساق في ما ورد في السؤال عن حال الرواة و موضوعات الأحكام، كالكر، و الصاع، و السفر و نحوها مما هو كثير جدا، مع أن هذا مقتضى حجية الأمارة في جميع لوازم مدلولها و ملزوماته التضمنية و الالتزامية، فيتم المنقول إليه سببيته بالتفحص عن أقوال أخر، فيتحقق لديه حينئذ الإجماع المعتبر.

و يمكن الإشكال عليه: بأن موضوعات الأحكام و ما يتعلّق بحال الرواة دخيلة في ما يتعلّق بالحكم، بخلاف أقوال الفقهاء فإنها أجنبية عن حكم اللّه تعالى حقيقة، إلا أن يتمسك بذيل المسامحة العرفية، و يقال بأنه إذا كان مجموع الأقوال من حيث المجموع منشأ لاستفادة حكم اللّه تعالى لا يعدّ البعض منها أجنبيا محضا، كما لا يخفى، فيشمله دليل الاعتبار بالملازمة العرفية.

و كذا إن كان من نقل السبب و المسبب معا عن حس لو فرض تحققه، أو كان من نقل المسبب كذلك. و أما إذا كان عن حدس فلا تشمله أدلة اعتبار الخبر، إذ المنساق منها عرفا هو تصديق المخبر في سمعه و بصره، لا تصويبه في حدسه و نظره إلا بقرائن خارجية تدل على تصديق التصويب أيضا، فيعتبر حينئذ من جهة القرائن لا من حيث الإخبار به، كما هو مورد البحث في المقام، و هي نادرة في الإجماعات المنقولة، كما لا يخفى.

و لكن يمكن أن يقال: إن مناط الاعتبار مطلقا في نقل الحجج المعتبرة حصول الوثوق النوعي حسيا كان المخبر به أو حدسيا، فمع تحقق هذا المناط يعتبر المخبر به مطلقا، و قد استقرت السيرة على الاعتماد على تصديق الأطباء

ص: 86

و المهندسين و الخبراء الذين يخبرون عن حدسهم في جميع الفنون و الصنائع و الحرف، و كون الغالب هو الحسيات لا يوجب التقييد لأجل المناط بعد تحققه.

فتلخّص من ذلك كله: أن الإجماع المنقول معتبر، للملازمة العرفية بين اتفاق رواة أحاديث الأئمة على شيء بعد الفحص و التثبت و الدقة و بين رضاء المعصوم عليه السّلام به، بلا فرق فيه بين عصر الحضور و عصر الغيبة و سائر الأعصار المتأخرة.

نعم، يزيد القدماء على ذلك بإمكان وصولهم على حديث منهم عليهم السّلام لم يصل ذلك إلينا. و يمكن الاستدلال على اعتباره بكل ما دلّ على اعتبار حكاية فعل المعصوم و قوله و تقريره.

هذا كله إذا كان الإجماع المنقول معتبرا لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل.

أما لو لم يكن معتبرا لديه أو كان نظره في وجه الاعتبار مخالفا لنظر الناقل، فلا يعتبر من حيث نقل المسبب حينئذ، و إنما يعتبر من حيث نقل السبب بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل بناء على شمول دليل اعتبار الخبر الواحد لمثله أيضا، كما قلناه.

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: الإجماع إنما يكون معتبرا إذا حصل الاطمئنان منه

الأول: اعتبار الإجماع محصله و منقوله منحصر بما إذا اطمأن المحصل له أو المنقول إليه أن ما كان معتبرا لدى المجمعين معتبر لديه أيضا، و لو كان حصول الاطمئنان من القرائن الخارجة. و أما مع عدم حصول الاطمئنان بذلك فلا وجه للاعتبار مطلقا، لأن حجية شيء عند طائفة لا يستلزم حجيته عند اخرى، سواء كان منشأ عدم حصول الاطمئنان من القرائن الداخلية أو الخارجية أو جهات اخرى.

ص: 87

الثاني: يعرض على الإجماع ما يعرض على الخبر الواحد

الثاني: يعرض الإجماع المنقول بالخبر الواحد ما يعرض على الخبر الواحد من الأقسام، كالصحيح، و الموثق، و الحسن، و الضعيف و نحوها، كما يعرض عليه أحكامه من التعارض و الترجيح و نحوهما مما مضى في محله، لأنه حينئذ من أقسامه، فيتصف بلوازمه و أحكامه.

الثالث: معنى قول الفقهاء «نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر»

الثالث: قد شاع في الكتب الفقهية - خصوصا في الجواهر - هذا التعبير (نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر). و هذا التعبير إنما يخرجه عن نقل الإجماع بالخبر الواحد إذا كانت الاستفاضة أو التواتر في كل طبقته، و كان حصولها عرضيا من أول حدوث الاستفاضة و التواتر. و أما إذا حصلا في الطبقات اللاحقة، أو شك في ذلك فيكون من الإجماع المنقول بالخبر الواحد.

الرابع: إذا شك في أن ناقل الإجماع استند إلى الحس أو الحدس.

الرابع: لو شك في أن ناقل الإجماع استند فيه إلى الحس أو الحدس، فلا تشمله الأدلة اللفظية الدالة على اعتبار الخبر الواحد، كآية النبأ و هي قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ و نحوها، لأن المنساق منها عرفا تصديق المخبر الصادق في خبره لا تصويبه في نظره، مع الشك أن يكون التمسك بها تمسكا بالعام في الشبهة الموضوعية، إلا إذا قلنا بما تقدّم منا من أنها تشمل عند المتعارف تصويب النظر أيضا، و هو وجه حسن لا بأس به، فتشملها السيرة العقلائية له، لعدم بناء منهم على التفحص في إخبار المخبر الصادق أنه حسي أو حدسي، بل الظاهر جريان بنائهم في الجملة على تصويب الحدسي أيضا، لكنه في ما لم يحرز الخلاف فلا يجري ذلك مع إثبات بطلان مبنى الحدس رأسا، كما مرّ.

الخامس: معنى الإجماع المحصل

الخامس: الإجماع المحصل عبارة عن أن يطّلع الشخص.. على أقوال الفقهاء في المسألة بحيث يكشف منها رأي المعصوم عليه السّلام، و لا يعتبر فيه مباشرة الشخص بنفسه، بل يكفي الاستنابة فيه ممن يثق به، بل يكفي فيه أيضا أن يكون بعضه منقولا و بعضه الآخر محصّلا، كما لا يخفى.

ص: 88

السادس: نقل كلام المحقق البحراني في الحدائق ختام في الشياع و الاستفاضة و التواتر

السادس: قال صاحب الحدائق في كتاب الطهارة في أحكام النجاسات:

«قد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قد تصدّى فيها لنقل جملة من المسائل، التي ناقض الشيخ فيها نفسه بدعوى الإجماع على الحكم في موضع ثم يدعيه على خلافه في آخر، و فيها ما ينيف على سبعين مسألة»، و قال في أحكام الأموات في حق الشيخ قدّس سرّه: «و أي مسألة من مسائل الفقه من أوله إلى آخره لم تختلف أقواله فيها و لا فتاويه حتى يستغرب في هذا المقام، كيف لا و أن الشهيد قد صنّف رسالة جمع فيها المسائل التي ادعى الشيخ فيها الإجماع في موضع و ادعى الإجماع على عكسه في موضع آخر، و هي تبلغ سبعين مسألة، و كانت الرسالة عندي فتلفت في بعض الوقائع التي مرت بي»، و قال قدّس سرّه في كتاب النكاح عند البحث عن إسلام زوجة الكافر: «من يعرف حال الشيخ و طريقته في دعوى الإجماع و اختلاف أقواله و فتاواه في كتبه، لا يتعجب منه، فإنه في بعض كتبه، كالخلاف و المبسوط من رءوس المجتهدين، و في بعض آخر كالنهاية و كتابي الأخبار من رءوس الأخباريين و شتان ما بينهما».

أقول: فلا بد للفقيه في الاعتماد على مثل هذه الإجماعات من التثبت و الفحص.

ختام:

الشياع، و الاستفاضة، و التواتر. و الأولان بمعنى واحد، و الأخير إما لفظي، أو معنوي، أو إجمالي، و الجميع معتبر لدى العرف و العقلاء من حيث حصول الاطمئنان بل العلم منها، و الظاهر كفاية النوعي منه و إن لم يحصل الشخصي، كما أن الظاهر شمول دليل حجية الخبر الواحد لنقلها أيضا إن كان في البين أثر شرعي.

ص: 89

الأمر الثالث الشهرة
أقسام الشهرة

و هي إما في الرواية، أو في العمل بها و الاستناد إليها، أو في مجرد الفتوى فقط.

و الاولى عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة و المحدّثين و الاهتمام بضبطها و الاعتناء بها، و تكون النسبة بينها و بين الشهرة العملية العموم من وجه، إذ رب رواية مشهورة لم يعمل بها. و رب غير مشهورة عمل بها، و هناك روايات كثيرة مشهورة معمول بها كما لا يخفى، و لا أثر لهذه الشهرة ما لم يوجب الوثوق بالصدور، فتكون من المرجحات في باب التعارض فقط، و قد تقدم في بحث التعارض ما ينفع المقام، فراجع.

و الثانية عبارة عن عمل فقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى و أوائل الكبرى برواية على وجه الاستناد إليها و الاستدلال بها.

و المعروف بين الإمامية أن مثل هذه الشهرة جابرة لضعف السند، كما أن ترك عملهم لخبر صحيح موهن له، و قد استقرت سيرتهم على العمل بما عمل به المشهور و إن كان ضعيفا، و ترك العمل بما لم يعملوا به و إن كان صحيحا إذا لم يثبت خلافهم بدليل صحيح، قال صاحب الجواهر قدّس سرّه: «لو أراد الإنسان أن يلفق فقها من غير نظر إلى كلام الأصحاب بل من محض الأخبار، يظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين بل سائر المتدينين».

أقول: و هو حق كما هو معلوم على أهله.

ص: 90

الإشكال على اعتبار الشهرة الاستنادية صغرى و كبرى و الجواب عنه

و قد اشكل على اعتبارها صغرى و كبرى. أما الأول: فلأن جميع هذه الشهرات منتهية إلى شخص واحد من علمائنا، كعلم الهدى أو الشيخ الطوسي أو غيرهما فاعتمدوا على سند الرواية بحسب أنظارهم الشريفة و اعتمدت عليهم الطبقة اللاحقة وثوقا بهم، فحصلت الشهرة التقليدية في الطبقات اللاحقة، و المعتبر من الشهرة ما لم تنته إلى شخص واحد. و فى العيان ما يغني عن البيان، إذ نرى بالوجدان أنه كثيرا ما ينقل شخص واحد شيئا في مجلس مثلا و يصير ذلك مشهورا بعد أيام و يترتب عليه آثار و خصوصيات، و الشهرات الفقهية أيضا كذلك، و قد نبّه على هذا الإشكال شيخنا الشهيد الثاني قدّس سرّه.

و يرد عليه.. أولا: أن من راجع سيرة أصحاب الأئمة و فقهاء أوائل الغيبة، يعلم أنهم كانوا مواظبين و مهتمين غاية الاهتمام على ضبط الروايات، جامدين على الاحتفاظ بعين ما وصل إليهم من الإمام عليه السّلام، فكانت تلك الطبقات طبقة الضبط فقط و العمل بما ضبطوه، فلا يعملون إلا بما يضبطون و لا يضبطون و لا يستندون إلا بما يعملون، و كانت نسبة الأحاديث المضبوطة في تلك الأعصار نسبة الرسالة العملية في هذه الأعصار إذا كانت من مرجع منحصر واحد فقط، و لذا عاب العامة عليهم و قالوا إنهم مقلدة، و ليسوا من أهل الاجتهاد في شيء، و نسبوا فقه الإمامية إلى قلة الفروع، قال ابن إدريس مشيرا إلى الخلاف و المبسوط: «و هذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين»، راجع حدّ المحارب من حدود الجواهر. و من راجع الكتب المؤلفة في تلك الطبقات يجدها متون الأحاديث و الروايات، فراجع المقنع و المقنعة، و المراسم و النهاية و غيرها، بل قد ينسب المتفرع في الفقه إلى القياس و الاستحسان، لكثرة الجمود على متون الأحاديث، و أول من فتح هذا السد القديمين قدّس سرّهما - و هما ابنا جنيد و أبي عقيل - ثم الشيخ الطوسي قدّس سرّه، فكل حديث كان معمولا به و كل عمل كان مستندا إلى حديث إلا في موارد ظهر الخلاف فيها، فليست الشهرات العملية الاستنادية

ص: 91

منتهية إلى شخص واحد، كعلم الهدى و الشيخ قدّس سرّهما، بل هما و غيرهما في العمل بالأحاديث و الاستناد إليها على حدّ سواء، فتحققت الشهرة العملية المعتبرة.

إن قلت: نعم، و لكن لا تتحقق الشهرة العملية المعتبرة مع ذلك أيضا، لأن في تلك الطبقة كان بعض ممن لا يعمل بالخبر الواحد، فكيف تثبت الشهرة العملية الاستنادية.

قلت: لا يعمل بالخبر الواحد من حيث هو مع قطع النظر عن القرائن الموجبة للاطمئنان بالصدور، و أما معها فليس فيها من لا يعمل به، و قد كانت جل الأحاديث، بل كلها في تلك الطبقات مقرونة بها، كما لا يخفى، و المفروض أنه لم ينقل خلاف أحد في الاستناد إليه من أهل تلك الطبقة.

و تلخّص مما ذكر: استقرار الشهرة العملية الاستنادية بجميع ما ضبطه المشهور من الأحاديث المتضمنة للأحكام إلا ما خرج بالدليل.

و ثانيا: على فرض انتهاء الشهرات الفقهية إلى شخص واحد مثل الشيخ قدّس سرّه فهي معتبرة أيضا إلا مع ظهور الخلاف، لأن مثل الشيخ و من تبعه من الثقات المتوجهين إلى خصوصيات الخبر ضعفا و صحة، الملتفتين إلى القرائن مع توفرها في تلك الأعصار، و إنه لم يكن لهم شغل إلا تمييز الصحيح عن السقيم، فإذا عمل هؤلاء بحديث غير صحيح و تركوا العمل بحديث صحيح يوجب ذلك الوثوق بصدور الأول و الخلل في الثاني، و ليست للشهرة موضوعية من حيث هي، بل تكون طريقا إلى حصول الوثوق بالصدور أو الخلل في جهة من جهاته، هذا بعض ما يتعلق بالإشكال في الصغرى.

و المظنون قويا أن أصل هذا الإشكال من العامة، و تلقاه شيخنا الشهيد قدّس سرّه من بيان بعض مشايخه من العامة، و تبعه غيره في هذه الشبهة، و مثل هذا كثير في الاصول و الفقه، كما لا يخفى على أهله.

و أما الإشكال في أصل الكبرى فهو أنه لا وجه لاعتبار الشهرة العملية

ص: 92

أصلا، لأصالة عدم الحجية.

الاستدلال على اعتبار الشهرة الفتوائية، الإشكال عليه

و فيه: أن اعتبار الشهرة العملية الاستنادية الاحتجاجية توجب الاطمئنان بالواقع، و الظاهر من بناء العقلاء على الاعتماد عليها. و ما ورد في المقبولة، و قول الكاظم عليه السّلام لأبي يوسف: «و الأخبار المجمع عليها و هو الغاية المعروض عليها كل شبهة و المستنبط منها كل حادثة - الحديث -» تقرير للطريقة العقلائية.

فيكون اعتبارها إنما هو لأجل كشفها عن ظفر الكل بما يوجب الوثوق بالصدور، فيكون موجبا للوثوق النوعي العقلائي بالصدور قهرا، بل قد يوجبه استناد مثل الشيخ قدّس سرّه و من تبعه، كما مرّ.

فتلخّص أن الشهرة الاستنادية العملية من أقوى موجبات حصول الوثوق بالصدور، و أن شهرة هجران العمل من أهم ما يوجب الوهن و الخلل.

و يمكن أن يجعل هذا النزاع لفظيا، فمن قال باعتبار الشهرة أي: في ظرف حصول الوثوق و الاطمئنان بالصدور، و من قال بعدم الاعتبار أي: في ظرف عدم الحصول، و من ذلك يظهر إمكان القول باعتبار الشهرة بين المتأخرين من الفقهاء أيضا إن حصل منها الوثوق و الاطمئنان بالصدور، فيصير النزاع في اعتبارها أيضا لفظيا، كما لا يخفى. هذا بعض الكلام في الشهرة العملية الاستنادية.

و أما الشهرة الفتوائية: فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى بين القدماء من دون الاستناد إلى دليل أصلا، سواء كان في البين دليل أو لا.

و قد استدل على اعتبارها..

تارة: بإطلاق قوله عليه السّلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك» على نحو ما مر، و لا بأس به.

و اخرى: بأنه مما يوجب الوثوق بالحكم و الاطمئنان، و هو حجة ما لم يدلّ دليل على الخلاف، و لا دليل عليه.

ص: 93

و ثالثة: بأن الظن الحاصل منها أقوى مما يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره بالأولى.

و يرد: بأن اعتبار الخبر لا يدور مدار حصول الظن الشخصي.

نعم، لا يبعد أن يكون حصول النوعي منه حكمة الاعتبار لا علة له بحيث يدور مداره.

و رابعة: بأن فتاوى القدماء عبارة عن متون الأخبار، ليس فيها شيء وراءها، فيشملها ما دلّ على اعتبار الشهرة العملية الاستنادية، ففتاواهم توجب الوثوق و الاطمئنان بوجود حجة معتبرة في البين، و عن بعض المتتبعين: «و لقد عثرنا أثناء التتبع على مواضع كثيرة يستكشف من فتاوي الأصحاب وجود نص واصل إليهم، مع أنه لا يكون من ذلك النص في المجامع و الجوامع عين و لا أثر».

و هذا بخلاف الطبقات المتأخرة فإنها كانت مثل زماننا هذا طبقة التفريع و استفراغ الوسع في ردّ الفروع إلى الاصول الواصلة إليهم من المعصومين عليهم السّلام، و إن شئت فقسّم الطبقات إلى ثلاث: طبقة الأخذ و التلقي، و طبقة الضبط فقط، و طبقة التفريع، و الأخير أوسع الطبقات أفرادا و زمانا. و قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في بحث غسل الآنية التي يشرب فيها الخمر: «إن المحقق قدّس سرّه يروي غالبا عن اصول ليست عندنا منها إلا أسماؤها».

التمسك بالمقبولة على اعتبار الشهرة مطلقا، الإشكال عليه و الجواب عنه

و كيف كان، يمكن أن يتمسك لاعتبار الشهرة بأقسامها الثلاثة بقوله عليه السّلام في المقبولة: «المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، و قوله عليه السّلام: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»: بدعوى أنه عليه السّلام في مقام بيان القاعدة الكلية لاعتبار الشهرات الثلاث، لكونها موجبة للوثوق بصدور الحكم عن المعصوم عليه السّلام، و تطبيقها على الشهرة الروائية من باب تطبيق القاعدة على موردها، لا لأجل الاختصاص به.

ص: 94

إن قلت: إن ظاهر السؤال يدل على الاختصاص، فهو مثل ما إذا قيل: أي المسجدين أحب لك، فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر. و أي الرمانتين أحب إليك، فقلت: ما كان أكبر، فلا يستفاد من الأول محبوبية كل ما كان الاجتماع فيه أكثر، مثل السوق و الخان و نحوهما، و لا يستفاد من الثاني كل ما كان أكبر مثل الحجارة و نحوها.

قلت: هذا و إن ذكره الشيخ قدّس سرّه لكنه ليس بوارد، للفرق بين المثال و ما نحن فيه، و ذلك لأن اعتبار الشهرات الثلاث إنما هو لأجل كون كل واحدة منها منشأ للوثوق بالصدور، و هي الجهة الجامعة القريبة بين الثلاثة، فتوجب الانتقال من إحداها إلى الاخرى لهذه الجهة القريبة، بخلاف المثالين و نحوهما، إذ ليس بين كثرة الاجتماع في المسجد للعبادية و في السوق لأمر آخر جامع قريب، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى، و كذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف المثال، فليس بين كثرة الاجتماع في المسجد و كثرة الاجتماع في السوق و نحوه جهة جامعة قريبة، إذ الاجتماع في المسجد للعبادة و في السوق لأمر آخر، فلا ينتقل العرف من إحداها إلى الاخرى، و كذا الأكبرية في الرمان لأجل كثرة الاستفادة بخلاف الأكبرية في غيره، فقياس المقام بالمثالين باطل جدا.

إشكال المحقق النائيني على الاستدلال و الجواب عنه

و قد أورد شيخنا المحقق النائيني قدّس سرّه على المقام بأن قوله عليه السّلام: «فإن المجمع عليه لا ريب فيه»، يعني أن المشهور لا ريب فيه بالنسبة إلى الشاذ، فيكون المقصود به عدم الريب بالإضافة، لا عدم الريب الحقيقي، و لو تعدينا عن الشهرة الروايتية إلى غيرها يلزم التعدي إلى اعتبار كل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، كما إذا كان قول المحققين و الشهيدين قدّس سرّه مما لا ريب فيه بالنسبة إلى أقوال سائر الفقهاء مثلا، فيلزم حينئذ حجية قولهم في مقابل أقوال سائر الفقهاء و هو بمكان من الفساد.

ص: 95

و يمكن الجواب عن ذلك: بأنه لا يلزم أن تكون كل علة أعم من المعلول خصوصا إذا لزم من التعميم المحذور، و في المقام تكون العلة مساوية مع المعلول، فكأنه عليه السّلام قال: «خذ بالشهرات الثلاث فإنها لا ريب فيها بالنسبة إلى الشاذ الذي يكون في مقابل كل واحدة منها».

و لنا أن ندعي السيرة العقلائية على اعتبارها، لأن أهل كل علم و صنعة من العلماء و العقلاء يعتمدون على ما اشتهر بينهم بهذا المعنى، و يستدلون بها لا عليها، و حينئذ يكفي عدم ثبوت الردع و لا نحتاج إلى إثبات الحجية.

و بعبارة اخرى: الشهرة بهذا المعنى من أحد طرق الاطمئنانات المتعارفة العقلائية الدائرة بينهم التي يعتمدون عليها في امور معاشهم و معادهم. و عليه فلا موضوعية للشهرة من حيث هي، بل تكون طريقا للوثوق بالحجة المعتبرة، كما أن شهرة الهجران توجب الاطمئنان بالخلل في الصدور.

و المراد بالاطمئنان و الوثوق فيهما النوعي منهما، كما في سائر ما هو معتبر شرعا أو عند العقلاء، فيكون الاطمئنان و الوثوق حكمة الاعتبار، لا أن يكون علة يدور مداره وجودا و عدما. و تتصف الشهرة - كالإجماع - بالمحصلة، و المحققة، و المنقولة، و يجري عليها ما يجري في الإجماع.

ختام فيه امور:
الأول: عدم الفرق في الشهرة مطلقا بين أن يكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلق بها

الأول: لا فرق في الشهرة بأقسامها الثلاثة بين أن تكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلّق بها من موضوعاتها و ما يتعلّق بها، لشمول الدليل للجميع.

الثاني: المراد من الواجب في كلمات قدماء الأصحاب

الثاني: حيث أنه غلب على القدماء قدس سرّهم التعبير بمتن الخبر، فلفظ الواجب في كلماتهم أعم من الوجوب الاصطلاحي، كما في الأخبار. و كذا «لا ينبغي» أعم من الحرمة، فلا بد من ملاحظة القرائن الخارجية و الداخلية في استفادة

ص: 96

الوجوب و الحرمة من كلماتهم.

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي الاتصال إلى المعصوم

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي أن تكون متصلة بزمان المعصوم عليه السّلام، إذ لو كانت حادثة بعده لعرف زمان حدوثها عادة.

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة و ما يتعلّق بهما، لأن المندوبات و المكروهات و نحوهما يشملهما دليل التسامح في أدلة السنن، كانت في البين شهرة استنادية أم لم تكن.

نعم للشهرة الفتوائية أثر فيهما أيضا لبناء الفقهاء على اتباعهما بهما و الفتوى بمفادها، و لا يبعد شمول دليل التسامح لها أيضا بناء على أن فتوى القدماء متون الأخبار.

الخامس: لا اختصاص للشهرة الاستنادية بخصوص مسائل الفقه

الخامس: لا اختصاص بشهرة الاستناد و الإعراض بخصوص مسائل الفقه، بل هي ثابتة في جميع العلوم و الفنون، بل و العرفيات أيضا، و قد ارتكز في الأذهان متابعة المشهور و عدم متابعة ما أعرض عنه المشهور، كما لا يخفى على من راجع العلوم و العرفيات.

السادس: نقل كلام صاحب الجواهر في اختلاف القدماء

السادس: قال صاحب الجواهر قدّس سرّه في كتاب الصلاة في حكم القران بين السورتين و نعم ما قال: «إن القدماء إنما وقع ما وقع منهم في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة لعدم اجتماع تمام الاصول عند كل واحد منهم، و عدم تأليف ما يتعلّق بكل باب منها على حدة، فربما خفي على كل واحد منهم كثير من النصوص فيفتي بما عنده من غير علم بالباقي، كما لا يخفى على الخبير الممارس المتصفح لما تضمنت تلك الآثار».

و يظهر من كلامه أن استنادهم على شيء يكشف عن حجة معتبرة لديهم، و أن اختلافهم في شيء لعدم الظفر بالحجة المعتبرة، لا لأجل الظفر و الاختلاف في فهم المراد منهما، كما هو الغالب بين المتأخرين، و لا بد في تمييز ذلك من القرائن.

ص: 97

السابع: تفسير قول الفقهاء «على الأشهر، عليه الأكثر، عليه المعظم».

السابع: قد شاع في الكتب الفقهية قول الفقهاء: «على الأشهر» و قولهم:

«و عليه الأكثر» و قولهم: «و عليه المعظم»، و لا تكون هذه التعبيرات من الشهرة المعتبرة في شيء أبدا، فإن حصل للفقيه منها الاطمئنان بالحكم و لو بواسطة القرائن المحفوفة، و إلا فلا يعتمد عليها، و الأشهر في مقابل غير الأشهر لا المشهور، و لذا يقولون على الأشهر بل المشهور.

الثامن: طرق إحراز الشهرة

الثامن: طريق إحراز المشهور مراجعة كتب القدماء، و يمكن استفادة الشهرة من «اللمعة» التي هي آخر ما كتبه الشهيد الأول قدّس سرّه، و التزم أن لا يذكر فيه إلا المشهور و إن خالف التزامه في موارد تعرض لها الشهيد الثاني قدّس سرّه. و كذا يمكن استفادتها من «الشرائع» أيضا في الجملة مع مراجعة «الجواهر»، و لو كان حكم مسكوتا عنه في كتب القدماء لا تستفاد الشهرة من مجرد السكوت، كما هو واضح.

ص: 98

الأمر الرابع الخبر الواحد
اشارة

البحث فيه من أهم المباحث، لتوقف معرفة جلّ الأحكام لو لا كلها بين المسلمين على اعتباره، بل هو من الاصول النظامية العقلائية المتوقف عليها نظام معاش البشر و معاده.

تمهيد و فيه امور:
الأول: المناط في إثبات الحكم الشرعي بالخبر الواحد

الأول: إثبات الحكم الشرعي مطلقا بالخبر الواحد يتوقف على الوثوق بصدوره، و تحقق ظهوره، و الفراغ عن جهة صدوره، و بتمامية هذه الجهات الثلاثة تتم الحجة على الحكم عقلا و عرفا. و المتكفل لإثبات الجهة الاولى هذا المبحث الذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى، و المتكفل للجهة الثانية ما مرّ في بحث حجية الظواهر، و المتكفل للجهة الثالثة الأصل العقلائي المحاوري المرتكز في الأذهان من أصالة صدور الكلام لبيان المراد الواقعي إلا إذا دلّ دليل على الخلاف.

الثاني: زمان حدوث البحث في الخبر الواحد

الثاني: لم يكن لبحث حجية الخبر الواحد في عصر المعصومين عليهم السّلام عين و لا أثر، كجملة كثيرة من المباحث.

نعم، كثرت الروايات في إرجاع الناس إلى ثقات الرواة، و السؤال عنهم عن أن فلانا ثقة - حتى تؤخذ عنه معالم الدين - أو لا؟ فراجع أوائل كتاب القضاء

ص: 99

من الوسائل، و لو أنهم بنوا الأمر على ما كان عليه في عصر المعصوم عليه السّلام لما احتاجوا إلى جملة كثيرة من التطويلات، كما هو واضح.

و على أي حال فلزوم العمل بالأخبار التي بني فقه الإمامية عليها من ضروريات المذهب، و النزاع بين من لا يعتبر الخبر الواحد و بين من يعتبره صغروي لا أن يكون كبرويا، لأن الأول يقول بأن لزوم العمل بها لأجل كونها محفوفة بقرائن قطعية دالة على الصدور، و الثاني يقول إن نفس الوثوق بالصدور مطلقا يكفي في صحة الاعتماد عليها، و لكن بعد ثبوت أن المراد بالقطع و العلم في اصطلاح الفقهاء - خصوصا القدماء كاصطلاح الكتاب و السنة - هو مطلق الوثوق و الاطمئنان العقلائي، يرتفع النزاع من البين رأسا، كما هو واضح.

ثم إنه لا يخفى على أهله أنه يكفينا في فقهنا - معاشر الإمامية - ما وصل إلينا عن الإمامين الهمامين الباقرين الصادقين عليهما السّلام، و باعتباره تتم الحجة لفقهنا، و هذا المقدار محفوف بالقرائن الخارجية أو الداخلية الموجبة للاطمئنان بالصدور، فيصير البحث من هذه الجهة بلا طائل أيضا.

الثالث: الكلام في أن البحث في حجية الخبر الواحد من مسائل الاصول

الثالث: هذا البحث من مسائل علم الاصول مطلقا بل من أهمها، سواء قلنا بأنه ليس له موضوع أبدا، أو أن موضوعه كل ما يصح أن يقع في طريق الاعتذار، أو أن موضوعه ذوات الأدلة الأربعة، أو بوصف الدليلية.

أما الأول: فواضح لا ريب فيه، و كذا الثاني، لأن الخبر الواحد من أهم ما يقع في طريق الاعتذار.

و أما الثالث: فاشكل عليه بأن الخبر الواحد حاك عن السنة لا أن يكون عينها، فتكون عوارضه عرضا غريبا لها لا عرضا ذاتيا، و قد مرّ أن مسائل العلم ما يكون البحث عنها بحثا عن العرض الذاتي لموضوع العلم، فما يكون البحث فيه عن العرض الغريب له خارج عن المسائل.

و يرد عليه: بأن الخبر الواحد متحد مع السنّة عند المتشرعة، فيكون

ص: 100

عوارض أحدهما عوارض الآخر عرفا إلا مع القرينة على الاختصاص، مع أن مرجع هذا البحث عرفا إلى أن قول المعصوم عليه السّلام و فعله و تقريره هل تختص حجيته بخصوص من سمعه و رآه، أو تعم المنقول إليه أيضا، فيصير البحث عن عوارض السنة على أي تقدير.

و أما الرابع: فأورد عليه - مضافا إلى ما مرّ في الثالث مع جوابه - بأنه إن كان الموضوع الأدلة الأربعة بوصف الحجية يكون إثبات الحجية، له من إثبات أصل الموضوع، فيصير البحث حينئذ من المبادئ لا المسائل.

و يرد: بأن من أخذها موضوعا بوصف الحجية أراد الحجية الاقتضائية لا الفعلية، و المقصود بالإثبات في المقام الثانية لا الاولى، فيصير من العوارض لا محالة.

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة، الإشكال عليه و الجواب عنه

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة من الأخبار و معه يكون البحث عن حجية خبر الواحد من التطويل بلا طائل، لكفاية ما فيها للأحكام الشرعية، و المفروض اعتبارها.

و اشكل عليه..

تارة: بأنه معلوم المدرك.

و اخرى: بوجود الاختلاف فيه، لأن بعض المجمعين يرونها مقطوعة الصدور، و بعضهم يعتبرونها من باب اعتبار مطلق الظن، و بعضهم يعتمدون عليها لاحتفافها بالقرائن المعتبرة. و لا اعتبار بما علم مدركه من الإجماع، فكيف بما اختلف فيه؟!.

و فيه: أنه يمكن إرجاع الجميع إلى ما يوجب الوثوق بالصدور، كما تقدم، فيكون الاختلاف في مجرد التعبير، كما أن الإشكال بأنه معلوم المدرك لا وجه له، لأن الظاهر من حال من يدعي الإجماع أنه يدعيه في مقابل سائر الأدلة، لا أنه نفسها، و لو فرض أنه معلوم المدرك لا بأس به لفرض تمامية المدرك، كما يأتي

ص: 101

في وجوب العمل به مطلقا.

و ثالثة: بأن الكتب الأربعة مشتملة على الأخبار الضعيفة فكيف يصح دعوى هذا الإجماع؟!.

و فيه: أن المتيقن منه ما احتفت بقرائن دالة على اعتبارها.

و رابعة: بأن هذا الإجماع إنما صدر لأجل كمال العناية و الاهتمام بالكتب الأربعة، لا وجوب العمل بها.

و فيه: ما لا يخفى، فالإجماع تام لا مناقشة فيه.

أدلة عدم اعتبار الخبر الواحد:

اعتبار الخبر الموثوق به مما يقوم به نظام المعاش و المعاد، و لا اختصاص له بمذهب دون آخر و لا بملة دون اخرى، بل استقرت سيرتهم على ترتيب الأثر عليه من سالف الأعصار، و ما كان كذلك يكفي في اعتباره شرعا عدم ثبوت الردع فقط، و لا يحتاج إلى إقامة الدليل على الحجية.

و لكن قد يستدل على عدم اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة. فمن الكتاب: بالآيات الناهية عن اتباع الظن و غير العلم - بألسنة شتى و هي كثيرة - مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ، و كذا قوله تعالى: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً .

و فيه.. أولا: أنها وردت في الاصول الاعتقادية و لا تشمل غيرها، فلا ربط لها بالمقام.

و ثانيا: أن المراد بالعلم في الكتاب و السنة ما يطمئن و تسكن إليه النفس لدى العقلاء، كما أن المراد بغير العلم الأراجيف و ما يخبر به الجهلة و الهمج

ص: 102

الرعاع، و الخبر الموثوق به من الأول دون الثاني باتفاق العلماء.

و ثالثا: أنها معارضة بالأدلة الأربعة الدالة على الاعتبار و الترجيح معها، كما لا يخفى.

و من السنة المستفيضة، بل المتواترة في الجملة، التي جمعها في قضاء الوسائل المشتملة على تعبيرات مختلفة من أن ما خالف قول ربنا لم نقله، و عدم قبول ما ليس موافقا للقرآن، و ما ليس عليه شاهد منه و نحو ذلك من التعبيرات..

و فيه.. أولا: أنها معارضة مع المتواترة التي جمعها في قضاء الوسائل، فراجع و تأمل فإن الترجيح معها من جهات.

و ثانيا: أن الأخبار المفسّرة لكتاب اللّه تعالى إما بتقييد إطلاقه، أو تخصيص عمومه، أو بيان لفظه و مفهومه، أو شرح مفاده و حدوده، و هذه كلها ليست من المخالفة عند أبناء المحاورة أصلا، بل لو لم يؤخذ بمثل هذه الأخبار لبقي كتاب اللّه تعالى معطلا في الأحكام، و هو ما لا يرضى به أحد من الأنام فضلا عن الأعلام.

و ثالثا: أن المنساق منها بعد ردّ بعضها إلى بعض أنها وردت لبيان علاج المعارضة و أن عند التعارض يؤخذ بالموافق للكتاب، و يطرح المخالف له بالمخالفة العرفية، بحيث يبقى العرف و العقلاء متحيرا في جمعه مع الكتاب، فلا ربط لها بالمقام.

و من الإجماع بما ادعاه بعض حتى جعل السيد قدّس سرّه العمل به كالعمل بالقياس في وضوح البطلان.

و فيه.. أولا: أن تحقق الإجماع في مثل هذه المسألة العامة البلوى على عدم الاعتبار بعيد جدا.

و ثانيا: أنه معارض بالأدلة الدالة على الاعتبار و الترجيح معها، كما يأتي.

ص: 103

و ثالثا: على فرض تحققه، المتيقن منه الأراجيف و الأخبار غير الموثوق بها فلا ربط له بالمقام.

و رابعا: أنه يمكن أن يكون مورده اصول المعارف دون الفروع الفقهية، مع أنه يمكن أن يكون المراد به الإجماع الاحتفاظي أي: احتفاظ كتب الشيعة عن التدخل فيها، فالمراد به أنه لا بد و أن لا يتدخل في الكتب المعتبرة كل ما لا يعتبر، لا أنه يعمل بما اعتبر منها، لأنه خلاف ضرورة المذهب، فكيف يصدر من مثل السيد؟!.

و من العقل بما مر من امتناع التعبّد بغير العلم.

و قد مرّ جوابه مفصلا، فراجع.

اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة:
الاستدلال من الكتاب بآية النبأ بمفهوم الشرط تارة و مفهوم الوصف اخرى
اشارة

استدل على اعتباره من الكتاب بآيات منها: آية النبأ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .

فتارة: بمفهوم الشرط، فإن ترتب وجوب التبيّن على خبر الفاسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء، فالمعنى حينئذ - بناء على ما هو المستفاد منها عرفا من كون وجوب التبيّن - غيريا و شرطا للعمل بخبر الفاسق -: أنه إن جاءكم فاسق بنبإ فلا تعملوا به إلاّ بعد التبيّن و إذا جاءكم عادل به فاعملوا به بلا تبيين، و لا معنى لحجية الخبر إلاّ هذا.

و إن كان وجوب التبين نفسيا فتدل على الحجية أيضا، لأنه بعد مجيء العادل بالخبر إما أن يجب التبيّن أيضا، أو يجب الرد، أو يجب القبول.

و الأول مخالف لظاهر سياق الآية عرفا، مع أنه خلاف مرتكزات العقلاء أيضا.

ص: 104

و الثاني مقطوع بفساده.

و الثالث هو المطلوب.

و لكن احتمال الوجوب النفسي للتبيّن ساقط أصلا، فلا وجه لهذه المقدمة المطوية رأسا.

و اخرى: بمفهوم الوصف، فإن تعليق التبيّن على وصف الفسق يدل على الانتفاء عند الانتفاء، و حينئذ يجري فيه عين ما مرّ آنفا في مفهوم الشرط، من غير فرق بينهما أبدا بين كون وجوب التبين شرطيا أو نفسيا، فكيفية الاستدلال بها متحدة فيهما.

و أشكل على الاستدلال بوجوه.

الأول: أن الشرط في الآية الكريمة سيق لبيان الموضوع، فانتفاء الحكم بانتفائه تكويني حينئذ. مثل: «إن رزقت ولدا فاختنه» فلا ربط له بالمفهوم أبدا، كما مرّ في بحث المفاهيم. و الوصف في المقام غير معتمد على الموصوف فلا يتحقق له مفهوم - على فرض أن يكون للوصف مفهوم - لاشتراطه بالاعتماد على الموصوف، مع أنه قد مرّ عدم المفهوم له أصلا اعتمد عليه أو لا.

و يرد عليه: أن سياق الآية يدل على أنها في مقام بيان القاعدة الكلية، و تقرير ما ارتكز في العقول من دوران الاعتماد على شيء مدار الوثوق و الاطمئنان به، و إن هذا هو العلة المنحصرة في ذلك، فما يكون موثوقا به يعتمد عليه دون غيره، و لا فرق في دلالتها على هذه الجهة بين كونها بنحو مفهوم الشرط أو الوصف، ذكر الموصوف أو لم يذكر، فإن نفس هذه الدلالة ظاهرة منها و هي معتبرة لدى العقلاء.

و دعوى: أنها سيقت لمجرد تحقق موضوع الحكم بلا شاهد، بل ظاهر سياقها على خلاف هذه الدعوى شاهد؛ و لعل نظر صاحب الكفاية قدّس سرّه حيث قال: «إن مفاد الآية أن الخبر الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا...» إلى

ص: 105

ما ذكرناه، و إلا فهو خلاف ظاهر الآية، كما لا يخفى.

الثاني: أن عموم العلة في ذيل الآية من قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ يشمل خبر العادل و الفاسق معا، لأن الجهالة بمعنى عدم العلم، و هو مشترك بينهما، فلا دلالة لها على اعتبار خبر العادل، لأن عموم العلة مقدم على ظهور القضية المعللة بها عند العرف و العقلاء، فلا وجه للاستدلال بها على اعتبار خبر العادل، لكونه مشتركا مع خبر الفاسق في الجهالة و عدم العلم.

و فيه.. أولا: أن الجهالة بمعنى: فعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتدين الملتفت إلى دينه و عقله، كما في قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ، و قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ - الآية - فإن التوبة إنما تكون عن المعصية و هي متقوّمة بالعلم بالتكليف ثم المخالفة عن علم و عمد، و لا ريب في أن ترتب الأثر على الخبر قبل التفحّص عن صدقه من فعل السفهاء و من لا يهتم بعقله و دينه.

و ثانيا: أن الجهالة بمعنى عدم العلم، لكنه أعم من العلم الحقيقي و مطلق الوثوق و الاطمئنان العرفي العقلائي، و لا ريب في تحقق الأخيرين في خبر العادل دون الفاسق و لو حصلا منه لقلنا به مطلقا. فيكون خلاصة المعنى حينئذ:

إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا حتى يحصل لكم الوثوق بصدقه، و يكون ذكر الفاسق حينئذ مع اشتراكه مع خبر العادل عند حصول الوثوق منه للتنبيه على فسق مورد نزول الآية، و لكون الفاسق مورد التبين غالبا.

الثالث: أن مورد الآية هو الإخبار بالارتداد الذي لا يثبت إلا بالبينة، فلو عمل بالمفهوم يلزم خروج المورد و هو مستهجن.

و فيه.. أولا: أن مورد الآية هو منطوقها، و الاستدلال بها إنما يكون بمفهومها، و لا ملازمة بين المنطوق و المفهوم من كل حيثية و جهة حتى في شأن النزول أيضا.

ص: 106

و ثانيا: أن المراد بالعادل في المفهوم هو طبيعي العادل الشامل للواحد و المتعدد، فلا يلزم خروج المورد المعتبر فيه التعدد لدليل خارجي.

مناقشات لا تختص بآية النبأ بل تعمها و غيرها وردها

ثم إن في المقام مناقشات اخرى لا تختص بالآية، بل تعمها و غيرها مما استدل به على اعتبار الخبر الواحد.

منها: معارضتها مع ما دلّ على عدم اعتبار غير العلم من الآيات الشريفة.

و يرد.. أولا: بأن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم في المعارف و الاعتقاديات، و المقصود في المقام اعتبار الخبر في غير الاعتقاديات، فينتفي التعارض حينئذ لاختلاف الموضوع.

و ثانيا: أن ما دلّ على اعتبار خبر الواحد مفسّر و شارح و حاكم على تلك الآيات، و يبين أن المراد بالعلم فيها مطلق الاطمئنان و الوثوق العقلائي، و لا معارضة بين المفسّر (بالكسر) و المفسّر (بالفتح)، كما هو واضح لمن تأمل.

و منها: أنها تشمل الإجماع الذي أخبر به السيد قدّس سرّه على عدم اعتبار خبر الواحد.

و فيه: مضافا إلى ما مرّ - من أن هذا الإجماع ساقط عن أصله و معارض بالإجماع المدعي على اعتباره - أن الدليل لا يشمل ما ينافيه و يضاده، و إلا لبطل جلّ الاستدلالات في العلوم، بل لا بد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة و الأخذ بالراجح و طرح المرجوح، و لا ريب في أن ما استدل به على عدم اعتبار خبر الواحد مرجوح بل ساقط رأسا.

إشكالات تختص بالاخبار مع الواسطة فقط

ثم إنهم ذكروا في المقام إشكالات تختص بالإخبار مع الواسطة فقط.

الأول: أنها على فرض تماميتها تختص بالإخبار بلا واسطة، و منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.

و يرد: بمنع الانصراف، كما لا يخفى.

الثاني: أن الحكم المستفاد من أدلة الاعتبار هو وجوب تصديق العادل

ص: 107

و من يوثق بقوله، و موضوع هذا الحكم في الوسائط هو تصديق العادل و من يوثق بقوله أيضا، فكأنه قيل يجب على الشيخ تصديق المفيد في تصديق المفيد للصدوق مثلا قدس سرّهم، و هكذا إلى أن ينتهي إلى الخبر بلا واسطة، و المفروض أن هذا الموضوع بثبت بنفس هذا الحكم إذ لا أثر له قبله، فيلزم إثبات الموضوع بالحكم، لأن الموضوع لا بد و أن يكون محرزا إما بالوجدان أو بالتعبّد، و الأول منفي في الوسائط فيتعين الثاني، فيلزم المحذور غير المعقول، لأن الحكم عرض بالنسبة إلى الموضوع، فلا يمكن أن يكون موجدا له.

الثالث: أن تصديق العدول من الوسائط ليس علميا وجدانيا، بل هو تنزيل شرعي، و التنزيلات الشرعية لا بد و أن تكون بلحاظ الأثر الشرعي، و ليس في البين أثر شرعي في الوسائط إلاّ نفس وجوب تصديق العادل، فيلزم أن يكون التنزيل بلحاظ نفسه، و هو باطل.

نعم خبر أول الوسائط وجداني لا يحتاج إلى التنزيل، كما أن إخبار آخر الوسائط المنتهى إلى المعصوم عليه السّلام له أثر شرعي غير وجوب التصديق، و هو حكم الإمام عليه السّلام. و يمكن تقرير الإشكال بوجه آخر، كما لا يخفى على من راجع كلمات العلماء.

و الجواب عن الجميع:

أولا: أنه لا جعل من الشارع في البين رأسا، و الآيات و الروايات الواردة في المقام إرشاد إلى مرتكزات العقلاء من اعتبار الخبر الموثوق به، و لا يفرّق العقلاء بين الإخبار بلا واسطة أو معها مع وثوق الوسائط.

و ثانيا: على فرض الجعل ليس المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق، بل هو نفس الاعتبار و الطريقية المحضة، و هي شاملة لجميع الوسائط مطلقا و لو لم يكن لها بالفعل أثر شرعي.

نعم لا بد من انتهاء الجميع إلى الأثر الشرعي و لو بألف واسطة، و هو

ص: 108

حاصل قطعا في الأخبار المنتهية إلى المعصوم عليه السّلام بلا محذور أصلا في البين.

و ثالثا: على فرض كون المجعول هو الحكم التكليفي أي وجوب التصديق، ليس ذلك مجعولا بما أنه جزئي شخصي خارجي، بل بما هو طبيعي وجوب التصديق القابل للانحلال إلى جميع ما أمكن انطباقه عليه عقلا، فكأن الشارع جعل لكل واحد من الوسائط وجوب تصديق مستقل رأسا، و حيث أن الجميع تنتهي إلى قول المعصوم عليه السّلام يكفي ذلك في التنزيل الشرعي، إذ لا يلزم فيه أن يكون كل واحد من الوسائط علة تامة لثبوت الأثر، بل يكفي كونه من أجزاء العلة و لو بألف واسطة، و لا يلزم أن يكون الحكم مثبتا لموضوع شخص نفسه، بل الحكم في كل واحد من الوسائط من المعدات لثبوت الموضوع لحكم آخر و لا محذور فيه من عقل أو عرف، كما هو واضح.

و رابعا: على فرض أن يكون المجعول حكما تكليفيا جزئيا شخصيا خارجيا لخصوص الخبر بلا واسطة، نقطع قطعا وجدانيا بتحقق ملاك المجعول في الوسائط أيضا و إن قصر دليل الجعل عن شمولها، و لكن هذا الفرض أي كون المجعول جزئيا مع أنه باطل في نفسه باطل أيضا في الشريعة المبنية على الدوام إلى يوم القيام، كما فصّل القول فيه في غير المقام.

كيفية الاستدلال بآية النفر، الإشكال عليها ثم الجواب عنه

و من الآيات التي استدل بها آية النفر: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .

بدعوى: أن الحذر واجب و هو عبارة عن ترتيب الأثر على قول المنذرين (بالكسر)، و لا معنى لحجية الخبر إلا وجوب ترتيب الأثر.

و قيل في وجه وجوبه امور:

الأول: أنه مع تحقق المقتضي له واجب، و إلا فهو لغو، بل قد يكون قبيحا و اللّه تبارك و تعالى منزه عن الترغيب إليه.

و يرد: بأن التحذر نحو من الاحتياط و هو حسن إن لم يكن مانع عنه و لا

ص: 109

دليل على وجوب كل ما كان حسنا.

الثاني: أنه غاية للإنذار الواجب و غاية الواجب واجبة و إلا ألغي الواجب.

و يرد: بأنه كذلك في الغاية المنحصرة لا المتعددة، كما في المقام، لأن الغاية الأولى إتمام الحجة من اللّه تعالى، تحذر أحد بالإنذار أو لا، و التحذّر أيضا غاية اخرى، و مع عدم وجوب الأخير لا يلزم لغوية الإنذار لترتب إتمام الحجة عليه، فلا بد في إثبات وجوبه من إقامة دليل آخر حينئذ.

و أما الإشكال عليه: بأنه واجب لو ثبت الإطلاق في الإنذار و التحذّر، و لو لم يحصل العلم من قول المنذرين.

فمردود: بأن تقييد الإنذار و التحذّر بصورة تحقق العلم خلاف السيرة العقلائية في إنذاراتهم و تحذراتهم، فيكتفون فيها بمطلق الوثوق و الاطمئنان النوعي - كما لا يخفى - فيدخل الخبر الموثوق به الذي هو محل الكلام فيها.

الثالث: إنا لا نجد فائدة للإنذار إلا وجوب التحذر، فلو لم يجب يصير لغوا.

و يرد عليه: ما ورد على سابقه.

ثم إن المراد بالإنذار الأعم مما كان نفس الكلام دالا عليه بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام، فيشمل جميع أقوال الفقهاء و المبلغين مطلقا، لثبوت الحذر في مخالفتهم و لو بالملازمة العرفية.

الاستدلال بآيتي الكتمان و السؤال و آية الاذن

و منها: آيتا الكتمان و السؤال: بدعوى: أن حرمة الكتمان و وجوب السؤال يستلزمان وجوب القبول، و إلا يكونان لغوا.

و يرد عليه: بأنه كذلك مع انحصار الفائدة فيهما لا مع عدم الانحصار - كما مرّ - و من أهم فوائدهما تمامية الحجة و ظهور الحق، فلا بد في إثبات وجوب القبول من إقامة دليل آخر.

و يمكن أن يقال بالملازمة العرفية بين وجوب الإنذار و وجوب السؤال

ص: 110

و حرمة الكتمان و وجوب القبول، فتتم دلالة الآيات الثلاث على اعتبار خبر الواحد.

و بعبارة اخرى: العرف و أهل المحاورة يفهمون من الآيات الثلاث لزوم ترتيب الأثر على الخبر في مواردها.

و منها: آية الاذن حيث مدح اللّه تعالى نبيه على تصديق المؤمنين، و لو لا حسنه لما مدحه.

و يرد عليه.. أولا: أنه ليس كل حسن واجبا، كما هو المبحوث عنه في المقام.

و ثانيا: أن التصديق لأجل تأليف القلوب ظاهرا أمر، و التصديق بمعنى وجوب ترتيب الأثر أمر آخر، و الآية تبين الأول و مورد البحث هو الثاني، فلا ربط لأحدهما بالآخر، و يشهد لذلك اختلاف حرف التعدية في ذيل الآية: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ .

الأخبار المتواترة إجمالا الدالة على اعتبار خبر الواحد:

قد صرح صاحب الوسائل في خاتمته بتواتر الأخبار في حجية خبر الثقة.

و هو حق لأن من راجع الباب السابع و الثامن و التاسع من كتاب قضاء الوسائل يعلم بتواتر الأخبار إجمالا، الدالة على اعتباره بطرق مختلفة و أنحاء شتى.

فتارة: بالإرجاع إلى الرواة و العلماء.

و اخرى: بإرجاع بعض أصحابهم عليهم السّلام إلى بعض آخر منهم.

و ثالثة: بالإرجاع إلى كتب بني فضال.

و رابعة: بالأخذ بما وافق الكتاب.

و خامسة: علاج المتعارضين بالأخبار العلاجية.

ص: 111

و سادسة: بالترغيب إلى الحديث و ضبطه إلى غير ذلك.

و من مجموعها يستفاد استفادة قطعية أن اعتبار خبر الموثوق به كان مفروغا عنه لدى المعصومين عليهم السّلام و أنهم يرغّبون الناس عليه و يقطع برضائهم بذلك، بل يستفاد منها نهاية اهتمام الأئمة بنشر أحاديثهم بأي وجه اتفق، و من أي شخص كان بعد ثبوت أصل الوثوق بالصدق.

الإجماع و السيرة على اعتباره:
اشارة

أما الأول فادعي القولي و العملي منه على اعتباره.

و يمكن الخدشة فيه: بأنه إما ناشئ عن مرتكزاتهم العقلائية، فيرجع إلى السيرة، أو مما وصل إلينا مما مرّ من طوائف الأخبار فيرجع إليها، فلا يكون دليلا مستقلا في مقابلها.

و لكنها مدفوعة: بأن الإجماع إجماع حقيقي حصل إتماما للحجة و تأكيدا لها، فلا وجه لهذه الخدشة.

و أما الأخيرة فلا ريب في ثبوتها من المسلمين بل العقلاء كافة في جميع الأعصار و الأمصار و المذاهب و الأديان، فيعملون بأخبار الثقات في معادهم و معاشهم فهي من الحجج العقلائية لدى الكل، فالحجية عندهم قسمان: ذاتية، كالقطع. و عقلائية، كخبر الثقة و نحوه و كان ذلك بمرأى من المعصومين عليهم السّلام و مسمع منهم و لم يثبت عنهم الردع، بل لا يمكنهم ذلك لاختلال إبلاغ الأحكام خصوصا في الشريعة الباقية إلى يوم القيام، فقد جبلت الطباع و العقول بتلقي خبر الموثوق به بالقبول و لو لم يكن مطلوبا لدى الشارع، لوجب التنصيص بالردع في مثل هذا الأمر العام البلوى، فيكفي عدم التنصيص بالردع في القبول، فكيف بدلالة أخبار متواترة إجمالا عليه؟!

ص: 112

فلا وجه لما يتوهم من كفاية الآيات الناهية عن اتباع غير العلم و العمل بالظن للرد كما مر سابقا، لأن الحجج العقلائية علم عقلائي فلا تشمله الآيات، مضافا إلى أنها وردت للنهي عن اتباع غير العلم في اصول الدين، مع أن إثبات الردع بها مستلزم للدور، لأن الردع بها متوقف على إطلاقها و شمولها لمورد هذه السيرة، و هو متوقف على عدم تخصيصها بالسيرة، و عدم التخصيص متوقف على كونها رادعة عن السيرة. و إلا لكانت مخصصة لها فيلزم توقف كونها رادعة على كونها رادعة، و هو دور ظاهر.

إن قلت: ظهورها في الإطلاق و الشمول مما لا ينكر فهي تامة الاقتضاء من هذه الجهة. و أما السيرة فاعتبارها معلقة على عدم الردع، فتكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية و الاعتبار.

الردّ على السيرة و الجواب عنه

و بعبارة اخرى: عموم الآيات فعلي منجز، و حجية السيرة اقتضائية و معلّقة، و لا ريب في تقديم الفعلي المنجز على الاقتضائي المعلّق.

قلت: مدرك اعتبار الإطلاق و الشمول ليس إلا بناء العقلاء، و لا بناء منهم على الإطلاق و الشمول في ما كانت سيرتهم على خلافهما، هذا مع أن القياس - الذي ليس مثل السيرة مورد الابتلاء - ورد النهي عنه، فلو كان خبر الموثوق به غير معتبر لدى الشارع، لزم عليه أن يؤكد النهي عنه بالخصوص بطرق شتى، لكونه من أهم موارد الابتلاء، و لا يكفي فيه مجرد العموم و الإطلاق الذي يشكل شمولها لها.

إن قلت: إن اعتبار خبر الثقة بالسيرة يكون دوريا أيضا لتوقّف اعتباره على اعتبار السيرة، و هو موقوف على عدم الردع، و هو موقوف على تخصيص العمومات الناهية عن العمل بغير العلم بالسيرة، و لا تكون تلك العمومات رادعة عنها قطعا، و التخصيص موقوف على عدم الردع، فيكون بالآخرة عدم الردع موقوفا على عدم الردع.

ص: 113

قلت: التوقف في المقام ليس بحسب مقام الواقع و الثبوت، بل في مقام الإثبات فقط، لأن اعتبار خبر الثقة موقوف على السيرة، و اعتبارها موقوف على عدم إحراز وصول الردع بعد الفحص، و قد احرز ذلك بالفحص اللازم و لم نطلع عليه.

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بوجوه عقلية و الجواب عنها، الفرق بين الانسداد الصغير و الانسداد الكبير

ثم إنهم قد استدلوا على اعتبار خبر الواحد بوجوه عقلية يرجع بعضها إلى بعض، و جميعها إلى دليل الانسداد الصغير الذي يكون الفرق بينه و بين الانسداد الكبير - الآتي ذكره - أن الأخير يستدل به لحجية مطلق الظن، و بالنسبة إلى كلية أحكام الشريعة، و يستدل به لحجية بعض ما يتعلّق بها، كخبر الواحد، و قول اللغوي، أو المفسّر، أو اعتبار الظن بالقبلة و نحو ذلك مما يتعلّق بالأحكام الشرعية في الجملة.

منها: إنا نعلم بصدور أخبار مشتملة على الأحكام الشرعية، ابتلائية كانت أو غيرها، بحيث يكون احتمال التكليف في غير تلك الأخبار من الاحتمال غير المنجز، و حينئذ فمع عدم إمكان الاحتياط أو تعسره و بطلان الرجوع إلى الاصول - على ما سيأتي - وجب الأخذ بمظنون الصدور و هو الخبر الموثوق به.

و يرد: بأن وجوب العمل بشيء من جهة الاحتياط أمر، و حجية الشيء بحيث يصلح للتخصيص و التقييد و الاستناد إليه أمر آخر، و المقام من الثاني، و الدليل يثبت الأول و لا ربط لأحدهما بالآخر. و يمكن تقرير هذا الوجه بنحو آخر، لأن العلم بالأخبار من حيث هي لا موضوعية فيها، بل تكون طريقا إلى العلم بالأحكام الشرعية، فيرجع هذا الوجه إلى ما يأتي من الوجهين.

و منها: أن بقاء التكليف إلى يوم القيام مما يعرفه الخاص و العام، و الفراغ منه لا يحصل إلا بالعمل بالأخبار، و مع فقد العلم بالصدور وجب الأخذ بمظنونه.

و يرد عليه: ما ورد على الوجه السابق من أن الحجية شيء، و الأخذ من

ص: 114

باب الاحتياط شيء آخر، و المطلوب هو الأول، و الدليل على فرض تماميته يثبت الأخير.

و منها: إنا مكلفون بالرجوع إلى السنة الباقية التي هي عبارة عن الأخبار الآحاد، فمع عدم العلم بالصدور لا بد من الأخذ بمظنونه.

و فيه: أنه عين الوجه السابق، إذ لا موضوعية للأخبار من حيث هي، و المدار على الأحكام و الأخبار طرق إليها، فيرد عليه ما ورد عليه، فترجع الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد.

مع أنه مضافا إلى ما مرّ أنه بعد فقد العلم لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمظنون دفعة، بل لا بد من الأخذ بالمتيقن، و مع عدم الكفاية، فالمتيقن بالإضافة إلى أن تصل النوبة إلى الظن بالآخرة، و ربما يأتي ما ينفع المقام في بيان الانسداد الكبير، و الظاهر أن اعتبار خبر الثقة أوضح من أن يستدل عليه بمثل هذه الامور الواهية.

نتائج البحث:
الاولى: أن النزاع في اعتبار الخبر الواحد صغرويا لا أن يكون كبرويا

الاولى: النزاع في اعتبار خبر الواحد الموثوق به صغروي لا أن يكون كبرويا، إذ الوثوق و الاطمئنان النوعي العقلائي معتبر لدى الكل، و النزاع في أنه موجب لهما أو لا، و أن أي قسم من أقسام الخبر موجب لهما؟! فالمحققون يقولون: إن مجرد الوثوق بالصدور من أي جهة حصل يكفي، و الحق معهم.

و بعض القدماء يقول باعتبار العلم بالصدور، فإن كان مرادهم به العلم العادي الذي يشمل مطلق الوثوق و الاطمئنان أيضا، فلا نزاع في البين أصلا. و إلا فلا دليل لهم على مدعاهم، بل الدليل على الخلاف، كما مرّ.

و من ذلك يظهر أنه لا وجه لتقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة - الصحيح

ص: 115

و الموثق و الحسن و الضعيف - المعروفة.

ثم إن الظاهر اعتبار الخبر الموثوق به مطلقا - سواء كان مفاده الأحكام الفرعية أو غيرها من المعارف، أو الأخلاقيات، أو القصص و الحكايات و التكوينيات و نحوها - لشمول الدليل للجميع بلا مانع في البين.

الثانية: العدالة في الراوي طريقية لا أن تكون موضوعية

الثانية: العدالة المعتبرة في الراوي طريقية لإحراز صدقه في المقال، لا أن تكون لها موضوعية خاصة، كما في إمام الجماعة، و القاضي، و المفتي و نحوهم، فالمناط كله فيه صدقه في المقال، عادلا كان في سائر اموره أو لا، إماميا كان أو لا، و يشهد له مضافا إلى وضوحه، قوله عليه السّلام: «لحديث واحد تأخذه عن صادق خير من الدنيا و ما حملت من ذهب و فضة».

الثالثة: مراتب الوثوق و الاطمئنان

الثالثة: للوثوق و الاطمئنان مراتب متفاوتة، كما أن للعلم أيضا كذلك، و يكفي في الاعتبار حصول أول مرتبة منهما، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه، بل مقتضى سهولة الشريعة و الإطلاقات و العمومات المرغبة إلى أخذ الأخبار عدم الاعتبار، فأي إطلاق أوضح و أجلى من وصية الصادق عليه السّلام لشيعته: «أيتها العصابة عليكم بآثار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى»، و قوله عليه السّلام: «تزاوروا فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم و ذكرا لأحاديثنا»، و قول الرضا عليه السّلام: «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه.. إلى أن قال: و نقل أخبار الأئمة إلى كل صقع و ناحية» إلى غير ذلك من الأخبار الظاهرة في كفاية أول مرتبة الوثوق و الاطمئنان من أي وجه حصل، لأن سنخ هذه الأخبار في مقام التوسعة و التسهيل و بث الأحاديث بكل وجه أمكن.

الرابعة: الكلام في اعتبار تضعيفات بعض علماء الرجال

الرابعة: لا اعتبار على تضعيف من كان جامدا على الظواهر، و لا بتضعيف الزاهد المتقشف لاعتقاده أن كل من ليس كنفسه فهو ضعيف، و لا بمن سقط تضعيفه لكثرة اهتمامه به، كتضعيفات ابن الغضائري الذي قالوا فيه: إنه لا يسلم أحد من قدحه و لا ثقة عن جرحه، بل المناط فيه على تضعيف الفقيه الجامع

ص: 116

للشرائط المعتدل الفهم المتتبع في الفقه، المأنوس بمذاق الأئمة عليهم السّلام و بكيفية معاشرتهم مع العامة، و كثرة اهتمامهم بنشر الأحكام و لو بواسطة غير شيعتهم و ترى بالوجدان أنه ربما يكون الفاسق أسرع في نشر الخبر من العادل المتعبد المشغول بتزكية نفسه. و قد وثّق ابن عقدة، و المفيد، و ابن شهرآشوب و الطبرسي أربعة آلاف رجل من أصحاب الصادق عليه السّلام، و مع توثيقهم لهؤلاء و هم من أعاظم المتتبعين في تلك الطبقة فكيف ينبغي أن يؤخذ بتضعيف كل أحد؟! خصوصا من كان في أول مراجعته و تدوينه للرجال، و عن بعض المتتبعين دعوى أصالة الصدق في رواة الأحكام إلا ما خرج بالدليل، كأصالة الصحة في أفعال الأنام كذلك.

ثم إن التضعيف و الجرح لا بد و أن يرجعا إلى جهة الصدق فقط، إذ لا موضوعية للعدالة في الراوي، و إنما هي طريق لإحراز الصدق فقط، و الجرح و التضعيف من سائر الجهات إن رجعا إلى التكذيب بالملازمة العرفية أو الشرعية أو العقلية فهو، و إلا فلا أثر لها، و من ذلك تنسدّ أبواب كثير من التضعيفات و الجرح، كما لا يخفى.

الخامسة: تحقيق الكلام في أقوال الرجال بالنسبة إلى الرواة

الخامسة: من تتبع أقوال علماء الرجال قدس سرّهم يرى أن اهتمامهم بالتضعيف أكثر من اهتمامهم بالتوثيق، بل ربما يرى من بعضهم الحرص على ذلك، و لعله لما ارتكز في أذهانهم من أصالة عدم الحجية، و لم أر من الأئمة عليهم السّلام و لا من خواص أصحابهم بل و لا من جميع أصحابهم هذا النحو من الاهتمام بالنسبة إلى نقل الحديث في ما تفحصت عاجلا، بل مقتضى إطلاق قولهم عليهم السّلام:

«اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا»، و إطلاق قولهم عليهم السّلام: «رحم اللّه امرءا أحيا أمرنا. قلت: و كيف يحيي أمركم؟ قال عليه السّلام: يتعلّم علومنا و يعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا»، و إطلاق موثق الحلال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: الجل من أصحابنا يعطيني الكتاب و لا يقول: اروه عني

ص: 117

يجوز لي أن أرويه عنه؟ فقال عليه السّلام: إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه»، و قول الصادق عليه السّلام: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدّثكم، فإن كان حقا فلكم، و إن كان كذبا فعليه». و قول أبي جعفر عليه السّلام في صحيح الحذاء: «و اللّه إن أحب أصحابي إليّ أورعهم و أفقههم، و أكتمهم لحديثنا، و إن أسوأهم عندي حالا و أمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا و يروى عنا فلم يقبله اشمأز منه و جحده و كفر من دان به، و هو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج و إلينا اسند، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا»، و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في المستفيض نقله بين الفريقين: «نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها و حفظها، و بلّغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» إلى غير ذلك مما لا يحصى. و مقتضى ذلك كله أن يكون الاهتمام بالتوثيق و العناية به أكثر بمراتب من التضعيف، فيحكم بالضعف في خصوص ما لم يكن للوثوق طريق إليه أصلا، فيكون مقتضى هذه الإطلاقات المتواترة إجمالا اعتبار كل خبر اسند إليهم عليهم السّلام إلا ما ثبت كذبه.

و عن بعض دعوى أصالة الصدق في أصحاب المعصومين عليهم السّلام نبيا كان أو إماما، بل أصالة الصدق في أتباع الشخص مطلقا، فالأصل العقلائي لجريان السيرة على استفادة آراء الشخص و آثاره و أقواله من أتباعه بلا شبهة فيه و لا ترديد مع ترتيب الأثر عليه.

السادسة: بيان المراد من الوثوق و الصدق المعتبرين في الراوي

السادسة: الوثوق و الصدق من الامور المشككة التي لها مراتب متفاوتة.

فأول مراتبها ظهور حال الراوي الذي يكون في مقام الاستناد مع التفاته - و لو ارتكازا - بأن قوله يصلح لأن يكون منشأ للأثر مع عدم أمارة على كذبه، و بذلك يثبت أول مرتبة الصدق و الوثوق، فيشمله إطلاق ما دلّ على اعتبار خبر الصادق و الموثق، مضافا إلى السيرة العقلائية على الاعتبار أيضا، إذ لم نر منهم التأمل في القبول بعد تحقق مثل هذا الظهور لهم.

ص: 118

إن قلت: فعلى هذا تقبل رواية مجهول الحال، فيرجع البحث إلى أن ظهور الكذب مانع عن القبول، لا أن يكون الصدق و الوثوق شرطا له، مع أنه لا تشمله الإطلاقات، لأنه من التمسك بالعام في الموضوع المشتبه، و المتيقن من السيرة العقلائية خلافه.

قلت: إن كان المراد بالمجهول - كما اصطلحوا عليه - من لم يعرف عقيدته و إن كان موثوقا به، فلا ريب في قبول خبره، لقبول خبر الموثوق به و إن كان فاسد العقيدة فضلا عما إذا لم تعلم عقيدته. و إن كان المراد به الجهل بوثاقته و صدقه في مقاله من جهة شيوع القدح فيه، فالظاهر سقوط ما مرّ من ظهور حال الراوي بالنسبة إليه، فلا وجه للقبول، و حينئذ فمقتضى إطلاق الأدلة اللفظية و السيرة ترتيب الأثر على خبر من أمكن تحقق أول مرتبة الوثوق بالنسبة إليه، و هذا هو مقتضى سهولة الشريعة أيضا، كما أن مقتضى الإطلاقات ترتيب آثار العدالة على من اتصف بأول مرتبتها، و لا يعتبر الاتصاف بما زاد عليها، كما هو أوضح من أن يخفى.

ثم إنه لو احرز الوثوق بالصدور من قرائن اخرى تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى، يقبل خبر من عرف بالكذب فكيف بمجهول الحال.

و من ذلك يظهر أن بعض مراتب الضعف لا تنافي بعض مراتب الوثوق و الصدق، فلا وجه لطرح كل ضعيف خصوصا بالنسبة إلى جملة كثيرة من التضعيفات، كما هو معلوم على الخبير.

السابعة: مورد اعتبار التوثيق

السابعة: عمدة ما نحتاج إلى التوثيق فيه إنما هو الواجب و الحرام نفسيا كان أو غيريا، لبناء العلماء في غيرهما على المسامحة في السند، و دواعي الكذب فيهما قليلة جدا، خصوصا مع بناء المعصومين عليهم السّلام و الثقات من الرواة على تفضيح من يشم منه رائحة الكذب فيها. و قد شاع من عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و في زمان المعصومين عليهم السّلام القول بوجود الكذابين، و لنفس هذه الإشاعة أثر مهم في

ص: 119

الاهتمام بالحديث نقلا و ضبطا و ناقلا و منقولا عنه و منقولا إليه، و إظهارا لكذب المفترين و الكاذبين مهما تيسر ذلك، بحيث يصح أن يقال: إن الكذب في الاستناد كان ملازما لظهور الكذب و فضيحة الكاذب. و يمكن تأسيس أصل معتبر، و هو أصالة عدم تعمد المسلم في الكذب على النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، و لا وجه لذكر السند في غير الواجبات و المحرمات بعد فرض الاعتماد على المتن و تسامح العلماء فيه. و أما الواجبات و المحرمات فهما محفوفتان بقرائن معتبرة، يحصل منها الوثوق بالصدور خصوصا بين المتأخرين الذين بذلوا جهدهم في تهذيب الفقه عن الأخبار الضعيفة و الروايات النادرة، فلا ثمرة في تعيين طبقات الرجال بعد كون متن الحديث موثوقا به من سائر الجهات.

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور كثيرة جدا خصوصا في زمان ظهور المعصومين عليهم السّلام و أوائل الغيبة الصغرى، و ليست منحصرة في الوثوق بالرواة فقط، و قد جمع جملة منها شيخنا المحدث العاملي قدّس سرّه في الفائدة الثانية من خاتمة الوسائل، و هناك موجبات اخرى يستخرجها الفقيه المتتبع.

التاسعة: كلام في حال الرواة

التاسعة: نسبة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المعصومين عليهم السّلام إلى من يروي عنهم نسبة المعلم إلى المتعلم، و هكذا النسبة بين كل طبقة سابقة و الطبقة اللاحقة الذين يتلقون الأحاديث عنهم، و مقتضى العادة و السيرة أن المتعلم لا يكذب على المعلم فيما يتعلم منه و إن فعل ذلك لشاع و ظهر، كما أن مقتضى العادة أن لكل مذهب و ملة أقواما مخصوصين في كل عصر و زمان يهتمون بحفظ ما يتعلّق بذلك المذهب و يدافعون عمن يريد الدس و الافتراء فيه، و هذه العادة جارية في مذهب الإمامية، بل على نحو أشد و أمتن فإنهم المعروفون بالثقة و الصلاح و لا يدخل فيهم من كان خارجا عنهم إلا و يظهر حاله في مدة قليلة، كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة. هذا مع قطع النظر عن عناية اللّه تعالى بالشريعة الختمية و المذهب العدل، فإن المقطوع به من عناياته الخاصة، أنه تعالى يوفق

ص: 120

في كل عصر ثقات يحفظونها رواية و نقلا و اجتهادا و بحثا إلى غير ذلك مما له دخل في البقاء حتى يظهر الحق، و هذا الأمر المتعارف يكون من طرق إحراز الوثوق ما لم تكن قرينة على الخلاف.

العاشرة: وثوق الراوي على قسمين:

الأول: أنه موثوق به في مقاله.

الثاني: أنه مضافا إلى ذلك لا ينقل إلا عن الثقة، و هذا القسم كثير في رواياتنا. و لا يختص بخصوص الثمانية عشر نفرا الذين ادعي الإجماع على اعتبار مراسيلهم، كما ذكرناهم في مهذب الأحكام مع أن في اعتبار مثل هذا الإجماع بحثا، و يمكن أن يراد به اتفاق جمع من أهل الخبرة لا الإجماع المصطلح حتى يستشكل عليه.

الحادية عشر في الوثوق

الحادية عشرة: ما هو المعتبر في الوثوق إنما هو الوثوق من جهة - أي الصدق فقط - لا الوثوق من كل جهة، فلو كان الراوي غير موثوق به في نقل القصص - مثلا - و موثوقا به في نقل الأحكام الفرعية يقبل قوله في ما كان موثوقا به فيه.

الثانية عشرة: فى و التضعيف

يمكن أن تكون جملة كثيرة من التضعيفات من دسائس المعاندين، كما يصرحون في كتبهم القديمة و الحديثة من أن أحاديث الشيعة ضعيفة و مزورة. و التوجه إلى هذه الجهة يحتاج إلى فحص كامل في كتبهم. و مع ذلك توثيقنا لرجالنا لا ينفعهم كالعكس، و يا ليت العلماء بذلوا جهدهم في تطبيق أخبارنا مع أخبارهم النبوية، و الأخذ بالمتفق عليه بيننا و بينهم و هو كثير جدا مع اختلاف في العبارة، و بذلك ترتفع جملة من التفصيلات و الخلافات.

ثم إن جملة كثيرة من عبارات التضعيف لا ينبغي صدورها من العلماء، و قد كان المرجو منهم عدم التعرض لها إلا بعد الفحص و التثبت الأكيد.

ص: 121

الأمر الخامس الاجتهاد و التقليد
اشارة

من الحجج المعتبرة بين العقلاء كافة الاجتهاد و التقليد، و لا يختصان بفن دون فن، و لا بملة دون اخرى، بل يجريان في جميع الفنون و الصنائع و الملل، و هما من المبادئ لجميع العلوم، لأن كل علم يحتاج إلى الفكر و التأمل و هو إما اجتهادي أو تقليدي.

نعم لا يتصف علم الباري و ما أفاضه تعالى إلى أوليائه بهما، لأنه أجل من أن يتصف بالاجتهاد و التقليد، أما علم اللّه تعالى فلأنه عين ذاته و لا تدخل للفكر فيه، بل يستحيل ذلك عليه تعالى، لأنه ملازم للجهل. و أما علم الإمام عليه السّلام فلأنه إفاضي بلا ترتيب مقدمات الفكر، و عمله عليه السّلام صحيح و إن كان لا عن اجتهاد و لا تقليد و لا احتياط، بخلاف عمل غيره عليه السّلام فإنه لا بد و أن يكون عن واحد منها.

تعريف الاجتهاد و التقليد:
اشارة

لم يرد لفظ الاجتهاد - بما هو المعروف في الاصول و الفقه - في الكتاب الكريم و لا في نصوص المعصومين عليهم السّلام، بل و لا أثر له في كلمات القدماء قدس سرّهم و إنما حدث في الطبقات الأخيرة، فلا وجه للنقض و الإبرام على ما قيل في تعريفه. مع أنه من الشرح اللفظي فقط، و الإشكال على الشروح اللفظية ليس من دأب العلماء.

و المعروف أنه: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم.

ص: 122

آراء العلماء في الاجتهاد. و ما يعتبر في الاجتهاد

و فيه: أنه إن كان المراد به الغالب فله وجه، و إلا فلا تنحصر الأحكام بخصوص المظنونات، بل تشمل اليقينيات و المسلّمات.

كما أن تعريفه بأنه: استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم.

مخدوش: أيضا، إذ لا يشمل جميع موارد المعذورية في ترك الواقع، إذ ليس فيها حكم إلا أن يعمم الحكم إليها أيضا.

و لا بد و أن يفسر أصل الاجتهاد بتفسير كلي يشمل جميع العلوم، و يذكر فيه قيد خاص مختص بالعلم المطلوب فيه الاجتهاد، كما هو الشأن في كل تعريف له صغريات كثيرة.

و لعل الأولى تعريفه: بأنه بذل الطاقة في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار الشارحة للكتاب.

ثم إنه قد نسب إلى بعض تحريم الاجتهاد، فإن أراد به القياس و الاستحسان و الرأي في مقابل المعصوم عليهم السّلام، فلا يذهب أحد من الإمامية إلى جوازه، و إن أراد تحريم بذل الطاقة البشرية في تحصيل الوظائف الدينية من الأخبار المعصومية الشارحة للكتاب الكريم، فلا يتوهم أحد مرجوحيته فكيف بحرمته، لأن الاستفادة من الظواهر و ردّ متشابهات الأدلة الى محكماتها، و الجمع العرفي - المقبول لدى العقلاء بين مختلفاتها - من الفطريات البشرية غير المختصة بمذهب و ملة.

ثم إن مقتضى الأصل عدم حجية الرأي و نفوذ الحكم إلا في ما دلّ عليه الدليل بالخصوص، فيعتبر في الاجتهاد جميع ما يحتمل دخله فيه، و لكن مقتضى إطلاق مثل قوله عليه السّلام: «انظروا إلى رجل منكم نظر في حلالنا و حرامنا»، و قوله عليه السّلام: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»، كفاية ما له دخل في فهم المراد من الكلام و في الاستظهارات العرفية من الأدلة، كاللغة و العلوم الأدبية في الجملة، و ما له دخل في حصول الوثوق بصدور الأخبار، و لا

ص: 123

يعتبر فيها الاجتهاد، بل يكفي حصول الاطمئنان من الرجوع إلى أقوال خبراء الفن، كما استقرت عليه سيرة الفقهاء قديما و حديثا، و لو اعتبر الاجتهاد في مباديه لتعذّر حصوله عادة في هذه الأعمار المتعارفة، و قد جرت السيرة على الاهتمام بصناعة الاصول، لأنه مجمع مبادئ الاجتهاد و مؤلف متفرقاتها، و قد ذكرنا في الجزء الأول عند تعريفه أنه: بداية الاجتهاد و نهاية العلوم الدخيلة في الاستنباط و إن اشتملت على ما ليس فيه ثمرة عملية بل و لا علمية معتنى بها، كجلّ مباحث الوضع و الصحيح و الأعم، و المشتق، و اتحاد الطلب و الإرادة، و بحث الانسداد و نحوها مما هو كثير كما هو واضح على الخبير.

و يكفي في الاجتهاد من الاصول الإحاطة بالمسلّمات و المشهورات بين العقلاء و العلماء و ما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، و لا عبرة بالدقيات العقلية و الاحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها، كما لا يعتبر إبداء الرأي المسبوق بالعدم في الاصول، لأن الآراء محصورة بين النفي و الإثبات، بل يكفي الإذعان الاعتقادي عن تأمل و اجتهاد بما هو المألوف بين أهل المحاورة في كيفية الاحتجاج و الاستظهار، و تأليفات الفقه الاستدلالي في هذه الأعصار و ما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الاصول، و يمكن أن يعد الزائد عليه من الفضول. و من أهم المبادئ الفضائل النفسانية و العمل بما يوجب التقرب إلى الحضرة الربوبية و التجنب عما يسخطه، فإن جميع الإفاضات من حضرته و تمام العنايات من ناحيته، قال تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ، هذا بعض الكلام في أصل الاجتهاد.

ص: 124

التقليد
تعريف التقليد

التقليد هو جعل العامي وظائفه الدينية العملية في عنق المجتهد ليحتج على صحتها و فسادها، أو جعل المجتهد الوظائف العملية المجتهد فيها في عنق العامي ليعمل بها، أو هما معا و لا محذور في الجميع، و بحسب النتيجة عبارة عن مطابقة العمل لرأي من يصح الاعتماد عليه. و ما قيل: من أنه الالتزام بالعمل برأي المجتهد، أو هو العمل برأيه، كل ذلك من باب الغالب و المقدمية لمطابقة العمل مع رأي من يصح الاعتماد على رأيه، لا أن يكون لما ذكر موضوعية خاصة.

ثم إن دليل وجوب التقليد على الجاهل السيرة العقلائية، و إجماع الفقهاء، و الآيات مثل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، و الأخبار كما تقدم، و قد فصّلنا القول في ذلك في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

المطلق و المتجزّي:

و هما.. تارة: بالنسبة إلى الكيفية، أي: الاشتداد و الضعف في قوة الاجتهاد.

و اخرى: بالنسبة إلى الكمية، أي: الإحاطة بتمام أحكام الفقه كلها أو ببعضها. و لا اختصاص لهما بالفقه بل يجريان في جميع العلوم و الصنائع مطلقا.

أما المطلق في الكيفية و الكمية بحيث لم يمكن حصول قوة الاجتهاد فوقه كما و كيفية، فالظاهر امتناعه عادة، لعدم وقوف القوة و الاستعداد على حدّ خاص بالنسبة إلى شخص واحد فكيف بأشخاص متعددة، فكلما كثر بذل

ص: 125

الجهد و الطاقة تزداد تلك القوة كمالا فيهما، و لذا كثر الاختلاف في الفتوى حتى من فقيه واحد في مسألة واحدة، لاختلاف القوة في الشدة و الضعف و الإحاطة و عدمها.

نعم، لا ريب في وجود المطلق في الجملة في مقابل المتجزّي كذلك، كما لا ريب في حجية رأيه و نفوذ حكمه و جواز تقليده، لأنه القدر المتيقن من الأدلة، سواء كان من القائلين بانسداد باب العلم، أو قال بانفتاحه. أما على الأخير فواضح. و أما على الأول فلأن الانسداد لا ينافي صحة الاعتذار بالرأي و النظر، و هي تجتمع مع الجهل بالواقع و سدّ باب العلم عليه، كما في موارد الاصول العملية التي يصح الاعتذار بها شرعا و عقلا.

و أما المتجزّي: فالحق الموافق لوجدان كل عالم في كل علم إمكانه و تحققه خارجا، و مقتضى الإطلاقات و السيرة في الجملة نفوذ حكمه و حجية رأيه و صحة تقليده إلا إذا كان بحيث تنصرف الأدلة اللفظية عنه، و يشك في ثبوت السيرة فيه، فمقتضى الأصل عدم الاعتبار رأيه و نفوذ حكمه حينئذ.

ما يعتبر في مرجع التقليد:

منها: العلم على تفصيل تقدم.

و منها: الرجولية، و الحرية، و طهارة المولد إجماعا.

و منها: البلوغ و العقل، للإجماع على اعتبارهما، بل بناء العقلاء على اعتبار الثاني أيضا. و لو كان عاقلا فجنّ، فمقتضى الاستصحاب ببعض تقريراته الآتي في تقليد الميت، صحة البقاء على تقليده لو لا الإجماع على الخلاف، و عن صاحب الجواهر إرسال اعتبار جميع الشرائط حدوثا و بقاء إرسال المسلّمات، فراجع كتاب القضاء.

و منها: الإيمان، للقطع بعدم رضاء المعصومين عليهم السّلام برجوع شيعتهم إلى

ص: 126

غير فقهاء مذهبهم.

نعم، لو اجتهد في الفقه الجعفري في حال كونه مخالفا ثم استبصر، يصح تقليده إن كان واجدا لسائر الشرائط، و أما العكس فلا يجوز.

و منها: العدالة إجماعا.

و منها: مخالفة الهوى، لمرتكزات المتشرعة، و خبر الاحتجاج الدال عليها، و هي أخص من العدالة و يمكن الاستشهاد له بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لأن مقتضى المذهب عدم صدور الذنب منه، فيكون المراد بعدم اتباع الهوى الأهوية المباحة غير اللائقة بهذا المنصب، و لا ريب في سقوط مرتبة المتابع لها عن القلوب و عدم مناسبة متابعتها لمقام النبوة و الإمامة و فروعهما التي منها مرجعية الحكم و الفتوى.

و منها: الحياة على ما يأتي تفصيله.

و منها: حسن السليقة و العلم بمذاق الفقاهة على ما هو المتسالم عليه عند أهل الخبرة من الفقهاء، و أما النسيان و عدم الضبط فهما مانعان عن صحة التقليد، كما تعرضنا لجميع ذلك في مباحث الاجتهاد و التقليد و كتاب القضاء من (مهذب الأحكام)، فراجع.

ثم إنّه لا يخفى أن أصل التقليد فطري و ليس بتقليدي، و كذا شرائط صحته، فلو أفتى من فقد بعضها بعدم اعتبار ما فقده، لا يصح تقليده للشك في حجية قوله، و لا يجوز إثبات حجية قوله بقوله. بل لو أفتى الواجد بعدم الاعتبار يشكل اعتبار قوله إن شك العامي في الاعتبار، لأن المتيقن من مورد سقوط شك العامي خصوص الفرعيات المحضة فقط.

و أما شرائط صحة التقليد التي هي كالأصل و الأساس للفرعيات المحضة، فمقتضى الأصل عدم اعتبار قوله فيه مع الشك و التردد.

نعم، لو حصل اليقين من قوله بعدم الاعتبار يتبع لا محالة.

ص: 127

و بعبارة اخرى: هناك امور ثلاثة: الفرعيات المحضة، و الفطريات المحضة، و ما هو برزخ بينهما. و مورد التقليد هو الأول فقط، و شرائط صحة التقليد من الثالث.

ثم إن شئون الفقيه الجامع للشرائط ليست منحصرة في حجية الفتوى و نفوذ الحكم، بل له حجية وجودية أيضا و لو كان ساكتا، لأنه يصح أن يحتج به اللّه تعالى يوم القيامة، و يصح له أن يشتكي إلى اللّه تعالى من الجهال إن لم يرجعوا إليه في فهم الأحكام، و قد ورد في الحديث: «ثلاثة يشكون إلى ربهم يوم القيامة عالم لا يسأل عنه - الحديث -». كما أن له الولاية الانتظامية أي نظم دنيا البشر و سياساتهم نظما إليها، بشرط استيلائه على الكل في الكل و بسط يده على الحكم من كل حيثية و جهة. و قد ذكرنا القول في ذلك كله في المهذب.

التخطئة و التصويب:

لا ريب في أن بين المعلومات و الواقعيات مطلقا عموما من وجه، فرب معلوم مخالف للواقع، و رب واقع غير معلوم، و قد يتصادقان و لا اختصاص لذلك بعلم دون علم و فن دون آخر، فيجري في الفقه و غيره. و لازم ذلك هو صحة القول بالتخطئة في جميع العلوم - فقها كان أو غيره - و لا ينكره أحد، و إنما توهم التصويب في خصوص الأحكام الفقهية الظاهرية فقط، بدعوى: أن الإجزاء و صحة الاعتذار بها يستلزمان التصويب، و فساد هذه الدعوى أوضح من أن يخفى، لأن الإجزاء و صحة الاعتذار تسهيلا على الامة أعم من إصابة الواقع، كما في موارد جميع القواعد التسهيلية الامتنانية المجعولة في الشريعة، كقاعدة الصحة، و الفراغ و التجاوز، و الطهارة، و الإباحة و جميع الاصول التسهيلية.

نعم نفس أحكام الشريعة - سواء كانت في الكتاب أو في السنة - هي

ص: 128

أحكام واقعية بلا شبهة، و لكن الاجتهاد فيها أعم من إصابة الواقع و لو كان من الاجتهاد الصحيح، فضلا عما إذا كان من قياس أو استحسان أو نحوهما.

أقسام التصويب:

إن التصويب على أقسام:

الأول: انقلاب الوظيفة الظاهرية إلى الأنظار الاجتهادية في مقام الفعلية فقط لا في مقام الإنشاء الواقعي النفسي الأمري، فالوظيفة الفعلية الظاهرية كانت مطابقة للواقع لو تمت عليها الحجة و لم يكن الاجتهاد على خلافه، و إلا فتكون في مورد الاجتهاد و لو كان على خلاف الواقع و توجد حينئذ فيها المصلحة التداركية، و لا دليل على فساد هذا القسم من عقل أو نقل إلا ما يأتي مع بيان الإشكال فيه.

الثاني: تعدد الواقع المنشأ حسب تعدد الآراء الاجتهادية المختلفة.

و اشكل عليه.. أولا: بالإجماع على وحدة الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم و الجاهل و عدم تعدده.

و فيه: أن المتيقن منه الأحكام الكلية التي تدور عليها الشريعة، مثل وجوب أصل الصلاة و الزكاة و الحج و نحوها في الجملة. و أما الجزئيات الاختلافية التي تختلف حسب اختلاف الآراء فلا دليل على وحدتها في الواقع، بل مقتضى السيرة تعددها من مجتهد واحد في أوقات مختلفة، فكيف بالمتعددين من أهل الاجتهاد، فكل من هذه الآراء واقعيات اعتبارية في حدّ نفسها تشملها إطلاقات أدلة الحجج و عموماتها.

فالأحكام الواقعية..

تارة: واقعيات أولية حقيقية بني عليها أصل الشريعة المقدسة.

و اخرى: امتنانية تسهيلية ثانوية، كالأحكام الاضطرارية التي يطلق عليها

ص: 129

الواقعيات الثانوية، و هي مجعولة شرعا، فهي من الأحكام الإلهية بالاتفاق، فلتكن الاجتهاديات أيضا كذلك، أي أنها أحكام إلهية اقتضاها التسهيل و الامتنان على الامة و الرأفة بهم، و ليس ذلك مختصا بالأحكام الشرعية فقط، بل يجري في أنظار العلماء في جميع العلوم، سواء كان متعلّقها من الاعتباريات أو من الماديات، فكلما يقال فيها يقال في الاجتهاد في الأحكام أيضا.

و ثانيا: بتواتر الأخبار على وحدة الحكم الواقعي.

و فيه: إنه لم يظفر على خبر أو خبرين من تلك الأخبار فضلا عن المتواتر منها، و إن أريد بها أخبار الاحتياط فهي و إن كنت متواترة في الجملة لكنها أعم من المدعى، كما لا يخفى.

الثالث: أنه لا واقع أصلا إلا ما يراه المجتهد، فيكون رأيه موجبا لحدوث الواقع و تحققه مطلقا.

و اورد عليه.. أولا: بما أورد على الثاني من الإجماع و الأخبار المتواترة، و تقدم الإشكال عليه.

و ثانيا: بأنه لو لم يكن شيء موجود في الواقع لما صدق التفحص عنه و الاجتهاد فيه، و الاستنباط متقوم بالتفحص في الأدلة للظفر على الواقع.

و فيه: أن الاجتهاد و التفحص في المباني لأجل إحداث الرأي، كما في ذوي الرأي في جميع العلوم و الفنون، سواء كان الرأي تأسيسيا أو إمضائيا، و لا محذور فيه.

ثم إن القول بالتصويب مخالف لما رواه البخاري في صحيحه في الجزء التاسع باب الاعتصام بالكتاب و السنة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و ان اجتهد و اخطأ فله أجر واحد»، إذ لا فرق بين الحاكم و المفتي عندهم، إلا أن يقال: إن الحديث مختص بخصوص الموضوعات التخاصمية دون الأحكام، و لكنه تخصيص بلا وجه.

ص: 130

الأعلمية
اشارة

حق العنوان أن يعنون بالأفقهية تبعا للنصوص، كقول أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلماتنا»، و قوله عليه السّلام: «أفقههما في دين اللّه» إلى غير ذلك مما ورد فيه لفظ الأفقه، فراجع قضاء الوسائل. كما أن الحق أن يعنون هكذا: (أن مخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم منه و للاحتياط هل تكون مانعة عن تقليده؟)، إذ لا كلام لأحد في صحة التقليد في مورد التوافق في الفتوى أو الاختلاف مع كون فتوى العالم موافقة للاحتياط. و إنما الكلام في صورة واحدة و هي كون فتوى العالم مخالفة للاحتياط و مخالفة لفتوى الأعلم منه.

فنسب إلى جمع تعيين تقليد الأعلم حينئذ، و استدل..

تارة: بالإجماع المدعى عن المرتضى رحمه اللّه.

و فيه: أن مورده مسألة الخلافة العظمى دون التقليد و الفتوى، فراجع كتاب القضاء من (جواهر الكلام).

و اخرى: بالسيرة على الرجوع إلى الأعلم.

و فيه: أن دعوى ثبوتها على نحو الكلية غير معلومة إن لم تكن معلومة العدم.

و ثالثة: بقاعدة الاشتغال بعد كون المقام من التعيين و التخيير.

و فيه: أن التعيين كلفة زائدة يكون من الشك في أصل التكليف فيرجع فيه إلى البراءة، لأن المسألة خلافية، كما تقدم. و لكن الأحوط تعيين تقليد

ص: 131

الأعلم إن لم يكن مخالفا للاحتياط من جهة اخرى، كما أثبتناه في الفقه في كتاب (مهذب الأحكام).

الاستدلال على اعتبارها في المرجع و المناقشة فيه

و أما الاستدلال عليه: بأن رأي الأعلم أقرب إلى الواقع فهو من مجرد الدعوى، كما أن ما ورد في الأخذ بالأفقه عند تعارض الحكمين إنما هو في مورد الرجوع إلى الحكمين، فلا يشمل ما قبل الرجوع، فكيف بالتقليد، إلا أن يدعى العلم بعدم الفرق، و إثباته مشكل، مع أن المراد بالأفقه في تلك الأعصار المتأمل في الأحاديث في مقابل من يكتفي منها بمجرد الحفظ فقط، و كون المراد بها الأعلمية الاصطلاحية محل إشكال. و لعله لذلك لم يعبر العلماء بها، بل عبروا بالأعلمية.

و بعبارة اخرى: المراد بالأفقه فيها مطلق المجتهد، و المراد بغيره مطلق الحافظ للأحاديث.

أدلة عدم اعتبار الأعلمية و الردّ عليها

ثم إنه قد استدل على عدم اعتبار الأعلمية بوجوه مخدوشة، منها:

الإطلاقات و العمومات الدالة على الرجوع إلى العالم.

و فيه: أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

و منها: أن تشخيص الأعلم متعذر.

و فيه: أنه ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد و العدالة المعتبرة في إمام الجماعة و الشهود و نحو ذلك، فكل ما يقال فيهما يقال في تشخيص الأعلم أيضا.

و منها: جريان السيرة على الرجوع إلى العالم مع وجود الأعلم.

و فيه: أنه لم يحرز ذلك مع الاختلاف في الامور المهمة، و أي أمر أهمّ من الدين.

و منها: رجوع الشيعة إلى الرواة مع وجود الإمام عليه السّلام.

و فيه: أنه لم يكن من الرجوع التقليدي، بل كان مثل رجوع العوام إلى من

ص: 132

يعرف رسالة المجتهد مع وجود المجتهد بينهم. إلى غير ذلك من الوجوه التي هي ظاهرة الخدشة فراجع (مهذب الأحكام).

و يمكن جعل النزاع لفظيا، فمن منع عن الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل، أي في صورة إحراز الاختلاف في الرأي مع عدم موافقة رأي المفضول للاحتياط، و من جوّز أراد غير هذه الصورة.

فوائد:
الاولى: بيان المراد من الأعلم

الاولى: المراد من الأعلم من كان أجود فهما في تطبيق الفروع على مداركها، و أجود استنباطا للوظائف الشرعية عن مبانيها، و ليس المراد به الأعلمية المطلقة من كل جهة لانحصاره بالمعصوم عليه السّلام، بل المراد بها الأعلمية الإضافية.

الثانية: كيفية تحقق موضوع الأعلم

الثانية: لا ريب في تحقق موضوع تقليد الأعلم مع العلم باختلاف الفتوى تفصيلا! و أما مع العلم الإجمالي فيجب الفحص، لكونه منجزا و مع اليأس لا يتحقق موضوعه، لأن موضوعه إحراز الاختلاف في ما هو مورد الابتلاء، و المفروض عدم تحققه.

الثالثة: لو شك في اختلاف الأعلم مع غيره

الثالثة: لو شك في الاختلاف، فالظاهر صحة جريان أصالة عدم المخالفة، فيتحقق موضوع صحة تقليد العالم، لأن موضوعه عدم إحراز المخالفة و لو بالأصل، و لا موضوع لوجوب تقليد الأعلم، لأن موضوعه إحراز المخالفة و هو غير حاصل. و هنا فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه، فراجع.

ص: 133

تبدل الرأي:

و هو إما بالقطع على الخلاف، أو بغيره مما يكون معتبرا. و على كل منهما إما أن يكون الاجتهاد السابق قطعيا، أو ظنيا، أو بالاختلاف. و على الجميع إما أن يكون متعلّق الاجتهاد نفس الحكم، أو موضوعه، أو قيدا من قيوده. و على الجميع إما أن نقول بالطريقية المحضة، أو السببية الانقلابية، أو المصلحة السلوكية. و مقتضى الأصل في الجميع عدم الإجزاء إلا مع الدليل على الخلاف من إجماع أو غيره.

و يمكن أن يقال: إن من لوازم جعل اعتبار الاجتهاد و وجوب الرجوع إلى المجتهدين هو الإجزاء، لأن اعتبار قول المجتهد و الرجوع إليه جعل في مورد يلزمه التبدل غالبا بل دائما في الجملة، مع أنه لم يشر إلى حكم هذه المسألة العامة البلوى في خبر من الأخبار مع كثرة الابتلاء بها في جميع الأزمنة، و يقتضي الإجزاء سهولة الشريعة المقدسة أيضا.

تقليد الميت:
اشارة

قد ادعي الإجماع على بطلان الابتدائي منه، فإن تم و إلا فيشمله ما يدل على صحة البقاء عليه. و موضوع البحث في ما إذا خالفت فتوى الميت لفتوى الحي، و في مورد الموافقة لا ثمرة لهذا البحث أصلا، لتحقق مطابقة عمل العامي لرأي من يصح الاعتماد على رأيه و يصح عمله لا محالة، سواء قلنا بجواز تقليد الميت ابتداء و بقاء، أو لم نقل به.

و خلاصة الكلام أنه لا بد و أن يبحث من وجهين:

الأول: من جهة وجود المقتضي لتقليد الميت.

ص: 134

و الآخر: من جهة وجود المانع عنه.

أما الوجه الأول: فمقتضى الاصول الموضوعية - من أصالة حجية الرأي في حدّ نفسه، و صحة الاعتذار به، و أصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي استفادها من الأدلة، و أصالة بقاء حكمة الاعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام - صحة تقليد الميت ابتداء و البقاء عليه استمرارا، مضافا إلى الإطلاقات و العمومات كما تقدم من الآيات و الأخبار، و تقتضيه السيرة في الجملة أيضا، لاستقرارها على الرجوع إلى آراء الأموات ابتداء و بقاء في كل علم و فن و صنعة.

و اشكل عليه.. تارة: بأصالة عدم الحجية في مشكوكها.

و فيه: أنها من الأصل الحكمي، و الأصل الموضوعي مقدّم عليه. كما ستعرف، مع أنها محكومة بالسيرة و الإطلاقات و العمومات.

و اخرى: بزوال الرأي بالموت.

و فيه: أن الحياة منشأ حدوث الراي لا بقائه، و لا يدور مدار بقاء الحياة أبدا، لوجود آراء الأموات من العلماء عندنا خلفا عن سلف و يحتجون بها في جميع العلوم و الفنون، كوجود كلماتهم عندنا. فما الفرق بين حجية ظواهر كلماتهم و حجية آرائهم حتى تصح الاولى دون الثانية؟

و ثالثة: باحتمال كشف الخلاف بالموت.

و فيه: مضافا إلى أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يمنع عن جريان الأصل إن كشف الخلاف، و إنما يضر إذا كان بالطرق المألوفة الاجتهادية لا بغيرها.

و رابعة: بأنه لا يقين بالحكم السابق حتى يستصحب.

و فيه: أنه لا يحتاج اليقين بالحكم في مجرى الاستصحاب، بل يكفي اليقين بالوظيفة الظاهرية و صحة الاعتذار.

و أما الوجه الثاني - و هو وجود المانع - فالظاهر أنه منحصر بدعوى الإجماع..

ص: 135

تارة: على عدم الجواز مطلقا.

و اخرى: بأن الإجماع الدال على عدم الجواز لعروض الهرم و النسيان يدل على عدم الجواز لعروض الموت بالأولى.

و فيه: مضافا إلى أن هذه الإجماعات من الإجماعات الاجتهادية التي لا اعتبار لها أن المتيقن من الأول خصوص الابتدائي منه، لكثرة الاختلاف في الاستمراري، و لم تثبت الأولوية في الثاني لا عقلا و لا عرفا و لا شرعا، فلا بد من الاقتصار على مورده هذا، مع أن لنا أن نقول إنه حيث لا يجوز تقليد الميت ابتداء و لا بقاء إلا بالرجوع إلى الحي، يكون هذا التقليد تقليدا للحي فلا يبقى موضوع للإشكال أصلا.

ثم إنه يجري في تقليد الميت جميع ما يجري في الحي من تعينه إن كان أعلم، و التخيير بينه و بين غيره مع التساوي. و في هذه المباحث فروع كثيرة تعرضنا لها في الفقه فراجع.

اعتبار مطلق الظن:
الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه
اشارة

تقدم الكلام في الظنون الخاصة، و أما مطلق الظن فقد استدلوا على اعتباره بأمور..

أحدها: أن مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر
اشارة

، و دفع الضرر المحتمل واجب فكيف بالمظنون، فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجبا، و هو المطلوب.

و يرد عليه: أن الكبرى ممنوعة، لأنه إن اريد بالضرر فيه العقاب الاخروي، فالضرر العقابي الذي يجب دفعه منحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات البدوية قبل الفحص، و في غيرهما تجري قاعدة قبح

ص: 136

العقاب بلا بيان عقلا و البراءة شرعا، و ليس المقام منهما، و مع فرض كونه من أحدهما فصحة النتيجة متوقفة على تمامية باقي مقدمات الانسداد، لأنه حينئذ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى. و يأتي عدم تمامية دليل الانسداد.

و إن كان المراد به الضرر الدنيوي. فيرد عليه.
أولا: أن تبعية الأحكام مطلقا للمصالح و المفاسد الدنيوية تحتاج إلى دليل

و هو مفقود على نحو الإطلاق و العموم، و إن كان مما لا ينكر إجمالا.

و ثانيا: كل ضرر دنيوي ليس بواجب الدفع مطلقا،

بل السيرة العقلانية على الخلاف، فإن بناءهم على ملاحظة الجهات المرجحة، فربما يتحمّلون الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المتحمل بالنسبة إليها بحكم العدم.

نعم، لو كان الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية و يكون غالبا على جميعها، فلا ريب في وجوب دفعه حينئذ، و لا دليل على كون المقام منها إن لم يكن على عدمه.

و ثالثا: على فرض تحققه،

فما لم يدل دليل على أن الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات، كما في الآيات مثل قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ و الروايات، و هذا يجري في ما إذا كان الضرر المحتمل عقابا أيضا، فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام أصلا.

ثانيها: أنه من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة

و مع عدم العلم بها تفصيلا وجب الاحتياط، و مع تعسّره وجب الأخذ بالمظنون.

ثالثها: إنه بعد لزوم الأخذ بها في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون

، لزم ترجيح المرجوح على الراجح، و هو قبيح، فوجب الأخذ بالمظنون.

و يرد عليهما: أن كل واحد منهما مقدمة من مقدمات الانسداد الآتية، و لا

ص: 137

ينتج إلا بعد ضم سائر مقدماتها، فلا وجه لذكرها مستقلة.

رابعها: دليل الانسداد
مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها
اشارة

و هو مركب من مقدمات أغلبها قابلة للمناقشة، و لم يكن لهذا الدليل رسم في كتب المتقدمين و إنما حدث بين متأخر المتأخرين.

المقدمة الاولى:

العلم بتشريع أحكام في الشريعة، بل يكفي الاحتمال العقلائي لذلك.

المقدمة الثانية:

انسداد باب العلم و العلمي فيها.

المقدمة الثالثة:

عدم جواز إهمال الوقائع المثبتة للتكليف.

المقدمة الرابعة:

بطلان العمل بوظيفة الجاهل من العمل بالاحتياط و الاصول و الأخذ بفتوى الغير.

المقدمة الخامسة:

بطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

و مع صحة جميع هذه المقدمات تنتج حجية مطلق الظن لا محالة.

و لكن يرد عليها.. أولا: بأن حق بيان المقدمة الاولى أن يكون هكذا:

«نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيسا أو إمضاء، بحيث لو تفحّصنا و ظفرنا بها و رجعنا في غيرها إلى الاصول المعتبرة، لم يلزم محذور عقلي و لا شرعي أبدا، و قد تفحّصنا و ظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الاصول المعتبرة». و لا ريب في صحة هذه المقدمة، كما لا ريب في تحققها خارجا، و معها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلا، فتكون عقيمة رأسا، فلا وجه للبحث عن سائر المقدمات صحة و فسادا.

و ثانيا: أنه لا ريب في فساد المقدمة الثانية، لأن المراد بالعلم فيها إن كان مطلق ما يوجب الاطمئنان و سكون النفس - كما يكون المراد بالعلم في الكتاب و السنة ذلك - فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام، كما لا يخفى على العوام فضلا عن الأعلام. و إن كان المراد به ما هو المصطلح لأهل المعقول أي: ما لا

ص: 138

يحتمل فيه الخلاف أصلا، فهو و إن كان مسدودا في غير الضروريات، و المتواترات، و المسلّمات الفقهية، و ما استفاضت فيه الإخبار، أو نقل الإجماع، و موارد الإجماعات المتحققة. و لكن باب العلمي مفتوح في الأحكام إلى يوم القيامة بلا شبهة فيه و لا كلام هذا.

و لا ريب في صحة المقدمة الثالثة إما للقطع بأن إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع، أو للإجماع القطعي على عدم صحة الإهمال من الإمامية، بل من المسلمين، و إما لأن نفس العلم الإجمالي منجز عقلا، فلا يصح الإهمال لدى العقلاء. و هذه وجوه ثلاثة لتمامية المقدمة الثالثة، و قد ابتني عليها الكشف و الحكومة، فإن استند البطلان إلى أحد الأولين، فالنتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخس المقدمات، و لا ريب في كون كل واحد منهما شرعيا لا عقليا. و إن استند البطلان إلى الأخير تستنتج الحكومة، لكون جميع المقدمات - على فرض تماميتها - عقلية. و لكن هذا الابتناء ممنوع، لأنه بعد تحقق العلم الإجمالي و حكم العقل بعدم صحة الإهمال، لقاعدة دفع ضرر العقاب المعلوم، يكون حكم الشرع إرشادا إليه لا محالة، سواء كان دليله الإجماع القطعي، أو القطع بالمبغوضية لدى الشارع، كما في سائر موارد حكم الشرع مع وجود حكم العقل البتي. و لو كان المدرك تمام الوجوه الثلاثة لتعين الحكومة أيضا، لكفاية حكم العقل للمدركية، و تكون البقية إرشادا إليه.

و لا ريب في صحة المقدمة الرابعة أيضا، أما الرجوع إلى العالم فلفرض عدمه، إذ المفروض انسداد باب العلم و العلمي، و الرجوع إليه يكون من العلمي، هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم، بل لا وجه له بالنسبة إليهم، كما لا يخفى.

جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه

و أما الاحتياط فجملة القول فيه: أنه إما تام مخل للنظام، أو موجب للعسر و الحرج، أو لا يوجب شيئا منهما. و الأولان منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية

ص: 139

الامتثالات و يرون ذلك منكرا، بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر و الحرج فضلا عما أوجب اختلال النظام، و يكفي في ذلك عدم بلوغ الردع في الشريعة فكيف بالأدلة الكثيرة الدالة على أنه لا حرج في الدين، و إنه سمحة سهلة. و قد لاحظ الشارع الأقدس في جعله للأحكام قدرة الضعفة، لا سيما الشريعة الختمية المبنية على بيان المعارف و الأحكام و نشرها و تعليمها و تعلمها و التفقه فيها، و قد جرت سيرة الرواة و من بعدهم في كل طبقة على تبويبها و تفصيلها جزئية و كلية و اهتموا بذلك نهاية الاهتمام في كل عصر، و ذلك كله يلازم سقوط الاحتياط الموجب للعسر في كيفية الامتثال فكيف بما إذا كان مخلا للنظام.

و الحاصل: أن الامتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية، فيكون خلاف الطريقة الشرعية أيضا إلا مع التنصيص على الجواز، فكيف بالتصريح بالمنع.

نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه

و قال صاحب الكفاية: «إن أدلة نفي الحرج إنما تنفي الجعل الحرجي»، يعني لا يتعلّق جعل للشارع بالتكليف الحرجي، و لا تشمل الحرج الحاصل من ناحية الامتثال، لأنه لم يحصل من طرف الشارع.

و يرد عليه.. أولا: أنه لا حرج في الدين مطلقا، سواء كان في جعل أصل التكليف، أو في امتثاله لعموم دليل نفيه الشامل لهما معا، و يدلّ عليه صحيح ابن سنان حيث جعل عليه السّلام فيه الابتلاء بالوسوسة في الوضوء من الشيطان.

و ثانيا: بأن الامتثال الحرجي - خلاف الطريقة العقلائية - يكفي عدم ثبوت الردع فيه شرعا، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أن دليل نفي الحرج هل له الحكومة بالنسبة إلى الامتثال الحرجي أيضا أو لا. هذا كله مضافا إلى ما يأتي من عدم تنجز هذا العلم الإجمالي أصلا.

هذه خلاصة الكلام في الاحتياط المخل للنظام، أو الموجب للعسر و الحرج على الأنام.

و أما ما لا يوجبهما: فجملة القول فيه أنه لا دليل على وجوبه أصلا، لأن

ص: 140

دليل وجوبه منحصر بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الواقع، و لا أثر لهذا العلم الإجمالي أصلا.

أما أولا: فلأن الحق في بيان العلم الإجمالي أن يكون هكذا: «إنا نعلم إجمالا بتشريع أحكام في الشريعة، لو تفحصنا عنها لظفرنا بها في موارد الطرق المعتبرة، و قد تفحّصنا و اطلعنا عليها فيها فيزول العلم الإجمالي حينئذ رأسا»، فلا يبقى بعد ذلك موضوع لوجوب الاحتياط أصلا.

و أما ثانيا: فلأن هذا العلم الإجمالي غير منجز، لخروج جملة كثيرة من أطرافه عن مورد الابتلاء في كل عصر و زمان من أول البعثة إلى ظهور الحجة، إلا أن هذه الجملة تتبدل بحسب الظروف و الجهات الخارجية، كخروج أحكام العبيد و الإماء و نحوها في هذه الأعصار عن محل الابتلاء، و في أوائل الإسلام جملة مهمة منها غير الضروريات كانت خارجة عن مورد الابتلاء.

و بالجملة: الابتلاء و عدمه من الامور التدريجية الوجود و الانقضاء، كما لا يخفى على المتأمل.

الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج

إن قيل: العلم الإجمالي الكبير يكون كذلك، فلا تنجز له من هذه الجهة.

و أما الصغير - و هو الحاصل بين الأحكام الابتلائية - فلا ريب في تنجزه فيجب الاحتياط فيه، و هو المطلوب.

يقال: ينحل ذلك أيضا، و لا أثر له بسبب الأمارات المعتبرة و الضروريات و المسلّمات و غيرها، فلا تنجز للعلم الإجمالي بكبيره و صغيره، فلا وجه لوجوب الاحتياط و لا تبعيضه، كما لا يخفى. و قد استقصى صاحب الوسائل في كتابه المسمى ببداية الهداية: الواجبات بألف و خمسمائة و خمسة و ثلاثين، و المحرمات بألف و اربعمائة و ثمانية و أربعين، و الظاهر أنه قدّس سرّه عدّ جميع الشواذ و النوادر أيضا و استقصى ذلك نهاية الاستقصاء. و لا ريب في كفاية الأمارات و القواعد و الاصول المعتبرة بهذا المقدار، كما هو معلوم على الخبير البصير.

ص: 141

و أما ما عن الشهيد قدّس سرّه من أن واجبات الصلاة ألف، و كتب فيها كتابه «الألفية». فلا يخفى أن ابتلائيات الصلاة لا تبلغ إلى ذلك الحدّ كما هو واضح على من راجعها. و أما ما ورد من أن للصلاة أربعة آلاف حدّ، فلا بد من ردّ علمه إلى أهله، أو حمله على بعض المحامل. هذا ما يتعلق بالاحتياط.

الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه

و أما الرجوع إلى الاصول فإن كانت مثبتة للتكليف فلا محذور من الرجوع إليها حينئذ، و إن كانت نافية فقيل بعدم صحة الرجوع إليها إما لأجل استلزامه الخروج عن الدين، أو لأجل الإجماع على الخلاف، أو لأجل العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية في البين، فيلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله حينئذ في قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر»، كما يأتي بيانه. و لا مجرى لسائر الاصول معه أيضا، لاختصاصها بالشك البدوي دون المقرون بالعلم الإجمالي..

و يرد الأول: بأنه صحيح إن جرت الاصول النافية في جميع أحكام الشريعة أو في معظم الأحكام، و لا يقول به أحد بل لا يرضى به عاقل، لاختصاص مجراها لدى العقلاء بمورد فقد الأمارات و القواعد و الاصول المثبتة المعتبرة، و هي موجودة كافية. فيرجع في غير مواردها إلى الاصول النافية بلا محذور أبدا.

و يرد الثاني: باستقرار بناء الفقهاء في كل عصر إلى الرجوع إليها بعد الفحص و اليأس عن غيرها، و سيأتي أن نزاع الأخباري مع الاصولي نزاع صغروي، لا أن يكون كبرويا.

و يرد الثالث: بما مرّ غير مرة من سقوط هذا العلم الإجمالي عن التنجز بالمرة، فالمقتضي لجريانها في مورد فقد الأمارات - و هو الشك - موجود، و المانع عنه مفقود، فتجري الاصول النافية بلا محذور في البين.

إن قلت: عند تحقق الشك و الظن، مقتضى الفطرة الأخذ بالأخير، فلا

ص: 142

تصل النوبة إلى الأصل، فيصح استنتاج اعتبار مطلق الظن حينئذ.

قلت: نسلّم أن مقتضى الفطرة في الظنون الخاصة المعتبرة بالخصوص.

و أما مطلق الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل فاقتضاؤها للأخذ به و ترك الأصل الذي دل على اعتباره الأدلة ممنوع، كما لا يخفى.

و أما لزوم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله، فالجواب عنه إن محذور جريان الاصول النافية في أطراف العلم الإجمالي..

تارة: ثبوتي.

و اخرى: إثباتي.

أما الأول: فالقول بوجوب الاجتناب - مثلا - عن جميع الأطراف مقدمة للعلم، و عدم وجوب الاجتناب عن أحدهما محذور بنفسه، لا ينبغي صدوره عن عاقل فضلا عن الحكيم. و كذا عدم وجوب الاجتناب عن الأطراف جميعا، للأصل مع وجوب الاجتناب عن أحدها لا بعينه.

و أما الثاني: فإنه بناء على شمول اليقين في قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر» لليقين الإجمالي أيضا. فتقرير لزوم التناقض أن مقتضى الصدر حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الطرفين، و مقتضى الذيل حينئذ عدم حرمة نقض اليقين بالشك في مورد العلم الإجمالي، فيلزم التناقض.

و يرد عليه.. أولا: إمكان منع شموله لليقين الإجمالي فلا يلزم المحذور أبدا.

و ثانيا: على فرض الشمول إن اليقين الاجمالي إما أن يلحظ بالنسبة إلى يقين كل واحد من الطرفين بالخصوص الذي كان سابقا، ثم شك في البقاء، أو بالنسبة إلى مجموعهما من حيث المجموع، أو بالنسبة إلى المردد من حيث الترديد، أو بالنسبة إلى المعلوم واقعا و في علم اللّه تعالى.

ص: 143

أما الأول: فلا ريب في عدم اليقين بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين على خلاف اليقين الاستصحابي.

و أما الثاني: فلا ريب في عدم تحققه في الخارج حتى يكون مجرى الاستصحاب و يلزم التناقض بين صدره و ذيله، فإن مجراه هو الفرد الشخصي الخارجي دون المجموع من حيث المجموع الذي ليس إلا أمرا وهميا فقط.

و أما الثالث فلا تحقق له أصلا، إذ التحقق و الوجود مساوق للتشخّص في الجملة، و المردد من حيث هو لا تشخّص له رأسا. و أما الرابع فهو حق و لكنه ليس مجرى الاستصحاب في شيء حتى يلزم التناقض في دليله، إذ لا شك فيه مع أنه ليس له أثر عملي لفرض التردد الظاهري هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إن التنافي الثبوتي بين جريان الاصول النافية في الأطراف و العلم الإجمالي بالخلاف، يسري إلى مقام الإثبات أيضا، لمكان التلازم العرفي بينهما، كما هو أوضح من أن يخفى. و لعل هذا مراد من قال بلزوم التناقض أيضا أي التنافي بالعرض لا بالذات، فيصح أن يجمع بهذا بين الكلمات، فمن ينفيه يريد به ما بالذات، و من يثبته يريد ما بالعرض.

بيان المختار في دليل الانسداد
اشارة

فتلخّص مما مرّ: أنه لا نتيجة لدليل الانسداد أصلا، و على فرضها فهي تكون التبعيض في الاحتياط، لو فرض أن دائرة العلم الإجمالي بالأحكام تكون أوسع من موارد الأمارات، و القواعد، و الاصول المعتبرة فيعمل حينئذ بالاحتياط حتى يضعف العلم و تصير الأطراف عرفا كالشك البدوي، فيعمل بالاصول النافية حينئذ. فمن قال بأن النتيجة - على فرض التمامية - العمل بالاصول النافية.

أي بعد ضعف العلم الإجمالي و صيرورة أطرافه كالشك البدوي، و من قال بأن النتيجة التبعيض في الاحتياط أي قبل ذلك، فيصير هذا النزاع أيضا لفظيا بلا ثمرة، فراجع و تأمل.

ص: 144

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا

الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد - على فرض تماميتها - اعتبار الظن في المسألة الاصولية أي الحجية و الطريقية فقط، أو في نفس الأحكام فقط، أو فيهما معا.

و الحق سقوط هذا البحث من أصله لأن نفس دليل الانسداد من المسائل الاصولية، و المناط في المسألة الاصولية ما كانت مستلزمة لصحة الاعتذار، و حينئذ فكل ظن مطلق صح الاعتذار به لدى الشارع الأقدس يشمله دليل الانسداد، سواء كان في الطريق، أو في الحكم، أو فيهما معا بلا واسطة، أو معها و ما لا يصح فلا يشمله الدليل، سواء كان في الطريق أو في غيره، مع أن ظاهرهم التسالم على لزوم الأثر الشرعي فيه، مضافا إلى أن الظن بالطريق في الغالب يستلزم الظن بالواقع و بالعكس.

نعم ينفك كل منهما عن الآخر عقلا بل و أحيانا في الخارج أيضا، و لكنه ليس بنحو يفصل فيها لقول.

و استدل من قال بالاختصاص بخصوص الطرق..

تارة: بانحصار الواقعيات بمؤدياتها.

و يرد: بأنه إما من التصويب المحال، أو المجمع على بطلانه.

و اخرى: بأن امتثال التكاليف مقيد بأن يكون منها.

و يرد: بعدم دليل عليه بعد الانسداد.

نعم، منع عن العمل بالقياس و الاستحسان و نحوهما، و ذلك لا يستلزم التقييد، مضافا إلى ما مرّ من الملازمة الغالبية بينهما و لا وجه للتقييد، كما لا يخفى.

و ثالثا: بأن الظن بالطريق أقرب إلى الواقع.

ص: 145

و يرد: بأنه من مجرد الدعوى.

و رابعة: بأنه كما إنا نعلم بالواقع نعلم بجعل طرق إليه أيضا، و بعد تمامية المقدمات يعمل بالظن بالطريق و في غيره يرجع إلى البراءة.

و يرد: بأن الطريق المجعول لا موضوعية فيه بوجه، بل هو طريق محض إلى الواقع، و المدار كله عليه فجعل الطريق على فرض حجيته لا أثر له إلا الطريقية، بلا فرق بينهما مع الملازمة الغالبية بينهما، فالحق عدم الفرق في الحجية على فرض تمامية المقدمات بين الظن بالواقع، أو بالطريق، أو بهما معا.

الثاني: هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟

الثاني: هل تكون النتيجة بعد تمامية المقدمات اعتبار الظن شرعا - المعبر عنه بالكشف - أو لغاية امتثال المظنونات - المعبر عنه بالحكومة - الحق هو الأخير، لأنه بعد فرض تماميتها يحكم العقل بكفاية الامتثال الظني ما لم يردع عنه الشرع، و لا ردع إلا في مثل القياس، فلا نحتاج بعده إلى استكشاف حكم الشرع، و لو فرض ذلك لكان إرشادا محضا، لفرض كفاية المقدمات في لزوم الامتثال الظني و كفايته عقلا، فيكون حكم الشرع حينئذ إما إرشادا أو مؤكدا لحكم العقل. هذا مع أن المقدمات إما عقلية أو عقلائية. فتكون النتيجة تابعة لها أيضا، لأن العلم بالأحكام وجداني و انسداد بابي العلم و العلمي على فرض التمامية كذلك، و بطلان الإهمال عقلي أيضا، لأنه ظلم و كفران بالنسبة إلى المنعم الحقيقي، بل ظلم بالنسبة إلى نفس المكلف أيضا، و بطلان الاحتياط المطلق بل عدم جوازه كذلك. و كذا الرجوع إلى الاصول النافية مطلقا و رجوع العالم إلى غيره أيضا خلاف مرتكزات العقلاء، و قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلي فتكون النتيجة عقلية لا محالة. و ابتناء الكشف و الحكومة على أنه إن كان مدرك بطلان المقدمة الثالثة الإجماع القطعي، أو الخروج من الدين فيتعين الكشف حينئذ، و إن كان مدركه غيرهما فالحكومة لا وجه لها، إذ الإجماع القطعي أو الخروج من الدين لا موضوعية لهما قطعا، بل مرجعهما إلى أن ترك الامتثال

ص: 146

المطلق بعد العلم بالتكاليف ظلم على المنعم و على النفس فيرجعان إلى ما مرّ و لا محالة تكون النتيجة الحكومة.

إن قلت: إن مدرك بطلان مطلق الاحتياط هو الإجماع و هو شرعي، و النتيجة تابعة لأخس المقدمات فيستفاد منه جعل الشارع للظن حجة.

قلت: بطلان الاحتياط المطلق أوضح من أن يتمسك له بالإجماع، و لا ريب في كونه عقلائيا، و لو فرض تمامية الإجماع فهو حاصل من المرتكزات العقلائية، لا أن يكون إجماعا فقهيا معتبرا، كما لا يخفى.

إن قلت: معنى الحجية هو أن يكون الشيء تخصص به العمومات أو تقيد به المطلقات، و يعمل به كسائر الحجج المعتبرة. و الظن بناء على الحكومة ليس كذلك، لأن معناه - كما مرّ - كفاية الامتثال الظني، و ليس هذا من الحجية في شيء، بل يكون مثل كفاية الاحتياط في الامتثال.

قلت: الحجة عند العقلاء، ما يصح أن يحتج بها العبد لدى المولى؛ مع أن من مقدماته العلم بالأحكام و هو حجة بالذات، و لا ريب في إطلاقها بهذا المعنى على الظن بناء على الحكومة، فلا محذور في أن يخصص به عام أو يقيد به مطلق. هذا مع أن الحجية إنما هي لأجل الطريقية للامتثال و لا موضوعية فيها بوجه، و هو الأصل الذي لا بد و أن يعتنى و يهتم به، فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل و لا علمية معتنى بها و إن اطيل الكلام فيه.

الثالث: هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟

الثالث: هل النتيجة كلية - بمعنى اعتبار الظن من أي سبب حصل و في أي مورد، و بأي مرتبة كان - أو هي مهملة و يحتاج في التعميم إلى دليل آخر فيكون دليل الانسداد على فرض التمامية جزء الدليل لا تمامه؟

الحق هو الأول إلا مع القرينة على الخلاف، لأن مقتضى طبع الاستدلال على شيء أن يكون وافيا بحدود المدلول و قيوده مطلقا، و ذلك مقتضى السيرة العقلائية أيضا في استدلالاتهم في علومهم و محاوراتهم، و الإجمال و الإهمال

ص: 147

في الأدلة خلاف السيرة العقلائية، و لا فرق فيه بين الكشف و الحكومة.

نعم، مع وجود الظن الاطمئناني في البين و كفايته، مقتضى بناء العقلاء و المتشرعة عدم التعدي عنه إلى غيره، و كذا لو فرض أهمية المورد بحيث لا يكتفى فيه بغير الاطمئناني، أو بأصل الظن مطلقا و تشخيص ذلك ليس من وظيفة الاصول، بل لا بد و أن يثبت في الفقه، و يكفي فيه هذا المقدار من البحث.

و يمكن جعل النزاع لفظيا، فمن قال بالإهمال أي الاكتفاء بالقدر المتيقن لو كان، و من قال بالتعميم قال به بحسب عموم الدليل ثبوتا، و لكن مع وجود القدر المتيقن الكافي لا ريب في الاقتصار عليه خارجا، و لا يجترئ كل فقيه أن يتعدى عنه.

ثم إنه لو كانت أسباب حصول الظن و مرتبته و موارده متحدة من تمام الجهات فالنتيجة كلية لا محالة، و مع الاختلاف بالقوة و الضعف و بالأهمية يتحقق القدر المتيقن، فيقتصر عليه مع الكفاية و يتعدى عنه مع عدمها.

و لا يخفى سقوط هذا النزاع و عدم الثمرة له من أصله لعدم اجتراء أحد على التعدي عن المتيقن إلى غيره، سواء قيل بالكلية أو بالإهمال.

و كيف كان، فإنه بناء على الإهمال استدلوا بوجوه للتعميم:

منها: دعوى الإجماع عليه.

و يرد: بأن المسألة من المستحدثات، مع أن التعميم مع الاحتياج إليه في الجملة من المرتكزات، فكيف يكون هذا من الإجماع التعبدي الذي يستكشف منه رأي الإمام عليه السّلام، لا سيما في هذه المسألة المبتنية على مقدمات جعلية فكرية كجملة من المقدمات المنطقية، و يجلّ شأن الإمام عليه السّلام من التدخل في مثل هذه المقدمات و توابعها.

و منها: الظن المطلق بعد تمامية المقدمات يكون كالقطع، فلا فرق فيه بين الموارد و الأسباب و المراتب.

ص: 148

و يرد: بأنه كذلك لو لم يكن قدر متيقن للثلاثة، من السبب، و المورد، و المرتبة في البين، و مع وجوده يكون القياس مع الفارق، كما لا يخفى على كل أحد.

و منها: مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في جميع موارد الظنون و مراتبها و أسبابها هو التعميم، مع أنه مقتضى قاعدة الاشتغال بعد العلم باعتبار الظن في الجملة.

و يرد: بانحلال العلم الإجمالي بما هو متيقن الاعتبار في الجهات الثلاث، و معه لا موضوع لقاعدة الاشتغال في غير معلوم الاعتبار.

الرابع: الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه

الرابع: قد استشكل في النهي عن الظن القياسي بعد تمامية مقدمات الانسداد من وجهين:

أولهما: أنه قد يصيب الواقع و قد يخطئ، كسائر الظنون، فالنهي المطلق عنه، تفويت للواقع على المكلفين عند الإصابة، و هو مناف لمقام الشارعية.

و يرد عليه: بأن إصابة الواقع فيه أحيانا مع المفاسد الكثيرة المترتبة عليه من الخير القليل النادر المستلزم للشر الكثير، و ليس بناء العقلاء في مثله الأخذ بالخير القليل النادر و التحمّل للشر الكثير الغالب، بل و لا يلتفتون إلى مثل هذا الخير القليل أصلا، و لا فرق في هذا الإشكال بين الكشف و الحكومة.

ثانيهما: بناء على الحكومة يكون الظن كالقطع عند العقل فكما لا وجه للنهي عن اتباع القطع، فكذا الظن الانسدادي بناء عليها، و قد اشتهر: أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

و يرد: بأن الحكم العقلي غير القابل للتخصيص منحصر في ما إذا كان العقل الحاكم به محيطا بما له دخل في حكمه جزئية و كلية، جزء و كلا، إحاطة واقعية من كل حيثية و جهة، و مثل هذا العقل منحصر بالعقول المؤيدة بروح القدس، فإنه يكشف عليهم الواقع فيرونه على ما هو عليه، و أما سائر العقول

ص: 149

فمطلق أحكامهم تعليقية و ليست تنجيزية، فهي معلّقة على عدم ورود التخطئة أو التخصيص من عقل آخر يكون قاهرا عليها الذي يكون نسبة جميع العقول إليه نسبة الشمع إلى الشمس، فمع ورود التخطئة أو التخصيص لا حكم أصلا لها، كما لا يخفى.

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر يتعين الأخذ بالظن المانع، لأن طرحهما معا مخالف لفرض تمامية النتيجة، و الأخذ بهما معا مخالف لاعتبار الظن المانع، و الأخذ بالممنوع ترجيح المرجوح على الراجح، فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين التخصيص و التخصص، فإن إخراج الظن المانع عن المقدمات يحتاج إلى مخصص، و لكن خروج الظن الممنوع عنها يثبت بوجود الظن المانع، و مع دوران الأمر بينهما مقتضى المحاورات العقلائية تقديم التخصص على التخصيص.

السادس: كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف

السادس: نتيجة دليل الانسداد على فرض التمامية إما حجية الظن في إثبات الواقع المعبّر عنه بالكشف، أو كفاية امتثال مظنونات التكليف - المعبّر عنه بالحكومة - و أما اعتبار الظن بالفراغ بعد تعلّق أصل التكليف و ثبوته بحجة معتبرة، فلا ربط له بدليل الانسداد أصلا، لعدم تكفّل مقدماته له. و النتيجة تابعة لها، لأنه من المقدمات العلم بالواقع إجمالا، و انسداد باب العلم و العلمي بالنسبة إليه، و أين هذا مما إذا علم الواقع و تنجز التكليف به فعلا من كل جهة و ظن بامتثاله؟! فمقتضى أصالة عدم الحجية عدم اعتبار مثل هذا الظن مع ما ارتكز في الأذهان: إن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك: إلا إذا دلّ دليل خاص على تسهيل الشارع و تيسيره، و الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا، كما دل على عدم الاعتبار بالشك بعد الوقت، و بعد الفراغ، و التجاوز عن المحل، و مثل حديث: «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس»، و غيره من القواعد الامتنانية التسهيلية.

السابع: في الظن الغير المعتبر

السابع: الظن غير المعتبر ساقط عن الاعتبار مطلقا، فلا يجبر به ضعف

ص: 150

السند و لا الدلالة و لا جهة الدلالة، كما لا يوهن به ذلك كله، لفرض عدم اعتباره.

نعم، بناء على اعتبار الخبر الموثق به لو حصل به الوثوق صح الاعتماد عليه حينئذ من جهة الوثوق، كما أنه لو كان من القرينة المحفوفة بالكلام التي منعت عن تحقق الظهور، يسقط الظهور حينئذ، فتكون من السالبة بانتفاء الموضوع، لا لأجل اعتبار الظن، كما أنه لو كان في الفقه مورد دلّ الدليل فيه على اعتبار مطلق الظن فيه، يعمل به و لو لم يكن معتبرا لأجل الدليل حينئذ، و قد مرّ بعض القول في بحث الظواهر و التعارض أيضا.

الثامن: اعتبار الظن في الاعتقاديات
اشارة

الثامن: هل يكون الظن - خاصا كان أو مطلقا على فرض اعتباره - معتبرا في الاعتقاديات، كاعتباره في الفرعيات؟

أقسام الاعتقاديات. الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه

الحق أن يقال: إن الاعتقاديات على قسمين..

الأول: ما وجب فيه تحصيل العلم.

و الثاني: لا يجب فيه ذلك، بل وجب الاعتقاد به على ما هو عليه في الواقع و لو لم يعلم، و لا موضوع لاعتبار الظن بقسميه فيهما، كما يأتي. و من الأول معرفة المبدئ تعالى، و النبي صلّى اللّه عليه و آله، و الإمامة التي هي من المناصب الإلهية.

و استدل على وجوب المعرفة فيها عقلا..

تارة: بقاعدة حسن شكر المنعم، إذ لا ريب في كون اللّه تعالى هو المنعم على الكل بجميع أنحاء النعم، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام وسائط الفيض و النعمة، كما لا ريب في توقف الشكر على معرفة المنعم و الواسطة، فتجب المعرفة عقلا.

و يرد عليه.. أولا: أن شكر المنعم حسن عقلا، و ليس كل ما هو حسن عقلا بواجب كذلك، فلا تتم قاعدة المقدّمية في المقام إلا بناء على وجوب الشكر، و هو يحتاج إلى دليل عقلي آخر.

الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه

و ثانيا: أن معرفة اللّه التي هي أجلّ الكمالات النفسانية أجلّ من أن يكون

ص: 151

وجوبها غيريا، بل لا بد و أن يكون نفسيا، و كذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام.

و اخرى: بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل التي هي من القواعد العقلائية في الجملة، إذ لا ريب في احتمال الضرر في ترك معرفة اللّه تعالى و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، خصوصا مع احتمال أن اللّه تعالى يريدها من خلقه، فيحكم العقل بوجوبها دفعا للضرر.

إن قيل: الضرر المحتمل إن كان دنيويا فليس كل احتمال ضرر دنيوي بواجب الدفع، كما مرّ. و إن كان أخرويّا فهو متوقف على تحقق المخالفة، و هو متوقف على إثبات المولوية له تعالى و صدور الأمر منه و ثبوت المخالفة، و ذلك كله متأخر عن أصل المعرفة، فكيف تثبت به المعرفة.

قلنا: المراد بالضرر في المقام الدنيوي و الاخروي معا لأهمية المورد الذي لا أهم منه. أما الضرر الدنيوي فلأن الجهل باللّه تعالى و بنبيه و خليفته نقص نفساني، فإذا كان عدم العلم بالحساب، و النحو و الصرف و نحوها نقصا عرفيا عقلائيا، فكيف لا يكون في الجهل بما هو أهم الكمالات النفسانية نقصا.

و أما الضرر الاخروي فهو و إن كان في الغالب مترتبا على مخالفة التكليف و لكن ليس متقوّما بذلك، بل المناط فيه تفويت الواقع بعد التوجه إليه في الجملة عن عمد و اختيار، و لا ريب في المقام بعد احتمال العقاب في ترك المعرفة و احتمال أن اللّه تعالى يريدها من عباده.

و أما المعاد فاستدل على وجوب معرفته في الجملة..

تارة: بأن العلم به مقدمة لامتثال التكاليف، فيجب من باب المقدّمة.

و يرد: بأنه لا كلية فيه، لأن من عباد اللّه تعالى من يعبده حبا له تعالى، لا خوفا من ناره و لا طمعا في جنته.

و اخرى: بأنه من ضروريات الإسلام، بل جميع الشرائع الإلهية.

و يرد: بأن وجوب معرفته حينئذ شرعي لا أن يكون عقليا، كسائر

ص: 152

الضروريات.

و ثالثة: بأن في ترك معرفته احتمال الضرر بنحو ما مرّ في معرفة اللّه تعالى، و الظاهر صحته، كما لا يخفى.

فتلخّص: أن دليل الوجوب العقلي لمعرفة المبدأ و المعاد، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام هو قاعدة دفع الضرر المحتمل، فتبصّر. هذا ما يتعلّق بأصل المعرفة.

و أما إثبات أصل وجود اللّه تعالى و نفي الشريك عنه، و توحيده الذاتي، و انحصار المعبود به تعالى، و إثبات وجوب وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام، فمحل البحث عن ذلك في علم الحكمة و الكلام.

الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه

ثم إنه قد استدل على وجوب المعرفة..

تارة: بالإجماع.

و يرد: بعدم كونه إجماعا تعبّديا، بل هو حاصل مما ارتكز في الأذهان من قاعدة دفع الضرر.

و اخرى: بما ورد في الترغيب إلى المعرفة و العلم.

و يرد: بأنه أعم من الوجوب مع أن الوجوب المولوي متوقّف على معرفة المولى، فلو توقفت عليه لدار، و على فرض دفع الدور بالإجمال و التفصيل و تمامية الاستدلال، يكون إرشادا إلى ما حكم به العقل.

و ثالثة: بقوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ بناء على تفسير العبادة بالمعرفة.

و فيه: مضافا إلى ما ورد على سابقه أخيرا، أن المراد بالمعرفة - على فرض صحة التفسير بها - إما المعرفة بمعنى الغاية التكوينية، أو الغاية الجعلية، أو المعرفة الحاصلة من العبادة. و الأول مستلزم للكذب، و الثاني حاصل، كما ورد في الحديث عن الصادق عليه السّلام: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة»، و قد تحقق ذلك، عبده أحد أو لا.

ص: 153

و بعبارة اخرى: غاية الخلق بيان التكاليف بواسطة الأنبياء و الرسل، و قد حصل و ثبت بأحسن وجه. و الأخير لا ربط له بالمقام، مع أنه لا بد و أن يحمل على المعرفة الكاملة الحاصلة من العبادة لا أصل ذات المعرفة، لأن العبادة متوقفة عليها، كما لا يخفى.

و رابعة: بآية النفر و هي قوله تعالى: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .

و فيه: أنها في مقام الترغيب إلى التفقه و كيفيته في الجملة، و أما ما يجب التفقه فيه فليست في مقام بيانه، و على فرضه تكون إرشادا إلى حكم العقل لا أن يكون دليلا مستقلا.

فوائد:
الاولى: المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم

الاولى: لا ريب في أن مجرد المعرفة أعم من الاعتقاد و الجزم، و الواجب في الاصول الأربعة - التوحيد، و المعاد، و النبوة، و الإمامة - الاعتقاد و الجزم دون مجرد المعرفة، لأن احتمال دفع الضرر لا يندفع بمجرد العلم من دون اعتقاد و جزم. و كما أن العلم في الأحكام الفرعية العملية طريق إلى العمل يكون في الاعتقاديات طريقا إلى عقد القلب و الجزم بما علم، فلا يكفي مجرد العلم و المعرفة.

الثانية: عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي

الثانية: لا يعتبر في المعرفة أن تكون حاصلة عن الاستدلالات الكلامية و الحكمية أو غيرهما من البراهين العلمية، بل يكفي حصول الاعتقاد و الجزم و لو من تلقين الآباء و الأجداد و نحوهم، للاتفاق على صحة إسلام العوام و غيرهم ممن حصل لهم الجزم بها مما ذكر، و لا يقدرون على شيء أزيد منه.

ص: 154

الثالثة: تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم، تعيين مراتب القصور

الثالثة: للاعتقاد و الجزم مراتب متفاوتة يكفي أدناها في تحقق الإسلام و الإيمان، لثبوت سيرة الأنبياء و الأوصياء العظام (عليهم الصلاة و السلام) على الاكتفاء بذلك بالنسبة إلى السواد، و لو لا ذلك لاختل النظام و تعطّلت الأحكام، فمن أقرّ بالشهادتين يترتب عليه جميع أحكام الإسلام، و من لم يقرّ بهما لا يترتب عليه أحكامه، سواء كان قاصرا أو مقصرا مطلقا.

و أما استحقاق العقوبة فمقتضى الأدلة ثبوته بالنسبة إلى المقصر الملتفت، بل و غيره أيضا مع الانتهاء إلى الاختيار. و أما بالنسبة إلى القاصر فاللّه تعالى أعلم بما يفعل به، و في بعض الأخبار أنه تتم عليه الحجة في البرزخ، و للقصور مراتب أيضا.

منها: ما إذا لم يكن للشخص استعداد فهم الامور.

و منها: ما إذا كان له ذلك و لكن لم يلتفت إلى اختلاف الأديان أصلا.

و منها: ما إذا التفت إليه و لكن قطعه بحسن طريقة الآباء و الأجداد، و عدم احتماله للخلاف يمنعه عن اتباع الحق. و لا ريب في وجود القسم الأول و الأخير في الجملة، و أما الثاني فالظاهر عدم تحققه خصوصا في هذه الأعصار، و بذلك يمكن أن يجمع بين الأقوال و الأخبار، فما يظهر منها عدم وجوده أي القسم الثاني.

الرابعة: أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن

الرابعة: ما كان من الاعتقاديات يعتبر فيها تحصيل الجزم، فلا وجه لاعتبار الظن فيها مطلقا، لعدم كونه من الجزم أبدا، و كذا ما يعتبر فيه الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه، لأن عقد القلب شيء غير الظن، فلا مورد لاعتبار الظن في الاعتقاديات مطلقا.

ص: 155

ص: 156

المقصد الثالث الاصول العملية

اشارة

ص: 157

ص: 158

و فيه فصول:

تمهيد في عدد الاصول العملية، الفرق بين الجهل في موردها و الجهل في مورد الأمارات

تقدم أن ما يصح الاعتذار به إما أن يكون عذرا بنفسه أو تكون العذرية لأجل الكشف الناقص فيه، و قد سبق القول فيهما.

و الكلام فعلا في ما يصح الاعتذار به من دون جهة كشف فيه أبدا، و هو الشك الذي يكون مجرى الاصول العملية.

و هي كثيرة أهمها و أعمها الأربعة المعروفة: البراءة، و التخيير، و الاحتياط، و الاستصحاب، و قد مرّ حصر مجاريها في أول الكتاب. و اعتبارها إنما هو في ظرف الجهل و استتار الواقع و فقد الحجة المعتبرة بحيث يكون ذلك من مقوماتها، فلا اعتبار لهذه الاصول معها مطلقا، و لذا ترد عليها كل حجة لزوال موضوعها بوجود الحجة. كما أن الجهل بالواقع يكون موردا لجعل الأمارات المعتبرة أيضا.

و الفرق بين الجهلين أنه في مورد الاصول قيد لاعتبارها، فلا أثر لها مع إمكان تحصيل الحجة على الواقع بخلافه في مورد الأمارات فإنه فيهما حكمة الجعل لا أن يكون علة المجعول حدوثا و بقاء، إذ رب أمارة تكون معتبرة حتى في صورة إمكان تحصيل العلم بالواقع، و لا يبعد أن تكون أصالتا الصحة و الطهارة أيضا كذلك.

كما أنه قد يكون الجهل بالواقع موردا لحكم واقعي آخر، كالجهر في محل الإخفات و بالعكس جهلا بالواقع فإنه مورد سقوط الإعادة أو القضاء واقعا، و له نظائر كثيرة في الفقه، كما لا يخفى على الخبير.

ص: 159

و لا بد من تقديم أمور:
الأول: إن الجهل إنما يكون مورد الاصول مطلقا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل.

الأول: مورد الاصول مطلقا الجهل الثابت المستقر، و لا استقرار له إلا بعد الفحص عن الحجة و اليأس عنها، فلا اعتبار لها أصلا إلا بعد اليأس العقلائي عنها.

ثم إنه بعد اليأس عن الظفر بها لا فرق في منشأ حصول الجهل بالواقع بين كونه فقدان النص، أو إكماله، أو تعارضه بناء على السقوط حينئذ، فالمرجع في الجميع هو البراءة في الشبهات الحكمية - تحريمية كانت أو وجوبية، و غيرية كانت أو نفسية - فلا بد و أن يجعل الجميع بحثا واحدا و لا وجه لتكثير البحث و العناوين، و اختصاص بعض الأقسام بقول دون البعض الآخر لا يوجب تعدد المبحث، كما هو واضح. كما أنه لو قلنا في تعارض النصين بالتخيير يخرج عن مورد البراءة أصلا و لا ربط له بها حينئذ.

الثاني: كون البحث عن حكم الشبهات الموضوعية خارجا عن فن الاصول

الثاني: البحث عن حكم الشبهات الموضوعية مطلقا خارج عن فن الاصول، لأنه متكفل للبحث عن الكليات التي يصح الاعتذار بها في الشريعة، و الشبهات الموضوعية بمعزل عن ذلك، فالبحث عنها فيه مطلقا استطرادي، و الفقيه و العامي فيه على حدّ سواء.

الثالث: كون بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة

الثالث: بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة، إذ لا وجه للثاني إلا بعد ورود الشريعة و التفحّص في الأدلة، و يصح الأول حتى قبل التشريع أيضا، بأن يقال: إن مقتضى العبودية هو المنع عن كل شيء مطلقا إلا بعد إذن المعبود، أو يقال: إن مقتضى كثرة عناية المعبود هو الترخيص في كل شيء إلا مع التصريح بالمنع.

الرابع: المراد بالجهل و الشك

الرابع: المراد بالجهل و الشك في مورد الاصول عدم الحجة المعتبرة، فيعم موارد وجود الظنون غير المعتبرة أيضا.

ص: 160

الخامس: كون الاصول الأربعة المعروفة من الامور العقلائية

الخامس: الاصول الأربعة المعروفة من الارتكازيات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعا عدم وصول الردع، و لا نحتاج إلى إقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب و السنة و الإجماع و تطويل الكلام في ذلك، فإن العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة و اليأس عنها لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء فعلا أو تركا، و هذا هو البراءة المصطلحة، و إنهم بفطرتهم يرون العلم الإجمالي منجزا في الجملة، و يعبر عن ذلك في الاصطلاح بالاشتغال و الاحتياط، و عند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء منهما بالخصوص، و يعبر عنه بالتخيير، و مع اليقين السابق و الشك لا حقا تحكم فطرتهم باتباع اليقين السابق، و يعبر عنه بالاستصحاب، فيكفي عدم وصول الردع شرعا عن هذه المرتكزات في اعتبارها و لا نحتاج إلى التطويلات، و لا ريب في تقديم الاستصحاب لديهم على باقي الاصول الثلاثة، فراجع و تأمل.

السادس: أن النزاع بين الاصولي و الأخباري صغروي لا أن يكون كبرويا

السادس: النزاع بين الاصولي و الأخباري في الشبهات التحريمية الحكمية صغروي لا أن يكون كبرويا، لاتفاق الكل على قبح العقاب بلا بيان، لكون هذه القاعدة من الفطريات العقلائية، و لكن الأخباري يدعي أن أخبار الاحتياط تصلح للبيانية، و الاصولي يثبت عدم الصلاحية، فالنزاع صغروي كما لا يخفى.

السابع: تقسيم آخر للاصول

السابع: عن بعض مشايخنا قدس سرّهم تقسيم الاصول إلى مطلقة، و تنزيلية، و إحرازية. و الأول كالبراءة، و الثاني كالاستصحاب، و الأخير كأصالة الصحة - مثلا - و لا بأس بهذا الاصطلاح، و لكن ليست فيه ثمرة عملية، لأن الاصول - كما يأتي - بعضها مقدّم على بعض، سمّي بهذا الاصطلاح أو لا.

الثامن: كون مباحث الاصول العملية من علم الاصول 161 الفصل الأول - البراءة

الثامن: مباحث الاصول العملية من علم الاصول، لصحة وقوعها في طريق الاعتذار، كما تقدم في أول الكتاب.

ص: 161

الفصل الأول البراءة

أدلة البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا:
اشارة

قد استدل عليها بالأدلة الأربعة - مع كونها من الفطريات العقلائية - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فيكون الكتاب و السنة إرشادا إليها، لا أن يكون ذلك كله أدلة مستقلة في مقابلها، كما هو واضح.

الاستدلال بالكتاب:استدل عليها من الكتاب بآيات..
منها: قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها وجه الاستدلال و المناقشة فيه
اشارة

منها: قوله تعالى في سورة الطلاق: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها .

بدعوى: أن المراد بالموصول التكليف، و بالإيتاء الوصول فيصير مفادها عدم التكليف بغير ما وصل، و هو عبارة اخرى عن البراءة.

الاستدلال و المناقشة فيه

و فيه: أن محتملات الموصول و الإيتاء ثلاثة:

الأول: ما مرّ.

الثاني: كون المراد بالموصول المال و بالإيتاء الإعطاء، كما يقتضيه صدر الآية و ذيلها، فتصير من أدلة التمكن في وجوب النفقات الواجبة،

ص: 162

و لا ربط لها بالمقام.

الثالث: كون المراد بالموصول العموم لكل شيء - حكما كان أو غيره - و بالإيتاء الإقدار، فتصير من أدلة اعتبار القدرة في مورد التكليف مطلقا. و مع تعدد محتملاتها لا ظهور لها في المقام لو لم نقل بظهورها في الثاني بقرينة الصدر.

و لكن الظاهر صحة إرادة المعنى الثالث، فيكون مفادها عدم التكليف بشيء أبدا حكما أو غيره إلا بما أقدره اللّه عليه، و إعطاء المال و بيان التكليف نحو من الإقدار عرفا، فيكون انطباقها على الصدر من باب تطبيق الكلي على بعض الأفراد، كما تكون كذلك في قول مولانا الصادق عليه السّلام حين سئل عن تكليف الناس بالمعرفة قال: «على اللّه البيان لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها »، فيتم الاستدلال بها للمقام أيضا، لأنه من أحد أفراد المعنى العام.

و لكن يمكن المناقشة بأن مثل هذه الآيات في مقام بيان أنه لا تكليف قبل بعث الرسل و إنزال الكتب، و تكون ساكتة عن حكم ما إذا تمت الشريعة و جهل حكم من أحكامها، فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل قبح العقاب بلا بيان، و على فرض الدلالة تكون إرشادا إلى القاعدة، كما مرّ.

و لكن الظاهر سقوط المناقشة من أصلها، لظهور العموم في قبل البعثة و بعدها.

و منها: قوله تعالى: وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً

بدعوى: أن مفادها ملازمة العذاب لتمامية الحجية و تحقق المخالفة، و مع عدم تماميتها لا موضوع للعذاب، كما أنه مع تماميتها و عدم المخالفة لا موضوع له أيضا، فتكون الآية عبارة اخرى عما ارتكز في العقول من قبح العقاب بلا بيان، فيصح الاستدلال بها للمقام.

و اشكل عليه.. أولا: بأن الآية الكريمة في مقام الإخبار عن جريان عادة

ص: 163

اللّه جلّ جلاله في القرون الخالية و الأمم الماضية بالنسبة إلى التعذيبات الدنيوية، و ليست في مقام بيان نفي العقاب الاخروي الذي هو محل البحث في المقام.

و فيه: أنها مطلقة تشملهما معا، و هو المناسب لرأفته تعالى على عباده لا سيما بالنسبة إلى أمة خاتم أنبيائه.

و ثانيا: بأن المنساق منها عرفا نفي فعلية العذاب، لا نفي أصل الاستحقاق، و الثاني هو المفيد للمقام دون الأول.

و فيه: أن دعوى الملازمة العرفية بين نفي الفعلية و نفي الاستحقاق قريبة جدا، خصوصا بالنسبة إلى عنايات اللّه غير المتناهية، سيما قبل تمامية البيان و الحجة، لأن الملازمة حينئذ متحققة، و خروج الظهار عن هذه الملازمة - على فرض التسليم - إنما هو لدليل خاص لا يضر بدعوى الملازمة ما لم يدل دليل على الخلاف، و قد ورد الدليل على عدم الفعلية في مورد الشفاعة و مورد تكفير السيئات بالحسنات و بقي الباقي، مع أن هذه الموارد خارجة تخصصا عن المقام لتمامية الحجة فيها على الحرمة، فلا وجه للقياس، فتتم دلالة الآية على البراءة، و مع ذلك لا تكون دليلا تعبّديا، بل تكون إرشادا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا يخفى.

استدلال الأخباريين على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع و الجواب عنه

ثم إنه قد استدل بها الأخباريون على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع، إذ لا ريب في ثبوت حكم العقل بحسن الإحسان و قبح الظلم قبل بعث الرسل، فإن تمت الملازمة بين الحكمين يلزم ثبوت العقاب قبل البعثة أيضا، لقاعدة الملازمة، مع أن الآية تنفي العقاب فتبطل الملازمة بالآية.

و فيه: أن مورد الملازمة - كما مرّ - ما تطابقت عليه آراء العقلاء كافة، كحسن الإحسان، و قبح الظلم. و لا دليل على عدم العقاب في الظلم قبل البعثة مع استقلال عقل مرتكبه بقبح فعله، و الآية في مقام نفي العقاب قبل بعث الرسل كما ينبغي أن يؤخذ منهم، لا نفي العقاب قبل البعثة مطلقا حتى في ما استقلت

ص: 164

آراء العقلاء كافة بقبحه.

و قد يستدل بآيات اخرى على البراءة قاصرة الدلالة، و على فرض تماميتها تكون إرشادا إلى حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان، و قد ذكرها شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و بين قصور دلالتها بما لا مزيد عليه، فراجع فلا وجه للتعرض لها.

الاستدلال بالسنة على البراءة:
منها: حديث الرفع، المراد من الرفع و الإشكال عليه و الجواب عنه
اشارة

منها: ما استفاض منه صلّى اللّه عليه و آله بين الفريقين: «رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و الطيرة، و الحسد، و الوسوسة في الخلق»، و استفاضة نقله تغني عن البحث في سنده، مع أن الصدوق نقله في الخصال بسند صحيح، و أن متنه يشهد بصحة سنده.

و المنساق من الرفع عرفا و لغة خلاف الوضع، كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم - الحديث -». فالمعنى أنه لم يوضع الإلزام في هذه الموارد، سواء كان ذلك لعدم المقتضي له أصلا، أو لوجود المانع، و تجوز إرادة الدفع من الرفع أيضا لإطلاق كل منهما على الآخر في المحاورات، و على أي تقدير يدل على أن الإلزام المجهول غير معاقب عليه فيثبت المطلوب.

و ما يقال: أنه مناف لما اشتهر من اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل؛ و عدم الاختصاص بالأول.

باطل: لأن الاشتراك في ما إذا ثبت حكم بالدليل لا في ما إذا لم يكن على ثبوته دليل، فلا موضوع لقاعدة الاشتراك هنا.

ثم إن البحث عن حديث الرفع يقع ضمن امور:
اشارة

ص: 165

الأول: مقتضى عموم الحديث و إطلاقه القول بأنه لا وجه لرفع المؤاخذة و دفعه

الأول: حيث أن الحديث ورد في مقام القاعدة الكلية و الامتنان على الامة، فمقتضى عمومه و إطلاقه تعميم متعلّق الرفع لكل ما أمكن رفعه في الشريعة و كان فيه التسهيل و الامتنان على الامة، سواء كان من التكليفيات. نفسيا كان التكليف أو غيريا، حكميا كانت الشبهة أو موضوعية.

كما تعمّ الوضعيات أيضا تأسيسية كانت أو إمضائية، أو كان من تنزيل الموجود منزلة المعدوم، أو العكس. فيرفع الإلزام، و الصحة، و الجزئية، و الشرطية، و السببية و المسببية، و القضاء و الإعادة، و كل أثر شرعي إلا ما خرج بالدليل. و اختصاص الإكراه و الاضطرار بالموضوعات لقرينة خارجية لا يوجب الاختصاص في البقية، كما هو واضح.

و ليس المراد من الرفع التكويني منه حتى ينافي التحقق الخارجي، بل المراد التشريعي التنزيلي، كما في قوله عليه السّلام: «لا شك في النافلة، و لا شك لكثير الشك». فيكون بلحاظ الآثار الشرعية، أو بلحاظ العقاب الذي هو أهم الآثار، فيكون رفع غيره بالأولى، أو بلحاظ التكليف فيتضمن رفع الجميع قهرا.

و هذه الاحتمالات و إن كانت مختلفة اعتبارا، لكنها متلازمة عرفا، كما لا يخفى فلا وجه للتفصيل. و يجري الحديث في جميع أبواب الفقه و تمام مسائله، كما جرت سيرة الفقهاء قدس سرّهم على التمسك به كذلك.

و ما يقال: أنه لا وجه لرفع المؤاخذة، لأنها حكم العقل باستحقاق العقوبة، و هي عقلية لا شرعية مع كونها مترتبة على المخالفة العمدية للتكليف المعلوم و لا موضوع لها في المقام قطعا.

مدفوع.. أولا: بكفاية الجعل الإمضائي في تعلّق الرفع به و هو متحقق.

الثاني: كيفية ترتب الأثر الشرعي على الشيء و ثانيا: بأن المؤاخذة معلولة للإرادة التشريعية، فما اشتهر من أنها من الامور العقلية لا وجه له.

نعم أصل استحقاق العقاب لدى المخالفة حكم عقلي و هو غير

ص: 166

المؤاخذة، كما لا يخفى.

و ثالثا: المرفوع هو إيجاب الاحتياط الذي لا ريب في كونه تحت اختيار الشارع وضعا و رفعا، و لا يلزم من ذلك كون العقاب على نفس الاحتياط من حيث هو، و هو باطل، لأن الاحتياط مطلقا ملحوظ طريقا إلى الواقع، فثواب فعله ثواب الواقع، و العقاب على تركه عقاب على الواقع.

الثاني: الأثر الشرعي المترتب على الشيء.

تارة: يترتب عليه لا بشرط عن صفتي العلم و الجهل.

و اخرى: مترتب عليه بقيد العلم به.

و ثالثة: بقيد الجهل به.

و مورد التمسك بالحديث خصوص القسم الأول فقط، لأن في الثاني ينتفي الأثر بعروض الجهل لانتفاء الموضوع، لفرض أخذ العلم فيه، و في الثالث لا وجه لرفع الأثر لفرض أن موضوعه الجهل، و قد تحقق فكيف يرفع مع تحقق موضوعه، و أمثلة الكل كثيرة في الفقه، كما لا يخفى.

الثالث: تقدم حديث الرفع على الأحكام الواقعية، الإشكال بأنه يستلزم النسخ أو التصويب أو الصرف و الجواب عنه

الثالث: حديث الرفع كسائر القواعد التسهيلية الامتنانية في طول الأحكام الواقعية و مقدمة عليها عند الكل، بمعنى كونها مانعة عن وصولها إلى مرتبة الفعلية لمصالح شتى و أغراض صحيحة عقلائية لا تحصى؛ لأن الواقعيات اقتضائيات محضة و وصولها إلى مرتبة الفعلية يحتاج إلى وجود الشرائط و فقد الموانع، فالأدلة الامتنانية التسهيلية، بل الثانوية مطلقا مبينات إما لفقد شرط عن فعلية الأحكام الواقعية أو وجود مانع عنها، فلا محالة تتقدم عليها، بلا فرق بين أن يسمى هذا التقدم تخصيصا أو حكومة أو ورودا، إذ لا ثمرة عملية بينهما، بل و لا علمية معتنى بها، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و لا يلزم من هذا التقدم النسخ، أو التصويب، أو الصرف. لأن الأول عبارة عن زوال مدة التشريع، و مثل حديث الرفع يبين قيد الحكم المشروع في مرتبة

ص: 167

الفعلية لا زوال مدته، فلا ربط له بالنسخ.

و الثاني عبارة عن حدوث الحكم و المصلحة بتمام مراتبه بالعلم به، و هو غلط في المقام لفرض تحقق الواقع اقتضاء و مصلحة، و مثل الجهل يمنع الفعلية و سقوط آثارها من المؤاخذة و غيرها.

و الثالث عبارة عن صرف الواقع و تغييره بواسطة مثل حديث الرفع إلى خصوص صورة العلم مثلا، و هو باطل أيضا إن اريد به الصرف حتى بالمرتبة الاقتضائية، و إن اريد الصرف في المرتبة الفعلية فلا مشاحة في الاصطلاح، و تقدم الأدلة التسهيلية الامتنانية على القوانين الأولية من المرتكزات العقلائية في قوانينهم المجعولة في كل مذهب و ملة، فلاحظ و تأمل و ليس ذلك مختصا بالشريعة الإسلامية فضلا عن فن الاصول.

الرابع: الحديث يرفع كل ما يمكن أن تناله يد الجعل: الإشكال عليه و الجواب عنه

الرابع: مما تناله يد الجعل - و لو إمضاء - السببية و المسببية، و الشرطية، و الجزئية، و المانعية، و القاطعية و نحوها، فيصح في المعاملات الإكراهية رفع السبب، كما يصح رفع المسبب، بل يصح رفعهما معا أيضا، و في موارد نسيان الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع يصح رفع نفس هذه العناوين أولا و بالذات، كما يصح رفع وجوب التدارك من الإعادة أو القضاء مما يكون من الامور الشرعية، لفرض أن الكل مما تناله يد الجعل و لو إمضاء.

نعم، مع إمكان جريان الأصل في رفع الموضوع لا وجه لجريانه في رفع الحكم، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، كما أنه مع كثرة الأدلة الثانوية الواردة في نسيان الجزء و الشرط خصوصا في الصلاة لا نحتاج إلى حديث الرفع.

إن قلت: أن الحديث ورد مورد التسهيل و الامتنان و التكليف في مورد الجهل و الخطأ و النسيان قبيح عند العقلاء فكيف يثبت تسهيل و امتنان في ما يكون قبيحا عندهم، و لو لا حكم الشرع بالرفع أيضا فالتكليف مرفوع في هذه الموارد عقلا، فلا تصل النوبة إلى الرفع الشرعي أصلا حتى يتحقق فيه التسهيل

ص: 168

و الامتنان. و كذا الكلام في «ما لا يطيقون» بل و يشكل من ذلك في قوله تعالى:

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأنه بعد أن كان التكليف بما لا يطاق قبيحا عقلا لا وجه لهذا الدعاء.

قلت: ما هو قبيح في الموارد الثلاثة هو التكليف بقيد الجهل و الخطأ و النسيان. و أما وجوب الاحتياط و التحفظ حتى لا تتحقق هذه الامور مهما أمكن، أو وجوب التدارك بعد زوالها فلا قبح فيه أصلا، فرفع ذلك يكون لتسهيل الشرع و امتنانه.

و أما الآية الكريمة فلما لا يطاق مراتب متفاوتة.

الأولى: ما لا يطاق عقلا.

الثانية: ما يكون خلاف المتعارف.

الثالثة: ما يكون خلاف السهولة، كوجوب الصوم في كل سنة شهرين أو أربعين يوما - مثلا - لا يكون مما لا يطاق عقلا و لا عرفا، و لكنه خلاف السهولة، و هكذا بالنسبة إلى جميع التكاليف، فالدعاء ورد بالنسبة إلى القسم الأخير فقط.

الخامس: توجيه ما ذكر في الحديث: من الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق:

الخامس: قد ذكر في الحديث: الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق. و لها مراتب متفاوتة جدا.

منها: ما تترتب عليها الآثار الخارجية المحرّمة، و لا ريب في حرمتها.

و منها: ما تكون ثابتة في النفس و توجب اضطرابها دائما من دون أن تترتب عليها الآثار المحرمة، و لا ريب في أنها من الصفات الذميمة النفسانية، و يمكن أن يكون معنى رفعها رفع حرمتها، أو رفع مطلق الآثار عنها ببركة الإسلام و تفضل نبوة خير الأنام.

و منها: ما تكون من مجرد الخطور النفسي مع عدم بقاء له في النفس أصلا، فكيف بالأثر الخارجي، و هذه المراتب مختلفة بالنسبة إلى النفوس، و لا يبعد أن يكون قول الصادق عليه السّلام: «ثلاثة لا يخلو منها نبي و ما دونه: الطيرة،

ص: 169

و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق - الحديث -» إشارة إلى القسم الأخير بالنسبة إلى النبي، فبمجرد أن يخطر منها شيء على قلبه الأقدس يتداركه اللّه تعالى بتأييد غيبي، كما في قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً و هذا لا ينافي العصمة في شيء أبدا، و لكنه مع ذلك تجاسر بالنسبة إلى مقاماتهم الشريفة خصوصا خاتم الأنبياء و أوصيائه عليهم السّلام، فلا بد و أن يراد بالنسبة إلى النبي من الوصف بحال المتعلّق لا الذات، كما ذكره الصدوق قدّس سرّه من أنه يتطير بالنبي، لقوله تعالى: إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ، و يحسد عليه، لقوله تعالى:

أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ . و يكون من يفكر في الوسوسة في الخلق في أطرافه من المنافقين، لقوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . فراجع و تأمل.

السادس: كلام في مثبتات الاصول العملية

السادس: المعروف عدم اعتبار مثبتات الاصول العملية، فلو كان مجرى البراءة أولا و بالذات أمرا عرفيا أو عقليا، و يترتب عليه أثر شرعي لا اعتبار بها، كما أن المعروف اعتبار مثبتات الأمارات؛ فإنها إن جرت في مورد الأمر العرفي أو العقلي و يترتب عليه أثر شرعي، تعتبر و تكون حجة، و حينئذ ففي كل مورد يكون جريان الأصل مثبتا، لنا أن نتمسك بنفس حديث الرفع الذي هو من الأمارات المعتبرة و يحكم بالأثر الشرعي و لو كان بواسطة أمر عقلي أو عرفي، و يأتي إن شاء اللّه تعالى في الاستصحاب ما ينفع المقام. هذا بعض ما يتعلق بحديث الرفع.

و منها: مرسل الصدوق، ذكر الاحتمالات فيه و الجواب عنها

و منها: مرسل الصدوق: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي». و المناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه و اعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرقة، و سهولة الشريعة المقدسة مما لا وجه لها.

نعم يحتمل فيه وجوه:

الأول: أن يراد بالشيء ما يكون بعنوانه الأوّلي من حيث هو، و بالورود

ص: 170

أصل التشريع، فيكون دليلا لبحث الحظر و الإباحة، لا البراءة لمجهول الحكم بعد تمامية التشريع من كل جهة إلا أن يشملها بالملازمة العرفية، و فيه تأمل.

الثاني: أن يراد به مجهول الحكم، و بالورود مطلق التشريع، فتكون أدلة الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية حينئذ مقدمة عليه، لكفايتها في تشريع الاحتياط، فيصير المرسل بناء عليه من أدلة الأخباريين.

الثالث: أن يراد بالشيء مطلق مجهول الحكم، و بالورود الحكم الثابت من كل جهة الغير القابل للمناقشة العرفية الصحيحة أصلا، فيصير دليلا للبراءة حينئذ لما يأتي من المناقشة في أدلة الاحتياط، و كونه ظاهرا في خصوص الأخير مشكل.

و منها: حديث الحجب. المناقشة في الاستدلال به

و منها: قوله عليه السّلام: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

و فيه: أن ما يتعلّمه الناس..

تارة: يكون مما رغب فيه الشرع.

و اخرى: مما لم يرغب فيه و لم ينه عنه.

و ثالثة: يكون مما نهى عنه لكون مفسدة تعلمه أكثر من مصلحته لقصور أفهام الناس عن الإحاطة به على ما هو عليه، و المنساق من الحديث هو الأخير فلا ربط له بالمقام، فيكون مثل الأحاديث الناهية عن عدم الغور في القضاء و القدر و نحوهما من أسرار التكوين.

و منها: صحيح ابن الحجاج. المناقشة فيه. ردّ ما يستشكل عليه

و منها: صحيح ابن الحجاج عن الكاظم عليه السّلام: «عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أ هي لا تحل له أبدا؟ فقال عليه السّلام: أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها، فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك. قلت: بأي الجهالتين أعذر، بجهالة أن ذلك محرم عليه أم بجهالة أنها في العدة؟ قال عليه السّلام:

إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن اللّه تعالى حرم عليه ذلك، و ذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط. قلت: فهو في الأخرى معذور. قال عليه السّلام:

ص: 171

نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها».

و فيه: أنه قضية في واقعة خاصة يعترف بها الكل من الأخباري و الاصولى، كسائر الموارد الخاصة التي ورد فيها الدليل الخاص على عذرية الجهل، كالجهر في موضع الإخفات و بالعكس، و التمام في مورد القصر جهلا، مع أن في مورد الصحيح - مقتضى أصالة بقاء العدة إن كانت الشبهة موضوعية، و أصالة عدم ترتب الأثر على العقد إن كانت حكمية - عدم جواز الاقتحام بخلاف المقام الذي يعتبر فيه أن لا يكون أصل موضوعي في البين أصلا.

نعم قوله عليه السّلام: «فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك» لا يخلو عن تأييد للمقام.

ثم إنه قد استشكل عليه: بأنه إن كان المراد بالجهالة في الحكم أو الموضوع الغفلة و عدم الالتفات أصلا، فلا يقدر على الاحتياط حينئذ فيهما معا، فلا وجه للتفرقة بينهما.

و إن كان المراد عدم العلم مع الالتفات إليه فيقدر على الاحتياط فيهما معا، فلا وجه للتفرقة على أي تقدير. و كون المراد بالجهالة في الحكم الغفلة، و في الموضوع عدم العلم مع الالتفات إليه خلاف الظاهر.

و اجيب: باختيار القسم الأخير، و ذلك لأن عدم العلم مع الالتفات إليه بالنسبة إلى نفس الحكم في هذا الأمر العام البلوى مما لا ينبغي بالنسبة إلى المسلم. و أما الغفلة عنه فلا بأس به و لا منقصة فيه على أحد، فكأنه عليه السّلام أشار إلى أن المسلم في هذه الامور الابتلائية لا بد و أن يكون عالما بها، و إن حصل منه جهل فهو غفلة لا أن يكون من عدم العلم، و يمكن استعمال الجهالة فيه في المعنى الأعم من الغفلة و غيره، فيكون إرادة خصوص الغفلة بالنسبة إلى الحكم من باب تعدد الدال و المدلول.

و منها: قوله عليه السّلام: «كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو حلال حتى تعرف

ص: 172

الحرام منه بعينه». أو «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه».

و فيه: أن المنساق منهما عرفا الشبهات الموضوعية و استفادة الحكمية منها تكلف، كما لا يخفى. و مع الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية. مع أن في غيرهما غنى و كفاية.

الاستدلال بالإجماع، و دليل العقل، و الأصل على البراءة

و استدل بالإجماع أيضا على البراءة في الشبهة التحريمية الحكمية.

و يرد: بأنه غير متحقق، لكثرة الخلاف و المخالف، و على فرض تحققه فهو معلوم المدرك.

و أما دليل العقل فلا ريب في استقرار بناء العقلاء في كل عصر و زمان على الحكم بقبح العقاب بلا بيان حتى عدّ ذلك من القواعد العقلائية، و الأدلة السابقة بعد تماميتها تكون إرشادا إليها، و بعد عدم تمامية ما يأتي من أدلة الاحتياط تتم القاعدة من كل جهة.

ثم إنه قد يستدل بأصالة البراءة قبل التكليف أو قبل البعثة و لا بأس به.

و الإشكال عليه بأنه من التطويل بلا طائل لكفاية مجرد الشك في البراءة بلا احتياج إلى لحاظ الحالة السابقة.

مدفوع: بالفرق بين مجرد عدم البيان، و البيان على العدم، و الاستصحاب من الثاني فيكون آكد لا محالة.

ص: 173

الفصل الثاني ما يتعلق بالاحتياط

أدلة القول بوجوب الاحتياط شرعا في الشبهات الحكمية التحريمية و الجواب عنها:
استدل عليه بالأدلة الثلاثة.
فمن الكتاب:

بما دل على النهي عن القول بغير العلم كقوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و النهي عن الإلقاء في التهلكة مثل قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، و بما دلّ على الأمر بالتقوى نصا أو ظاهرا، أو بالفحوى التي تقرب من مائتي آية.

و الجواب عن الكل: إن القول بالبراءة مستندا إلى الحجة المعتبرة، خصوصا القاعدة العقلائية المتفق عليها بين الكل، و هي قبح العقاب بلا بيان ليس قولا بغير العلم و لا من الإلقاء في التهلكة و لا مخالفا للتقوى، كما هو أوضح من أن يخفى لأن التقوى هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات، فلا بد أولا من إثباتهما ثم الامتثال حتى تتحقق التقوى، و إثبات أصل الحكم بأدلة التقوى من الدور الواضح. و كذا آية التهلكة لا بد فيها أولا من إثبات التهلكة ثم النهي عن الإلقاء فيها و إثباتها بنفس النهي دور باطل.

و من السنة:
اشارة

بما يظهر منه لزوم الاحتياط و التوقف في الشبهات و أنه خير من الاقتحام في المهلكة، الوارد بألسنة مختلفة، راجع الباب الثاني عشر من كتاب قضاء الوسائل فقد جمع فيه واحدا و سبعين حديثا. مع كون بعضها غير

ص: 174

مربوط بالمقام إلا بالمناسبات البعيدة، و لو اريد أن يجمع مثلها لأمكن أن يجمع أكثر منها، كما لا يخفى على الخبير، و فيها الأمر بالاحتياط بطرق شتى، كما هو ظاهر للبصير. و لكن محتملات وجوبه أربعة:

الأول: الوجوب النفسي المولوي، كوجوب الصلاة و الزكاة و نحوهما.

و فيه: أنه خلاف المنساق من الاحتياط لدى المتشرعة، بل أهل المحاورة، فإن المتبادر منه عندهم الطريقية المحضة، كما في جميع الطرق و الأمارات، و الاجتهاد و التقليد لا النفسية من كل حيثية و جهة، مع أن في تلك الروايات قرائن تدل على خلافه. و هي واضحة بأدنى مراجعة، كقوله: «و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

الثاني: الغيري المقدمي.

و فيه.. أولا: أنه يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة، و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي، أو الشبهات البدوية قبل الفحص، و المقام ليس منهما في شيء.

و ثانيا: بما مرّ من أن وجوب المقدمة عقلي و ليس بشرعي، فيكون حينئذ إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه في الموردين، فيصير أجنبيا عما نحن فيه، و لكن ذكرنا ان وجوب المقدمة شرعي فراجع.

الثالث: النفسي الطريقي المحض.

و يرد: بما مرّ من عدم ملاك النفسية فيه بوجه، فكيف يحتمل النفسية في مثل قوله عليه السّلام: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»، و هل يصح التمسك به في ما ليس فيه الهلكة أبدا لقيام الدليل العقلي على قبحها.

الرابع: الإرشاد المحض إلى حسن الاحتياط عقلا، الذي قد يصل إلى حدّ الوجوب، كما في أطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص في الشبهات البدوية، و قد يبقى على مجرد حسنه فقط، كما في المقام، و هذا الوجه هو المنساق عرفا

ص: 175

مما ورد في الاحتياط عن الشارع.

المناقشة في الاستدلال بصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد

و بالجملة: الاحتياط بحسب المرتكزات طريقي محض و لا يزيد في الطريقية على الأمارات المعتبرة، فكما أنها منجزة في ظرف تنجز الواقع يكون الاحتياط أيضا كذلك، و هو منحصر بأطراف العلم الإجمالي و ما قبل الفحص، و في غيرهما لا تنجز للواقع، فلا وجه لتنجز الاحتياط الممحض في الطريقية، و جميع ما ورد في الاحتياط و التوقف في الشبهات إنما هو في مقام بيان كثرة الاهتمام بالواجبات و المحرمات، و أنهما بمثابة من الأهمية ينبغي أن يحتاط في مشتبه الوجوب فعلا و مشتبه الحرمة تركا، و ليس هذا إلا معنى حسن الاحتياط عقلا.

هذا مع أن بعض ما استدلوا به لا ربط له بالمقام، كصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد: «إذا أصبتم بمثل هذا و لم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه و تعلموا». فإنه في الشبهات البدوية قبل الفحص التي اتفق الكل على عدم صحة البراءة فيها. و كموثق ابن وضاح الوارد في دخول وقت المغرب: «أرى لك أن تأخذ بالحائطة لدينك». فإنه إن كان في الشبهة الموضوعية فمقتضى الاستصحاب عدم دخول وقت المغرب و في مثله لا يقول أحد بالبراءة، و إن كان في الشبهة الحكمية فاتفق الكل على دخوله بذهاب الحمرة، فلا وجه للاحتياط على كلا التقديرين.

إن قلت: ما وجه أمره عليه السّلام بالاحتياط، و لم لا يبين الحكم الواقعي مع أنه عليه السّلام عالم به، و ليس من شأنه عليه السّلام الأمر بالاحتياط الذي يستلزم الجهل بالواقع و المعصوم منزه عنه؟

قلت: لعله لعدم قدرته عليه السّلام على إظهار الواقع لقصور فهم المخاطب، أو لجهة اخرى، فليس منشأ الأمر بالاحتياط منحصرا في الجهل بالواقع، بل له مناشئ مختلفة كما لا يخفى.

ص: 176

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط:
اشارة

و ذلك من وجوه:

الأول: أن المقام من صغريات الشك في الفراغ، و مقتضى حكم العقل فيه الاشتغال للعلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة فيحكم العقل بالاحتياط في تمام الشبهات تحصيلا للعلم بالفراغ، فإدخال المقام في الشبهات في أصل التكليف مغالطة.

و فيه.. أولا: النقض بالشبهات الوجوبية التي اتفق الأخباري - كالاصولي - على البراءة فيها مع جريان هذا الدليل في الوجوبية و التحريمية معا من غير فرق بينهما.

و ثانيا: بأن العلم الإجمالي ليس مطلقا من كل جهة، بل الحق في بيانه أن يقال: إنا نعلم إجمالا بوجود المحرمات في ما بأيدينا من الطرق و الاصول المعتبرة بحيث لو تفحصنا لظفرنا بها، و قد تفحصنا و ظفرنا بها - و الحمد للّه - فلم يبق علم إجمالي منجز في البين أصلا.

و ثالثا: أنه لو كان مطلقا فلنا علمان إجماليان..

أحدهما: بالمحرمات.

و ثانيهما: بطرق معتبرة عليها.

و هذان العلمان متقارنان حدوثا، و في مثله لا تنجز للعلم الإجمالي بالمحرمات في غير موارد الطرق و الأمارات، فإن قيام الحجة المعتبرة في مورد العلم الإجمالي..

تارة: مقدم على حدوثه.

و اخرى: مقارن معه.

و ثالثة: متأخر عنه بعنوان الكشف عنه، أو بعنوان اكتفاء الشارع بامتثال

ص: 177

موارد الحجة عن امتثال جميع أطراف العلم الإجمالي. و في جميع هذه الصور لا أثر للعلم الإجمالي في غير موارد الحجة عند العقلاء، سواء سمي هذا الانحلال حقيقيا أو حكميا، إذ لا ثمرة عملية بين التعبيرين، بل و لا علمية معتدا بها، كما لا يخفى على أهله.

الثاني: أن الأصل في الأفعال غير الضرورية التي تقوّم بها نظام العباد و البلاد هو الحظر، لأنه تصرف في سلطان المولى بدون إذنه و هو قبيح عقلا، فلا يجوز الاقتحام فيها إلا مع الترخيص الشرعي.

و يرد.. أولا: بأن هذه المسألة خلافية غير مسلّمة، فلا وجه لجعلها دليلا للمقام.

و ثانيا: بأنها بحث عن حكم الأشياء قبل البعثة و ظهور الشريعة، و ما نحن فيه بحث عن حكمها بعد تكميل الشريعة و عدم ظهور دليل لنا على حكم من الأحكام، فلا ربط لإحداهما بالاخرى.

الثالث: قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، فإن اقتحام محتمل الحرمة مظنة للضرر، و العقل حينئذ يحكم بعدم جوازه دفعا للضرر.

و يرد.. أولا: بالنقض بالشبهات الوجوبية.

و ثانيا: بأنه إن اريد بالضرر العقاب فلا عقاب في البين، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. و إن اريد به الضرر الدنيوي فهو ممنوع صغرى و كبرى، كما مرّ في بعض أدلة حجية مطلق الظن.

فتلخص: أن أدلة القول بوجوب الاحتياط في ما لا نص فيه من الشبهات البدوية التكليفية، قاصرة عن إيجابه فيها تحريمية كانت أو وجوبية.

الكلام في مورد إجمال النص أو تعارضه

و كذا الكلام بعينه في مورد إجمال النص أو تعارضه، لعدم تمامية البيان الواصل إلى المكلف فيهما أيضا، فتجري فيهما أدلة البراءة، كما تجري في ما لا نص فيه، إذ لا اعتبار بالمجمل و لا بما هو معارض بمثله لدى العرف و العقلاء،

ص: 178

فلا وجه لتوهم البيان في الأول، كما لا وجه لتوهم وجوب الاحتياط في الثاني بمرفوعة زرارة الدالة على الاحتياط في تعارض النصين، لقصورها عن إثبات إيجاب الاحتياط فيه، كما مرّ في مباحث التعارض، هذا مع اتفاق الأخباريين إلى الرجوع إلى البراءة في الشبهات الوجوبية أيضا كالاصوليين.

ثم إنه لا فرق في الحرمة المشكوك فيها بين كونها نفسية أو غيرية، كما لا فرق في الوجوب المشكوك فيه بين كونه نفسيا أو غيريا، عينيا أو كفائيا، لشمول أدلة البراءة لجميع ذلك، كما هو واضح. هذا كله في الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية بجميع الأقسام المتصورة فيهما.

الكلام في الشبهات الموضوعية

و أما الموضوعية فاتفق العلماء من اصولييهم و أخبارييهم على البراءة فيها، و يدل عليها مضافا إلى الإجماع المحقق، جميع ما مرّ من أدلة البراءة من الكتاب، و السنة، و العقل، لأن المراد بالبيان الذي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و لا أدلة البراءة، هو تبين الحكم بقيوده المعتبرة فيه لا مجرد صدوره من الشارع بأي وجه اتفق، و لا ريب أن تبين الموضوع من حدود الحكم و قيوده، و مع عدمه لا تتم الحجة و البيان، كما هو أوضح من أن يخفى.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول: تقدم الأمارات على الاصول الموضوعية و الأخيرة على الاصول الحكمية
اشارة

الأول: قد تسالم العلماء، بل ارتكز في النفوس أن الأمارات مقدمة على الاصول الموضوعية التي هي عبارة عما يرتفع بها موضوع أصل آخر و هو الشك، و هي مقدمة على الاصول الحكمية، فلا يجري الأصل الموضوعي مع وجود الأمارة، كما لا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي، و هذا من الامور المسلّمة الجارية في تمام أبواب الفقه، فلا تجري أصالة البراءة مطلقا مع وجود أصل موضوعي في موردها، كأصالة عدم التذكية، و أصالة احترام النفس و العرض و المال، و أصالة الحرية و نحوها من الاصول المعتبرة

ص: 179

التي تجري في بعض الموارد، فيزول بها الشك فينتفي موضوع جريان البراءة قهرا.

بعض الكلام في أصالة عدم التذكية
اشارة

و قد جرت العادة بذكر بعض ما يتعلّق بأصالة عدم التذكية في المقام، لمناسبة أنها من الاصول الموضوعية التي تمنع عن جريان أصل البراءة و الإباحة الذي هو أصل حكمي، و لباب القول فيها يقتضي التعرض لأمرين:

التعرض لأمرين
الأول: المراد من غير المذكي و الميتة

الأول: أنه نسب إلى المشهور أن غير المذكى في اصطلاح الكتاب و السنة عبارة اخرى عن الميتة، فهما و إن اختلفا مفهوما لكنهما متحدان شرعا، و يترتب عليه أنه بجريان أصالة عدم التذكية يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل، لفرض أن غير المذكى ميتة شرعا، فلا يكون الأصل مثبتا. لأنه مع وحدة الموضوع يثبت حكم كل منهما للآخر طبعا.

و لكن يمكن المناقشة فيه: بأنه من مجرد الدعوى بلا شاهد عليه، بعد الاعتراف بكونهما مختلفين لغة و عرفا، المستلزم لاختلاف الحكم. و الأخبار الواردة على قسمين:

الأول: و هي كثيرا ما تشتمل على لفظ «لا تأكل» عند فقد بعض الشرائط، و لفظ «كل» عند تحققها، كقول الباقر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها». و عن الصادق عليه السّلام بعد أن سئل عن ذبيحة ذبحت لغير القبلة، فقال عليه السّلام:

«كل و لا بأس ما لم يتعمده». و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل مما لا ينكر، و أما النجاسة فلا يستفاد منها بوجه من الوجوه، مع أنها واردة في مقام البيان و محل الحاجة، و لا بد و أن يبين النجاسة أيضا، بل هي أهم لاستلزامها حرمة الأكل أيضا بخلاف العكس.

الثاني: جملة من الأخبار الواردة في ما قطعت من الحيوان، كقول علي عليه السّلام: «ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذره، فإنه ميت، و كلوا مما أدركتم حيا و ذكر اسم اللّه عليه». و قول الصادق عليه السّلام: «ما أخذت

ص: 180

الحبالة فانقطع منه شيء فهو ميتة». و عن الكاهلي قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال عليه السّلام: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك، ثم قال عليه السّلام: إن في كتاب علي عليه السّلام إن ما قطع منها ميت، لا ينتفع به». و عنه عليه السّلام أيضا «في أليات الضأن فقطع و هي أحياء، أنها ميتة». و عن الحسن ابن علي: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام فقلت جعلت فداك: إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، قال عليه السّلام: هي حرام. قلت: نستصبح بها؟ قال عليه السّلام: أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام». و عن البزنطي عنه عليه السّلام أيضا: «الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال عليه السّلام: نعم، يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها، و لا يبيعها».

و فيه: أن أهم آثار الميتة إنما هو حرمة الأكل، فالتنزيل من هذه الجهة مسلّم. و أما من حيث النجاسة فهي مشكوك فيها، يرجع فيها إلى الأصل. و أما قوله عليه السّلام: «أما علمت أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام»، فلا بد من حمله على بعض المحامل، لأن تنجيس اليد و الثوب ليس بحرام قطعا، و يحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة و هي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضا، لقوله عليه السّلام:

«فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره، و بوله، و شعره، و روثه و ألبانه و كل شيء منه جائز، إذا علمت أنه ذكي، و قد ذكاه». و في خبر الصيقل: «كتبت إلى الرضا عليه السّلام: أنه أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة تصيب ثيابي فأصلي فيها، فكتب عليه السّلام إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك». و استفادة النجاسة من هذه الرواية أيضا مشكلة لاحتمال تلطخ الثوب بأجزاء الميتة، فلا تصح فيه الصلاة من هذه الجهة مع أن ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل، و قد مرّ ما فيه.

و ما أبعد ما بين ما نسب إلى المشهور من نجاسة غير المذكى لأنه كالميتة، و ما يظهر من صاحب المدارك من عدم دليل على نجاسة الميتة أصلا فضلا عما

ص: 181

يكون نازلا منزلتها.

الثاني: أن الحيوان بالنسبة إلى التذكية و عدمها على أقسام
اشارة

فتارة: يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أصلا، لا بالنسبة إلى الطهارة و لا الحلية، فهو نجس و حرام مطلقا ذكّي أو لم يذكّ، كالكلب و الخنزير.

و اخرى: يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أيضا من حيث الطهارة و الحرمة، كالحشرات فإنها طاهرة في حال الحياة و الموت و التذكية، و حرام كذلك أيضا.

و ثالثة: مما يكون الأثر بالنسبة إلى الطهارة فقط دون الحلية، كالسباع فإنها إن ماتت حتف الأنف تكون حراما و نجسة، و إن ذكيت تكون حراما و طاهرة.

و رابعة: ما يكون لها الأثر بالنسبة إلى كل من الطهارة و الحلية، كالأنعام الثلاثة مثلا، حيث أنها بالموت تتنجس و تحرم، و بالتذكية تكون حلالا و طاهرة.

إذا تبين هذا نقول: إن الشك في التذكية.
تارة: في الشبهة الحكمية،

أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص، كما إذا لم يعلم مثلا أن الحيوان المتولد بين الحيوانين الذي لا يتبعهما في الاسم و الصفة قابل لها أو لا.

و اخرى: في الشبهة الموضوعية الخارجية

أما الاولى فلا وجه لأصالة عدم التذكية فيها أصلا، لما عن صاحب الحدائق الإجماع على أن كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل، و عن صاحب الجواهر: «مؤيدا بما يفهم من مجموع النصوص المتقدمة في لباس المصلي من قبول التذكية لكل حيوان طاهر العين حال الحياة، و إن لم يكن مأكول اللحم، و لكن لا يصلي فيه عدا ما استثني». و في صحيح ابن يقطين:

«سألت أبا الحسن عليه السّلام: عن لباس الفراء، و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود؟ قال عليه السّلام: لا بأس». فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية فيها مع مثل هذه

ص: 182

الإطلاقات، و دعوى الإجماع، مع أنها من العرفيات التي يكفي فيها عدم الردع.

مع أن عدم التذكية فيها إما لأجل توهم حرمتها النفسية، أو لأجل الحرمة الغيرية، كالاستعمال في ما يعتبر فيه الطهارة، و قد مرّ أن الشك في الحرمة مطلقا من مجاري البراءة، نفسية كانت أو غيرية، فراجع.

تفصيل القول في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية

و أما الثانية فخلاصة القول فيه، أن التذكية إما عبارة عما يقوم بالمذكي (بالكسر) من التسمية و الاستقبال، و فري الأوداج و نحوها مع قابلية المحل، و بعبارة اخرى تكون مركبة من امور خاصة. أو تكون بسيطة و من التوليديات الحاصلة من هذه الامور، نظير الطهارة التي يمكن أن تكون عبارة عن الغسلات و المسحات، فتكون مركبة. أو الحالة النفسانية الحاصلة منها، فتكون بسيطة. و لا ريب في أن الشك في حصول التوليديات إنما يكون من ناحية الشك في أسبابها، و سيأتي أن الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب و لو كان توليديا، لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفا يصح كونها مجرى الأصل، بل يصح انتساب الأصل الجاري في أسبابها إليها أيضا، فلا ثمرة عملية بل و لا علمية في تنقيح أنها مركبة أو بسيطة.

و حينئذ فنقول: إن كان الشك في ما عدا قابلية المحل من سائر الشرائط فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم، فتجري أصالة عدم تحقق الشرط مع عدم وجود أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه أو نحوها، فيثبت عدم التذكية الذي هو عبارة اخرى عن الميتة شرعا، لكونهما متحدين في اصطلاح الشرع، كما نسب إلى المشهور، فتثبت النجاسة و الحرمة، و أما بناء على صحة التفكيك بينهما كما مرّ، فتثبت حرمة الأكل دون النجاسة.

و إن كان الشك في قابلية المحل و عدمها، فالأصل الجاري حينئذ منحصر بالأصل الجاري في العدم الأزلي، و مفاد ليس التامة، لأن كل حيوان حين تكوّنه إما أن يتكوّن قابلا لها أو غير قابل، و هذه القابلية أو عدمها كلوازم الذات غير

ص: 183

المنفكة عنه، فلا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع، بل ما هو المتصور منها إنما هو (أصالة عدم تحقق القابلية للتذكية) بالعدم الأزلي السابق على كل حادث، لأن القابلية أيضا حادث من الحوادث مسبوق بالعدم الأزلي، فيجري الأصل فيه حينئذ كجريانه في جميع الحوادث المسبوقة بالعدم، سواء كانت من الذوات أو من لوازمها.

إن قلت: نعم، و لكن المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية، و المطلوب هو إثبات عدم قابلية هذا الموضوع الخارجي لها، فيصير الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليه.

قلت: هذا الإشكال جار في جميع استصحابات الأعدام الأزلية، و لا اختصاص له بخصوص المورد، و الجواب أن الكلي و الحصة متحدان مع الفرد الخارجي و إن كان بينهما فرق اعتباري عقلي، فلا يكون الأصل مثبتا، فهو كاستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.

هذا، و لكن الاستصحاب في الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلة، مع أنه معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة، و بعد المعارضة و السقوط تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الذي هو أصالة الحلية و الطهارة، فيكون حلالا و طاهرا، و التفكيك بينهما بالحرمة و الطهارة بدعوى: أن المحللات محصورة و ليس المورد منها، فيكون حراما.

مردود: بدعوى العكس، فيحل حينئذ لا محالة.

و كذا دعوى أن الحلية تعلقت بأمر وجودي و هو الطيبات، فلا بد من إحراز الطيبية، و إلا فتشمله أدلة الخبائث فيكون حراما.

مردودة: أيضا بالنقض بأن الحرمة تعلّقت بالأمر الوجودي الذي هو الخبائث، فلا بد من إحرازه، و إلا فيكون حراما، مع أنه يمكن منع كون الطيب أمرا وجوديا، بل هو عدمي أي ما لا يستقذره الطبع، فراجع المطولات.

ص: 184

بيان الحق في المقام، التمسك ببعض الأخبار على ذلك

و الحق أن يقال: إنه لا وجه لجريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك في القابلية و عدمها، لأن عدم القابلية لها مما لا يعلم إلا من طريق الوحي و ينحصر العلم بها فيه، فلو كان حيوان حراما واقعا، و كانت فيه خصوصية الحرمة، وجب على الشارع بيانها لانحصار طريق معرفتها ببيانه، فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية مع أن عمومات الحلية بيان، مضافا إلى أن لنا أن نقلب الأصل، و نقول مقتضى سهولة الشريعة المقدسة، و إطلاقات الحلية، أن الحرمة تتقوّم بخصوصية خاصة، و مع الشك في تلك الخصوصية يجري الأصل الأزلي في عدمها، فالحلية مرسلة مطلقة، و الحرمة مقيدة بالخصوصية.

و بالجملة: مقتضى عمومات الحلية و قاعدتها حلية كل حيوان، و كذا مقتضى حصر ما لا تقع عليه التذكية في ما نص عليه بالخصوص، و وقوع التذكية على كل حيوان إلا ما خرج بالدليل، فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة.

نعم، تجري في مثل الشك في الاستقبال، و التسمية ما لم تكن أمارة على الخلاف.

و يشهد لذلك الأخبار التي يستفاد منها أصالة عدم التذكية، فإن جلّها واردة في الشبهات الموضوعية، ففي خبر أبي بصير: «فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحبا فاشترك جميعا في الصيد، فقال عليه السّلام: لا يؤكل، لأنك لا تدري أخذه معلم أو لا». و في خبر آخر: «فإن يتردى في جب، أو و هدة من الأرض، فلا تأكله و لا تطعمه، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الشبهات الموضوعية.

التنبيه الثاني: لا ريب في حسن الاحتياط غير المخلّ بالنظام
اشارة

نصا و إجماعا، بل باتفاق العقلاء، و لا إشكال فيه في التوصليات. بل يترتب عليه الثواب أيضا إن كان بعنوان الرجاء، و كذا في العباديات مع دوران الأمر فيها بين الوجوب

ص: 185

و الندب، لثبوت الأمر الذي يتقوّم به العبادية، فيتحقق موضوع حسن الاحتياط حينئذ.

و أما مع دوران الأمر بين الوجوب و غير الندب أو الندب و غير الوجوب، فقد اشكل في جريانه فيها بعدم إحراز الأمر حينئذ، و المفروض أن العبادية متقوّمة بذلك، و مع عدم تحقق العبادية لا يتحقق موضوع حسن الاحتياط أيضا، لأنه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه جزء و شرطا بعنوان الاحتياط.

و اجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

منها: ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من إنكار الاحتياط فيها رأسا، فقال:

(و في جريان ذلك في العباديات عند دوران الأمر بين الوجوب و غير الاستحباب وجهان: أقواهما العدم).

و يرد عليه: أنه مخالف مع ما في رسائله العملية و كتبه الاستدلالية الفقهية، كما لا يخفى على من راجعها.

و منها: أن من حسن الاحتياط عقلا يستكشف الأمر بقاعدة الملازمة شرعا.

و فيه.. أولا: أن الحسن يتعلّق بذات الاحتياط من حيث هو، و الأمر الذي يراد إثباته إنما هو بالنسبة إلى متعلّقه لا ذاته، و لا ربط لأحدهما بالآخر.

و ثانيا: أن مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفا بحال الذات، و حسن الاحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه، فلا وجه لأن يكون مورد قاعدة الملازمة.

و منها: أن من ترتب الثواب يستكشف الأمر، لكون الثواب معلولا للامتثال و هو معلول الأمر.

و فيه: أن ترتب الثواب أعمّ من امتثال الأمر، كما مرّ في بعض المباحث السابقة، مع أن الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعا لا في طريق استكشافه في

ص: 186

الظاهر، و حينئذ فمعلول الشيء لا يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته، لأنه دور باطل.

و منها: أن نفس الأوامر التي وردت في الاحتياط تكفي للداعوية، فيقصد نفس الأمر الاحتياطي.

و فيه.. أولا: أنها ليست عبادية، فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.

و ثانيا: أنها طريقية محضة، لا بد و أن يكون الأمر العبادي ثابتا في المتعلق قبل عروض الأمر الاحتياطي حتى يتحقق الاحتياط في العبادة، فهذا الوجه كالوجه الأول مغالطة بين نفس الاحتياط و العمل المحتاط فيه.

و منها غير ذلك مما ذكر في المطولات مع ما فيه من ظهور الخدشة.

و الحق أن يقال: إن كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء، و هي لديهم إما علمية تفصيلية، أو إجمالية، أو احتمالية رجائية، و الامتثال برجاء المطلوبية نحو من الامتثال لديهم، و لم يردع عنه الشارع بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط. فكما أن الامتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الاصول المعتبرة صحيح شرعا، فكذا في موارد رجاء الأمر، بل يكون الانقياد فيها أشد، كما لا يخفى.

و قد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار «من بلغ».

الكلام في قاعدة التسامح من جهات:
اشارة

بدعوى: أن مفادها تحقق الأمر الشرعي في مورد احتمال ثبوت الأمر، و قد يعبر عن ذلك ب «قاعدة التسامح في أدلة السنن».

و البحث فيها من جهات:

الجهة الاولى: في الأخبار الدالة على القاعدة
اشارة

، منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به، كان له أجر ذلك و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام أيضا: «من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام: «من بلغه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله كان ذلك له

ص: 187

و إن كان النبي صلّى اللّه عليه و آله لم يقله». و عنه عليه السّلام أيضا: «من سمع شيئا من الثواب، فصنعه كان له و إن لم يكن على ما بلغه». و عن أبي جعفر عليه السّلام: «من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب، أوتيه و إن لم يكن الحديث، كما بلغه». و يقتضي ذلك في الجملة ما ورد في أخبار كثيرة «إن اللّه تعالى عند ظن عبده المؤمن»، و عموم قوله تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً . و قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ، و قوله تعالى:

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً إلى غير ذلك من الآيات.

المناقشة فيها و ذكر الاحتمالات فيها و الإشكال عليها

و لكن يمكن المناقشة فيها بأنها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن المراد من «أحسن عملا»، و «ثواب الآخرة» و عمل الخير ما ثبت الأمر به شرعا، لا ما لم يحرز الأمر به بعد.

و لكنها مدفوعة بأن المراد ما صدق عليه الخير و الثواب عرفا، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية.

و كيف كان، فإن أخبار المقام تحتمل وجوها:

الأول: أنها في مقام بيان الأخبار عن تفضل اللّه تعالى، و أنه غير متوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد، فلا يتوقف على قصد الأمر و لا على غيره، بل المناط فيه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب، فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر.

و أورد عليه: أن توقف الثواب على إضافة العمل إلى اللّه تعالى غالبا من القرائن الحالية التي تمنع عن التمسك بهذا الإطلاق، مع أن في بعض ما مرّ من الأخبار قرينة لفظية على لزوم الإضافة إلى الشارع، و هو قوله عليه السّلام: «ففعل ذلك طلب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله»، و قوله عليه السّلام: «التماس ذلك الثواب».

و هو مدفوع.. أولا: بأنه أول الدعوى.

و ثانيا: بأن الإتيان لأجل تفضّل اللّه تعالى عليه نحو إضافة إلى اللّه تعالى، و لا نحتاج في ترتب الثواب أزيد من هذه الإضافة لو قلنا باعتبار الإضافة إلى اللّه

ص: 188

في ترتب الثواب.

الثاني: أنها في مقام بيان أن كمية الثواب و كيفيته بأي نحو بلغ إلى العبد، يؤتى تلك الكمية و الكيفية و إن لم تكن صادرة واقعا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله، فعلى هذا يعتبر أن يكون المتعلّق أمرا عباديا بدليل معتبر شرعي.

نعم، كمية الثواب و كيفيته يتسامح فيهما.

و فيه: أنه خلاف ظاهر تلك الأخبار، حيث أنها في مقام بيان بلوغ أصل الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات و الكمية.

الثالث: أن هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء، فيكون معنى (فعمل به) أي فليعمله.

و يرد عليه: أنه خلاف المنساق منها عرفا.

الرابع: أن يكون في مقام بيان أن نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجب لحدوث الملاك و الأمر، و تكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدل على اعتبار الوثوق في الصدور، فيعتبر الوثوق بالصدور في الروايات إلا في الروايات الدالة على السنن. و هذا الوجه قريب من فضل اللّه تعالى، و مناسب لمذاق الشرع، و لكنه بعيد عن صناعة الاستدلال، كما لا يخفى.

و على أي حال فاستفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل جدا.

نعم، يصح ذلك إن كان برجاء الثواب و التماسه، كما وقع التصريح به فيها. فما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالاستحباب في موردها من غير تقييد بالإتيان برجاء المطلوبية، لعله منزّل على مرتكزات نوع المتشرعة من أنهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب، فكيف بمحتمل الأمر.

الجهة الثانية: هل تدل الأخبار على ترتيب جميع آثار المطلوب الشرعي؟

الجهة الثانية: على فرض استفادة الاستحباب منها - إما مطلقا، أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب - هل تترتب عليه جميع آثار المطلوب الشرعي مطلقا أو لا؟ وجهان، بل قولان: أحوطهما الثاني، لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة، فلو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللحية، و قلنا

ص: 189

باستحبابه، فالمتيقن ترتب الثواب عليه، و أما أنه لو جفت بلة يده و لم يتمكن من المسح بها، ففي جواز أخذها من محل الاسترسال و المسح بها إشكال، لقصور الأدلة عن إثبات غير الثواب.

الجهة الثالثة: موارد جريان قاعدة التسامح في الأدلة

الجهة الثالثة: قد جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية، و في أدلة المكروهات، و الفضائل، و المعاجز، و الأخلاقيات، و ما ورد لدفع الأوجاع و الأمراض، و ما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات و الدعوات و غيرها، و ما ورد في الامور التي لها آثار وضعية دنيوية. مع أن أدلة المقام مشتملة على الثواب - كما مرّ - و لا يبعد أن يكون الوجه في ذلك أنهم قدس سرّهم حملوا الثواب على مجرد المثالية، و أنه ذكر من باب الغالب و الترغيب لا الخصوصية، فيكون المعنى: أن من بلغه شيء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في غير الواجب و الحرام، يترتب أثر ذلك الشيء عليه و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله؛ و يمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه أيضا. و يمكن الاستدلال على التسامح في ذلك كله بقولهم عليهم السّلام في جملة من الأخبار: «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها»، إذ لا ريب في أن ذلك كله فيه من الحكمة، و قد فسّرت بكل ما فيه خير و صلاح. فتأمل.

و كيف كان، فهل تشمل قاعدة التسامح فتوى المشهور أو الفقيه الواحد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك؟ وجهان، بل قولان: من أنه لم ينسب إلى السنة أولا و بالذات فلا تشمل، و من انتهائهما إليها فتشمل، و مقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين و التخيير
اشارة

التنبيه الثالث: قد مرّ الاتفاق على البراءة في الشبهات الوجوبية، بلا فرق فيها بين العيني و الكفائي و غيرهما من أقسام الوجوب، لكن مع احتمال الإباحة أيضا، و أما لو علم بالوجوب و تردد بين كونه تعيينيا أو تخييريا، فهذه هي المسألة المعروفة في الفقه و الاصول بدوران الأمر بين التعيين و التخيير، و المشهور فيها هو الأول، لكنه من موارد قاعدة الاشتغال، و لما مرّ في مباحث

ص: 190

الألفاظ من أن مقتضى الإطلاق كون الوجوب عينيا تعيينيا نفسيا إلا إذا دلّ دليل على الخلاف، فيطابق الأصل اللفظي و العملي على التعيينية.

و كذا الكلام بعينه في ما إذا علم بالوجوب و تردد بين كونه عينيا أو كفائيا، هذا خلاصة ما قالوه في الأخذ بالوجوب التعييني عند الدوران بينه و بين التخييري، و نسب ذلك إلى المشهور.

الإشكال على المشهور، و نقل كلام بعض مشايخنا و الرد عليه

و يرد عليه: أن خصوصية التعيينية و العينية قيد زائد مشكوك فيه، فيرجع فيه إلى البراءة، كما في سائر القيود الزائدة المشكوكة فيها فالمقام من مجاري البراءة لا الاشتغال، لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده و قيوده، و عدم تمحض الشك في الشك في الامتثال فقط.

نعم، لو اكتفينا في وجوب الاحتياط بمجرد العلم بجنس التكليف من دون أن يعلم نوعه، لوجب الاحتياط في المقام. و لكنه ممنوع، بل التكليف المنجز ما إذا علم نوع التكليف بحسب الطرق و الأمارات و الاصول المعتبرة من جهة النوع.

و عن بعض مشايخنا قدس سرّهم عدم صحة البراءة هنا، و خلاصة كلامه قدّس سرّه: أنه يعتبر في مجرى البراءة أن يكون من الامور الوجودية لا العدمية، و المقام من الأخيرة دون الاولى، لأن التعيينية عبارة عن عدم العدل و البدل للواجب، و ذلك عدمي، كما هو واضح، و لا يتعلّق الجعل الشرعي بالعدم و العدمي.

و فيه.. أولا: أنه مخالف للعمومات و الإطلاقات الواردة بالنسبة إلى البراءة و التوسعة و التسهيل مهما وجد للشارع إليه سبيل، و هذه كلها تشمل الوجودي و العدمي مطلقا.

و ثانيا: أنه منقوض بالاستصحاب و الاصول العدمية المقررة شرعا، سواء كانت تأسيسية أو إمضائية.

و ثالثا: أن هذه كلها من إعدام الملكات و لها حظ من الوجود، كما ثبت في محله.

ص: 191

و رابعا: أنه لا وجه لكون مورد البراءة في المقام عدميا، بل هو عبارة عن خصوصية خاصة في الواجب التعييني تقتضي إتيانه بذاته فقط. كما أن التمسك لتعيين التعييني، بما مرّ في مباحث الألفاظ أن إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا باطل، لأنه في مقام الإثبات، و ما نحن فيه في مقام الثبوت، فلا وجه للخلط بينهما.

أقسام الواجب التخييري

ثم إن الواجب التخييري..

تارة: في ظاهر الخطاب الشرعي، كخصال الكفارات مثلا.

و اخرى: عقلي، كما في المتزاحمين المتساويين خطابا و ملاكا.

و ثالثة: التخيير في المسألة الاصولية - أي التخيير في أخذ الحجة - و الرجوع إلى البراءة إنما يصح في القسم الأول فقط. و أما الأخيرين فاحتمال التعيين في أحدهما مرجح يتعين الأخذ به، فلا وجه للبراءة حينئذ.

موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير

فتلخّص من جميع ما مرّ: تعين الرجوع إلى البراءة في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و هي أربعة:

الأول: الشك في أصل تشريع الوجوب ابتداء، ثم الشك في أنه على فرض الثبوت تعييني أو تخييري، فيكون في البين شكان طوليان، و يرجع فيهما إلى البراءة عند الكل.

الثاني: العلم بأصل الوجوب، و الشك في أن هذا بالخصوص تعييني، أو أنه أحد فردي الواجب التخييري، و قد أثبتنا فيه الرجوع إلى البراءة أيضا.

الثالث: العلم بوجوب كل واحد من الطرفين، و الشك في أن هذا الوجوب من كل منهما تعييني أو تخييري، و المرجع فيه البراءة أيضا، لعين ما تقدم في سابقه.

الرابع: العلم بوجوب شيء و العمل بأن الشيء الآخر مسقط عنه، سواء كان مباحا أو مندوبا، و الشك في أنه واجب تعييني أو لا، و المرجع فيه البراءة أيضا، لعين ما تقدم.

ص: 192

الكلام في دوران الأمر بين الواجب العيني و الكفائي

و من ذلك يظهر الأمر في ما دار الأمر بين الواجب العيني و الكفائي، فإنه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينيا أو كفائيا، لوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي، و لكن لو أتى به أحد يشك في تعلّق الوجوب بالنسبة إليه للشك في العينية، فيرجع فيه إلى البراءة.

و لكن مع ذلك كله، فالأحوط ما هو المشهور، لاحتمال كون العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط منجزا، و إن لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.

التنبيه الرابع: جريان البراءة في جميع الشبهات مطلقا
اشارة

التنبيه الرابع: لا ريب في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية - وجوبية كانت أو تحريمية بجميع أقسامهما - لعدم كفاية مجرد العلم بالتكليف فقط في تنجزه و صحة المؤاخذة عليه، بل لا بد مع ذلك من إحراز متعلّقه و موضوعه. لأن إحرازهما من حدود إحراز الحكم و قيوده، و مع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة عقليا كان أو نقليا - كما مرّ - سواء كان تعلّق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الانحلالي، أو على نحو صرف الوجود، أو على نحو العام المجموعي من حيث المجموع. ففي الشبهات الموضوعية في جميع ذلك يرجع إلى البراءة.

توهم اختصاص البراءة ببعض الأقسام و الجواب عنه

و توهم: أنه لا مجرى لها في الأخير لمعلومية التكليف فيه بحدوده و قيوده، فيكون من مورد الاشتغال لا البراءة.

مردود.. أولا: بأن المجموع ليس إلاّ الأفراد و لا تحقق له في غيرها، و الشك في بعضها شك في أصل التكليف بالنسبة إليه، و يكون من موارد الأقل و الأكثر، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر لوجود المقتضي و فقد المانع.

و ثانيا: بأنه ليس في الشرعيات تكليف يكون كذلك بالنسبة إلى الأفراد، فيكون من مجرد الفرض.

نعم، يصح ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلّق به التكليف، زمانا كانت تلك الأجزاء - كما في الصوم - أو غيره - كما في الصلاة مثلا - فإن صحة الصوم متوقفة على الإمساك في جميع أجزاء الزمان الصومي من حيث

ص: 193

المجموع، فلو تخلّف في جزء من أوله، أو وسطه، أو آخره بطل الصوم. كما تتوقف صحة الصلاة على تحقق سائر شرائطها من أولها إلى آخرها، فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت، و هكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة، و لكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد، كما لا يخفى.

نتيجة البحث

و الحاصل أن مقتضى القاعدة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو غيرها، ففي الدّين أو الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر، تجري البراءة عن الأكثر، لكونه من الشك في أصل التكليف، و لكن نسب إلى المشهور الاحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل و الأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها، فإن كان ذلك لأجل القاعدة فهي تدلّ على البراءة، كما مرّ.

مع أن مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت عدم الوجوب أيضا، و استصحاب عدم الإتيان محكوم بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت، كما هو معلوم. و إن كان لأجل نص خاص بها فهو مفقود، كما اعترف به جمع، و إن كان لأجل أن كثرة اهتمام الشارع بالصلاة تقتضي ذلك فهو لا يقتضي إيجاب الاحتياط. و إن اقتضى حسنه و استحبابه، كما لا وجه للتفرقة فيه بما عن بعض من أنه إن علم عدد الفوائت ثم عرض النسيان، و تردد بين الأقل و الأكثر، وجب الاحتياط بإتيان الأكثر. و إن كان التردد من أول الأمر بلا سبق العلم فلا يجب، و ذلك لأن المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كل تقدير، كما لا يخفى. هذا كله لباب القول في دوران الأمر بين الحرمة و غير الوجوب، و دورانه بين الوجوب و غير الحرمة. و أما دوران الأمر بين الحرمة و الوجوب - المعبر عنه بدوران الأمر بين المحذورين - فالكلام فيه يأتي في الفصل الآتي.

ص: 194

الفصل الثالث أصالة التخيير و البحث فيها من جهات:

الجهة الاولى: بيان موضوعها

الجهة الاولى: في بيان موضوعها: تقدم أن المشكوك إما أن يلحظ فيه الحالة السابقة، فيكون مجرى الاستصحاب. أو لا يلحظ ذلك، و حينئذ فإن لم يعلم التكليف أصلا. و لو بجنسه - فهو مجرى البراءة، و إن علم به و أمكن الاحتياط، فيكون مورد الاشتغال، و إن لم يمكن ذلك فيكون مجرى التخيير.

فمورد التخيير المبحوث عنه في المقام متقوّم بأمرين: العلم بجنس التكليف، أي: الالزام في الجملة فعلا أو تركا، و عدم إمكان الاحتياط رأسا.

الجهة الثانية: أقسام التخيير و مجرى كل واحد منها في التوصليات و التعبديات

الجهة الثانية: أن العلم بجنس التكليف إما في التوصليات أو في غيرها.

أما الأول، كما إذا علم بأن السكوت في آن واحد إما واجب أو حرام عليه، فليس فيه إلا التخيير الفطري التكويني، لأنه بحسب إرادته الارتكازية إما فاعل أو تارك، و لا يجري فيه التخيير العقلي، لأنه فيما إذا كان في البين خطابان فعليان تاما الملاك من كل جهة و لفقد الترجيح، و عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما يحكم العقل حينئذ بالتخيير، أو كان خطاب واحد فعلي معلوم بنوعه و له أفراد متساوية من كل جهة، فالعقل حينئذ يحكم بالتخيير بين الأفراد، و المفروض أنه ليس في المقام إلا خطاب واحد مردد بين الوجوب و الحرمة، فالتكليف ليس

ص: 195

معلوما بنوعه، بل بجنسه المهمل فقط، فيكون المقام خارجا عن التخيير العقلي بقسميه تخصصا.

نعم، يحكم العقل بأنه إما فاعل أو تارك تكوينا، و ليس ذلك من التخيير العقلي المبحوث عنه في الاصول في شيء، كما لا وجه لجريان التخيير الشرعي المولوي الواقعي فيه، للعلم بعدم وجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعا، بل المعلوم وحدته من كل جهة، مع أن الخطابات المولوية - تعينية كانت أو تخييرية - لا بد و أن تصلح للداعوية و مع كون المكلف بحسب إرادته الفطرية الارتكازية إما فاعل أو تارك، لا يصلح الخطاب لها فيكون لغوا إلا أن يكون إرشادا محضا إلى ما عليه المكلف بحسب ذاته و تكوينه، و لا كلام فيه، إنما الكلام في الحكم المولوي، و لا فرق فيه بين التخيير الواقعي، كما في خصال الكفارات. أو الظاهري، كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة، مع أنه في التخيير الشرعي الواقعي لا بد و أن يكون كل واحد من الطرفين أو الأطراف تام الملاك و الخطاب، و ليس المقام كذلك، لعدم الملاك إلا في الواحد.

و كذا لا وجه لجريان الحلية و البراءة الشرعية، لأن جريانهما في خصوص الوجوب أو الحرمة ترجيح بلا مرجح، و فيهما معا مخالفة للعلم بأصل الإلزام، و بالنسبة إلى أصل العقاب في الجملة لا أثر لها للعلم بعدم العقاب، إذ لا عقاب لدى العقلاء في مورد العلم بجنس التكليف، لعدم كفايته في تنجزه بعد عدم إمكان المخالفة القطعية، و إنما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به و تنجزه، إلا أن يكون الجريان إرشادا إلى حكم العقل بعدم صحة العقاب.

و من ذلك يظهر عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا، لاختصاص جريانها بمورد الشك في العقاب، فلا مجرى لها مع العلم بالعدم.

هذا كله إذا كان المورد توصليا و لم يتصور فيه المخالفة القطعية و لا الموافقة القطعية.

ص: 196

و أما لو كان كل واحد منهما أو أحدهما المعين تعبّديا، فيتصور فيه حينئذ المخالفة القطعية بترك قصد القربة، فتحرم و إن لم تجب الموافقة لعدم إمكانها، و لكن الظاهر أنه مع عدم ثبوت أحدهما بالخصوص يكون الحكم هو التخيير أيضا، بدعوى أنه الأصل لدى العقلاء في كل ما تردد بين شيئين مثلا و لم يعلم بالخصوص.

نعم، فرّق بين التخيير هنا و ما مر في التوصلي، فإنه فيه فطري تكويني و هنا عقلائي اختياري و لا بد من قصد القربة في ما يعتبر فيه، سواء كان كل منهما أو أحدهما.

ثم إن ما تقدم إنما هو في ما إذا كان الطرفان، أو الأطراف متساوية من جميع الجهات، و أما لو كانت مزية في البين، فيكون من موارد الدوران بين التعيين و التخيير، و قد مرّ البحث فيه، فراجع.

الجهة الثالثة: في استمرار التخيير و الإشكال عليه
اشارة

الجهة الثالثة: مقتضى بقاء مناط التخيير - و هو التّحير و الجهل بالواقع و عدم الترجيح - كون التخيير استمراريا، فلا موجب لزواله بعد الأخذ بأحدهما إلاّ لزوم المخالفة القطعية، و لكنها ليست بمانعة لحصول العلم بها بعد العمل، و ما هو الحرام إنما هو المخالفة عن علم و عمد عند الارتكاب، بأن يكون حين العمل عالما، و كان عاصيا، هكذا قيل.

و لكنه مشكل، فإنه يعلم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير، فيكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية فلا يصح، كما يأتي من عدم الفرق بين التدريجية منها و الدفعية. و مقتضى مرتكزات المتشرعة عدم الفرق بينها أيضا، و ليس من شأن الفقيه الترخيص فيها. و من هنا يصح أن يقال بأولوية الموافقة الاحتمالية في المقام عن الموافقة القطعية، لاستلزام الأخيرة المخالفة القطعية أيضا.

ص: 197

الشك في المكلف به:
اشارة

كلما كان الشك فيه في أصل التشريع و ثبوته واقعا، فهو شك في أصل التكليف، و يكون مورد البراءة، و تقدّم ما يتعلّق بها. و كلما علم بثبوت أصل التشريع فيه و شك في جهات اخرى، فهو من الشك في المكلف به، و يكون مورد الاحتياط و الاشتغال. و الجهات الاخرى التي تكون مورد الشك كثيرة.

فتارة: تكون في نوع التكليف بعد العلم بأصل جنسه، كما إذا علم أصل الإلزام و تردد بين الوجوب و الحرمة مع إمكان الاحتياط.

و اخرى: تكون في المتعلّق، كما إذا علم الوجوب تفصيلا و تردد متعلّقه بين الظهر و الجمعة مثلا.

و ثالثة: تكون في الموضوع الخارجي، كما إذا ترددت القبلة بين جهتين أو جهات.

و كل ذلك..

تارة: في الشبهة التحريمية.

و اخرى: في الوجوبية.

و كل منهما..

تارة: يكون من المتباينين، و هو ما لم يكن معلوم التنجز في البين.

و اخرى: من الأقل و الأكثر و هو ما تحقق فيه معلوم التنجز، و شك في الزائد.

موضوع الشك في المكلف به، جهات الشك و الكلام يقع في مقامين
اشارة

فالكلام في مقامين:

الأول: في المتباينين.

و الثاني: في الأقل و الأكثر.

ص: 198

المقام الأول: في المتباينين
اشارة

اعلم أن البحث إنما هو بناء على كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز، لا أن يكون علة تامة له، و إلا فالبحث ساقط من أصله لحكم العقل بوجوب الاحتياط حينئذ.

و لباب البحث يرجع إلى أن الاصول تجري في أطراف العلم الإجمالي بناء على كونه مقتضيا للتنجز حتى يسقط عن الاقتضاء، أو لا تجري فيكون حينئذ المقتضي للتنجز موجودا و المانع عنه مفقودا، فيكون مثلما إذا كان علة تامة للتنجز، و الحق هو الثاني، و استدل عليه بوجوه:

مناط البحث فيه. الكلام في العلم الإجمالي الاستدلال عليه بوجوه
الأول: اختلاف مورد الشك الذي هو مجرى الاصول عن أطراف العلم الإجمالي، إشكال و جواب

الأول: - و هو أسدّها و أخصرها - ما ارتكز في الأذهان من أن مورد الشك الذي تجري فيه الاصول لا بد و أن يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية و التنجز من كل حيثية وجهة، فلو كان فيه الاقتضاء لها فلا مورد للاصول حينئذ، و لا أقل من الشك في ذلك، فلا يمكن حينئذ التمسك بأدلتها اللفظية، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و لا بأدلتها اللبية، لأن المتيقن منها غير ذلك، فلا محيص إلا من الاحتياط، و لا ريب في ثبوت الاقتضاء في كل من أطراف العلم الإجمالي.

إن قلت: نعم، و لكنه إذا لوحظت الأطراف بنحو الجمع و الوحدة، و أما إذا لوحظ كل طرف مستقلا مع قطع النظر عن الآخر، فيكون لا اقتضاء من كل جهة فيجري الأصل، و حيث لا يمكن الجمع يحكم بالتخيير، كما في الأمارتين المتعارضتين.

قلت: لحاظ الوحدة و الجمع إنما هو في متعلّق العلم التفصيلي و هو علة تامة للتنجز، و إنما يثبت الاقتضاء بملاحظة كل طرف مع قطع النظر عن الآخر بنحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم، إذ يلزم الخلف لأنه حينئذ مستلزم لعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي مع أنه أحد طرفيه في الواقع.

ص: 199

مع أن التخيير إما عقلي أو شرعي، و الأول إنما هو في ما إذا ثبت فيه الملاك التام في كل طرف، و الثاني لا يثبت إلا بدليل خاص، و لا ملاك في كل واحد منهما حتى يثبت التخيير العقلي، فهو منفي ثبوتا و لم يرد دليل على التخيير الشرعي فهو منفي إثباتا، فلا وجه له أصلا.

نعم، لو قلنا بأن التخيير في المتعارضين عقلائي، و لا يحتاج إلى ورود دليل بالخصوص يثبت التخيير العقلائي في المقام، أيضا لو فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي و كان المانع منحصرا في لزوم المخالفة العملية من العمل بها مع ثبوت المقتضي للجريان من كل جهة، و لكنه ممنوع لما مرّ من عدم المقتضي لجريانها في أطراف العلم الإجمالي أصلا.

الثاني: أن الاصول العملية بحسب ملاحظاتها مع أطراف العلم الإجمالي على أقسام ثلاثة:

الأول: ما يكون منافيا لنفس المعلوم بالإجمال و مضادا له، كأصالة الإباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين، فإن الإباحة تضاد الإلزام المعلوم في البين، فلا يجري مثل هذا الأصل في أطراف مثل هذا العلم الإجمالي، للمضادة.

الثاني: الاصول الإحرازية - و تسمى التنزيلية أيضا - كالاستصحاب، و حيث إنها متكفلة للإحراز و التنزيل في الجملة عرفا، و تنزيل أطراف المعلوم بالإجمال منزلة خلافه مضاد و مناف له، فلا مجرى لها من هذه الجهة، كاستصحاب الطهارة مثلا في أطراف ما علم إجمالا بوقوع النجاسة فيها.

الثالث: ما تجري و تسقط بالمعارضة، كأصالة البراءة.

و فيه: أن هذا التفصيل إما مع فرض كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز و أنه مانع عن جريان الاصول، أو مع فرض عدمه، فعلى الأول لا وجه لهذا التفصيل، لأن وجود ما فيه الاقتضاء بنفسه مانع عن جريانها، كما مرّ و لا تصل النوبة إلى الموانع الخارجية.

ص: 200

و على الثاني لا وجه له أيضا، لأن المضادة و المعارضة و المنافاة إنما تحصل لأجل وجود ما فيه الاقتضاء، و إلا فتكون الأطراف كالشبهات البدوية، فتجري الاصول مطلقا بلا مانع عنها في البين.

الثالث: ما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه، فإنه جعل المانع عن جريانها

تارة: ثبوتيا من لزوم المخالفة العملية بلا فرق بين الاصول مطلقا حتى الاستصحاب.

و اخرى: إثباتيا في خصوص الاستصحاب من مناقضة صدر دليله مع ذيله، فإن قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك»، و قوله عليه السّلام في بعض الأخبار:

«و لكن تنقضه بيقين آخر» متناقضان، لأن مقتضى الصدر صحة استصحاب الطهارة في كل واحد من الإناءين اللذين علم بنجاسة أحدهما إجمالا، فيجوز الارتكاب، و مقتضى الذيل وجوب نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة فيجب الاجتناب، و ليس هذا إلا التناقض و التنافي في الدليل و العلم بكذب أحد الاستصحابين، فلا يجري الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي لذلك.

و اشكل عليه.. تارة: بأنه ليس تمام أدلة الاستصحاب مذيلا بهذا الذيل.

و فيه: أن هذا الذيل فطري ارتكازي فذكره في بعضها يغني عن تمامها، فالمطلقات منزلة عليه بقرينة الفطرة و الارتكاز، بل ليس هذا إلا التنافي الثبوتي الذي يسري إلى مقام الإثبات أيضا.

و اخرى: بأنه يظهر منه قدّس سرّه في مسألة ما إذا توضأ بمائع مردد بين الماء و البول، صحة استصحاب طهارة الأعضاء و بقاء الحدث مع العلم ببطلان أحدهما، و لا فرق بينها و بين المقام.

و فيه: أنه لا ربط لها بالمقام، لأنه في الوضوء من إناء واحد من الإناءين الذين علم ببولية أحدهما إذا توضأ بأحدهما فقط، لا علم فيه بنقض الحالة السابقة حتى يلزم التناقض من إجراء الأصلين، و الظاهر أنه قدّس سرّه لا يقول به. و أما

ص: 201

العلم ببطلان أحد الأصلين في الوضوء من الإناء الواحد المردد بين الماء و البول، فهو مبني على عدم صحة التفكيك في لوازم الأحكام الظاهرية من كل حيثية و جهة، و إثباته مشكل، إذ يمكن أن يقال ببقاء الحدث للأصل، و بقاء طهارة البدن للأصل أيضا.

و ثالثة: بأن التناقض يلزم إن كان متعلّق اليقينين واحدا من كل جهة، و في مورد العلم الإجمالي ليس كذلك، لأن العلم التفصيلي متعلّق بكل واحد من الأطراف، و الإجمالي تعلق بواحد لا بعينه، فيختلف المتعلّق و يرتفع التناقض.

و فيه: أنه ليس المراد بالتناقض في المقام التناقض المنطقي، بل التناقض العرفي الأعم من مطلق المنافرة و التضاد، كما مرّ في بحث التعارض، و لا إشكال في تحققه.

و رابعة: بأن قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» له أثر فيصح تعلق الجعل به، و هو ترتب آثار المتيقن على المشكوك فيه شرعا. و أما قوله «و لكن تنقضه بيقين آخر» فلا أثر له، لأن نقض اليقين باليقين وجداني، و اليقين مما لا يناله الجعل، كما مرّ.

و فيه: أنه أيضا بلحاظ الحكم المترتب على اليقين و هو مجعول، و يكفي هذا المقدار في صحة تعلّق الجعل.

فتلّخص مما تقدم صحة جعل المانع في عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إثباتيا أيضا، و لا محذور فيه. و ليس كلام الشيخ قدّس سرّه عند ذكره المانع الثبوتي في مقام الحصر حتى ينافي كلامه الآخر.

و قد يستدل على تنجز العلم الإجمالي بالاستصحاب.

و فيه: أنه إن اريد به الاستصحاب في طرف خاص و فرد مخصوص، فليس له حالة سابقة. و إن اريد به إثبات المقدّمية لكل طرف بالنسبة إلى العلم الإجمالي، فهو معلوم لا نحتاج في إثباته إليه و يكون من تحصيل الحاصل. و إن

ص: 202

اريد به استصحاب الكلي لإثبات المقدّمية فهو تحصيل الحاصل أيضا. و أن اريد به إثبات الوجوب في طرف معين فهو مثبت. و إن اريد به استصحاب الفرد المردد فلا تحقق له لا خارجا و لا ذهنا، فلا وجه لهذا الاستدلال بجميع شقوقه، و تنجز العلم الإجمالي أظهر من الاستدلال بمثل هذه الاستدلالات، فهو كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة كذلك إلاّ في موارد خاصة تأتي الإشارة إليها.

موارد عدم وجوب الموافقة القطعية:
الأول: ما إذا دلّ دليل مخصوص على أن الشارع اكتفى بالامتثال الاحتمالي

و أسقط وجوب الاحتياط، و يدور ذلك مدار ورود الدليل، كما في موارد قاعدة الفراغ و التجاوز، و قاعدة «الوقت حائل». أو اكتفى بالامتثال التنزيلي، كموارد حديث «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، و قاعدة اعتبار الظن في الركعات، و قاعدة أنه «لا شك لكثير الشك» إلى غير ذلك مما هو كثير. و يمكن تصوير ذلك في مورد العلم الإجمالي، كما إذا علم إجمالا بأنه إما شك في الفاتحة بعد دخوله في السورة أو سها عن ذكر الركوع بعد رفع الرأس منه، فتصح صلاته، بل لو أحرز كل منهما في محله تفصيلا تصح صلاته و لا شيء عليه.

الثاني: ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي

ثابت بأمارة معتبرة، أو أصل كذلك، سواء كان من سنخ التكليف المعلوم بالإجمال أو من غيره، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض و يسقط العلم الإجمالي عن التنجز، فلا تجب الموافقة القطعية حينئذ.

الثالث: ما إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية

، كما في دوران الأمر بين المحذورين على تفصيل تقدم في محله.

ص: 203

الرابع: خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء
اشارة

، لأن اعتبار القدرة في التكليف مما لا ريب فيه. و هي إما دقّية عقلية، أو شرعية خاصة، أو عادية عرفية.

و الاولى ليست مناطا للتكاليف الشرعية، لأنه يستلزم العسر و الحرج و المشقة من كل جهة و الأحكام الشرعية مبنية على التسهيلات النوعية، و عدم لزوم العسر و الحرج.

و الثانية تحتاج إلى دليل خاص يدل على اعتبارها - و قد ورد في موارد خاصة - فيتبع لا محالة، فيكون المناط في مطلق التكاليف القسم الأخير إلا إذا دلّ دليل على الخلاف. و هي متقوّمة بالابتلاء بالمكلف به عند العقلاء فيكون دليل اعتبار الابتلاء في التكليف عين دليل اعتبار القدرة فيه، و دليل سقوطه عما خرج عن مورد الابتلاء عين دليل عدم صحة التكليف بغير المقدور، مع أن التكليف المطلق لا بد و أن يصلح للداعوية المطلقة، و ما هو خارج عن مورد الابتلاء لا يكون كذلك، بل يكون التكليف في حاق الواقع معلّقا على الابتلاء فيلزم من ذلك الخلف.

حكم ما إذا لم يحرز الابتلاء فهل يجب الاحتياط أو تجري البراءة؟

ثم إنه إن احرز الابتلاء أو عدمه و لو بالأصل فهو، و إلا فهل يجب الاحتياط، أو تجري البراءة؟ قولان: وجه الأول التمسك بعموم الخطاب و إطلاقه، لكونه شكا في أصل التخصيص و التقييد، و أن المستفاد من الأدلة الواردة في الأبواب المتفرقة و المتعارف في التكاليف العرفية، توقّف سقوط التكليف على إحراز العجز و عدم كفاية الشك في القدرة في ذلك، فيكون المقام نظير الرجوع إلى البراءة في الشبهات البدوية قبل الفحص الذي لا يجوز اتفاقا.

و فيه: أن التمسك بها في المقام تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن عمومات التكاليف و إطلاقاتها تخصصت بدليل اعتبار القدرة، و المشكوك مردد بين دخوله في العمومات أو في دليل المخصص، فلا يصح التمسك بكل منهما بالنسبة إليه.

ص: 204

مع أنه إنما يصح التمسك بالإطلاق بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدون القيد لا في ما شك في اعتباره في صحته - كما في المقام - إذ لم يحرز فيه صحة الإطلاق الواقعي حتى يصح التمسك بالإطلاق اللفظي، فيكون من الشك في أصل التشريع. و لا وجه للتمسك في مثله بالإطلاق اللفظي لتفرّعه على صحة الإطلاق الواقعي، و مع عدم صحة التمسك بالإطلاقات يتعين الرجوع إلى البراءة إلاّ أنه مما يهوّن الخطيب أن المتفاهم بحسب العرف من احرز عجزه، فتكون كالقرينة المحفوفة بالكلام فالقول بالاحتياط أولى.

حكم ما إذا كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من جهة اخرى

ثم إنه لو كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من اخرى، كما إذا كان الشخص صائما و كان عنده إناءان، أحدهما المعين مضاف و الآخر مطلق طاهر، و وقعت قطرة من البول في أحدهما، و لم يعلم أنها وقعت في أيهما، فهل العلم الإجمالي منجز من حيث أنه صائم يحرم عليه الشرب أو لا تنجز فيه، إذ لا يحدث العلم الإجمالي تكليفا جديدا بالنسبة إلى حرمة الشرب إليه، فهل يجوز الوضوء بالمطلق لعدم جوازه بالمضاف قطعا قبل حدوث العلم الإجمالي بالنسبة إلى الوضوء تكليفا حادثا على كل تقدير؟ وجهان.

الخامس: الاضطرار و هو إما إلى تمام الأطراف أو إلى بعضها
و الأول يوجب سقوط العلم التفصيلي عن التنجز

، فكيف بالعلم الإجمالي نصا و إجماعا، إذ «ما من شيء حرّمه اللّه تعالى إلا و قد أحلّه لمن أضطر إليه».

و الثاني إما إلى المعين، أو إلى غيره،

و كل منهما إما يكون قبل تنجز العلم أو بعده.

و قال صاحب الكفاية بعدم تنجز العلم في جميع الصور الأربع، لأن من شرط تنجزه عدم الاضطرار إلى الارتكاب، و بفقد الشرط ينعدم المشروط، غير أنه قيل إنه عدل عن هذا الإطلاق.

ص: 205

إن قلت: هذا صحيح في ما إذا حصل الاضطرار قبل التنجز، و أما إذا حصل بعده فقد أثّر العلم الإجمالي أثره، فيستصحب التنجز في غير المضطر إليه.

قلت: التنجز في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لأجل المقدمية لا النفسية المستقلة، و مع سقوط التنجز عن بعض الأطراف للاضطرار تسقط المقدّمية لا محالة فيصير استصحاب التنجز بلا ملاك.

و يرد عليه: أن ملاك التنجز في الأطراف إنما هو لزوم تحصيل العلم بالامتثال، و هذا متحقق في المقام، لأنه لو ترك الطرف غير المضطر إليه يعلم بعدم ارتكاب الحرام في المعين، إما لأجل الاضطرار إن كان في الطرف المضطر إليه، و إما لأنه تركه واقعا إن كان في غيره.

إن قلت: هذا إذا كان الاضطرار إلى المعين، و أما إذا كان إلى غير المعين فالترخيص المطلق ينافي استصحاب التنجز.

قلت: الترخيص فيه جهتيّ لا من كل جهة، فله أن يرفع اضطراره بكل واحد منهما، و ليس له الترخيص في ارتكاب كليهما فيستصحب أصل التنجز في الجملة فيه أيضا.

فالحق أنه إن حصل الاضطرار بعد تنجز العلم يبقى الطرف الآخر على تنجزه، سواء كان إلى المعين أو إلى غيره.

نقل الكلام عن بعض مشايخنا في الاضطرار إلى غير المعين و المناقشة فيه

و عن بعض مشايخنا أن في الاضطرار إلى غير المعين يجب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا، سواء كان قبل العلم الإجمالي أو بعده أو مقارنا له. و خلاصة ما أفاده في وجه ذلك أن الاضطرار إلى غير المعين لا ينافي إلزام الشارع ثبوتا بالاجتناب عن الحرام، بأن يكلف المكلف بالاجتناب عما يختاره لو كان الحرام فيه، و يلزمه برفع الاضطرار بغيره بخلاف الاضطرار إلى المعين، فإنه لو كان الحرام فيه ليس للشارع إلزامه برفع اضطراره بغيره، إذ

ص: 206

المفروض أنه مضطر إلى خصوص المعين فقط و لا يمكنه رفع الاضطرار بغيره.

و فيه: أنه تصور حسن ثبوتا، و لكن لا دليل على تحقق الالتزام إثباتا بعد جريان الأصل بلا معارض.

السادس: فقدان بعض الأطراف

السادس: الظاهر أن حكم فقدان بعض الأطراف حكم الاضطرار في ما تقدّم من التفصيل، لأن تنجز التكليف مطلقا مشروط بالقدرة على متعلّقه و الفقدان يوجب فوت القدرة، و لكن لو تنجز العلم ثم عرض الفقدان يستصحب بنحو ما مرّ.

السابع: الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، رأي المشهور فيه المناقشة فيه
اشارة

السابع: المشهور عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، لأصالة الطهارة فيه بلا معارض بلا دليل حاكم عليها. لأنه إن كان دليل خاص دلّ على الاجتناب عن الملاقي فهو مفقود و لم يدّعه أحد. و إن كان لأجل سراية النجس إليه، فهو ممنوع إذ لا سراية إلا من النجس الواقعي. أو المتنجس كذلك لا مما حكم بالاجتناب عنه مقدمة لتحقق الاجتناب عن شيء و الاجتناب عن ملاقيه، فلا دليل عليها من عقل أو شرع أو عرف. و إن كان لأجل صيرورة الملاقي (بالكسر) طرفا للعلم الإجمالي كالملاقى (بالفتح)، فهو من مجرد الدعوى يحتاج إثباتها إلى الدليل، و الأنظار العرفية لا تساعدها، لأنهم يرون الفرق البيّن بين الملاقى (بالفتح) و ملاقيه في الطرفية للعلم الإجمالي، و إن الملاقي ليس كما إذا جعل أحد طرفي العلم الإجمالي في إناءين - مثلا - فإنهم يرون أن العلم الإجمالي حينئذ صار بين ثلاثة أطراف، بخلاف ما إذ لاقى شيء طاهر بأحد أطرافه فلا يتغير أطرافه حينئذ كما كانت عليه، و حيث لا يوجد الدليل على وجوب الاجتناب فتجري أصالة الطهارة لا محالة، و قد وافق المحقق الأنصاري قدّس سرّه المشهور إلا في صورة واحدة، و هي ما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم الإجمالي بالنجاسة و فقد الملاقى (بالفتح)، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو شيء آخر: فقال قدّس سرّه بوجوب الاجتناب عن الملاقي

ص: 207

(بالكسر) حينئذ، لعدم جريان الأصل في ما فقد، لكونه بلا موضوع فيجري في الملاقي و الشيء الآخر و يسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره.

و فيه: أن جريان الأصل لا يدور مدار وجود الموضوع و عدمه، بل يدور مدار ترتب الأثر الشرعي عليه، فمعه يجري و إن فقد الموضوع، و مع عدمه لا يجري و إن كان موجودا، و الأثر الشرعي في المقام طهارة الملاقي فتجري أصالة الطهارة في المفقود و يترتب عليه طهارة ملاقيه، كما تجري في الطرف الآخر فتسقط بالمعارضة فيؤثّر العلم الإجمالي أثره ثم يجري أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) بلا معارض.

إن قلت: إن هذا الأثر وجوده كعدمه، إذ لا نحتاج إليه مع جريان أصالة الطهارة في نفس الملاقي، فيكون إثبات الطهارة بواسطة الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح) من التطويل بلا طائل.

قلت: المناط في جريان الأصل مطلق الأثر الشرعي أعم من كونه مؤكدا أو مؤسسا، و المقام من الأول دون الثاني.

نقل كلام صاحب الكفاية في تثليث الأقسام في الملاقي لأحد الاطراف و ردّه

و ذهب صاحب الكفاية إلى تثليث الأقسام، فقال..

تارة: بوجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى (بالفتح) و الطرف في ما إذا حصل العلم الإجمالي و العلم بالملاقاة دفعة واحدة، لصيرورة الجميع حينئذ طرفا للعلم الإجمالي فيؤثر أثره.

و فيه: أن المناط في تعارض الاصول و تساقطها و تنجز العلم الإجمالي بعد ذلك، هو المعية الرتيبة و عدم الاختلاف فيها، لا مجرد المعية الزمانية و إن اختلفت في الرتبة، و لا ريب في أن الأصل الجاري في الملاقي (بالكسر) في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى (بالفتح)، لأن نجاسة الملاقي على فرض ثبوتها مستندة إلى الملاقاة فقط و معلولة لوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، لا لأجل كونه طرفا للعلم بالذات فمع سقوط الأصل في الملاقي

ص: 208

و طرفه بالمعارضة تجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا مزاحمة لاختلاف الرتبة.

و اخرى: قال: بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح) دون الملاقي (بالكسر)، كما هو المشهور في ما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) و الطرف ثم حصل بالملاقاة، و قد مرّ وجهه.

و ثالثة: بوجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى (بالفتح)، و ذكر لذلك موردين:

أحدهما: ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي (بالفتح) أو الطرف، و لكن حال حدوث العلم الإجمالي كان الملاقي (بالكسر) مورد الابتلاء. و الملاقى (بالفتح) خارجا عنه ثم عاد إلى مورد الابتلاء.

و فيه: أن المناط في تنجز العلم الإجمالي و تأثيره أثره، هو كون شيء طرفا له بالذات لتسقط الاصول في رتبة واحدة بالمعارضة، و الملاقي (بالكسر) - على أي نحو فرض - يكون طرفا بالعرض لا بالذات، و كل ذلك مغالطة واضحة، مع أنه لا فرق بينه و بين ما تقدّم عن الشيخ الأنصاري قدّس سرّه.

ثانيهما: ما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف بلا توجه إلى سبب نجاسة الملاقي ثم حدث العلم الإجمالي بالملاقاة، و العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف، مع اليقين بأنه ليس لنجاسة الملاقي (بالكسر) على فرض الثبوت سبب غير الملاقاة فقط، و حيث حصل أولا علم إجمالي بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو الطرف، و أثّر أثره ثم حصل العلم الإجمالي الآخر، و قد ثبت أن العلم الإجمالي العارض على علم إجمالي منجز، لا أثر له إلا إذا كان أثره من غير سنخ الأول و ليس المقام كذلك، فيجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى.

و فيه: أنه بعد تسليم أن سبب نجاسة الملاقي (بالكسر) منحصر بالملاقاة

ص: 209

فقط و لا سبب لها غير ذلك، يكون العلم الإجمالي الأول لغوا و غير مؤثر، و ينحصر الأثر في العلم الإجمالي الثاني فقط، فيسقط الأصل في الملاقى (بالفتح) و الطرف بالمعارضة، و يجري الأصل في الملاقي بلا مزاحمة. هذا كله ما إذا لم يحمل الملاقي عن الملاقى (بالفتح) شيئا و كان من مجرد الملاقاة فقط، و إلا فالظاهر وجوب الاجتناب عنه أيضا خصوصا إن كان المحمول من الملاقى (بالفتح) معتدا به.

الثامن: عدم الفرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية أو تدريجية

الثامن: لا فرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية عرضية، أو تدريجية طولية. كما لا فرق في الثانية بين كون الزمان ظرفا للتكليف، كما إذا علم المكلف بأن بعض معاملاته في الأسبوع أو الشهر تكون ربوية. أو قيدا له، كما إذا علمت المرأة بأن حيضها ثلاثة أيام في جملة العشرة مثلا، و الوجه في ذلك كله فعلية التكليف في التدريجيات، كفعليته في الدفعيات، بلا فرق بينهما فتسقط الاصول في الأطراف بالمعارضة و يؤثر العلم بالتكليف أثره.

إن قلت: لا وجه لتعارضها، لأن من شرط التعارض وحدة الزمان، فإذا انتفى موضوع التعارض لا وجه لتأثير العلم الإجمالي، مع أن في التدريجيات تكون الأفراد المتدرجة التي توجد بعد ذلك خارجة عن مورد الابتلاء فعلا، فلا يكون العلم منجزا من هذه الجهة أيضا.

قلت: التعارض في اصطلاح الاصولي أعم من التناقض المنطقي، فلا يعتبر فيه وحدة الزمان، و لا إشكال في صدق كون الأفراد التدريجية مورد الابتلاء عرفا، كصدقه في الدفعيات أيضا.

إن قلت: كيف يثبت التكليف مع أن التمسك بعموم دليله يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لفرض تردد موضوعه بين أيام و أوقات و آنات.

قلت: نعم و لكن العلم بأصل وجوده في الجملة يكفي في قبح تفويته

ص: 210

عقلا و لا يلزم إثباته في وقت مخصوص، حتى يكون ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فأصل الخطاب بالتكليف في الجملة متحقق و قبح تفويته عقلا ثابت، فيكون العلم الإجمالي منجزا لا محالة، بلا فرق بين ما كان الزمان ظرفا أو قيدا، فما يظهر من الشيخ قدّس سرّه من صحة الرجوع إلى البراءة في الثاني مخدوش. هذا كله إذا صلح العلم الإجمالي للداعوية، و أما إذا لم يكن كذلك، كما إذا علم الكاسب أنه مبتلى بمعاملة ربوية في سنة أو ستة أشهر - مثلا - و كانت معاملاته كثيرة، فالظاهر كونها من الشبهة غير المحصورة لا يتنجز العلم الإجمالي منه في ما إذا كان الأفراد دفعية عرضية، فضلا عما إذا كانت تدريجية طولية:

التاسع: لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية

التاسع: لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية و مع ذلك ارتكب بعضها، فبان عدم تنجزه لفقد شرط من شروطه، فهو من صغريات التجري.

العاشر: عدم الفرق في جميع ذلك بين أقسام الشبهة الموضوعية التحريمية أو المفهومية

العاشر: لا فرق في جميع ما تقدم بعد العلم بأصل التكليف بين أقسام الشبهة من الموضوعية التحريمية، و قد تقدمت. أو المفهومية كذلك، كما إذا تردد مفهوم الغناء بين مطلق الترجيع أو ما كان مع الطرب، ففي مورد الافتراق وجب الاحتياط، و يأتي ما يتعلّق بذلك أيضا. أو الموضوعية الوجوبية، كتردد الواجب يوم الجمعة بين الظهر و الجمعة. أو المفهومية كذلك، كتردد الصلاة الوسطى من حيث المفهوم بين الظهر و العصر و الصبح، و سواء كان منشأ الشبهة فقد النص، أو إجماله بعد العلم بأصل التكليف في الجملة. و أما حكم تعارض النصين، فقد تقدّم في بحث التعارض، فراجع.

ص: 211

الشبهة غير المحصورة:

لا ريب في تقوّمها بالكثرة في الجملة، لأن غير المحصورة من المفاهيم العرفية لا بد من مراجعة العرف فيها، كما في سائر المفاهيم العرفية، و ليس من الموضوعات التعبّدية، و لا المستنبطة حتى نحتاج إلى نظر الفقيه، فليس منها مطلق ما خرج بعض أطرافها عن مورد الابتلاء، أو سقط العلم فيه عن التنجز لجهة اخرى، لأن ذلك يوجب سقوط العلم عن التنجز في المحصورة فضلا عن غيرها، بلا فرق بينهما من هذه الجهة، و إنما الفرق بينهما من جهة اخرى تأتي الإشارة إليها.

إنما الكلام في حدّ الكثرة التي تكون موجبا لعدّ الشبهة غير محصورة، و الحق عدم صحة تحديدها بحدّ خاص، لاختلاف ذلك بحسب الموارد اختلافا واضحا، فرب كثرة في مورد تكون بها الشبهة غير محصورة مع كون تلك الكثرة بعينها في مورد آخر محصورة. فالمناط كله أن تكون كثرة الأطراف بحيث لم يمكن عادة جمعها في استعمال واحد بحسب المتعارف، و أن لا يرى العقلاء العلم الإجمالي فيها منجزا من كل حيثية و جهة، بل يقدمون بمقتضى فطرتهم على ارتكاب بعض الأطراف بلا تردد منهم في ذلك، و عدم صلاحية مثل هذا العلم للداعوية لإيجاب الموافقة القطعية و إيكال ذلك إلى الوجدان، أولى من تكلف إقامة البرهان، و بعد تحقق هذا الموضوع لا نحتاج في إثبات عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة إلى دليل خارجي، بل تكون من الموضوعات التي يكون حكمها ملازما لتحققها خارجا.

و ما قيل: في تحديدها إن رجع إلى ما قلناه فهو، و إلا فتكون ظاهر الخدشة، كما أن الوجوه التي استدل بها على عدم تنجز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من الإجماع، و لزوم العسر و الحرج، و شمول أدلة البراءة

ص: 212

لها، و خروج الأطراف بها عن مورد الابتلاء.

مخدوشة: أما الإجماع فالإشكال فيه واضح، و أما الثاني فمع العسر و الحرج يرتكب و مع العدم يجتنب، و أما الثالث فلكونه منافيا للعلم الموجود في البين، و أما الأخير فلكونه خلف الفرض لما مرّ من أنه لا فرق في هذه الجهة بين المحصورة و غيرها، و يمكن أن يكون مرجع جميع ذلك إلى ما قلناه، فالمراد واحد و إن كانت العبارات مختلفة.

ثم إن القدر المتيقن من بناء العقلاء و مرتكزاتهم في سقوط العلم الإجمالي عن التنجز في الشبهة غير المحصورة إنما هو بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، و أما سقوطه بالنسبة إلى المخالفة القطعية أيضا ففيه إشكال في الشبهتين التحريمية و الوجوبية، و الشك في التعميم للمخالفة القطعية يكفي في العدم. و لو شك في كون شبهة من المحصورة أو من غيرها، فهو مثل الشك في أن الأطراف في الشبهة المحصورة تكون مورد الابتلاء أو لا، و قد تقدّم حكمه فراجع. و هل يجري على الأطراف في الشبهة غير المحصورة حكم الشبهة البدوية من كل جهة أو لا؟ وجهان: أحوطهما الثاني.

المقام الثانى دوران الأمر بين الأقل و الأكثر:
الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أقسام الشك في الأقل و الأكثر

و ليعلم أولا أن الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أن الثاني إنما يتحقق في ما إذا علم التكليف بتمام حدوده و قيوده، و لم تكن شبهة و لا إجمال فيه ثبوتا و لا إثباتا، و كان معلوما و مبينا من كل جهة، و انحصر الشك في الموضوع الخارجي في أنه مفرغ للذمة عما اشتغلت به أو لا، كما إذا اغتسل أو توضأ و في إصبعه خاتم و شك في وصول الماء إلى البشرة معه و عدمه، و في مثله يجب الاحتياط عقلا و شرعا، بخلاف الأقل و الأكثر، فإن أصل تعلّق التكليف بالنسبة

ص: 213

إلى الأكثر مشكوك فيه ثبوتا و إثباتا، فلا علم بالتكليف بالنسبة إليه حتى يكون من الشك في المحصل، فلا ربط لأحدهما بالآخر أصلا.

ثم إن الشك في الأقل و الأكثر إما استقلالي - أي لا ترتبط الأجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال - فيكون لكل جزء امتثال مستقل إن أتى به و مخالفة كذلك إن ترك، كما لو علم بأصل الدين و تردد مقداره بين الخمسة أو أكثر، و ظاهرهم الاتفاق على البراءة بالنسبة إلى الأكثر عقلا و نقلا إلا في الفائتة المرددة بينهما، فنسب إلى المشهور وجوب الأكثر، و قد تقدم أنه لا دليل لهم على ذلك من عقل أو نقل.

و إما ارتباطي، و هو ما إذا كان لجميع الأجزاء امتثال واحد و مخالفة واحدة، كأجزاء الصلاة و شرائطها مثلا و له موارد كثيرة، لأن الشبهة إما وجوبية أو تحريمية، و كل منهما إما بين الكل و الجزء، أو بين الجنس و النوع، أو بين المشروط و الشرط، و منشأ انتزاع الشرط إما جهة خارجية، أو ذهنية، أو اعتبارية.

و التحقيق - كما عليه أهله - هو البراءة عن الأكثر عقلا و نقلا في جميع ما يتصور من موارد الأقل و الأكثر مطلقا، لأدلة البراءة العقلية و النقلية. و ذهب جمع إلى الاحتياط.

و لا يخفى أن النزاع صغروي، فمن يقول بالبراءة يقول إن الشك بالنسبة إلى الأكثر شك في أصل التكليف، و المرجع فيه البراءة اتفاقا و لو كان معلوما لوجب الاحتياط، و من يقول بالاحتياط يقول إن التكليف معلوم بالنسبة إليه فوجب الامتثال، و لو كان مشكوكا فيه لصح الرجوع إلى البراءة، فيرجع النزاع إلى أن التكليف شمل الأكثر أو لا، و المرجع في التشخيص هو المتعارف بين العقلاء، فإن حكموا بتمامية البيان و الحجة بالنسبة إلى الأكثر فلا محيص إلا من الاحتياط، و إن ترددوا فيها أو حكموا بالعدم فيتحقق موضوع البراءة قهرا.

بيان الحق في المقام، إقامة الشكل الأول على ذلك

و إذا راجعنا العقلاء نراهم يعترفون بأنه ليس قيام الحجة بالنسبة إلى الأكثر كقيامها بالنسبة إلى الأقل، و ليس ثبوت الأكثر على كاهل المكلف، كثبوت الأقل

ص: 214

عليه، و هذا الفرق وجداني لكل من قطع النظر عن الشبهات و رجع إلى فطرته.

و خلاصة الكلام على هيئة الشكل الأول: أن الحجة لم تتم بالنسبة إلى الأكثر، و كلما لم تتم الحجة بالنسبة إليه يكون من مجاري البراءة، فيكون الأكثر من مجاري البراءة.

الاستدلال على وجوب الاحتياط و الجواب عنه

و قد استدل على وجوب الاحتياط بامور..

الأول: أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ كذلك.

و فيه: أن الاشتغال اليقيني بالنسبة إلى الأقل مسلّم، و بالنسبة إلى الأكثر مشكوك فيرجع فيه إلى البراءة.

الثاني: أن الأقل و الأكثر إن لوحظا بحدّ الأقلية و الأكثرية يكونان من المتباينين، و قد تقدّم وجوب الاحتياط فيهما.

و فيه: أنه لا وجه لملاحظتهما كذلك، بل تكون خلاف المتعارف، لأن الأقل بحسب الأنظار العرفية ملحوظ بعنوان اللابشرطية، فيجتمع مع الأكثر، لا أن يلحظ بحدّ الأقلية حتى يباينها و لا يجتمع معها.

الثالث: أن وجوب الأقل إما نفسي أو غيري، و الأول منفي بالأصل، و لا وجه للثاني مع عدم وجوب الأكثر، إذ لا معنى لوجوب المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة.

و فيه: ما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أن الأجزاء لا تتصف بالوجوب المقدمي، إذ لا تعدد بينهما و بين الكل بحسب الوجود. لكونها عين الكل وجودا، و الكل عينها كذلك، و إنما تتصف بالوجوب النفسي الانبساطي فيكون وجوب الكل عين وجوب الأجزاء بالأسر و بالعكس، و يكون مرجع الشك في المقام إلى أن الوجوب هل انبسط على تسعة أجزاء مثلا، أو على عشرة أجزاء، فيؤخذ بالمعلوم و يرجع في المشكوك إلى البراءة. هذا في وجوب الأجزاء.

و أما الشرط و المشروط فلا ريب في أن وجوب الشرط تابع لأصل وجوب المشروط من دون تحديد بحدّ خاص، و قد ثبت في المقام وجوب

ص: 215

الأقل دون الأكثر فيكون وجوب الشرط تابعا لوجوب الأقل لا محالة.

الرابع: أن الاقتصار على الأقل في مقام الامتثال امتثال إجمالي بخلاف إتيان الأكثر فإنه تفصيلي، و لا تصل النوبة إلى الأول مهما أمكن الثاني.

و فيه: أن كيفية الامتثال تابعة لأصل الاشتغال و بعد أن لم يكن اشتغال إلا بالأقل، فيدور الامتثال مداره أيضا.

نعم، لا ريب في حسن الاحتياط بالنسبة إلى ما احتمل الاشتغال به و هو الأكثر.

و لباب القول: أن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الأكثر و عمومات أدلة البراءة الشرعية مما لا محذور فيه بعد وجود المقتضي - و هو الشك في أصل التكليف - فيصح الاقتصار على الأقل، كما استقر عليه رأي المحققين، بلا فرق بين جميع موارد الأقل و الأكثر حتى في الشبهات الموضوعية، وجوبية كانت أو تحريمية، نفسية كانت أو غيرية، لانحلال الحكم بانحلال الموضوع فيتحقق الأقل و الأكثر لا محالة، فلو علم بوجوب إكرام العلماء، و تردد شخص بين كونه عالما أو لا، أو تردد كلام بين كونه من الغيبة المحرمة أو لا، أو تردد صوت بين كونه من الغناء المحرم أو لا، أو تردد ثوب بين كونه مما لا تصح الصلاة فيه أو لا. إما لأجل كونه مما لا يؤكل لحمه، أو لجهة اخرى، فالمرجع في الجميع هو البراءة.

التمسك لعدم وجوب الأكثر بالأصل الأزلي

و قد يتمسك لعدم وجوب الأكثر بأصالة عدم الوجوب بالعدم الأزلي، بمعنى أن التكليف بأقله و أكثره لم يكن واجبا قبل البعثة ثم وجب، و مقتضى هذا الأصل عدم وجوب الأكثر إلاّ أن يدل دليل عليه، و يصح التمسك باستصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ أيضا، و لكن ذلك كله مستغنى عنه بعد كفاية البراءة.

نعم، يصح التمسك به للتأييد و التأكيد.

الكلام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل و الأكثر

ثم إن الرجوع إلى البراءة لنفي الأكثر في الشبهة التحريمية إنما هو في

ص: 216

خصوص الشبهة الموضوعية منها. و أما المفهومية فالأكثر متيقن الحرمة، و الأقل هو المشكوك، فيرجع فيه إلى البراءة، فإذا تردد مفهوم البكاء الحرام في الصلاة بين كونه مع الصوت، أو مجرد البكاء و لو بلا صوت، فالمتيقن إنما هو ما كان مع الصوت، و في غيره يرجع إلى الأصل، و له نظائر كثيرة في الفقه. و حيث ان الاصوليين تعرضوا لبعض أحكام الخلل في المقام مع أنها من الأحكام الفقهية فنشير إلى بعضها، و قد ذكرنا التفصيل في كتاب (مهذب الأحكام).

بعض أحكام الخلل:

و هو إما عن عمد أو جهل أو إكراه و اضطرار أو عن سهو، و الجميع إما بالنقصان و إما بالزيادة. و لا ريب في كون النقيصة العمدية موجبة للبطلان، إذ لا معنى للوجوب إلاّ أن التعمد. في تركه موجب للبطلان، ما لم يكن دليل على الخلاف، كما في بعض أفعال الحج حيث ان تركه العمدي لا يوجب بطلان أصل الحج، بناء على أنه جزء للحج و ليس من الواجب في الواجب.

إن قيل: كيف يعقل الصحة مع فرض الجزئية و الترك العمدي، فإن كان ذلك مع بقاء وجوب الجزء حينئذ فهو من التناقض، و إن كان مع زواله حينئذ فهو خلف.

يقال: ببقاء الوجوب و بترتب العصيان و الكفارة، و بعد ذلك ينزّل الشارع العمل الناقص منزلة التمام تسهيلا على الأنام، كما يمكن أن يقال بزواله، و حيث أنه مستند إلى اختياره يعاقب عليه ثم ينزّل الشارع الناقص منزلة التام تسهيلا و امتنانا. و قد ادّعي الإجماع على أن الجاهل بالحكم كالعامد إلا ما خرج بالدليل، و ظاهرهم التسالم على أن النقص عن إكراه و اضطرار يوجب البطلان أيضا إلا مع الدليل على الخلاف، و لو لا ظهور التسالم لأمكن التمسك بحديث الرفع للصحة بعد شموله لجميع الآثار، كما تقدم. و محل تنقيح الفروع إنما هو في الفقه.

ص: 217

النقيصة السهوية:
اشارة

و الكلام فيها.

تارة: في تصوير التكليف بما عدا المنسيّ ثبوتا.

و اخرى: في دلالة الأدلة الأولية عليه.

و ثالثة: في الأدلة الثانوية.

الأولى: تصوير التكليف بالنسبة إلى المنسي و غيره، الجواب عنه الإشكال في تكليف غير المنسي بوجوه

أما الاولى فلا ريب في سقوط التكليف بالنسبة إلى خصوص المنسي، لأن التكليف به مع فرض بقاء النسيان تكليف بما لا يطاق، و مع زواله خلف الفرض. و أما بقاء التكليف بالنسبة إلى بقية الأجزاء.

فاشكل عليه: بأن الأمر بالمجموع قد ارتفع لأجل النسيان، و قد ارتفع الأمر المتعلّق بالبقية بارتفاع الأمر بالمجموع و لا تكليف مستقلا بالنسبة إليها حتى يكون التكليف باقيا، فينتفي التكليف بعد عروض النسيان مطلقا بالنسبة إلى المنسي و غيره من الأجزاء.

و اجيب عنه بوجوه..

منها: أنه مبني على كون وجوب الأجزاء وجوبا مقدميا لتحقق الكل، و أما لو كان وجوبا نفسيا انبساطيا فلا وجه لزوال وجوب بقية الأجزاء لسقوط وجوب بعضها، و تكون حكمة الانبساط هو الكل، لا أن يكون ذلك العلة التامة المنحصرة.

و منها: أن المأمور به في حق الجميع ناسيا كان أو غيره ما عدا الجزء المنسي، و قد اختص الذاكر بخطاب خاص بما نسيه الناسي.

و اشكل عليه: بأن المنسي ليس شيئا واحدا دائما، بل يختلف بالنسبة إلى المكلف الواحد فكيف بعامة المكلفين، فليفرض أنه صلّى الظهر مثلا جمع، فنسى أحدهم الفاتحة، و الآخر السورة، و ثالث الأذكار الواجبة، و رابع السجدة،

ص: 218

و خامس التشهد و هكذا، فما يكون الحدّ المشترك بين ذاكرهم و ناسيهم، و أي خطاب يختص بخصوص الذاكر منهم؟! فلا بد حينئذ من تصوير الجامع.

و فيه: أنه يمكن تصوير الجامع بنحو ما مرّ في تصويره في الصحيح و الأعم، فراجع.

و منها: أن التكليف المتوجه إلى الناسي ليس بعنوان النسيان حتى يلزم المحذور، بل بالعنوان الملازم له غالبا.

و فيه: أنه مع التفاته إلى الملازمة يلزم المحذور قهرا، و مع عدم التفاته يصير ملتفتا لا محالة، فإنه يسأل عن وجه اختصاصه بالخطاب فيلتفت فيعود المحذور أيضا.

فالحق أنه يمكن تصوير تكليف الناسي بما عدا المنسي، كما مر. و بجعله من صغريات تصوير الجامع بين الصحيح و الأعم، كما عرفت. مع أن الجزئية و التكليف متقوّم في الواقع بالملاك، و الوجوب كاشف عنه، و سقوط الوجوب لا يستلزم سقوط الملاك، كما هو معلوم فيصح تكليفه بالبقية ثبوتا، و يشهد لذلك العرف أيضا.

الثانية: بحسب دلالة غير المنسي بوجوه

و أما الثانية - أي بحسب دلالة الأدلة الأولية - فهي منحصرة في الإطلاق الواقعي النفسي الأمري و تحقق الملاك في البقية المنكشف، ذلك كله من كثرة اهتمام الشارع بمثل الصلاة، و من الأدلة الثانوية التسهيلية الواردة فيها.

و اشكل عليه: بأنها - لبيا كانت أو لفظية، و سواء كانت مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» أو غيره - كاشفة عن دخل الجزء و الشرط في قوام المركّب و المشروط، و لا يراد منها شيء أزيد من ذلك، و لا تدل بشيء من الدلالات على وجوب البقية عند عروض النسيان، بل يكون مقتضاها ما تعارف و ارتكز في الأذهان من أن المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه، لفرض كونها كاشفة عن الدخل في قوام الذات قيدا و تقيدا.

ص: 219

و لكنه باطل بما مرّ من أن استفادة وجوب البقية من سياق مجموع ما بأيدينا من الأدلة التي هي كدليل واحد على الوجوب، فتكفي الإطلاقات الأولية في الإيجاب لاحتفافها بالقرينة عليه مع حكم العرف في المركبات الاعتبارية، فإن سقوط بعض الأجزاء بالعذر لا يوجب سقوط البقية، و يكشف ذلك عن كونه مفاد الأدلة الأولية أيضا.

الثالثة: بحسب الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية
اشارة

و أما الثالثة - و هي ورود الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية - فهي كثيرة متفرّقة في أبواب العبادات، مذكورة في الفقه في الموارد المناسبة لها.

و يمكن التمسك بحديث الرفع أيضا، فإن إيجاب الإعادة أو القضاء مع النسيان مما لا يعلم فيكون مرفوعا، بل يمكن التمسك بخصوص حديث رفع النسيان أيضا، لأنه مقتض لوجوب التدارك إعادة أو قضاء فيكون ثابتا بثبوت المقتضي ثبوتا اقتضائيا، و هذا النحو من الثبوت يصح تعلّق الرفع التشريعي به لا رفع النسيان حقيقة حتى يقال: إنه غير قابل للرفع، و لا رفع العمل المنسي فيه عن صفحة العيان، فيكون خلاف الامتنان، إذ تجب الإعادة أو القضاء حينئذ. بل المراد ما قلناه.

و لباب الكلام: أنه يمكن إثبات الصحة في مورد النقيصة السهوية بالإطلاق المحفوف بالقرائن، و بحديث الرفع، و بأصالة عدم المانعية، و بالأدلة الثانوية.

حكم الزيادة:
اشارة

و البحث فيها..

تارة: في تصويرها.

و اخرى: في أقسامها.

ص: 220

و ثالثة: في حكمها.

الأولى: في تصويرها. الردّ على من قال بعدم إمكان تصويرها.

أما الاولى فقد يقال: بعدم تصويرها لأن المركب إن كان ملحوظا بشرط عدم الزيادة فمع الإتيان بها لم يأت بالمأمور به أصلا فكيف تتحقق الزيادة، فترجع حينئذ إلى النقيصة. و إن كان ملحوظا لا بشرط بالنسبة إلى الزيادة و عدمها فلا تضر الزيادة، فلا تتصور الزيادة حتى يبحث عنها.

و فيه.. أولا: أنه يصح تصويرها بحسب ظواهر الأدلة الشرعية، الدالة على تعيينها في أجزاء خاصة يكون إتيان غيرها زائدا عليها بمقتضى هذه الأدلة، و يشهد له ما ورد في سجدة العزيمة من «أنها زيادة في المكتوبة».

و ثانيا: تتصور الزيادة بحسب الأنظار العرفية، لأنه إذا عرضت الأجزاء المعهودة من المركب على العرف و المتشرعة يحكمون بأن كل ما زيد عليها يكون زائدا عرفا.

و ثالثا: يصح تصويرها بالدقة العقلية أيضا، بأن الأجزاء مأخوذة في المركّب على نحو صرف الوجود المنطبق على أول وجوداتها قهرا، فيسقط أمرها لا محالة، فيكون المأتي به ثانيا زائدا عليها حينئذ، لا أن تكون مأخوذة بشرط عدم الزيادة، أو بنحو لا بشرط حتى لا تتصور الزيادة.

الثانية: أقسام الزيادة

و أما الثانية: فهي إما بقصد الجزئية، أو بقصد عدمها، أو تكون بلا قصد بالنسبة إليهما، و الظاهر تحقق الزيادة عرفا في الجميع، و يشهد له ما ورد في الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في المكتوبة من أن السجود زيادة في المكتوبة، و لكن مورد بحث الفقهاء قدس سرّهم في الزيادة المبطلة خصوص القسم الأول دون الأعم منه و من الأخيرين، كما يظهر من كلماتهم و استدلالهم على البطلان. كما أن الظاهر أن مورد بحث الاصولى أيضا ذلك، لأنهم يستدلون أيضا بعين ما استدل به الفقهاء و يناقشون فيها، فراجع و تأمل.

ص: 221

الثالثة: حكمها، التمسك بأصالة عدم المانعية، و الاستصحاب و هو على أنحاء
اشارة

و أما الثالثة: فمقتضى أصالة عدم المانعية عدم البطلان بالزيادة مطلقا - عمدية كانت أو غيرها، كانت بقصد الجزئية أو لا - إلا مع الدليل على الخلاف، و يصح التمسك بالأصل الموضوعي أيضا، و هو استصحاب تلبّس المكلف بما كان متلبسا به و عدم خروجه عما كان عليه، فيجب عليه الإتمام و يحرم عليه القطع، و يصح استصحاب بقاء الصورة الاعتبارية أيضا، لأن لكل مركب - عرفيا كان أو شرعيا - وحدة صورية اعتبارية حاصلة من اعتبار المعتبر شارعا كان أو غيره، فمن مثل قوله عليه السّلام في الصلاة: «أولها تكبيرة و آخرها تسليمة» مع ملاحظة أدلة الأجزاء و الشرائط و الموانع و القواطع، تحصل صورة اعتبارية لها، و عند الشك في زوالها يستصحب بقاؤها فيجب الإتمام و لا يجب التدارك، و ليس بمثبت، كما هو واضح.

الإشكال على التمسك بالاستصحاب

نعم، لو اريد من هذا الاستصحاب نفي مانعية الزيادة و عدم قاطعيتها يكون مثبتا إن قلنا بأن ترتب الأحكام الوضعية الشرعية على الاستصحاب لا يكفي، بل لا بد من ترتب الحكم التكليفي عليه، و لكنه ممنوع فإنه يكفي فيه ترتب مطلق الأثر الشرعي تكليفيا كان أو وضعيا.

ثم إنه لا وجه لاستصحاب الصحة التأهّلية للأجزاء السابقة للقطع ببقائها، و لا استصحاب أثر المركّب للقطع بعدم تحققه بعد، فإنه إنما يتحقق بعد تمامه و إتمامه من كل جهة، و لا استصحاب الصحة الفعلية مطلقا، لأنه من الشك في الموضوع مع تحقق الزيادة التي يحتمل البطلان معها. هذا.

و يمكن دعوى: أن المانعية تدور مدار إحراز ثبوت المنع، و لا أثر لمشكوك المانعية أصلا، فلا تصل النوبة حينئذ إلى الأصل، و يمكن استفادة ذلك عن قول الصادق عليه السّلام: «إن الشيطان ينفخ في دبر الانسان حتى يخيل أنه قد خرج منه ريح، فلا ينقض الوضوء إلا ريح يسمع صوتها أو يجد ريحها».

و إطلاق قوله عليه السّلام: «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة»، و هذا هو

ص: 222

المناسب لسهولة الشريعة و سماحتها.

ثم إنه قد استدل على البطلان بالزيادة العمدية..

تارة: بأنها إن كانت من القراءة و الذكر فتكون من الكلام الآدمي المبطل، و إن كانت من الأفعال فتخل بالموالاة.

و فيه: أن الكلام الآدمي المبطل لا يشمل القراءة و الذكر، و الإخلال بالموالاة في مطلق الزيادة العمدية ممنوع، و على فرضه فلا ربط له بالزيادة من حيث هي.

و اخرى: بأنها من التشريع المبطل.

و فيه: أنه مبني على سراية القبح الفاعلي إلى الفعل الخارجي، و هو أول الكلام، مع أنه مبني على كون الزيادة عن اقتضاء عدم الجزئية. و هو غير معلوم، إذ من الممكن أن تكون لا اقتضاء بالنسبة إليها في الواقع و إنما لم يؤمر بها تسهيلا. إلا أن يقال: إن العمل حينئذ من مظاهر التجري على المولى فلا يصلح للتقرب إليه تعالى، و لكنه فاسد لأنه متوقف على ثبوت المبغوضية، و هو أول الدعوى.

و ثالثة: بإطلاق قوله عليه السّلام: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة».

و فيه: أنه مقيد بالركن، أو الركعة، لقوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة من سجدة و إنما تعاد من ركعة». فلا دليل يصح الاعتماد عليه على البطلان بالزيادة مطلقا، و لكن البطلان بالعمدية منها من المسلّمات بين الأصحاب، و ادعي عليه الإجماع: و التفصيل يطلب من الكتب الفقهية، فإن هذه المباحث فقهية لا أن تكون اصولية. و قد تعرضنا لها في كتاب (مهذب الأحكام) فراجع.

ص: 223

ما يتعلّق بالجزء و الشرط:
اشارة

إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته، فهل يكون مقتضى القاعدة ثبوتهما مطلقا حتى يسقط التكليف بالكل و المركب عند تعذرهما، أو يكون مقتضاها ثبوتهما في الجملة حتى يسقط تكليفهما فقط حينئذ دون التكليف بالكل و المشروط؟ كل محتمل، و يأتي التفصيل.

قد يقال: إن هذه المسألة من فروع بحث الصحيح و الأعم، فعلى الأول يلغو البحث هنا، لانتفاء الصحة بتعذر الجزء و الشرط، و على الثاني يكون له مجال.

و فيه: أن البحث عن الصحيح و الأعم بلحاظ نفس المستعمل فيه مع قطع النظر عن الجهات الأخر، و المقام بلحاظ الاستظهار من الأدلة و لو كان ذاك البحث بهذا اللحاظ أيضا، لكان المقام من فروعه، كما لا يخفى.

توهم اختصاص البحث في المقام ببعض الموارد و الإشكال، و الردّ على التوهم بأن البحث مبني على ثبوت

و قد يتوهم: اختصاص بحث المقام بما إذا لم يثبت الجزئية و الشرطية بمثل «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، و «لا صلاة إلا بطهور». فإن هذه الجملة في نفي الحقيقة عند عدم الجزء و الشرط مما لا ينكر.

و فيه: أن جميع هذه التراكيب سيقت لبيان الجزئية و الشرطية، فلا فرق من هذه الجهة بينها و بين غيرها.

نعم، لا يبعد استفادة كثرة الاهتمام بما ذكر فيها من الجزء و الشرط و تقديمها على غيرها عند الدوران.

و قد يتوهم أيضا: أن البحث في المقام مبني على ثبوت الأجزاء أو الشرائط بأوامر متعددة دون ما إذا كان بأمر واحد.

و فيه: أنه بعد ما ثبت من انحلال الأمر الواحد المتعلّق بالكل بانحلال القيود المعتبرة فيه و انبساطه على الجميع، يصير ما كان بأمر واحد مثل ما كان بأوامر متعددة، فلا فرق من هذه الجهة أيضا.

ص: 224

أقسام دليل المقيد و القيد:

و هي أربعة: لأنهما إما مطلقان من كل جهة، أو يكون الأول مهملا و الأخير مطلقا، أو بالعكس، أو يكونان مهملين من جميع الجهات.

أما الأولان فلا إشكال في سقوط المأمور به بتعذر القيد، لإطلاق دليله الشامل لصورة التعذر أيضا، و لا أثر لإطلاق المقيد في القسم الأول، لأن إطلاق دليل القيد من القرينة المتصلة به، الكاشفة عن أنه لا تكليف بالمقيد مع تعذر القيد، فلا وجه لإطلاقه حينئذ. و كذا القسم الأخير، لعدم تمامية الحجة إلا في صورة وجود القيد.

و أما الثالث - و هو إهمال دليل القيد و إطلاق دليل المقيد - فلا إشكال في وجوب إتيان البقية بعد تعذر القيد، لفرض إطلاق دليل المقيد الشامل لصورة التمكن من القيد و عدمه، هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما الإثبات فيستفاد من القرائن الخارجية التي منها الأدلة الثانوية الصورة الثالثة. و قد فصل ذلك في الفقه، و قد جرت سيرة الفقهاء على التمسك بالإطلاقات عند تعذر القيد، و التمسك بقاعدة الميسور على ما يأتي التعرض لها.

و أما الاصول العملية فلا أصل في البين إلا استصحاب وجوب الباقي عند تعذر القيد.

و أشكل عليه: بأنه مبني على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي أو المسامحة العرفية في المستصحب، و ذلك يختلف باختلاف الموارد.

و يمكن دفع الإشكال بأنه مبني على كون وجوب الأجزاء غيريا، و أما بناء على أن وجوبها عين وجوب الكل بنحو الانبساط. فيستصحب عين الوجوب

ص: 225

الشخصي المنبسط على الأجزاء، و ليس ذلك من استصحاب الكلي، كما لا يخفى.

و أما نفي القيدية و إثبات وجوب البقية بحديث الرفع، فاشكل عليه بأنه من الامتنانيات التي يرفع به التكليف لا أن يثبت.

و فيه: أن الإثبات إنما يكون بالأدلة الأولية لا بحديث الرفع حتى يلزم الإشكال، فحديث الرفع يرفع وجوب الإعادة أو القضاء عند ترك الجزء المقدور، و أما وجوب البقية فبالأدلة الأولية.

بعض الكلام في قاعدة الميسور، التمسك بالاخبار الإشكال عليها و الجواب عنه

و استدل أيضا بقاعدة الميسور، و هي من القواعد الارتكازية في الجملة و لم يردع عنها الشرع بل قررها في الجملة بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الوارد في جواب السؤال عن الحج و أنه في كل عام أو في العمر مرة. و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، و قوله عليه السّلام: «ما لا يدرك كله لا يترك كله». و قد تسالم الأصحاب - قديما و حديثا - على نقلها و العمل بها، و جرت السيرة على الاستدلال بها.

و لكن استشكل عليها.. تارة: بقصور السند.

و يرد: بالانجبار بالعمل و الاهتمام بالنقل، مضافا إلى ما تقدم من كون القاعدة عقلائية في الجملة يكفي فيها عدم الردع.

و اخرى: بأن المراد بالشيء في الحديث الأول الكلي لا الكل.

و يرد: بأن الشيء أعم منهما، كما لا يخفى، فيشمل الكل و أجزاءه و الكلي و أفراده.

و ثالثة: بأن كلمة (من) بيانية و لفظ (ما) وقتية، فيكون المعنى إذا أمرتكم بشيء فأتوا به وقت استطاعتكم، فيكون من أدلة اعتبار القدرة في المأمور به، و يكون إرشادا إلى حكم العقل.

و فيه: أن كلمة (من) ظاهرة في التبعيضية، و لفظ (ما) في الموصولة إلا مع

ص: 226

القرينة على الخلاف، و لا قرينة كذلك.

و استشكل على الأخيرين أيضا: بأن المراد بالميسور هو الكلي، و هو المراد بكلمة (ما) في «ما لا يدرك كله» أيضا.

و فيه: أن الظاهر هو التعميم للكل و الكلي و لا وجه للتخصيص بالثاني.

ثم إن للميسور مراتب متفاوتة جدا فلا بد في التمسك بها من صدق الميسور إما بدليل شرعي يدل عليه - نصا كان أو إجماعا - و إما من صدقه في عرف المتشرعة، و مع عدم ذلك كله لا وجه للتمسك بها. و أما الأدلة الامتنانية التسهيلية فهي كثيرة وردت في أبواب الخلل، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» و غيرها.

فائدة:
لو دار الأمر بين كون شيء شرطا في العبادة أو مانعا

، مثل الجهر و الإخفات في صلاة يوم الجمعة، فالظاهر وجوب الاحتياط، للعلم بأصل التكليف و الشك في الفراغ بالاكتفاء بأحدهما.

ص: 227

شروط الاصول الاحتياط
اشارة

لا يعتبر في الاحتياط شيء إلا حسنه، فما دام يكون حسنا لدى العقلاء يصح و لو مع وجود الحجة المعتبرة على التكليف وجودا أو عدما، و إذا حكموا بعدم حسنه يصير لغوا، بل قد يكون قبيحا و حراما، كما إذا كان مخلا بالنظام أو وصل إلى حدّ العسر و الحرج أو الوسواس، بلا فرق في ذلك كله بين العبادات و المعاملات، و لا بين التمكن من الامتثال التفصيلي و عدمه، و لا بين ما كان مستلزما للتكرار و غيره. كل ذلك للأصل و إطلاقات الأدلة و عموماتها من غير ما يصلح للتخصيص و التقييد إلا امور ظاهرة الخدشة.

الجواب عن أن الاحتياط مخالف لقصد الوجه و الجزم في النية، مراتب الامتثال

منها: أن الاحتياط مخالف لاعتبار قصد الوجه و الجزم بالنية.

و فيه.. أولا: أنه لا دليل من عقل أو نقل على اعتبارهما في العمل. بل مقتضى الأصل و الإطلاقات عدم الاعتبار.

و ثانيا: أنه على فرض الاعتبار يكفي قصد الوجه بالتكليف الواقعي الموجود في البين، بل يصح قصد الوجه في كل واحد من المحتملات طريقا إلى الواقع لا بنحو الموضوعية فيه.

و منها: أن مراتب الامتثال أربعة لا تصل النوبة إلى كل لا حق مع التمكن من سابقه، و هي الامتثال العلمي التفصيلي، و العلمي الاحتمالي، و الظني، و الاحتمالي.

و فيه: أن التقسيم صحيح، و لكن الحكم بأنه لا تصل النوبة إلى كل لا حق

ص: 228

مع التمكن من سابقه بلا دليل من نص أو إجماع، و إن كان منشؤه ما مرّ من اعتبار قصد الوجه و الجزم بالنية، فقد مرّ ما فيه و لا وجه للتكرار.

الجواب عن أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث

و منها: أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث بأمر المولى مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

و فيه: أن اللهو و العبث إما قصدي أو انطباقي، و الأول مفروض الانتفاء، و الثاني أيضا مفروض العدم، و على فرض الصدق، فهل يكون هذا القسم من اللهو و العبث حراما نفسيا أو غيريا، أو موجبا لفقد شرط أو جزء في المأمور به، و الأولان منفيان بالأصل، و الثاني مفروض العدم لفرض كون العمل واجدا لجميع الأجزاء و الشرائط، و على فرض كون هذا القسم من العبث حراما فهو في كيفية الامتثال لا في أصله حتى يوجب البطلان، و لذا استقرت آراء المحققين على جواز التقليد مع التمكن من الاجتهاد و بالعكس، و على جواز تركهما و العمل بالاحتياط.

ثم إنه يجزي في الاحتياط الإتيان بالاحتمالات المعتنى بها عند العقلاء و الفقهاء، و لا يجب الإتيان بجميع الاحتمالات، و إلا فهو من الوسواس أو ينجر إليه.

الفحص في مورد الاصول العملية:
اشارة

يعتبر الفحص في الأدلة في صحة جريان هذه الاصول الثلاثة - البراءة، و التخيير، و الاستصحاب - و البحث فيه..

تارة: عن وجوب أصل الفحص.

و اخرى: عن مقداره.

و ثالثة: عن حكم العمل قبل الفحص.

ص: 229

أما أصل وجوبه فتدل عليه الأدلة الأربعة..

فمن العقل: قاعدة دفع الضرر المحتمل الجارية في العمل لكل من الاصول اللفظية و العملية قبل الفحص في الأدلة، فلا موضوع لاعتبارها مطلقا قبل الفحص، لأن الشك في الاعتبار يكفي في عدمه - كما مر سابقا - بلا فرق بين الاصول اللفظية و العملية فلا موضوع لاعتبار أصالة الإطلاق و العموم و البراءة، و التخيير، و الاستصحاب قبل الفحص في الأدلة.

و من الكتاب: بآية النفر و هي قوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، و السؤال و هي قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

و من السنة: بالأخبار المستفيضة الدالة على الحض و الترغيب إلى طلب العلم و التوبيخ على تركه، كما لا يخفى على من راجع الكافي و البحار.

و من الإجماع: إجماع الإمامية بل المسلمين عليه، بل يصح أن يقال إن موضوع الاصول مطلقا الشك المستقر، و لا استقرار له قبل الفحص، فهو خارج عن مورد الاعتبار تخصصا، و مقتضى إطلاقها عدم الفرق في وجوبه بين الشبهات الحكمية و الموضوعية، إن كان لها المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع، و لم يكن مطلق الجهل عذرا و لو مع التقصير.

و استدل على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية..

تارة: بالإجماع.

و اخرى: بأن بيانها ليس من عهدة الشارع حتى يتفحص عنها في الأدلة.

و يرد الأول بعدم تحققه لذهاب جمع إلى وجوبه في جملة منها مع عدم دليل عليه بالخصوص.

و الثاني بأنه لا يعتبر في الفحص أن يكون في الأدلة مطلقا، و إنما يختص ذلك بخصوص الاصول الحكمية و أما في غيرها فإنه في كل ما يرتفع بالفحص

ص: 230

فيه المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع.

نعم، في مسألة الطهارة و النجاسة و غيرها مما علم من مذاق الشرع التسهيل و المسامحة فيها. لا وجه للفحص، بل قد لا يجوز مع إثارة الوسواس، و يمكن أن يكون مراد المجمعين ذلك أيضا، فيرتفع النزاع من البين.

و أما مقدار وجوب الفحص فهو حصول اليأس المتعارف عن الظفر بالدليل في الشبهات الحكمية، و خروج الشبهة عن المعرضية للوقوع في خلاف الواقع في الشبهات الموضوعية. و أما حكم العمل قبله فسيأتي إن شاء اللّه تعالى. و أما ما يجب فيه الفحص لأجل الاصول الحكمية فهو الأمارات، و الاصول الموضوعية، و القواعد المعتبرة.

و ينبغي التنبيه على امور:
الأول هل أن وجوب التعلم نفسي أو طريقي أو مقدمي؟

الأول: تقدم أن وجوب التعلم لقاعدة دفع الضرر المحتمل في تركه، و هل هو نفسي، أو مقدمي أو طريقي محض. الحق هو الأخير، لأن الأول يتوقف على ثبوت الملاك فيه في مقابل الواقع و لا دليل عليه، بل مقتضى تسالم الكل على أنه طريق إلى الواقع و مطلوب لأجل العمل، فيكون بطلانه كبطلان الثاني أيضا، لأنه إما مقدمة الوجود و شرط الصحة، و هو خلاف ما ثبت من صحة عمل الجاهل مطلقا إن طابق الواقع. أو شرط الوجوب، و هو خلاف ما تسالموا عليه من اشتراك الأحكام بين العالم و الجاهل مطلقا، فيتعين الأخير، و حينئذ فيحمل ما يستفاد منه كونه مقدميا على الطريقية المحضة، أو كون المقدمية حكمة للإيجاب لا قيدا في الوجوب، و إنما ذهب إلى النفسية من ذهب لدفع شبهة وردت في المقام، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى، فوجوب التعلم نظير وجوب الاحتياط، فكما لا وجه لاحتمال النفسية و المقدمية فيه، فكذلك في التعلم أيضا.

ص: 231

الثاني ملاك وجوب التعلم

الثاني: ملاك وجوب التعلم التحفظ على الواقعيات و الاهتمام بها و إمكان الوصول إليها، و هذا من قبيل اللوازم الذاتية له، لا يتغير و لا يتبدل بكونه بعد تنجز الواقع أو قبله، فلو لم يدخل وقت التكليف و علم المكلف أنه لو ترك التعلم قبل الوقت لفات عنه التكليف بعده، لحكم العقل و العقلاء بوجوبه قبل الوقت بعين الملاك الذي يحكمون بالوجوب بعده، و هذا من الوجدانيات لكل من رجع إلى وجدانه و في مراجعة العرف و الوجدان غنى عن إقامة البرهان، فيندفع الإشكال المعروف الذي استصعبه القوم و أطيل الكلام في دفعه و ذهبوا يمينا و شمالا: من أنه لو ترك المكلف التعلّم قبل الوقت ففات عنه التكليف في وقته لا وجه لعقابه، لأنه إن كان على ترك نفس التكليف يكون من العقاب على غير المقدور، لأن القدرة على الشيء متفرعة على العلم به و إن كان على ترك التعلم، فلا وجه للعقاب عليه لأن وجوبه ليس بنفسي، و العقاب لا بد و أن يكون على ترك الواجب النفسي، كما مرّ في مباحث الألفاظ.

و يدفع أصل الإشكال بأن العقاب على ترك الواجب النفسي المنتهى بالآخرة إلى الاختيار - و هو ترك التعلم - و يصدق عليه عرفا أنه ترك الواجب بعمده و اختياره فيصح عقابه عليه، فلا تصل النوبة في دفعه إلى القول بالوجوب النفسي للتعلم، أو القول بالواجب المعلق.

بدعوى: أن الوجوب للتكليف قبل الوقت فعليّ و الواجب استقباليّ، أو تصحيح ذلك بالشرط المتأخر، إذ كل ذلك بعيد عن الأذهان العرفية، و خلاف المشهور مع عدم الدليل عليها و عدم وجود ملزم للقول بها.

الثالث دوران صحة العمل و بطلانه مدار المطابقة للوظيفة و عدمها

الثالث: تدور صحة العلم و بطلانه على المطابقة للوظيفة المقررة له و عدمها، فكل عمل صدر من كل عامل - عالما كان أو جاهلا، قاصرا كان أو مقصرا، ملتفتا أو غيره - إن طابق الوظيفة المقررة شرعا للعمل صح، و إلا فلا يصح.

ص: 232

نعم، لو كان لنفس العلم من حيث هو دخل في الصحة لاختصت بصورة العلم فقط، و هو خارج عن محل البحث، مع أنه نادر بل غير واقع في ما أعلم، فيصح ما اشتهر من صحة عمل تارك الاحتياط و الاجتهاد و التقليد إن طابق الواقع، و لا معنى لكون التعلم طريقا محضا إلا هذا، كما هو اوضح من أن يخفى.

الرابع تلازم الصحة و سقوط العقاب، الإشكال في بعض الموارد و الجواب عنه و تعيين الحق في المقام
اشارة

الرابع: الصحة و سقوط العقاب متلازمان شرعا و عرفا، بل و عقلا أيضا، فكل مورد صح العمل لا وجه للعقاب بالنسبة إليه، و كل مورد يعاقب على العمل لا وجه لصحته، و قد خرج عن هذه الكلية الجهر في موضع الإخفات و بالعكس إن كان عن جهل، و الإتمام في موضع القصر كذلك، فأفتوا فيهما بالصحة للنص، و حكموا بتحقق الإثم أيضا مع التقصير و عدم وجوب الإعادة أو القضاء، و لهما نظائر اخرى في الفقه، كما لا يخفى على التخبير، فيحصل إشكال، أنه لا وجه للصحة مع تحقق الإثم لأنهما متنافيان.

و قد اجيب عن الإشكال بوجوه..

منها: أن ما حكم فيها بالصحة و العقاب من باب تعدد المطلوب، فقد تعلّق طلب بذات المأمور به و طلب آخر بالخصوصية، فامتثل أحد الطلبين و فوت الآخر عن تقصير، فيصح ما امتثله لوجود المقتضي و فقد المانع، و يعاقب على ترك الآخر المنتهى إلى تقصيره.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الأدلة الدالة على أن التكليف واحد مشتمل على أجزاء و شرائط، فهذا الوجه حسن ثبوتا، و لا دليل عليه إثباتا، بل ظاهر الدليل خلافه.

و منها: أن المأمور به إنما هو الذات، و القيد واجب نفسي لا أن يكون قيدا لصحة العمل.

و فيه: أنه مثل السابق بلا فرق بينهما إلا في كيفية التعبير.

و منها: أن المأتي به ليس بمأمور به و إنما هو شيء مسقط للواجب.

ص: 233

و فيه: أنه خلاف ظواهر الأدلة و كلمات الأجلة.

و منها: أن المقام من صغريات الترتب.

و فيه: أن مورده ما إذا كان في البين أمران فعليّان من كل جهة مع تمامية الملاك و المصلحة في كل منهما، و المقام ليس كذلك.

و منها: أن المأتي به واجد لمقدار من المصلحة لا تبلغ المصلحة التامة، و لا يمكن درك المصلحة التامة مع الإتيان بما فيه المصلحة الناقصة، فيصح لوجود المصلحة في الجملة، و يأثم لتفويت المصلحة التامة التي لا يمكن تداركها. فتأمل.

هذا، و يمكن المناقشة في أصل ثبوت العصيان إن لم يكن إجماع في البين، فيرتفع أصل الإشكال، و يمكن أن يقال إن العقاب إنما هو للتحفظ على عدم التقصير في المستقبل و الاهتمام بتكاليفه.

ثم إنه قد ذكر الفاضل التوني قدّس سرّه للبراءة شرطين آخرين..
الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى.

فإن كان مراده أن مثبتات أصالة البراءة ليست بمعتبرة، فلا اختصاص له بالبراءة، بل مثبتات الاصول مطلقا لا اعتبار لها، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى، بل لا اعتبار بمثبتات الأمارات أيضا ما لم يدل على اعتبارها قرينة معتبرة عرفا.

و إن كان مراده بإجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت الحكم المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر. فهو أيضا حق و لا اختصاص له بالبراءة، بل الاستصحاب أيضا كذلك، مع أنه لا وجه لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي، كما تقدم.

و إن كان مراده أن الأصل لا يثبت موضوع حكم شرعي فلا دليل عليه من عقل أو نقل، إلاّ إذا كان موضوع الحكم الآخر نفي الحكم واقعا و في اللوح

ص: 234

المحفوظ، و لا ريب أن بالأصل لا يثبت ذلك، و لكنه من مجرد الفرض، كما لا يخفى إذ الفقه غالبه، بل كله مبني على الأحكام الظاهرية التي تكون مؤديات الأمارات و مجاري الاصول. و إثبات حكم ظاهري في موضوع بجريان الأصل في موضوع آخر كثير شائع، كمن بلغ ماله إلى حدّ الاستطاعة، و شك في أن عليه دينا أو لا، فبأصالة البراءة عن الدين يجب عليه الحج لوجود المقتضي و فقد المانع فتشمله الأدلة قهرا. و كمن شك أن عليه صوما واجبا أو لا، فبأصالة البراءة عنه يثبت عدمه، فيستحب له الصوم المندوب و يصح منه. و كمن كان عنده ماء و شك في حليته و حرمته و بأصالة الإباحة تثبت إباحته فيجب عليه الطهارة المائية دون الترابية، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الشرط الثاني: - مما ذكره الفاضل التوني - أن لا يكون في إعمالها الضرر
اشارة

على النفس أو الغير ممن يكون محترما شرعا.

و هذا و إن كان حقا لا ريب فيه و لكن لا اختصاص له بأصالة البراءة، بل لا مجرى للاصول العملية مع قاعدة من القواعد المعتبرة، بلا فرق بين قاعدة الضرر و غيرها، فإنها مقدمة على الأمارات المثبتة للأحكام فضلا عن الاصول العملية.

الكلام في قاعدة الضرر، و فيها جهات من البحث
اشارة

ثم إنه لا بأس بالإشارة إلى قاعدة: «لا ضرر و لا ضرار» إجمالا، و فيها جهات من البحث..

الأولى: كونها من القواعد العقلائية

الاولى: أنها من القواعد العقلائية الدائرة بين الناس في جميع الملل و الأديان، إذ السلطنة على النفس و العرض و المال مما اتفقت عليه آراء العقلاء، و التنقيص في كل واحد منها من المقبّحات لديهم، و يؤاخذون من تصدى لذلك و يلومونه و يعاقبونه، و على ذلك يدور نظام معاشهم. فهذه القاعدة من صغريات أصالة احترام النفس و العرض و المال التي هي من أهم الاصول النظامية العقلائية، بل الضرر من الظلم المنفي بالأدلة الأربعة، فلا وجه لإتعاب النفس في

ص: 235

سند حديث نفي الضرر و الضرار و في وجه دلالته. هذا بالنسبة إلى الضرر على الغير.

و أما بالنسبة إلى إضرار الشخص على نفسه أو ماله فهو أيضا من القبائح العقلائية لو لم يكن غرض راجح في البين، و هكذا بالنسبة إلى هتك الإنسان عرض نفسه، فلا ريب في قبحه أيضا عند جميع العقلاء، فيكفي في مثل هذه القاعدة العامة البلوى عدم وصول الردع من الشارع و كيف و قد ورد التقرير، فادعى في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر، و ادعى صاحب الوسائل كثرة الأخبار الواردة، و عن بعض محشي رسائل شيخنا الأنصاري ضبط عشرة منها و فيها الموثق و غيره، مضافا إلى جريان السيرة المعصومين عليهم السّلام، و فقهاء الفريقين على التمسك بها، فلا وجه للبحث من هذه الجهة للقطع بصدور هذه الجملة على اختلاف التعبيرات، ففي بعضها «لا ضرر و لا ضرار»، و في بعضها بزيادة (في الإسلام)، و في بعضها بزيادة (على المؤمن).

إذ بعد كون القاعدة من العقلائيات المقررة يكون ذكر الإسلام أو على المؤمن من باب المثال و ذكر أفضل الأفراد، و إلا فلا ضرر و لا ضرار بالنسبة إلى أهل الذمة أيضا.

نعم، من أباح الشارع نفسه و عرضه و ماله يكون خارجا عنها قهرا. فما لم تذكر فيه الجملتان أشير فيه إلى كون القاعدة عقلائية، و ما ذكرنا فيه أشير فيه إلى أن الإسلام و المؤمن أولى بأن يعمل فيه هذه القواعد، لكون الإسلام الذي هو الأتم الأكمل و كون المؤمن أعزّ عند اللّه من كل شيء، فلا بد و أن يهتم بعدم الإضرار به اهتماما زائدا على غيره. فليس المقام من دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة و عدم النقيصة حتى يقال بتقديم الاولى على الأخيرة في المحاورات، لأنه في ما إذا لم يتعلّق غرض بكل واحد من الزيادة و النقيصة، كما لا يخفى.

ثم إن المتفاهم من استعمالات مادة الضرر في المحاورات النقص، سواء

ص: 236

كان ماليا أو نفسيا أو عرضيا، و تطلق في مقابل النفع و بينهما التضاد عرفا فيمكن ارتفاعهما، كمن باع متاعه برأس المال مثلا فلا يصدق بالنسبة إليه النفع و لا الضرر. و من فسّره بعدم النفع، فإن أراد ما ذكرناه فهو و إلا يكون من التفسير بالأعم.

و أما الضرار فهو إما مصدر باب المفاعلة، أو اسم مصدر بمعنى الضرر، و على أي تقدير يكون ذكره لأجل التأكيد و الاهتمام بنفيه. و أما احتمال أنه فعل الاثنين لما هو الأصل في باب المفاعلة فمردود لعدم مناسبته في مورد الأخبار أولا، و عدم كون الأصل في المفاعلة من الطرفين ثانيا، كما في الاستعمالات الصحيحة كقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللّهَ ، وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ و يُراؤُنَ النّاسَ و وَ أَنْفِقُوا ، و شَاقُّوا ، و وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى غير ذلك.

نعم، الظاهر تقوّمها بتكرر صدور الفعل، سواء كان من فاعل واحد - و لا يبعد إرادة ذلك منه في المقام - أو من فاعلين، بخلاف باب التفاعل، فإنه متقوّم بفاعلين، و لذا يقال: تضارب زيد و عمرو، و أما في المفاعلة فإنه يقال: ضارب زيد عمرا، مع أنه لا ثمرة عملية بين كونه تأكيدا أو تأسيسا، لأن طبيعي الضرر منفي، سواء كان من الواحد أو من اثنين.

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج مع كونهما قاعدتين معمولتين في جميع الأبواب، أن الثاني أعم موردا من الأول، لشموله للمشقة التي لا تتحمل عادة و لو لم يكن نقص فيها نفسا أو مالا أو عرضا.

و بعبارة اخرى: الامور إما دون الطاقة، أو بقدرها، أو فوقها. و الأول مورد التكليف، و الثاني مورد الحرج، و الأخير مورد الضرر، و قد ورد في جملة من الأخبار أن التكليف دون الطاقة فراجع.

ثم إن الظاهر كون المراد بالضرر في القاعدة الضرر الشخصي. سواء كان

ص: 237

ضررا نوعا أيضا أو لا. كما أن الظاهر أن المراد به الواقعي دون الاعتقادي.

نعم، لو كان اعتقاد الضرر مستلزما لحصول الخوف، و كان تحقق الخوف موجبا لرفع الحكم شرعا، يترتب رفع الحكم على الاعتقاد من هذه الجهة، لأن الخوف أمر وجداني لا واقع له غير وجدانه لا أن يكون اعتقاد الضرر موجبا لرفع الحكم، كما لا يخفى.

الثالثة: المراد من كلمة (لا) ذكر الإشكال المعروف

الثالثة: كلمة «لا» المذكورة في الحديث: «لا ضرار و لا ضرر في الإسلام» تامة و ليست ناقصة، لأصالة عدم الاحتياج إلى الخبر، و هي لنفي الحقيقة، لأنه المنساق من موارد استعمالاتها، فتكون الجملة حينئذ إخبارا عن عدم تحقق الضرر و نفي حقيقته خارجا في الإسلام، و هو كذب و الشارع منزه عنه، و لهم في دفع الإشكال أقوال:

الأول: الحذف و الإضمار، أي لا ضرر غير متدارك في الإسلام.

و فيه: أنه خلاف الأصل و الظاهر، مع أنه إن كان في مقام الإخبار فيعود المحذور، و إن كان إنشاء لإيجاب التدارك فهو يحتاج إلى قرينة، و هي مفقودة.

الثاني: أن النفي بمعنى النهي، أي: يحرم الإضرار على النفس و على الغير في الإسلام، كما في «لا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحج»، و «لا رضاع بعد فطام»، و «لا رباء في الإسلام» إلى غير ذلك مما هو كثير.

و فيه: أنه احتمال حسن ثبوتا، و لكن لا دليل عليه إثباتا بعد إمكان دفع الإشكال بغيره.

الثالث: ما عن صاحب الكفاية من أن النفي حقيقي بالنسبة إلى الحكم، و ادعائي بالنسبة إلى الموضوع، فيكون المعنى أن الموضوع الضرري لا حكم له. و يصير من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

و بعبارة اخرى: يكون النفي بالنسبة إلى الحكم من الوصف بحال الذات، و بالنسبة إلى الموضوع من الوصف بحال المتعلّق.

ص: 238

و فيه: أنه خلاف الظاهر جدا، لا يصار إليه إلا مع القرينة، مع أنه تعقيد و خلاصته يرجع إلى التقدير و الإضمار.

الرابع: ما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه و تبعه جمع من مشايخنا من نفي تشريع ما يوجب الضرر مطلقا - موضوعا كان أو حكما، وضعيا كان أو تكليفيا - فيكون إخبارا عن نفيه في مقام التشريع لا في الخارج حتى يلزم الكذب، كما في حديث الرفع حيث تقدم أن الرفع في مقام التشريع لا ينافي الوجود التكويني. و لا ريب أنه لا تشريع، للضرر في الشريعة المقدسة الإسلامية مطلقا، بل عند العقلاء و لو لا أن صاحب الكفاية صرح بتضعيف قول شيخه الأنصاري و ظهور الثمرة بين القولين، لأمكننا إرجاع قوله إلى قول شيخنا الأنصاري، و لكنه أنتج على ما اختاره في المقدمة الرابعة بين القولين من الانسداد، عدم حكومة دليل نفي الضرر و الحرج على الاحتياط إن كان ضرريا أو حرجيا، فإن لباب ما اختاره يرجع إلى أن الموضوع الضرري لا حكم له، و الأحكام الواقعية المجهولة لا ضرر في موضوعها أبدا، و إنما الضرر يحصل من الجمع بين المحتملات في الامتثال، فلا مورد لقاعدة الضرر بناء على مختاره حتى تجري و يرتفع بها الاحتياط، بخلاف مختار الشيخ رحمه اللّه فإن لبابه يرجع إلى أنه لا تشريع لمنشا الضرر أبدا، و الاحتياط التام منشأ للضرر في الشريعة فيرتفع بالقاعدة، و الحق أن مختار الشيخ رحمه اللّه أحق أن يتبع، كما عرفت.

الرابعة: إنها من القواعد العامة، الإشكال عليها بكثرة ورود التخصيصات و الجواب عنه

الرابعة: لا ريب في أنها من القواعد العامة التي استقرت سيرة الفريقين على التمسك بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام بلا كلام. و قد اشكل على عمومها بكثرة ورود التخصيصات عليها من الأحكام الضررية المجعولة شرعا، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي فلا يصح التمسك بعمومها حينئذ، مع أن القول بعمومها ابتداء من ورود هذه التخصيصات يكون من التخصيص المستهجن، و هو قبيح في المحاورات العرفية.

ص: 239

و يرد.. أولا: بأن أكثرية الخارج من مجرد الدعوى، فإن الأحكام الضررية المجعولة بالنسبة إلى الأضرار التي يردها الناس بعضهم على بعض يكون بنسبة العشرة إلى المائة بل أقل.

و ثانيا: ما يتوهم الضرر فيه الصدقات الواجبة، و الحج، و الجهاد، و الحدود، و الديات. و الاولى ما يحتفظ به المال أو النفس أو كفارة لما فعل، و لا يسمى ذلك ضررا عرفا، و كذا الحدود و الديات جزاء لما كان ارتكبه، و الحج نظير سائر الأسفار المتعارفة، فمن سافر إلى بلد لغرض صحيح و انفق مالا في سفره، لا يقال عرفا إنه تضرر. و أما الجهاد في سبيل اللّه فإنه من أجلّ المفاخر البشرية، لا يرضى العاقل بأن يطلق على الشهيد بأنه تضرر ببذل مهجته في سبيل اللّه. و لا نتوقع مثل هذه الإشكالات مع الأنس بمذاق الشريعة، و هل يكون من الإنصاف أن تعدّ القوانين الإلهية المتقنة، التي وضعت لتكميل البشر شخصا و نوعا، دنيا و آخرة ضررا؟!!

ثم إنه على فرض صدق الضرر عليها يكون المراد بالضرر المنفي ما لم يكن أصل جعله و تشريعه ضرريا لمصالح كثيرة دنيوية و اخروية، بل حصل الضرر بعد الجعل و التشريع لجهات خارجية، فيكون خروجها حينئذ تخصصا لا تخصيصا حتى يلزم تخصيص الأكثر، و على فرض أن يكون تخصيصا فليس ذلك من التخصيص الأكثر، لأن المخصص عنوان واحد و هو التكاليف الضررية، فيصير المحصل أنه «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام إلا التكاليف الضررية لمصالح تغلب على ضرريتها بمراتب كثيرة»، كما عن شيخنا الأنصاري قدّس سرّه.

و أشكل عليه صاحب الكفاية: بأن النوع الواحد طريق إلى الأفراد الخارجية، فإذا كانت الأفراد الخارجة عن تحت العام أكثر مما بقي تحته يكون مستهجنا، سواء كان ذلك بنوع واحد أو بإخراج نفس الأفراد متعددا.

ص: 240

نعم، لو كان العام أيضا نوعيا، و كان ما بقي تحت العام أكثر مما خرج عنه من حيث النوع، لا بأس به و إن كان الخاص الخارج أكثر أفرادا مما بقي تحت العام من الأنواع.

و فيه.. أولا: أن العام في المقام نوعي، فإن متعلّق النفي نوع ضرر النفس و نوع ضرر العرض و نوع ضرر المال، إلا نوع الضرر الحاصل من التكاليف المجعولة.

و القول: بأن النوع لا تحقق له في الخارج حتى يتعلّق به النفي.

مردود: بأنه ليس المراد به النوع المنطقي حتى لم يكن له تحقق خارجي، بل الطبيعي منه الذي هو عين الأفراد الخارجية، فيصح قول الشيخ رحمه اللّه و لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية.

و ثانيا: لا وجه للفرق بين ما كان العام نوعيا أو فرديا بعد أن كان النوع طبيعيا و طريقا محضا إلى الأفراد الخارجية، فلا أثر لما فصّله صاحب الكفاية قدّس سرّه من هذه الجهة، إذ المدار كله على الأفراد، و النوع طريق محض إليه، فترجع كثرة الخارج و قلة الباقي بالآخرة إلى الأفراد. فالحق ما ذكرناه من الجوابين.

و قد يستشكل بأن القاعدة لا بد و أن تكون نصا في مورد جعلها و لا أقل من ظهورها فيه، و ليس كذلك في المقام، لأن النخلة كانت ملكا لسمرة بن جندب و هو يتصرف فيها لسلطنته عليها، فإن الناس مسلطون على أموالهم، فليس في تصرفه فيها ضرر حتى يكون موردا للقاعدة.

و فيه: من الوهن ما لا يخفى، لأن أمره صلّى اللّه عليه و آله بقلع النخلة و رميها عند سمرة ليس لأجل تصرف سمرة فيها، بل لأجل أنه كان غير مبال بعرض الأنصاري و كان في مقام هتك عرضه، و هو إضرار و أي إضرار أشد منه، و كان منشأ ذلك من النخلة فأمر صلّى اللّه عليه و آله بقلع منشأ الإضرار، فتنطبق القاعدة على المورد بلا إشكال.

الخامسة: تقديم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام مطلقا

الخامسة: لا ريب في تقدم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان

ص: 241

الأحكام بعناوينها الأولية أو الثانوية، كالنذر و العهد و اليمين، و أمر الوالدين - وجوبية كانت أو تحريمية، وضعية أو تكليفية - بمعنى أنه يستكشف من القاعدة أنه لا جعل لتلك الأحكام مطلقا في مورد الضرر أبدا، و من شاء فليسم هذا جمعا عرفيا، أو حكومة، أو لفظا آخر، إذ لا ثمرة عملية في هذه الاصطلاحات بل و لا علمية معتنى بها أصلا بعد أن اتفق العلماء بل العقلاء على تقديمها عليها، و ظاهرهم سقوط الأحكام في مورد الضرر خطابا و ملاكا، لا خطابا فقط حتى يكون من المتزاحمين اللذين يقدم أحدهما على الآخر مع تحقق الملاك فيهما، فيكون تقديم قاعدة الضرر عليها من باب العزيمة لا الرخصة، بخلاف قاعدة الحرج، فعن جمع أن تقديمها عليها من باب الرخصة لا العزيمة، فمن توضأ مع كون الوضوء ضرريا بالنسبة إليه يبطل وضوءه، بخلاف ما إذا كان حرجيا فيصح، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في الفقه فراجع. و من لطيف المصارعة و المعارضة أن الأحكام بناء على كونها ضررية تتقدم على قاعدة الضرر تخصصا، و إن كانت تلك الأحكام مستلزمة للضرر زائدا على جعلها تقدم القاعدة عليها حكومة.

ثم إنه قد تخصص قاعدة الضرر التي تقدم على جميع الأحكام في موارد..

منها: ما عن بعض الفقهاء إن من أجنب عمدا مع العلم بكون استعمال الماء مضرا، وجب عليه الغسل و إن أضرّ به، مستندا إلى خبر. و قد تعرضنا له في مباحث التيمم في الفقه، فراجع.

و منها: تقديم قاعدة السلطنة و الحرج، بل و الضرر عليها في بعض الموارد، كما يأتي.

السادسة: تعارض ضرر مع ضرر آخر.
اشارة

تارة: يكون بالنسبة إلى شخص واحد، كما إذا اكره شخص على الإضرار

ص: 242

بزيد إما بهذا الضرر أو بذاك.

و اخرى: لشخص واحد أيضا لكن من حيث التحمّل، كما إذا دار الأمر بين تحمله بنفسه لهذا الضرر أو ذاك. و الحكم فيهما هو التخيير مع التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح، و اختيار الأقل ضررا مع التفاوت، كما هو مقتضى سيرة المتشرعة بل العقلاء، و في رجوع الوجدان غنى عن إقامة البرهان.

و ثالثة: الإكراه على الإضرار إما بزيد أو بعمرو، فمع التساوي يتخير و مع التفاوت قد يقال بالتخيير أيضا، لأن قاعدة نفي الضرر امتناني بالنسبة إلى الجميع، و بعد جواز أصل ارتكابه لدليل الإكراه لا فرق بينه و بين القليل و الكثير.

و لكن فيه إشكال، فراجع مباحث الفقه، هذا بناء على ما هو المتسالم نصا و إجماعا من عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير، بأن كان الضرر متوجها أولا و بالذات إلى الغير، بأن اكره الشخص على الإضرار به مثلا و أما إذا كان متوجها إلى نفسه بأن أجبره الظالم على دفع مال من نفسه أو الأخذ من غيره فليس له الإضرار بالغير، كما يأتي.

و رابعة: يدور الأمر بين الإضرار بنفسه أو غيره، فإن كان الضرر متوجها إلى الغير و لكن تحمله لم يتوجه إليه، و لا ريب عندهم في عدم وجوب تحمل الضرر، بل عدم جوازه في بعض الصور.

و خامسة: يكون متوجها إليه و لو صرفه إلى غيره لم يتضرر، و لا ريب عندهم أيضا في عدم جوازه.

و سادسة: يكون الضرر بالنسبة إليه و إلى غيره في عرض واحد، كما أنه لو احتاج شخص إلى بالوعة في داره لو حفرها يتضرر الجار و لو لم يحفرها يتضرر بنفسه، و قال الشيخ قدّس سرّه: «الأوفق بالقواعد تقديم المالك، لأن حجره عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة و نفي الحرج - إلى أن قال قدّس سرّه - و الظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك

ص: 243

التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل».

و فيه: أن عموم السلطنة معارض لعموم سلطنة الغير على الدفع عن ورود الضرر على ماله. و لكن للمسألة فروع قد ذكرت في الفقه.

فرع:

لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين، المشهور أن القدر يكسر و يضمن قيمته صاحب الدابة، لأن الكسر لمصلحته، و هو مبني على ما هو المتعارف من أن كسر القدر أهون من قتل الدابة، فراجع و تأمل.

السابعة: قد تتقدم قاعدة الحرج على قاعدة الضرر

السابعة: قد تتقدم قاعدة نفي الحرج على قاعدة نفي الضرر، كما إذا كان المالك في حرج و مشقة من عدم البالوعة مثلا في داره و إن لم يكن متضررا بذلك و لكن يتضرر منها الجار، فإنه يجوز للمالك حفرها فإن تحمّل الحرج لدفع الضرر عن الغير منفي بقاعدة نفي الحرج، فتكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة نفي الضرر، كحكومة قاعدة السلطنة عليها في الجملة.

تتميم:

لا إشكال في أن قاعدة نفي الحرج من القواعد المعتبرة، و يدل عليها الكتاب مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و السنة المستفيضة في الأبواب المتفرقة، و إجماع الإمامية بل المسلمين، و يصح أن تكون من القواعد العقلائية أيضا، لأن العقلاء يقبّحون التكاليف الحرجية الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد، و ما ورد من التكاليف الشاقة في بني إسرائيل لم يعلم أنها كانت جعلا من اللّه تعالى أولا بالنسبة إليهم، أو أنها كانت عقوبات دنيوية عن جزاء أعمالهم، و الأنس بفضل اللّه تعالى وسعة رحمته قديما و حديثا بالنسبة إلى

ص: 244

عباده يقتضي الثاني فيعلم من ذلك أن قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، و ما ورد «أن بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحمهم بالمقاريض». لم يعلم أن ذلك كان تكليفا أوّليا إلهيا، أو كانت من العقوبات المستعجلة الدنيوية التي رفعت عن امة نبينا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

مع أن الإصر عبارة عن الضيق و مطلق المشقة و هو أعم من الحرج و غيره، مثلا وجوب إتيان الفرائض في المساجد ضيق و ليس بحرج، و كذا الفورية في قضاء الصلوات و الصيام و نحو ذلك، و المراد بقوله تعالى: وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً هذا النحو من الضيق لا الحرج المنفي في صدر الآية بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ، و بقوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . فيستفاد من إطلاقه أن دين اللّه تعالى لا حرج فيه خصوصا بقرينة قوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، و كذا إطلاق قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها .

ثم إنه كلما تقدم في فقه (لا ضرر و لا ضرار) يجري في (لا حرج في الدين) بلا فرق بينهما من هذه الجهة، فتجري فيها الأقوال الأربعة المتقدمة. و قد تقدم أن مفادها ترخيصي امتناني لا أن يكون على نحو العزيمة، فيصح العمل لو تحمل الحرج و أتى به.

إن قلت: بعد سقوط الأمر لأجل الحرج لا وجه لصحة العمل العبادي لتقومها بقصد الأمر.

قلت: سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك، و الكاشف عن بقائه مضافا إلى الإطلاقات استصحاب البقاء بعد كون السقوط ترخيصيا لا عزيمة. و لا يلزم من هذا التخيير بين الطهارة الترابية و المائية - مثلا - في ما إذا كانت الأخيرة مستلزمة للحرج، لأنه لا ريب في الاختلاف الرتبي بينهما ثبوتا و إثباتا، و مع ذلك كيف يثبت التخيير الذي لا بد فيه من التساوي من كل جهة.

ص: 245

و ظاهر الفقهاء التسالم على عدم حلّية المحرمات لأجل الحرج، فمن كان في حرج من عدم الكذب أو عدم الاغتياب أو نحوهما لا تحل له، كما أن ظاهرهم عدم الفرق بين الصغائر و الكبائر، و لا يبعد أن يكون الوجه في ذلك مضافا إلى ظهور الإجماع أن مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص ما لم يكن في ترك الارتكاب ضرر أهم.

ثم إنه لا تجري قاعدة نفي الحرج في نفي التكاليف الأولية المجعولة، و إن قيل بأن فيها حرجا، لما تقدم في الجهة السادسة في قاعدة الضرر.

و الحمد للّه أولا و آخرا.

ص: 246

الفصل الرابع الاستصحاب

اشارة

و هو من الاصول المعتبرة الجارية في تمام أبواب الفقه. و قد عرّف بتعاريف جميعها تشير إلى المعنى المعهود، و ليست بحدود حقيقية منطقية، فلا وجه للإشكال عليها بالنقض و الإبرام، و لعل الأولى الإشارة إليه: بأنه «إسراء أثر ما يعتذر به سابقا إلى زمان الشك فيه».

و لا بد من تقديم امور:
الأول: الفرق بين المسألة الأصولية و الفقهية، و القاعدة الفقهية

الأول: قد تكرر في هذا الكتاب أن المسألة الاصولية الكبرى الكلية التي تستنتج منها الأحكام، كقول: «كل أمر ظاهر في الوجوب»، فإنه بضميمة أن «هذا أمر و كل أمر ظاهر في الوجوب» يستنتج منه الوجوب لا محالة. و كذا في سائر مسائله من أوله إلى آخره. و القاعدة الفقهية ما يبحث فيها عما يتعلّق بالإنسان من حيث الوظيفة الشرعية، و لا يختص بباب دون باب، كقاعدة نفي الحرج، و الضرر و غيرهما من القواعد العامة، و قد تطلق القاعدة على ما يختص بباب خاص أيضا، كقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، و «لا شك لكثير الشك» و نحوهما مما هو كثير و لا مشاحة في الاصطلاح.

و المسألة الفقهية ما يبحث فيها عمّا يتعلّق به و تختص بباب خاص، كوجوب الصلاة مثلا، و قد تطلق على ما لا يختص بباب، كوجوب الوفاء بالعقود الجارية في جميع أبواب المعاملات مطلقا، و وجوب أداء حقوق الناس الجارية في الزكاة و الفطرة و الخمس و المعاوضات و النفقات و الديات و غيرها.

ص: 247

و لا يبعد أن يقال إن القاعدة الفقهية ما لوحظت فيها جهة الكلية في الجملة و إن اختصت بباب، و المسألة الفقهية ما لم يلحظ فيها ذلك و إن لم تختص بباب، و حيث أن الاستصحاب فيه ملاك الأصل و الأمارة و القاعدة الفقهية صار برزخا بين الجميع، و يصح انطباق تعريف الجميع عليه، فيصح جعله في كل بحث من مسائله، كما في كثير من مسائل علم الاصول. حيث يكون فيها ملاك جملة من العلوم.

و الظاهر أن الاستصحاب الجاري في الموضوعات من المسائل الفقهية، و في الأحكام يمكن أن يكون من المسائل الاصولية، لصحة وقوعه في طريق الاعتذار، و حينئذ يمكن أن يكون أمارة إذا لوحظ حصول الظن النوعي منه بنحو الحكمة لا العلة، و يمكن أن يكون أصلا إذا قطع النظر عن ذلك، فراجع المطولات لعلك تجمع بذلك بين شتات الكلمات، فليس الاستصحاب إلا مثل جملة كثيرة من المسائل الاصولية التي يصح أن تكون مجمعا لعناوين كثيرة.

الثاني: الفرق بين الاستصحاب، و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع

الثاني: لا ريب في اعتبار تحقق اليقين و الشك في الاستصحاب، و قاعدة المقتضي و المانع، و قاعدة اليقين - المعبر عنها بالشك الساري أيضا - و الأول معتبر بخلاف الأخيرين. و خلاصة الفرق بينها أن متعلّق اليقين و الشك إما أن يتعدد وجودا أو لا، و على الثاني إما أن يسري الشك إلى اليقين و يزيله أو لا.

و الأول قاعدة المقتضي و المانع، و تأتي الإشارة إلى أقسام المقتضي في الأمر اللاحق.

و الثاني قاعدة الشك الساري.

و الثالث الاستصحاب.

و يكفي في عدم اعتبار الأولين الأصل بعد عدم دليل عليه من السيرة و الأخبار و الإجماع، لما يأتي من ظهور الأخبار في الاستصحاب دون غيره، و الشك في الشمول لغيره يكفي في عدم جواز التمسك بها، لأنه حينئذ من

ص: 248

التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

الثالث: للاستصحاب أقسام مختلفة.
منها: بحسب زمان اليقين و الشك.

فتارة: يكون زمان اليقين و المتيقن سابقا، و زمان الشك و المشكوك فيه لاحقا و هو الغالب في الاستصحابات المتداولة.

و اخرى: يكون زمان حدوث اليقين و الشك واحدا مع كون زمان المتيقن سابقا و زمان المشكوك لاحقا، كما إذا علم فعلا بأن الماء كان كرا في الأمس و شك فعلا أيضا في كريته.

و ثالثة: يكون زمان حدوث الشك سابقا و زمان حدوث اليقين لاحقا مع سبق زمان المتيقن على زمان حدوث الشك، كما إذا شك فعلا في طهارة الماء ثم حصل له اليقين بأنه كان طاهرا قبل حدوث الشك.

و الحق اعتبار الاستصحاب في هذين القسمين أيضا لوجود المقتضي و فقد المانع، إذ المناط كله في اعتباره اختلاف زمان وجود المتيقن و المشكوك مع تقدم الأول على الثاني، سواء اختلف زمان حصول اليقين و الشك أم اتحد، و على الأول سواء سبق زمان حصول الشك أو كان بالعكس.

و رابعة: يكون زمان المشكوك فيه سابقا و زمان المتيقن لاحقا، و يعبّر عنه بالاستصحاب القهقرى، و لا دليل على اعتباره لا من الشرع و لا من بناء العقلاء.

و منها: بحسب منشأ الشك بين المقتضي و الرافع و الغاية، و تعريف المقتضي
اشارة

و منها: تقسيمه من جهة منشأ الشك، فإنه إما في المقتضي، أو في الرافع، أو في الغاية. و المقتضي عبارة عن مقدار قابلية الشيء للبقاء، سواء كانت القابلية تكوينية أو تشريعية، أي ملاك المجعول أو حكمة نفس الجعل ثبوتا، المستكشف ذلك كله بالأدلة الشرعية أو الاستظهارات العرفية، و لا ريب في شمول الشك في المقتضي للجميع. و ما عن بعض من اختصاص اصطلاح الشك في المقتضي بخصوص المقتضي الإثباتي - أي: ما يستفاد في مقام

ص: 249

الإثبات من الأدلة - لا وجه له ظاهرا، و إن كان لا مشاحة في الاصطلاح.

أقسام المقتضي، تعريف الرافع و الفرق بيته و بين المانع

و ملخص القول في المقتضي: أنه على أقسام ثلاثة..

الأول: مجرد الاقتضاء الواقعي من دون تحقق ما فيه الاقتضاء خارجا،

كما إذا أراد أن يتوضأ - مثلا - ثم بعد مدة شك في أنه حصل له مانع عن إرادته أو لا، و هذا هو موضوع قاعدة المقتضي و المانع التي ذهب المشهور إلى عدم اعتبارها.

الثاني: ما إذا تحقق ما فيه الاقتضاء في الخارج و أحرز بدليل معتبر بقاء اقتضائه مدة خاصة، و شك في أثناء تلك المدة في أنه هل حصل رافع عن استمرار وجوده الخارجي أو لا، و هذا هو مورد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي.

الثالث: تحقق المقتضي في الخارج و عدم إحراز مقدار استعداد تحققه الخارجي، و دار بين القليل و الكثير بحسب ذاته، و هذا هو الشك في المقتضي الذي ذهب شيخنا الأنصاري قدّس سرّه إلى عدم جريان الاستصحاب فيه.

هذه خلاصة تطويلات القوم في المقام.

و الرافع: عبارة عما يوجب انعدام الموضوع أو الحكم مع إحراز إرسالهما و عدم التحديد لهما بحدّ مخصوص، و هو قد يشك في أصل وجوده، فيعبّر عنه بالشك في الرافع، و قد يشك في شيء أنه رافع أم لا، و يعبّر عنه بالشك في رافعية الموجود، و المانع أعم من الرافع، فإنه يطلق..

تارة: على ما يزاحم المقتضي عن أصل اقتضائه.

و اخرى: على ما يرفعه بعد تحققه و اقتضائه، فيتحد مع الرافع حينئذ.

تعريف الغاية، تصادق الشك في المقتضي مع النسخ و الغاية في غير الشبهة الموضوعية

و الغاية: عبارة عن تحديد الحكم أو الموضوع في ظاهر الدليل بحدّ خاص معين، و الشك في حصوله يكون من الشك في الغاية.

ثم إن الشك في المقتضي قد يكون من حيث الشبهة الموضوعية، و قد

ص: 250

يكون من الشبهة المفهومية أو الحكمية، و الظاهر تصادق الأخيرتين مع الشك في النسخ و الغاية في الجملة.

و منها: تقسيمه بحسب الدليل الدال على المستصحب فإنه.

تارة: يكون هو الكتاب.

و اخرى: السنة.

و ثالثة: الإجماع.

و رابعة: العقل.

و منها: تقسيمه بحسب المستصحب،

فإنه إما وجودي أو عدمي، أو كلي أو جزئي، أو تكليفي أو وضعي إلى غير ذلك، و يأتي إن شاء اللّه تعالى أن الحق اعتباره مطلقا فلا وجه للتطويلات مع أن جلّها لو لا كلها بلا طائل.

الرابع: إن كان الدليل على المستصحب هو العقل

، و استكشف حكم الشرع منه بقاعدة الملازمة، قد يشكل حينئذ في صحة الاستصحاب، لأن العقل لا يحكم بشيء إلا بعد الإحاطة بوجود جميع المقتضيات و فقد جميع الموانع، فمع تحقق ذلك كله يحكم و مع العدم لا حكم له، فلا يتصور الشك في حكمه و الاستصحاب متقوّم بالشك، فلا موضوع له حينئذ لا بالنسبة إلى نفس حكم العقل و لا بالنسبة إلى حكم الشرع المستفاد منه بقاعدة الملازمة، لعدم تمامية الملازمة مع عدم حكم العقل.

هذه خلاصة دليل من منع عن استصحاب حكم العقل أو الشرع المستند إليه.

و فيه.. أولا: أن ما يتصور الشك فيه من حكم العقل إنما هو ما إذا كان دقيا حقيقيا من كل جهة، و كانت جميع الخصوصيات الملحوظة مقوّمة لموضوعية الموضوع شرعا أيضا، و الظاهر أنه لا يوجد لذلك مثال في الأحكام الشرعية لابتناء جميعها على العرفيات المتعارفة بين الناس. و أما إذا كان المراد بحكم

ص: 251

العقل ما تطابقت عليه آراء العقلاء في معاشهم و معادهم، فلا ريب في تصور الشك فيه عندهم، فيتحقق موضوع الاستصحاب حينئذ في حكم العقل. و كذا في حكم الشرع المستفاد منه.

و ثانيا: لا ملازمة بين الشك في حكم العقل و عدم تصوره في حكم الشرع المستفاد منه، لأن قاعدة الملازمة إنما تدل على تبعية حكم الشرع لحكم العقل ثبوتا في الجملة، و أما كون موضوعه تابعا لموضوع حكم العقل من كل حيثية و جهة و بقاء أيضا، فلا دليل عليه بل الظاهر خلافه، لأن سهولة الشريعة المقدسة و سماحتها تقتضي التسهيل في موضوع حكمه و أوسعيته من موضوع حكم العقل.

الخامس: قد فصل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع فيعتبر
اشارة

، و بين الشك في المقتضي فلا يعتبر.

فإن كان هذا التفصيل لقصور الإطلاق و العموم عن شمولها، فهو خلاف الظاهر. و إن كان لوجود مانع في البين فليس ما يصلح للمانعية، و يأتي ما تعرض له الشيخ قدّس سرّه من استظهار الاختصاص من مادة النقض، و يأتي الجواب عنه إن شاء اللّه تعالى.

كما أن التفصيل بين العدميات و الوجوديات، فيعتبر في الاولى دون الثانية لا وجه له أيضا، فإن الاتفاق على اعتبار جملة من الاصول العدمية، كعدم القرينة و التخصيص، و المزاحم، و السهو و الغفلة و نحوها مما اتفق عليها الكل لا ينافي شمول الإطلاق و العموم للوجودية أيضا، فالمناط تنقيح أصل الكبرى الشاملة للجميع.

بل يجرى في الأعدام الأزلية أيضا، لعموم ما سيأتي من الدليل و فقد المانع.

و العدم الأزلي عبارة عن العدم السابق على الأشياء مطلقا، لأن كل موجود

ص: 252

حادث يكون مسبوقا بالعدم و إلا لا يكون حادثا، بل يتصف بالقدم.

و الفرق بينه و بين العدم النعتي أن الثاني ملحوظ بالإضافة إلى الغير و وصفا له دون الأول، فإذا لوحظت الملكية مثلا بالنسبة إلى موضوع خاص و شككنا في عروضها له، يجرى عدم الملكية له و يسمى هذا بالعدم النعتي (الوصفي)، و إذا أجرينا أصالة عدم تحقق الملكية مطلقا بحسب ذاتها يسمى هذا بالعدم الأزلي، أي مفاد ليس التامة، أو العدم الذاتي.

فينطبق على المورد أيضا انطباق الطبيعي على أفراده، و لا إشكال فيه من عقل أو نقل.

و لكن أشكلوا عليه بأنه من الاصول المثبتة، و هي غير معتبرة، و هو ساقط، لأن انطباق الطبيعي على الأفراد ذاتي لا واسطة فيه حتى يقال بالاثبات، و كذا بالنسبة إلى مفاد كان التامة، أي كان الشيء مسبوقا بالوجود، فيجرى استصحابه و ينطبق على المورد لا محالة بلا محذور في البين، و التعرض بأكثر من ذلك إخراج للبحث عن موضوعه و إدخاله في موضوعات أخرى.

التفصيل بين الموضوعات و الأحكام و الجواب عنه

كما أن التفصيل بين الموضوعات، فيعتبر فيها، و بين الأحكام الكلية فلا يعتبر.

مردود أيضا، إذ لا وجه للاختصاص إلا دعوى: أن الأحكام الكلية ليست إلا الصور الذهنية، و الأثر الشرعي مترتب على الخارج دون الذهن. أو دعوى أنها معارضة باستصحاب عدم الجعل.

و يرد الاولى: بأن الصور الذهنية ملحوظة طريقا إلى الخارج لا بقيد الذهن، مع أن الأحكام الكلية اعتبارات صحيحة عرفية عقلائية، لها نحو تحقق اعتباري في عالم الاعتبار، و هذا النحو من الوجود منشأ للأثر و هو يكفي في الاستصحاب.

و يرد الثانية: بأن العلم الإجمالي بنقض استصحاب العدم في الأحكام

ص: 253

الابتلائية يمنع عن جريانه فيها. فالحق اعتباره مطلقا من غير تخصيصه بمورد أبدا، لوجود المقتضي و فقد المانع.

الأدلة على حجية الاستصحاب:
الأول: دعوى الإجماع

، و لكنه راجع إلى بناء العقلاء، فليس دليلا مستقلا في مقابله، و ليس من الإجماع التعبدي لمعلومية المدرك، مضافا إلى كثرة الخلاف.

الثاني: إن سبق الثبوت يوجب الظن بالبقاء

و فيه: أنه ممنوع صغرى و كبرى.

الثالث: بناء العقلاء، لأن الشك عندهم.

تارة: بدوي، و المرجع فيه بعد الفحص البراءة.

و اخرى: من أطراف العلم الإجمالي، و قد استقر بناؤهم على الاحتياط فيه ما لم يكن مانع عنه في البين.

و ثالثة: مسبوق بالثبوت و التحقق، و استقر بناؤهم فيه على الأخذ بالحالة السابقة ما لم تكن قرينة على الخلاف، سواء حصل لهم الظن بالبقاء أو لم يحصل، و في مثل هذه السيرة العامة البلوى يكفي عدم ثبوت الردع و لا نحتاج إلى الإمضاء، مع أنه قد ثبت أيضا بما يأتي من الأخبار.

و توهم: إن ما ورد كتابا - كما مر - و سنة من النهي عن اتباع غير العلم رادع عنها.

مردود: لما تقدم غير مرة أن المراد بغير العلم في الكتاب و السنة ما لا يعتمد عليه العقلاء، دون ما يعتمدون عليه في معاشهم و معادهم. فما عن صاحب الكفاية من صلاحيته للردع في المقام مع ذهابه إلى العدم في الخبر

ص: 254

الموثوق به تهافت، كما هو واضح.

الرابع: جملة من الأخبار:
الأول: مضمر زرارة:

و لا يضرّه الإضمار، لأن مثله لا يسأل إلا من المعصوم عليه السّلام «قلت له:

الرجل ينام و هو على وضوء، أ توجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال عليه السّلام: يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، فإذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم.

قال عليه السّلام: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن و إلا فإنه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكن ينقضه بيقين آخر».

و سوقه يشهد بأنه عليه السّلام في مقام بيان قاعدة كلية و ضابطة عامة تجري في جميع الأبواب بلا شبهة و ارتياب.

و اشكل عليه بوجوه..

الأول: أن جواب الجملة الشرطية في قوله: «فإن حرّك» غير معلوم، فهو مجمل، لأنه إن كان كلمة «لا»، أو جملة (فإنه على يقين) فهو خلاف مصطلحات الأدباء من لزوم كون الجزاء جملة فعلية. و إن كان جملة (و لا ينقض) فهو أيضا خلاف ما تسالموا عليه من عدم تصدر الجزاء بالواو.

و فيه.. أولا: أنه لا ملزم لمراعاة ما قاله الأدباء في كلمات سادات الفصحاء، بل لا بد و أن يكون الأمر بالعكس.

و ثانيا: أنه لا يضرّ بالاستدلال، إذ الجواب معلوم على كل حال، فإنه مستفاد من سياق الكلمات، و هذا شائع في المحاورات، فالجواب سياقي لا أن يكون لفظيا، و هذا من أسرار البلاغة، كما هو واضح، مع أن الإشكال اللفظي لا

ص: 255

موضوع له بعد معلومية المراد منه عرفا.

الثاني: أن الألف و اللام في لفظ «اليقين» للعهد، فلا يستفاد منه العموم بل يختص بخصوص مورده الذي هو الوضوء فقط.

و يرد عليه..

أولا: أن ظهور مدخولها في الجنسية قرينة عرفية على كونها للجنس أو الاستغراق.

و ثانيا: على فرض كونها للعهد، فهو ظاهر في أنه من باب تطبيق القاعدة الكلية على المورد لا الاختصاص به، فلا وجه لاستفادة الاختصاص أصلا.

الثالث: قد مرّ في مباحث الألفاظ أن المفرد المحلّى باللام يفيد العموم، كلفظ «اليقين» في المقام، و حيث أن النهي ورد عليه في قوله: «لا ينقض اليقين» يستفاد منه سلب العموم، و هو في قوة المهملة، كما ثبت في محله، فلا يدل على الكلية. نعم لو كان من عموم السلب يدل على الكلية، فتكون الأقسام ثلاثة:

إحراز عموم السلب، إحراز سلب العموم، الشك في أنه من أيهما. و ما يستفاد منه العموم هو الأول فقط دون الأخيرين.

و فيه: أن هذا التقسيم إنما يجري في ما إذا لم يعلم أن العام سيق مساق جعل القانون الكلي و القاعدة الكلية الأبدية. و إلا فلا وجه لتوهم احتمال سلب العموم فيه. و قد أحرزنا في المقام بقرائن خارجية أن الجملة وردت لجعل القانون الكلي في جميع الموارد، و لا فرق في ذلك بين كون ما يستفاد منه العموم معنى اسميا أو حرفيا أو سياقيا، كما هو واضح.

الثاني: مضمر زرارة الآخر:

«قلت: فإن ظننت أنه أصابه و لم أتيقن فنظرت فيه و لم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه. قال عليه السّلام: تغسله و لا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟! قال عليه السّلام: لأنك

ص: 256

كنت على يقين من طهارتك فشككت، و ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا». و اشكل عليها:

أولا: بأن المراد باليقين ما حصل بعد الفحص و النظر و عدم رؤية النجاسة، و لا ريب في سراية الشك إليه و زواله، فتكون دليلا على اعتبار قاعدة اليقين - أي الشك الساري - و هو خلاف المشهور.

و فيه: أنه لا قرينة فيها تدل على حصول اليقين بعد الفحص و النظر، و على فرض حصوله لا قرينة على أنه المراد، بل المتفاهم منها عرفا اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة، فلا وجه لاستفادة قاعدة اليقين منه، و على فرض الدلالة عليها تدل على اعتبار الاستصحاب بالفحوى.

و ثانيا: بأنه مع رؤية النجاسة بعد الصلاة في الثوب يكون من نقض يقين الطهارة السابقة باليقين بالنجاسة لا بالشك، فكيف يعلّل عدم وجوب الإعادة بأنه نقض لليقين بالشك، بل الإعادة تكون نقضا لليقين بالطهارة السابقة باليقين بوقوع الصلاة في النجاسة لا بالشك بوقوعها فيها.

و فيه: أن الوجوه المحتملة في رؤية نجاسة الثوب بعد الصلاة خمسة:

الأول: العلم بأنها قد حدثت بعد الصلاة، و لا ريب في صحة الصلاة و صحة الاستصحاب بالنسبة إلى اليقين و الشك قبل الصلاة.

الثاني: قد شك في أثناء الصلاة و لم يعلم بها المصلي إلا بعد الفراغ منها و تصح الصلاة أيضا، لأنه من صغريات الجهل و يصح الاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل الصلاة، كما مرّ في سابقه.

الثالث: التردد في أنها هي السابقة أو الحادثة بعد الصلاة أو في أثنائها و تصح الصلاة أيضا، للاستصحاب و لا شيء عليه.

الرابع: العلم بأنها هي النجاسة السابقة مع الغفلة حين الصلاة و الاعتماد على إحراز الطهارة بالاستصحاب تصح الصلاة، لأن الطهارة الخبثية شرط

ص: 257

إحرازي لا واقعي، و المفروض أنه أحرز الشرط، و يصح الاستصحاب أيضا بالنسبة إلى ما قبل الصلاة و العلم بأن النجاسة عين النجاسة لا يضر بصحة الصلاة و الاستصحاب لفرض أن الشرط إحرازي لا واقعي.

الخامس: هذه الصورة مع التردد أو الالتفات إلى حالة حين الصلاة، فإن جرى الاستصحاب قبل الصلاة تصح لإحراز الطهارة الخبثية حينئذ بالأصل و إن لم يجر لأجل عدم اليقين السابق أو التردد فيه لا تصح الصلاة، لقاعدة الاشتغال.

إن قيل: نعم الطهارة الخبثية شرط إحرازي لا واقعي فليس فيها تبين الخلاف، و لكن لا بد من إحرازها حين الدخول في الصلاة، و في بعض الصور المذكورة لا إحراز في البين.

يقال: المناط إمكان فرض وجود الإحراز بحسب الموازين الفقهية، توجه إليه المكلف أو لا. و لا ريب في إمكان فرض وجود الإحراز، كما مرّ.

و أما إدخال المقام في صغريات أن الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء عند تبين الخلاف، و كون قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» دليلا عليه، و هذا يصح حتى بناء على كون الطهارة شرطا واقعيا، لأنه تكون لنفس امتثال الأمر الظاهري حينئذ موضوعية خاصة طابق الواقع أو لا. فهو من مجرد الاحتمال الذي لا إشارة إليه في الصحيح بوجه.

الثالث: صحيح زرارة:

«إذا لم يدر في ثلاثة هو أو أربع و قد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها ركعة اخرى و لا شيء عليه، و لا ينقض اليقين بالشك، و لا يدخل الشك في اليقين، و لا يختلط أحدهما بالآخر».

و اشكل عليه بأنه إن كان المراد بإضافة الركعة إتيانها موصولة فهو ينطبق

ص: 258

على الاستصحاب، و لكنه خلاف ما استقر عليه المذهب من لزوم إتيانها مفصولة. و إن كان المراد إتيانها مفصولة و كون اليقين عبارة عما جعله الشارع مبرئا للذمة، فلا ربط له بالاستصحاب، كما في قول أبي الحسن عليه السّلام لإسحاق بن عمار: «إذا شككت فابن على اليقين».

و فيه: أن المراد هو اليقين بعدم إتيان الركعة فينطبق على الاستصحاب لا محالة، و مقتضاه صحة إتيانها موصولة، و لكن دلّ الدليل من الخارج على لزوم الإتيان بها مفصولة، و ذلك لا يضر بالاستصحاب أبدا.

الرابع: قول أمير المؤمنين عليه السّلام:

«من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين».

و اورد عليه: بظهور قوله عليه السّلام في سبق زمان اليقين على الشك و اختلافهما زمانا، فينطبق على قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

و فيه: أن ذلك أعم من قاعدة اليقين، لاختلاف زمان اليقين و الشك في الاستصحاب غالبا أيضا.

نعم، يصح فيه اتحاد زمان حدوثهما أيضا. مع أنه يعتبر في قاعدة اليقين اتحاد متعلّق الشك و اليقين و لا إشارة في الحديث إليه أبدا، فكيف يكون دليلا عليها.

الخامس: المكاتبة:

«كتبت إليه و أنا بالمدينة عن اليوم الذي شك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية و افطر للرؤية»، بناء على أن

ص: 259

المراد باليقين اليقين بعدم دخول شهر رمضان إن كان الشك في أوله، و عدم خروجه إن كان في آخره. و أما إن كان المراد اليقين بتحقق دخوله في مقابل الظن به فلا ربط لها بالمقام. و يشهد لذلك الأخبار الدالة على أن شهر رمضان لا يصام بالظن.

ثم إنه قد يدعى دلالة مثل قوله عليه السّلام: «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام»، و «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» على الاستصحاب، بدعوى: دلالة الحكم باستمرار ما ثبت إلى ظرف الشك.

و فيه: أنه من مجرد الاحتمال الذي لا يصلح للاستدلال، كما يحتمل دلالته على الحكم الواقعي فقط، أو هو و الاستصحاب، أو هما و الحكم الظاهري، و لكن الكل من مجرد الاحتمال، و الظاهر منه الأخير، كما لا يخفى على الخبير.

هذه جملة من الأخبار التي استدل بها على الاستصحاب، و في بعضها كفاية لإمضاء السيرة العقلائية فضلا عن تمامها.

و لا بد بعد ذلك من التأمل في أن مورد السيرة عامة لجميع أقسام الاستصحاب أو تختص ببعضها دون بعض. مقتضى الوجدان هو الأول، فيشمل الشك في المقتضي و الرافع و الغاية، و هكذا إطلاق الأخبار شامل للجميع أيضا، فإذا عمت السيرة و لم يردع عنها رادع شرعي يكفي في عموم اعتبار الاستصحاب، فكيف بما إذا قررت بإطلاق أخبار الباب، فلا وجه بعد ذلك لإثبات الاختصاص بخصوص الشك في الرافع استظهارا من مادة النقض الواردة في الأخبار باختصاصها بما احرز فيه المقتضى و شك في الرافع، و أنها لا تشمل الشك في المقتضى، لأن النقض يرد على ما فيه الاستحكام في الجملة و هو متحقق مع إحراز المقتضي، و أما مع الشك فيه فلا استحكام في البين حتى يصح إطلاق النقض عليه.

ص: 260

و فيه.. أولا: أن المتفاهم من قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» خصوصا بقرينة قوله عليه السّلام: «و يتم على اليقين و يبني عليه و لا يعتد بالشك في حال من الحالات» هو ترتب أثر اليقين و تقديمه على الشك مطلقا، و قوله عليه السّلام: «و لا يعتد بالشك...» كالمفسر لقوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك»، و ظهور إطلاق المفسر (بالكسر) مقدم على احتمال الإجمال في المفسر (بالفتح).

و ثانيا: أنه لا ينحصر أن يكون الاستحكام المناسب لإطلاق النقض في خصوص إحراز المقتضي فقط، بل هناك شيء آخر يصح الإطلاق بلحاظه أيضا بل هو المتعين عرفا، و هو استحكام نفس اليقين و الحجة المعتبرة السابقة في مقابل الشك و التردد اللاحق، فكأنه عليه السّلام قال: اليقين و الحجة المعتبرة مستحكم، لا ينقض أثرهما بالشك و التردد. و لمكان الاتحاد الاعتباري بينهما و بين متعلّقهما يسري الاستحكام إليه أيضا، سواء كان من الشك في المقتضي أو في الرافع، و العرض على العرف أولى دليل لدفع هذه المناقشة، و مقتضى الإطلاق الشمول للجميع من الشك في المقتضي و الرافع، و الوجودي و العدمي، و التكليفي و الوضعي، و أما وجه عدم شمولها لقاعدتي الشك الساري، و المقتضي و المانع فقد تقدم سابقا، فراجع.

و لا بد من التنبيه على امور:

تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الأول: انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية

لا ريب في انقسام الأحكام المجعولة - بالمعنى الأعم من التأسيس و الإمضاء - إلى التكليفية و الوضعية. و الاولى ما يتعلّق بأفعال العباد بلا واسطة، و تنحصر في الخمسة - الواجب و الحرام و الندب و الكراهة و الإباحة - المعروفة.

و الأخيرة بخلافها، و لها نحو تعلق بالاولى في الجملة، و المرجع في أقسامها

ص: 261

اصطلاح الفقهاء، بل العقلاء.

و يمكن أن يقال: إن كل ما ليس بحكم تكليفي و له دخل فيه، أو في متعلقة، أو في موضوعه فهو حكم وضعي، فاكتفاء بعض بذكر السببية، و الشرطية و المانعية، أو بزيادة العلية، و العلامية، و الرخصة و العزيمة، أو زيادة الولاية و القضاوة أو نحوها - كما عن آخرين - ليس من جهة الحصر، بل من باب ذكر الغالب.

ثم إن البعث نحو الفعل - المعبر عنه بالوجوب - أو الترك - المعبر عنه بالحرمة - أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب، أو البعث نحو الترك كذلك المعبر عنه بالكراهة، أو الترخيص المطلق نحو الفعل و الترك و المعبر عنه بالإباحة، ليست مما تختص بشريعة دون اخرى، بل هي ثابتة في جميع الشرائع، بل في أفعال العقلاء و لو لم يكن التزام بشريعة أصلا، و تكون من الفطريات قررها الشرع.

نعم، تختلف متعلّقاتها باختلاف الشرائع، فرب شيء يكون واجبا في شريعة هو حرام في اخرى أو بالعكس، فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الاعتباريات الفطرية العقلائية لم يردع عنها الشرع، فكيف بالأحكام الوضعية - كالشرطية، و السببية، و المانعية، و الجزئية، و العلية، و العلامية، و القضاوة و الولاية و غيرها - مما كانت شائعة بين الناس ثم وردت الخطابات الشرعية مشتملة عليها، فاستفيدت منها السببية الشرعية و المانعية و نحوها.

ثم إنهم قد اختلفوا في الوضعيات، فمن قائل بأنها انتزاعيات محضة عن التكليفيات، و اختاره الشيخ الأنصاري قدّس سرّه و نسبه إلى المشهور أيضا و ادعى الوجدان في ذلك.

و فيه.. أولا: أنه لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه، مع أنه لا وجه لاعتبار هذه الشهرة الاجتهادية.

ص: 262

و ثانيا: دعوى الوجدان في نفي الجعل مطلقا حتى إمضاء، خلاف الوجدان، بل في الكتاب و السنة تصريح بالجعل استقلالا في مثل الخلافة و الإمامة و الحجية و نحوها قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ، و قال تعالى: إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ و غيرهما من الآيات المباركة.

و أما دعوى: أنه لغو فلا وجه لها أيضا، لصحة ترتب الأثر الشرعي عليها من جريان الاستصحاب فيها و نحو ذلك، و قد أجرى نفسه قدّس سرّه الاستصحاب في جملة من الوضعيات، كما لا يخفى على من راجع كتبه الفقهية.

و من قائل بأنه لا جعل إلا للوضعيات. و التكليفيات منتزعة منها، و نسب ذلك إلى الفاضل التوني قدّس سرّه، و هو ظاهر الخدشة، كما لا يخفى.

و من قائل بالتفصيل بأن منها ما تكون مجعولة استقلالا بأسبابها الخاصة و لو إمضاء، كالملكية، و الزوجية، و القضاوة و الولاية، و الصحة و اللزوم، و الحجية و الطريقية و نحوها، و لا وجه للانتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها ابتداء.

و منها: ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي، كالشرطية و المانعية و الجزئية للمكلف به، لأنها مجعولة بنفس تشريع المكلف به و جعله، فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء و الشرائط و الموانع، يكون جعل الصلاة جعلا لها بالعرض، بلا احتياج إلى جعل مستقل بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، كما أن التكليف النفسي المتعلق بالمركب انحلالي انبساطي بالنسبة إلى الأجزاء و الشرائط، فكذا المقام.

و يرد عليه: أنه يمكن أن يكون الجعل الثانوي لها لغرض التأكيد و التبيين و الاهتمام بها، فلا يكون ذلك لغوا.

و منها: ما لا تكون منتزعة عن التكليف و لا مجعولة و لو بالعرض، كالسببية و الشرطية لنفس التكليف. أما عدم صحة الانتزاع فلأن التكليف متأخر عنها لاقتضاء السببية و الشرطية تقدمهما على المسبب و المشروط، و لا يعقل

ص: 263

انتزاعهما عن التكليف المتأخر عنهما ذاتا و حدوثا. و أما عدم صحة الجعل - و لو بالعرض - فلأن السببية أو الشرطية إنما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك و مع وجود تلك الخصوصية لا أثر للجعل، إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي، و مع عدمها لا وجه للسببية أو الشرطية.

و فيه: أن الانتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتا، بل إنما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع، و لا ريب في أن المنتزع و المنتزع منه من الامور المتضايفة فيتحدان في الشأنية و الفعلية، فيصح الانتزاع من جهة شأنية المنتزع منه و كونه بالقوة بلا إشكال. و تقدم من هذا القائل نظير ذلك في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر، فراجع.

هذا، و أما عدم الأثر للجعل ففيه أن نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي، لعدم إحاطة العقول بالخصوصيات، و لا بد من الجعل الشرعي لتحقق الداعوية؛ فهو لا بد منه من هذه الجهة لا محالة. هذا.

و يمكن أن يرتفع النزاع من البين و إن كان خلاف ظاهر الكلمات، بأن يقال إن من ينفي الجعل عن الوضعيات يريد الاستقلالية و الموضوعية المحضة، و من يثبته فيها يريد الأعم من التبعية و التقريرية، لأن جعل أحد المتلازمين ملازم لجعل الآخر و لو بالتبع، فيكون الجعل أعم من الإمضائي و التأسيسي و الاستقلالي و التبعي، و نتيجة ذلك صحة جريان الاستصحاب في الجميع، و لو انحصر مورد جريان الاستصحاب بخصوص مورد الجعل الاستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلم جريانه فيها عندهم، فيكفي في مطلق الأثر الشرعي و لو بنحو الإمضاء، مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة.

ثم إن من الوضعيات الرخصة و العزيمة.

ص: 264

و الاولى التسهيل و الترخيص في الفعل أو الترك، و تطلق على مجرد المشروعية أيضا.

و الثانية عبارة عن عدم المشروعية، و تطلق على الترك اللزومي أيضا.

التنبيه الثاني: الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري، مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط

يعتبر في الاستصحاب الشك الفعلي، لأنه المتيقن من بناء العقلاء و المتفاهم من الأدلة اللفظية، فلا يكفي التقديري منه، فمن علم بالحدث و غفل عن حاله فصلّى و بعد الفراغ شك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا، لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان، لعدم فعلية الشك قبلها و إنما حدث بعد الفراغ منها، بل إنما تجري قاعدة الفراغ و تصح الصلاة.

إن قلت: المناط في جريان الاستصحاب تحقق اليقين و الشك، و هو ثابت في المقام، لأن اليقين بالحدث كان قبل الصلاة و الشك فيه متحقق بعدها، فيجري الاستصحاب و تبطل الصلاة.

قلت - أولا: أن أثر الشك في الاستصحاب لا بد و أن يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه، فلا يشمل ما قبله.

و توهم: أنه يسري الشك إلى حين صدور الصلاة أيضا.

مدفوع: بأنه لا ينفع في جريان الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها، و المفروض اعتبارها.

و ثانيا: أنها و إن جرت في الجملة و لكنها محكومة بقاعدة الفراغ.

نعم، لو قلنا بعدم جريان القاعدة، لأنه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل، وجب إعادة الصلاة، لقاعدة الاشتغال.

ص: 265

التنبيه الثالث: المراد من اليقين في مورد الاستصحاب

ليس المراد باليقين في الروايات و الكلمات خصوص اليقين الوجداني المقابل لسائر الحجج المعتبرة، بل هو كناية عن كل حجة معتبرة، و كل ما يصح الاعتذار به، و إنما ذكر مثالا لكل ما يصح الاعتذار به، فكأنه قيل كل ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابن عليه عند الشك في البقاء، يقينا كان أو أمارة معتبرة، أو أصلا موضوعيا أو حكميا، فيجري الاستصحاب في مورد الأمارات و الاصول مطلقا.

نعم، جريانها في مورد الاصول من قبيل لزوم ما لا يلزم، لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها، فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة و إجراء الاستصحاب إلا إذا ترتب عليه أثر آخر غير ما يترتب على نفس الشك، فلو كان المورد من موارد جريان أصل موضوعي، أو أصل حكمي من الاشتغال، أو البراءة، أو التخيير، يكفي نفس الشك في جريانها بنفسها من دون حاجة إلى عناية اخرى من ملاحظة الحالة السابقة، إلا إذا كان لها أثر خاص لا يترتب على نفس الشك.

التنبيه الرابع: اقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي
اشارة

لا ريب في شمول أدلة اعتبار الاستصحاب لما إذا كان المستصحب كليا، كشمولها لما إذا كان جزئيا، و المعروف أن استصحاب الكلي على أقسام ثلاثة، يجري استصحاب الكلي و الجزئي معا في أحدها، و يجري استصحاب الكلي فقط في آخر، و لا مجرى له أصلا في ثالث، لا استصحاب الكلي و لا الجزئي، على ما يأتي من التفصيل.

ص: 266

الأول: ما إذا كان المستصحب جزئيا خارجيا، موضوعيا كان أو حكميا

، فكما يصح استصحاب نفس الجزئي يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجودا، فمن بال ثم شك في أنه توضأ أو لا، يصح استصحاب الحدث الجزئي الخارجي البولي، كما يصح استصحاب كلي الحدث أيضا. لأن كلا منهما عين الآخر وجودا و إن اختلفا مفهوما.

الثاني: ما يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد و الجزئي،

و هو ما إذا لم يكن المستصحب متشخصا خارجا، بل كان بحسب حدوثه مرددا بين فردين و لم يعلم أن ما حدث في الخارج أي منهما، كالرطوبة الحادثة المرددة بين البول و المني، و كما في موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين، فالاستصحاب في هذا القسم إن أجري في الشخص و الجزئي الخارجي من حيث إنه كذلك، فلا وجه له، لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصا بالبولية أو المنوية، و إن أجري في المردد بين الفردين من حيث الترديد فلا وجه له أيضا، لأن المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له خارجا بل و لا ذهنا أيضا، و إنما هو من المفروض العقلية، كفرض الممتنعات، لأن التحقق مطلقا مساوق للتشخص، - كما ثبت في محله - و ما لا تحقق له أصلا كيف يتعلق اليقين به، و لو فرض صحة تعلقه به ذهنا لا ينفع لجريان الاستصحاب أيضا، لأنه لا بد فيه من تحقق موضوع الأثر الشرعي تحققا خارجيا، و لا يكفي التحقق الفرضي، فينحصر الاستصحاب الصحيح في استصحاب كلي الحدث، للعلم بتحققه إما في ضمن الفرد الأصغر، أو الأكبر، فحدوث كلي الحدث معلوم بلا كلام و بعد الوضوء يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاءه، فيجب عليه الغسل أيضا، فالمقتضي لجريان الاستصحاب في الكلي موجود و المانع عنه مفقود فتجري لا محالة.

إن قلت: لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضا لعدم اليقين السابق، بالنسبة

ص: 267

إليه أيضا، لأن الكلي عين الفرد، و تقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد، و عدم الأثر لليقين بتحقق الفرد المردد في الذهن لو أمكن ذلك.

قلت: لا ريب في أن الكلي عين الفرد، و لكن الفردية متقوّمة بشيئين:

الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة، و الخصوصية التي يتميّز بها كل فرد عن الآخر، و ما لا يقين به هو الثاني دون الأول، فإن حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام.

إن قلت: نعم، و لكن لا يجري الاستصحاب في الكلي من جهة عدم الشك اللاحق و لو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه، لأن في الرطوبة المرددة بين البول و المني بعد أن توضأ، يعلم حينئذ بارتفاع الحدث الأصغر، و يشك في أصل حدوث الأكبر، فتجري أصالة عدم حدوثه، فيرتفع الشك في بقاء الكلي، لأن الأصل الجاري في السبب مقدم على الأصل الجاري في المسبب، كما يأتي، فلا يبقى موضوع لجريان الأصل في الكلي.

قلت يرد عليه..

أولا: عدم السببية و المسببية في المقام، لتوقفهما على تحقق المغايرة الوجودية، و ليس بين الكلي و الفرد تغاير وجودي أصلا، بل هما واحد وجودا و إن اختلفا مفهوما في العقل.

و ثانيا: الأصل السببي يقدم على المسببي إن كان الترتب بينهما شرعيا، كما في الماء المشكوك الكرّيّة، و الثوب المتنجس المغسول فيه، فإن باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعا، و المقام ليس كذلك، فإن وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض و لا دخل للشرع فيه أصلا.

و ثالثا: أصالة عدم حدوث الحدث الأكبر معارضة بأصالة عدم حدوث الحدث الأصغر، فتسقطان بالمعارضة.

إن قلت: لا كلية لاستصحاب الكلي، فإن من آثار استصحاب كلي

ص: 268

النجاسة انفعال الملاقي لها، و لا يحكمون بترتب هذا الأثر في ما إذا علم إجمالا بنجاسة العباء مثلا، و ترددت بين كونها في الطرف الأعلى أو الأسفل ثم تطهر أحد الطرفين، إذ لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة بعد ذلك و أثر الاستصحاب نجاسة الملاقي للعباء مع الرطوبة المسرية مع أنهم لا يقولون بها، لما تقدم من أن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، فلا بد إما من القول بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، و كل منهما خلاف المعروف بين الفقهاء، و قد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية.

قلت: أثر استصحاب كلي النجاسة إنما هو عدم صحة الصلاة في العباء، و أما انفعال الملاقي فليس أثرا لها، لتوقف الانفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي، لما تقدّم في البحث عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، و باستصحاب كلي النجاسة لا تثبت النجاسة في محل خاص أو موضع مخصوص حتى ينفعل الملاقي له، فالمقتضي لاستصحاب أصل النجاسة موجود و المانع عنه مفقود و أثرها عدم صحة الصلاة، و لكن لا مقتضى لانفعال الملاقي لتوقفه على الملاقاة للنجاسة الشخصية الخارجية.

ثم إن في الرطوبة الخارجة المرددة بين البول و المني إما أن تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة، أو لا يعلم بها أصلا، أو تكون الحدث الأصغر.

و في الأولين يجب الاحتياط بالجمع بين الوضوء و الغسل لاستصحاب كلي الحدث، و في الأخير يصح الاكتفاء بمجرد الوضوء، لأصالة بقاء الحدث الأصغر و عدم حدوث الجنابة، هذا كله إن ثبت الأثر للجهة المشتركة. و أما إذا كانت الأدلة ظاهرة في التنويع، و إن أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل و الأكثر ثبوتا، فيكون من القسم الثالث الذي يأتي عدم جريان الاستصحاب فيه، و يمكن أن تكون الرطوبة المرددة بين البول و المني من هذا

ص: 269

القبيل، فإن الجهة المشتركة هي النجاسة فقط، و أما الحدثية فأثرها من المتباينات، كما لا يخفى.

الثالث: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي

الثالث من أقسام استصحاب الكلي: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و لا الفرد، و هو ما إذا علم بحدوث الفرد و علم بارتفاعه أيضا و لكن شك في حدوث فرد آخر قبل ارتفاعه أو مقارنا له، أو شك في تبدله بعد الارتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات، كما إذا علم بحدوث الوجوب و ارتفاعه و شك في تبدله إلى الندب و عدمه.

و الحق عدم صحة استصحاب الكلي في الجميع لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا، بل دقة أيضا، إذ الكلي عين الفرد، فما علم حدوثه علم بارتفاعه، و غيره مشكوك الحدوث، فلا وجه لجريان الاستصحاب في بقاء ما حدث للعلم بالارتفاع، بل يجري في عدم حدوث ما هو مشكوك الحدوث.

و أما الصورة الأخيرة فالطلب الجامع بين الوجوب و الندب، و إن علم بحدوثه و شك في زواله، فيصح جريان استصحاب أصل الطلب حينئذ.

لكن فيه.. أولا: أنه لم يثبت كون الوجوب مركبا من الطلب و المنع من الترك، و الندب مركبا منه و الترخيص في الترك، بل هما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتتان في الشدة و الضعف، فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأسا، و تحقق الندب يوجب حدوث مرتبة اخرى.

و ثانيا: لا ريب في تباينهما عرفا، و أدلة الاستصحاب منزلة على العرف، فتكون هذه الصورة أيضا كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة.

نعم، لو كان الوجوب و الندب مركبين من الطلب و الخصوصية، و كانت تلك الخصوصية من الحالات العارضة يجري استصحاب أصل الطلب بلا كلام، و لكنه لا دليل عليه، كما ثبت في غير المقام.

ص: 270

التنبيه الخامس: الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود، الإشكال عليه و الجواب عنه

يعتبر في الاستصحاب اتحاد موضوع الشك و اليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد، و إذا تعدد يكون إجراء حكم اليقين إلى مورد الشك من إسراء حكم ثبت لموضوع إلى موضوع آخر، و لا ريب في بطلانه، فيشكل جريانه في ما لا قرار له و يكون حال اليقين غير حال الشك، كالزمان و الزمانيات، و المتدرجات مطلقا مما لا ربط لكل جزء من سابقه بلا حقه، و يكون كل جزء محفوفا بعدمين.

و لكن هذا الإشكال باطل من أصله، لأنه مبني على كون الاتحاد بحسب الدقة العقلية، و أما إذا كان بنظر العرف فلا إشكال، لحكمه بأن لجميع السيالات و المتدرجات وحدة عرفية اعتبارية، كاليوم، و الليلة، و الأسبوع، و الشهر، و السنة، بل القرن و الدهر و نحوها. و كذا جريان الدم و الماء و نحوها، فيصح الاستصحاب في جميعها لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين و الشك المتعلقين به.

و أما ما اجيب به عن الإشكال، بأن التعدد إنما هو في الحركة القطعية و هي كون الشيء في كل آن في محل، و أما في التوسطية و هي كون الشيء بين المبدأ و المنتهى فلا تعدد، بل هي واحدة. فإن أريد به ما ذكرناه فهو، و إلا فلا وجه له، لأن الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن و مورد الاستصحاب لا بد و أن يكون خارجيا، و لا يخفى أنه يجري في الزمان و الزماني الاستصحاب الشخصي و الكلي أيضا بما تقدم له من الأقسام.

ثم إن الزمان إما قيد للتكليف، أو للمكلف به، و على كل منهما إما أن يكون على نحو وحدة المطلوب، أو على نحو تعدد المطلوب، أو يشك في أنه من أي النحوين. و لا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان إن شك في بقائه

ص: 271

في جميع الأقسام، كما لا إشكال في أنه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إن كان التقييد بنحو وحدة المطلوب، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه. و أما إن كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب.

و ما يقال: من معارضته باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي، فلو شك - مثلا - في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه و بين البول، فكما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء مثلا موجبا للطهارة، و كذا في نظائره.

مردود: بأنه بعد تشريع الوضوء و جعله موجبا للطهارة مع استجماع الشرائط و بعد حصر النواقض في التشريع، لا وجه لمثل هذا الاستصحاب قطعا، و العرف يأباه و يستنكره.

و أما الإشكال عليه: بأن المتيقن السابق هو العدم المطلق، و المقصود إثباته في زمان الشك الحصة الخاصة منه، فيكون مثبتا.

مردود: بإمكان أن يكون المستصحب نفس الحصة فلا يكون مثبتا، لأنه و إن لم يكن تميز في العدم من حيث هو لكن من جهة إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه و تتحقق الحصة أيضا فتستصحب.

ثم إنه إن شك في تحقق أصل زمان خاص بمفاد كان التامة، أو شك في انعدامه، فيستصحب عدم حدوثه في الأول، و بقائه في الثاني، لوجود المقتضي و فقد المانع. و هل يثبت بذلك وقوع العمل في وقته الخاص به أيضا بدعوى عدم الواسطة عرفا، أو خفائه. أو دعوى أن التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به - و لو بالأصل - أو بدعوى جريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو؟ لا يبعد ذلك.

ص: 272

التنبيه السادس: في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه

مقتضى عموم أدلة الاستصحاب جريانه في ما هو معلّق على شيء، كجريانه في ما لم يكن كذلك، فلو ورد الدليل أن العنب إذا غلى يحرم، ثم صار زبيبا و شك في بقاء هذا الحكم المعلّق على الغليان في حال الزبيبة أيضا، يجري فيه الاستصحاب، فيصير الزبيب المغلي، كالعنب المغلي. و كذا إن قيل أكرم زيدا إن جاءك، و بعد مدة شك في بقاء هذا الحكم لجهة من الجهات، يصح الاستصحاب فيه.

و اشكل عليه.. أولا: بتغاير الموضوع.

و فيه: مضافا إلى عدم اختصاصه بالمقام، فيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايرا مع المتيقن، أن الزبيبة من الحالات لا أن تكون متغايرة مع العنبية، و تغاير الاسم أعمّ من تغاير الذات.

و ثانيا: أنه لا تحقق للمتيقن في مورد الاستصحاب التعليقي، لتعلّق الحرمة على الغليان، و المفروض عدم غليان العنب في حال العنبية، فلا وجه للاستصحاب.

و فيه: أن المستصحب الحرمة المعلّقة على الغليان، لا الحرمة المنجزة الفعلية، فيستصحب نفس الحكم المنشأ المعلّق، و لا ريب في أن له نحو اعتبار بعد الجعل و الإنشاء.

و ثالثا: أنه معارض باستصحاب الحلية المطلقة، فيسقط بالمعارضة.

و فيه: أن الحلية بغاية الغليان، و مع إثبات الحرمة بالغليان و لو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به - كما لا يخفى - فلا محذور في الاستصحاب التعليقي مطلقا، و العرف بحسب ارتكازهم لا يفرّقون بين الاستصحاب التعليقي و التنجيزي، فلا وجه للمناقشة من حيث عدم المتيقن السابق، إذ يكفي فيه

ص: 273

الوجود الاعتباري، و لا ريب في أن المنشآت التعليقية لها وجودات اعتبارية عرفية و عقلائية بل و شرعية أيضا.

التنبيه السابع: الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين

يجري الاستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة، سواء كان ذلك في شريعة واحدة أو في شريعتين، لوجود المقتضي له و فقد المانع.

و احتمال تغاير الموضوع، لأن أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.

مردود: بعدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بالخصوص، لكونها مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكليف مطلقا. كما أن احتمال عدم جريان الاستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.

مردود أيضا: بانحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص، مع عدم تنجزه لخروج جملة من أطرافه عن مورد الابتلاء، و لا فرق فيه بين كون النسخ قطعا لاستمرار الحكم، أو إظهار أن مدة الحكم و أمده كان إلى حدّ مخصوص و لكنه أنشئ بصورة الدوام لمصلحة فيه، لشمول أدلة اعتباره لكلتا الصورتين.

التنبيه الثامن: في الأصل المثبت، الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام
اشارة

لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارة و الأصل مطلقا، و هو..

تارة: يترتب عليه بلا واسطة شيء أبدا، أو بواسطة أمر شرعي، و لا ريب في اعتبارهما حينئذ.

و اخرى: مع وساطة أمر عقلي أو عادي، و يعبر عن الأخيرين بالمثبت، أي تثبت الأمارة أو الأصل أمرا غير شرعي و يترتب عليه الأثر الشرعي. و قد

ص: 274

اشتهر اعتباره في الأمارات دون الاصول مطلقا.

و خلاصة ما قالوه في وجه الفرق بينهما: أن الأمارة تكون فيها جهة الكشف في الجملة و ما يكشف عن شيء يكشف عن جميع ما يتعلّق به من اللوازم و الملزومات مطلقا. و أما في الاصول فليس فيها جهة الكشف عن شيء أبدا، بل المعتبر فيها هو العمل بالأثر الشرعي المترتب على مفادها فقط، و لا يشمل دليل اعتبارها لغير ذلك.

و بعبارة اخرى: اعتبار المثبتات من سنخ الدلالات الالتزامية التي تتحقق فيما فيه الظهور و الكشف دون غيره.

و فيه: أنه لا كلية في ذلك بل يدور الاعتبار مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة مطلقا ما لم تقم. حجة معتبرة عليه، و المتيقن منها ما قلناه، و لا فرق فيه بين الأمارة و الأصل.

نعم، لو قيل بعموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقا لكان بينهما فرق، و لكن لا دليل على هذا التعميم، بل لنا أن نتمسك في اللازم البيّن للاصول بنفس الأدلة الدالة على حجية الاصول، فإنها من الأمارات، و الأمارة حجة في لازمها البيّن، كما مرّ.

و لا بدّ أولا من بيان الأصل، ثم بيان الحق الذي ينبغي أن يقال.

و لا ريب في أن مقتضى الأصل عدم حجية المثبت مطلقا لا في الأمارات، و لا في الأصل، لما اثبتناه من أصالة عدم الحجية في كل شيء إلا ما ثبت بالدليل المعتبر، فإن تمّ الدليل على اعتباره فهو المتبع و إلا فيبقى على مقتضى الأصل.

و الدليل على الاعتبار منحصر بنفس الأمارة أو الأصل، فإن استفيد ذلك الأمر العرفي من الأصل أو الأمارة بنحو من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالاعتبار، بلا فرق بين الأمارة و الأصل، و إن لم يكن في البين ما يصح الاعتماد عليه في هذه الدلالة فلا اعتبار به مطلقا بلا فرق بينهما أيضا، و مورد الشك

ص: 275

ملحق بهذه الصورة أيضا، لأصالة عدم الاعتبار، و إن وجد في الأمارة دون الأصل أو بالعكس فعليه المدار.

و بعبارة اخرى: اعتبار المثبتات من قبيل اعتبار المداليل الالتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد و الجهات، بلا فرق بين الاصول و الأمارات، و لا كلية للنفي المطلق بالنسبة إلى الأولى، و لا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأخيرة.

و لعل إلى ما ذكرناه يرجع ما عن المحقق الأنصاري قدّس سرّه من اعتبار مثبتات الاستصحاب مع خفاء الواسطة، و ما عن المحقق الخراساني قدّس سرّه من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.

بقي امور لا بد من التنبيه عليها:
الأول: في المراد بالأثر الشرعي

الأول: كل ما يصح انتسابه إلى الشارع فهو أثر شرعي، سواء كان تكليفيا أو وضعيا، تأسيسيا أو إمضائيا، فاستصحاب البراءة من التكليف لا يكون مثبتا، لأن نفي التكليف مجعول الشارع كوضعه و لو إمضاء، فيصح نسبة الرفع و الوضع إليه، و ذلك يكفي في عدم كون الأصل مثبتا. و كذا استصحاب وجود الجزء و الشرط و فقد المانع، لا يكون مثبتا لترتب الأثر الشرعي عليه و هو صحة العمل، و كذا استصحاب عدمها لترتب الفساد بلا إشكال في ذلك، بناء على كون الصحة و الفساد مجعولين مستقلين شرعا، بل و كذا بناء على انتزاع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام، و انتزاع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء، لما يأتي.

الثاني: لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد

، و اللازم و الملزوم، سواء كان لازم الوجود، أو لازم الماهية، لمكان الاتحاد بينهما عرفا بل عقلا،

ص: 276

فاستصحاب الوجوب الكلي، و الملكية الكلية، و تغير الكر بالنجاسة، لا يكون مثبتا بالنسبة إلى الوجوب الشخصي و الملكية الشخصية و نجاسة الماء الخارجي الجزئي.

الثالث: أقسام الأثر المترتب على الشيء

الثالث: الأثر المترتب إما شرعي فقط، أو غير شرعي فقط، أو غير شرعي مترتب على الشرعي، أو شرعي مترتب على غير الشرعي.

و لا ريب في اعتباره في الأول، كما لا ريب في عدم الاعتبار في الثاني، و الثالث معتبر بلا إشكال، لتحقق الموضوع، فيترتب عليه الأثر غير الشرعي، كترتب استحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب، و إجزاء امتثاله، و نحو ذلك من الآثار غير الشرعية. و الأخير هو الأصل المثبت المعهود، فقد يكون معتبرا مع الاتحاد بنظر العرف، و قد لا يكون معتبرا، كما في مورد حكم العرف بالاختلاف و التباين.

الرابع: الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها

الرابع: ربما يستظهر من المشهور ما يوهم ذهابهم إلى اعتبار الأصل المثبت.

منها: ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول اليوم و الآخر في آخره، و اختلفا في موت المورث، فقال أحدهما إنه مات في الظهر - مثلا - فلا يرث من أسلم في آخر اليوم، و قال الآخر بل مات بعد الغروب، فلا يختص الإرث بأحدهما. فحكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث و عدم الاختصاص بأحدهما، مع أن الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارنا له، و إثبات ذلك بالأصل يكون مثبتا.

و فيه: أنه ليس من الأصل المثبت، لأن المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارث مسلم و لو كان إحراز الإسلام بالأصل، و لا دليل على لزوم تقدم إسلام الوارث على موت المورث و لا مقارنته معه حتى يكون ذلك من الأصل المثبت.

و منها: حكمهم بالضمان في من استولى على مال الغير، ثم شك في أنه

ص: 277

كان بحق أو لا، فإن كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، و إن كان لأصالة عدم الإذن فلا توجب الضمان إلاّ بعد إثبات العدوان، و لا يكون ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

و فيه: أنه يصح إثبات الضمان بقاعدة اليد مع عدم كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لأن مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلاّ إذا احرز بوجه معتبر ثبوت الإذن و الرضا فيه، فوضع اليد على مال الغير متحقق وجدانا، فتشمله القاعدة قهرا، مع أن نفس عدم إحراز الإذن و لو بالأصل يكفي في الضمان، و لا نحتاج إلى إثبات العدوان حتى يكون من الأصل المثبت.

و منها: غير ذلك مما يذكر في الفقه مع إمكان دفع الشبهة بأدنى تأمل.

الخامس: جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا

الخامس: لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد يكون فيه الأثر الشرعي حدوثا و بقاء، كما لا ريب في جريانه في ما إذا كان الأثر للبقاء فقط. و أما إن كان بمجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى له أصلا، و هو أوضح من أن يخفى.

التنبيه التاسع: أقسام الشك في حدوث الحادث، للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق، الكلام

الشك في حدوث كل حادث على أقسام خمسة:

الأول: أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط، و يجري استصحاب عدمه مع تحقق أركانه.

الثاني: أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة و يشك في زمانه، فلا ريب في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به، و أما إثبات أن زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله - مثلا - فليس ذلك من شأن الاستصحاب، لكونه مثبتا.

ص: 278

نعم، يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل و الوجدان، و هو احتمال حسن ثبوتا، و لكن يحتاج إلى دليل إثباتا، و مقتضى الأصل عدم حجية الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عرف أو شرع.

الثالث: أن يعلم بحدوث الحادثين في الجملة، و يشك في السبق و اللحوق بينهما، و يكون الأثر الشرعي لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعا من دون تقييد بينهما أبدا. و لا ريب في عدم صحة الاستناد إلى استصحاب عدم كل منهما، إما لجريانهما و السقوط بالمعارضة، كما عليه جمع منهم المحقق الانصاري قدّس سرّه. أو لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين، كما عليه جمع آخر منهم المحقق الخراساني قدّس سرّه، كما إذا علم بحياة الوالد و الولد يوم الخميس و بموتهما يوم الأحد، و شك في أن موت الوالد كان في يوم الجمعة، و موت الولد في يوم السبت، أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن، فأصالة بقاء حياة الوالد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة، و أصالة بقاء حياة الولد إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة، فجريان الاستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما، و هو معتبر، فلا يجري لعدم المقتضى لا لوجود المانع، أي السقوط بالمعارضة، فعدم صحة الاستناد إلى الاستصحاب مسلّم بين الجميع، و النزاع بينهم علمي و لا يترتب عليه أثر عملي.

و لكن يمكن الخدشة في الوجه الثاني بأن إحراز انفصال المشكوك عن المتيقن بحجة معتبرة، مانع عن جريان الاستصحاب، لا أن يكون إحراز الاتصال شرطا، إذ لا دليل عليه، فيكفي عدم العلم بالانفصال بعد تحقق اليقين و الشك، و صدق عدم النقض عرفا بالنسبة إلى كل واحد من الاستصحابين في حدّ نفسه، مضافا إلى تحقق الاتصال الزماني خارجا، و اتصال المشكوك

ص: 279

بالمتيقن ذهنا، و مقتضى الإطلاق و عموم السيرة عدم اعتبار أزيد من ذلك. هذا مع أن إثبات الانفصال بجريان الأصل مثبت لا اعتبار به.

الرابع: ما إذا علم بتاريخ أحدهما، و شك في الآخر، مع ترتب الأثر الشرعي على نفس عدم مجهول التاريخ في زمان الآخر، فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى المجهول دون المعلوم، لليقين بزمان حدوثه.

نعم، يشك في أنه قبل زمان حدوث مجهول التاريخ أو بعده، و يأتي حكمه.

الخامس: أن يشك في التقدم و التأخر و التقارن، و كان الأثر الشرعي مترتبا على ما اتصفت بهذه العناوين خارجا، أي بمفاد كان الناقصة، و لا ريب في عدم جريان الاستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة، إذ المعلوم إنما هو نفس الحدوث في الجملة، لا عنوان التقدم و ضديه.

نعم، لو كانت نفس هذه العناوين من حيث هي موردا للأثر الشرعي، و قلنا بكونها من الاعتباريات العقلائية الممضاة شرعا، يجري الاستصحاب فيها و يسقط بالمعارضة، سواء كان الأثر الشرعي لكل واحد منها في مورد واحد، أو كان لكل منها أثر شرعي خاص مبتلى به في مورد المعارضة، و لا فرق في هذا القسم بين ما إذا جهل تاريخ الحادثين، أو علم تاريخ حدوث أحدهما و جهل الآخر.

ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما، كموت المورث و إسلام الوارث، أو لم يمكن، كالحدث و الطهارة المتعاقبين، و قد تشتت الأقوال في الأخير. و الحق جريان الاستصحاب فيهما و سقوطهما بالمعارضة، هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المقام؛ و قد ذكرنا بعض الكلام في كتاب (مهذب الأحكام) في مسألة توارد الحالتين من الحدث و الطهارة.

ص: 280

التنبيه العاشر: الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات، أقسامها، استصحاب الحكم، استصحاب بقاء الشريعة

يجري الاستصحاب في الاعتقاديات، كجريانه في الفرعيات لعموم أدلته و إطلاقاتها، و تسميته بالأصل العملي باعتبار الغالب، مع أنه أعم من العمل الجارحي و الجانحي.

ثم إن الاعتقاديات على أقسام..

فتارة: يكون المطلوب فيها مجرد الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به.

و اخرى: يلزم تحصيل العلم به، و على كل منهما..

تارة: يكون مورد الاستصحاب نفس الموضوع.

و اخرى: هو الحكم. و على كل من هذه الأقسام الأربعة..

تارة: يكون الحاكم به هو العقل، و اخرى: يكون هو الشرع. فهذه ثمانية أقسام، و لا وجه لجريان الاستصحاب في الموضوع في جميع هذه الصور؛ سواء كان مما يكفي فيه مجرد الاعتقاد، أو لزم تحصيل العلم به، لأن الاستصحاب متقوّم بالشك و التردد، و الاعتقاد متقوّم بالجزم أو العلم. و هما لا يجتمعان إلاّ أن يدل دليل من الخارج على كفاية الجزم و العلم التعبدي في الاعتقاديات أيضا.

و أما الاستصحاب في الحكم فلا محذور فيه إن كان الحاكم هو الشرع، بل و كذا إن كان هو العقل و قلنا بكفاية عدم الردع في الأثر الشرعي، و إلا فيختص جريانه بما إذا كان الحاكم هو الشرع فقط، بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية مطلقا، لأن اللازم في الاعتقاديات تحقق العجز عن تحصيلها، فمع العجز لا وجه للاستصحاب. و كذا مع عدم إحراز العجز لوجوب تحصيلها إلى أن يظهر العجز أيضا، فلا مورد للاستصحاب في

ص: 281

الاعتقاديات أصلا، فظهر بطلان تمسك الكتابي بالاستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على نسخه، مع أن الدليل إما برهاني، أو إلزامي، أو إقناعي؛ و استصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها. إذ الأول عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات القريبة و البعيدة في البرهان، و إلا فلا ينفع شيئا، فلا بد و أن يعتقد الكتابي و المسلم بصحة الاستصحاب في الشريعتين، مع الاعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلا، فإذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية و كونها دينا سماويا ناسخا لما سبقه من الأديان، يصير مسلما و يزول موضوع الاستصحاب لا محالة. و الثاني عبارة عن كون الدليل مشتملا على مقدمة مقبولة لدى الخصم فيرده بما هو مقبول لديه، مثل أن يقول الكتابي للمسلم: أنت تعترف بصحة الاستصحاب و نبوة عيسى عليه السّلام، و نحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على عدمه. و لا يصح ذلك أيضا، إذ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى مطلقا، بل نبوته من حيث أخبر بها خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و نسخت نبوته بالشريعة الختمية، و مع هذا الاعتقاد لا موضوع للاستصحاب رأسا. و الثالث عبارة عما لا يفيد العلم، بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة، و هو باطل في المقام أيضا، لأن النبوة مما يعتبر فيه تحصيل العلم، و الدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.

التنبيه الحادي عشر: الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام

لا ريب في تقدم الأمارات مطلقا، و الاصول اللفظية على الاصول العملية بلا خلاف من أحد، و لكن قد يتردد بعض الموارد في أنه من موارد الرجوع إلى الدليل اللفظي أو الأصل العملي، و على الأول هل هو العام أو الخاص لو كانا في البين؟ كما إذا ورد عام مثل (أوفوا بالعقود) و خاص مثل (المغبون له الخيار)

ص: 282

و شك في أنه على الفور أو التراخي، فهل المرجع هو العام، أو الخاص، أو استصحاب بقاء الخيار؟ فيه احتمالات، بل أقوال:

و لا بد أولا من بيان أمر، و هو أن الزمان..

تارة: يلحظ بالنسبة إلى ما يقع فيه - حكما كان أو موضوعا - على نحو الظرفية الاستمرارية فقط، كقول: أكرم العلماء دائما و أبدا، أو نحو ذلك من التعبيرات الظاهرة في الاستمرار، فلا يكون في البين إلاّ شيء واحد مستمر، لا أشياء متعددة بحسب تعدد أجزاء الزمان.

و اخرى: تلحظ أجزاء الزمان المتكثرة كل واحد منها لحاظا مستقلا، كقول: أكرم العلماء كل يوم - مثلا - و اصطلح عليه بالعام المفرد، فيحصل لما يقع فيه حينئذ أفراد طولية، كما كان له أفراد عرضية.

و الفرق بين القسمين: أن القسم الأخير يستقر ظهور الدليل في جميع الأفراد الطولية و العرضية. و لا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها، فيصح التمسك بالدليل حينئذ في غير ما علم عروض التخصيص عليه، بخلاف القسم الأول، فإنه لم يكن في البين إلا لحاظ الاستمرار لوحدة الاتصالية الملحوظة، و ليس الدليل إلاّ متكفلا لذلك فقط، فإذا ورد عليه التخصيص و انقطع الاستمرار و انفصمت الوحدة الاتصالية، ليس في البين ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه، فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر، بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص حادثا بحدوث العام أو حدث بعده.

و يمكن أن يجعل القسمان متلازمين واقعا، فالاستمرارية تلازم المفردية و بالعكس، لأن الاستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الاستمرار، و المفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلا.

و الظاهر اشتمال كل منهما للمفردية و كونها ملحوظة في الجملة إلاّ أنها في

ص: 283

الاستمرارية ملحوظة إجمالا، و في المفرّدية تفصيلا، فالاستمرارية تدل على التفريد بالالتزام العرفي و على الاستمرار بالمطابقة، و المفردية تدل على التفريد بالمطابقة و على الاستمرار بالالتزام العرفي، فلا ثمرة معتنى بها للفرق في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينهما، هذا إذا علم الاستمرارية أو التفريد بالقرينة المعتبرة.

و إن شك في أنه من أيهما و لم تكن قرينة على تعيين أحدهما، فلا موضوع للثمرة حينئذ حتى بناء على عدم التلازم. و لا يبعد أن يقال إن الأصل في العموم الاستمرارية إلاّ أن يدل دليل على التفريد، لأن الأصل عدم ملاحظة الأفراد مستقلا.

ثم إن الأقسام أربعة: فإن العام إما أفرادي، أو استمراري، و على كل منهما يكون الخاص إما أفراديا أو استمراريا. فإن كان العام أفراديا فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقا، سواء كان الخاص أفراديا أيضا أو استمراريا، لكون الأفراد مورد شمول العام، فالمقتضي للتمسك به موجود و المانع عنه مفقود، و لا يصح التمسك بدليل الخاص لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية، كما لا يصح الرجوع إلى الاستصحاب، لكونه محكوما بدليل العام بلا كلام. هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوما، و إن كان مشكوكا لجهة من الجهات فلا يصح التمسك به حينئذ أيضا، بل يرجع إلى دليل أو أصل آخر.

و إن كان العام استمراريا فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراره بالخاص، كما لا وجه للرجوع إلى الخاص أيضا مطلقا - استمراريا أو إفراديا - لفرض الشك في كون المورد مشمولا له أو لا، فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الموضوع المشتبه، و حينئذ فإن صح الرجوع إلى الاستصحاب يرجع إليه، و إلا فلا بد من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر. هذا بناء على عدم الملازمة بين الاستمرارية و التفريد، و إلا فيصح الرجوع إلى العام في

ص: 284

هذا القسم أيضا.

ثم إن الاستمرارية و التفريد لا بد و أن يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية، و ليست في البين قرينة كلية دالة على احداهما بالخصوص. هذا بعض ما يتعلق بالمقام.

التنبيه الثاني عشر: المراد بالشك في البقاء

المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة، فيشمل الظن غير المعتبر، كما يشمل الوهم أيضا، لأن ظاهر قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين آخر» هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي يكون كناية عن مطلق الحجة المعتبرة، فكأنه قال عليه السّلام: لا تنقض الحجة بغيرها. و أما الاستدلال بالإجماع على أن الظن غير المعتبر كالشك فلا وجه له، لعدم اعتبار مثل هذا الإجماع لكونه اجتهاديا لا تعبديا، كما لا يخفى.

التنبيه الثالث عشر: الكلام في استصحاب الصحة، المراد منها

استصحاب الصحة عند الشك فيها إن كان بمعنى الصحة الفعلية من كل حيثية و جهة لا وجه له، للشك في أصل حدوثها و ثبوتها ما لم يفرغ عن العمل مستجمعا للشرائط فلا يقين بحدوثها كذلك في أثناء العمل حتى يستصحب بقاؤها. و إن كان المراد الصحة الاستعدادية الإمكانية التعليقية، بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة للشرائط و فاقدة عن الموانع لكانت صحيحة، فهي مقطوعة البقاء، و لا شك فيها أبدا. و إن كان المراد بها بقاء الهيئة الاعتبارية، و عدم زوالها و عدم خروج المكلف عما كان متلبسا به سابقا، فيصح هذا الاستصحاب لوجود المقتضي و فقد المانع.

ص: 285

و أما استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب، فإن اريد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له، لكونه معلوم الارتفاع، مضافا إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء، و كذا إن اريد به المردد بين الغيرية و النفسية، لكونه مرددا بين ما هو معلوم الارتفاع و مشكوك الحدوث، بل و كذا إن اريد بها النفسي المحض للعلم بزواله بتعذر بعض الأجزاء.

نعم، لا بأس باستصحاب مقدار من الوجوب النفسي الانبساطي لا المقدمي و لا النفسي بتمام حدوده، و حينئذ فإن دلّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد و الاكتفاء بالميسور عن المعسور فهو، و لا تصل النوبة معه إلى التمسك بالأصل، و إلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل، و تقدم في بحث الاشتغال ما ينفع المقام.

التنبيه الرابع عشر: أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة، تعيين المراد منها
اشارة

يعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة، إذ مع عدمه يكون من إثبات حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له، و بطلانه غني عن البرهان و موافق للوجدان.

و الاتحاد إما عقلي أو عرفي، أو بحسب المنساق من ظاهر الدليل. و لا وجه لاحتمال الأول، لعدم كون الأحكام الشرعية مبنية على الدقيات العقلية.

و الأخير يرجع إلى الثاني، لفرض أن الأدلة منزلة على العرفيات إلاّ ما ورد فيه التعبد بالخصوص، فيرجع لباب المقال إلى أنه يعتبر اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزّل عليه الدليل، و ذلك كله مستغن عن البرهان و التعليل.

ثم إن العرف إنما يعتبر في المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة، و ما

ص: 286

يتبادر منها من المعاني في المحاورة، لأن الإفادة و الاستفادة مبنيان على المحاورات و المتفاهمات العرفية، و الظهور الاستعمالي - و لو كان مجازا - مقدم على الوضعي - و لو كان حقيقة - و أما المصاديق الخارجية فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها لا بد و أن يكون قهريا، لأن نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي، و لا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية، فمع الانطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم، حكم العرف بذلك أو لم يحكم، و مع عدمه لا يكون منها و لو حكم العرف بذلك.

نعم، قد يكون نظر العرف - كالبينة و نحوها - طريقا إلى صحة الانطباق القهري، فيكون المدار عليه بالآخرة، و الباقي يكون طريقا لإحرازه.

تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية:

لا ريب في تقوم الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة، فيكون من إسراء الدليل السابق إلى حالة الشك في مفاده و مدلوله، فيصير الدليل - علما كان أو أمارة - قسمين: حقيقيا و تنزيليا، و الثاني عبارة عن الاستصحاب. فكل حكم يكون للدليل الحقيقي يكون للتنزيلي أيضا، إلا مع وجود قرينة معتبرة على الخلاف، و حيث أن الدليل الحقيقي مقدم على الاصول مطلقا فكذا التنزيلي، و ما يكون من الحقيقي واردا على الاصول يكون في التنزيلي هكذا، و ما يكون حاكما في الحقيقي فكذلك في التنزيلي.

و بالجملة فإن الأدلة الاجتهادية بحقيقيتها و تنزيليتها مقدمة على الاصول مطلقا، مع أنه لو بني على تقديم الاصول على الاستصحاب يكون اعتباره من اللغو الباطل، مضافا إلى أنه من التخصيص بلا مخصص إلاّ على وجه دائر، مع أن المتعارف بفطرتهم لا يترددون في تقديمه عليها، بل لا يلتفتون مع لحاظ الحالة السابقة إلى أصل من الاصول أصلا.

ص: 287

تعارض الاستصحابين:

و هو على أقسام..

الأول: أن يكون الشك في أحدهما سببا شرعيا للشك في الآخر، كالشك في الكرّيّة، الذي يكون سببا للشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس المغسول فيه. و لا ريب في تقديم الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب، استصحابا كان أو غيره، و هو الذي تقتضيه المرتكزات العرفية في المحاورات الدائرة بينهم أيضا، لأن بجريان الأصل في السبب يزول الشك في المسبب شرعا، فيكون خروجه عن تحت عموم دليل الأصل بالتخصّص بخلاف العكس فإن خروجه عنه حينئذ يكون من التخصيص بلا مخصص، كما لا يخفى.

و هل بكون هذا للورود، أو الحكومة، أو التخصيص؟ لكل وجه و قال بكل قائل. و لا ثمرة عملية بل و لا علمية في تحقيق ذلك فمن شاء العثور على التفصيل فليراجع المطولات.

و لا فرق في ذلك بين توافقهما في المؤدى أو تخالفهما فيه.

الثاني: أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر، و هو باطل للزوم الدور، و لا فرض له في الشرعيات، بل هو من مجرد الفرض الوهمي فقط.

الثالث: أن لا يكون في البين سببية أصلا، و لكن لزم من جريانهما المخالفة العملية، كالإناءين الطاهرين اللذين علم بحدوث نجاسة في أحدهما فيلزم من جريان الأصل فيهما المخالفة العملية. فلا يجريان معا من هذه الجهة و لا في أحدهما، لأن جريانه في أحدهما المردد من حيث هو لا معنى له، لعدم التحقق للمردد في الخارج. كما أن جريانه في أحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، فلا بد من السقوط بالتعارض، و قد تقدّم أن العلم الإجمالي كالتفصيلي

ص: 288

في التنجز.

الرابع: أن لا تكون في البين السببية أصلا و لا يلزم المخالفة العملية أيضا، و لكن كان جريانهما مخالفا لما هو المعلوم في البين، كما إذا علم تفصيلا بنجاسة الإناءين، ثم علم بطهارة أحدهما، فلا يلزم من استصحاب نجاستهما المخالفة العملية، بل يكون مخالفا لما هو المعلوم في البين، فلا يجريان من هذه الجهة.

الخامس: ما إذا لم يكن في البين سببية أصلا و لا المخالفة العملية و لا العلمية، و لكن دلّ الدليل من الخارج على عدم جريانهما، كما إذا كان ماء طاهر ينقص عن مقدار الكر بقدر خاص، فتمم ذلك القدر بماء نجس في أحد أطرافه، فلا مانع من جريان استصحاب طهارة الماء الأول و نجاسة الماء المتمم، و يترتب أثر كل منهما، فيكون الطرف الذي القي فيه النجس نجسا بخلاف باقي الأطراف، و لكن ادعي الإجماع على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة و النجاسة.

و ربما يتوهم بأن هذا القسم من القسم الأول، لأن نجاسة المتمم سبب لنجاسة الماء، فيجري الاستصحاب في السبب و لا يبقى موضوع بعد ذلك لجريان الأصل الآخر.

و لكنه مردود بأن منشأ حدوث السببية الإجماع المدعى على أن الماء الواحد في المحل الواحد لا يختلف حكمه، راجع التفصيل في المياه من كتاب (مهذب الأحكام).

السادس: ما إذا لم يكن شيء مما سبق في البين أصلا، كمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول و الماء ثم التفت إليه، فيجري استصحاب طهارة مواضع وضوئه و استصحاب بقاء حدثه، بناء على صحة التفكيك في لوازم الاصول، و إلاّ يكون هذا القسم من القسم الرابع، كما لا يخفى.

ص: 289

فمقتضى الأصل في جميع أقسام تعارض الاستصحاب التساقط، لأن الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح، و المفروض عدم إمكان الجمع بينهما، و عدم دليل على التخيير.

و قد يحتمل في جميع ما تقدم من الأقسام الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير.

و فيه: أن الترجيح إن كان بالأمارة المعتبرة، فمع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل حتى يتحقق التعارض، إذ لا وجه لجريان الأصل مع وجود الأمارة المعتبرة، موافقة كانت أو مخالفة. و إن كان بغير المعتبرة منها فقد تقدّم أن الظنون غير المعتبرة لا تصلح للترجيح. كما لا وجه للترجيح بالأصل موافقا كان أو مخالفا، لأن الأصل عدم حصول الترجيح بشيء إلا بما دلّ الدليل عليه، و لا دليل على حصوله بالظن غير المعتبر و الأصل.

نعم، لا بأس بكون الأصل مرجعا بعد سقوط المتعارضين عن الاعتبار.

ثم إنه قد استشكل على شيخنا الأنصاري قدّس سرّه بأنه قد علل عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي في جملة من كلماته - فقها و أصولا - بلزوم المخالفة العملية، مع أنه قدّس سرّه علله في بعضها بلزوم المناقضة بين صدر دليل اعتبار الاستصحاب و ذيله. و أورد عليه بوجوه، و قد تقدم ما يتعلّق به في بحث الاحتياط، فراجع.

ص: 290

الخاتمة فى ذكر بعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب
اشارة

قد جرت عادتهم على التعرض لبعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب في المقام، و لا بأس بالإشارة إليه، و لا بد من تقديم مقدمة.

و هي: أنه لا ريب في عدم كون ما يعتذر به من الأمارات و الاصول في عرض واحد و مرتبة واحدة، بل بينها اختلاف الرتبة اتفاقا، فتقدم الأمارات مطلقا على الاصول كذلك موضوعية كانت أو حكمية. كما لا ريب في تقدم الاصول الموضوعية على الحكمية، فلا تصل النوبة إلى كل لا حق مع وجود السابق عليه، و هذا مما جرت عليه السيرة في المحاورات و الاحتجاجات و الاعتذارات الدائرة بين العقلاء.

و استدل عليه مضافا إلى ذلك باستقرار إطلاق دليل اعتبار الأمارة في مورد الشك مطلقا، سواء كان هناك أصل أو لم يكن. و أما دليل اعتبار الأصل فشموله لمورد وجود الأمارة مشكوك فيه بل معلوم العدم، و إلا لبطل اعتبار الأمارات مطلقا، إذ ما من أمارة إلا و في موردها أصل من الاصول، و حينئذ فإن قدم دليل اعتبار الأصل على دليل اعتبار الأمارة لدار، لأن التقدم متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة، و اعتباره معها متوقف على تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل، و هذا التخصيص متوقف على اعتبار الأصل مع الأمارة، إذ لولاه لكان من التخصيص بلا مخصص، و هذا هو الدور الواضح. هذا ما ذكروه.

و لكنه من تبعيد المسافة، لأن تقدم الأمارة على الأصل أوضح من ذلك في المحاورات، كما لا يخفى. كما أن بين نفس الاصول العملية تقدما و تاخرا،

ص: 291

فالاستصحاب مقدم على جميع الاصول و منشأ هذا التقدم ظهور الاتفاق؛ و الاستصحاب يكون برزخا بين الأصل المحض و الأمارة المحضة، فمن الجهة الاولى تقدم عليه جميع الأمارات، و من الجهة الثانية يقدم على جميع الاصول.

ثم إن التقدم في غير موارد التزاحم لا بد و أن يكون لأحد امور خمسة، و هي مرتكزة في أذهان أهل المحاورة و إن لم يلتفتوا إليها تفصيلا: إما للتخصص، أو الورود، أو الحكومة، أو التخصيص، أو الجمع العرفي. و في التزاحم لا بد و ان يكون لأقوائية الملاك على ما تقدّم تفصيله في محله، و الظاهر أن هذه الخمسة من قبيل مانعة الخلو، فيمكن اجتماع أكثر من واحد منها في مورد.

كما أن الظاهر أن تقدم الأمارات على الاصول للورود، لأن الاصول مجعولة في ظرف الحيرة المحضة، و هي منتفية مع وجود الأمارة، و هذا معلوم و لا وجه للإطناب فيه، مع أنه لا ثمرة عملية في البين، سواء كان التقدم لأجل الورود أو الحكومة.

ثم إن التخصص عبارة عن الخروج الموضوعي تكوينا.

و الورود عبارة عن الخروج الموضوعي بعناية التعبّد، أو بناء العقلاء.

و الحكومة عبارة عن كون دليل الحاكم مفسرا و شارحا لدليل المحكوم، توسعة أو تضييقا، أو هما معا من جهتين.

و التخصيص هو الخروج الحكمي عن دليل العام مع كونه من أفراده موضوعا، و لعل الفرق بين التخصيص و الحكومة بأن الثاني من شئون المعنى أولا و بالذات، بخلاف الأول فإنه من شئون الألفاظ في المحاورات.

و الجمع العرفي هو الجمع بين الدليلين بما يقتضيه الطبع السليم و يرتضيه الذوق المستقيم، و لا تضبطه ضابطة كلية، بل يختلف اختلافا فاحشا حسب اختلاف الموارد.

ص: 292

قاعدتا التجاوز و الفراغ:
اشارة

القاعدة الفقهية عبارة عن حكم فرعي يتعلّق بالإنسان من حيث الحكم المجعول له شرعا، و يكون تحتها مسائل كثيرة.

و الفرق بينها و بين المسألة الفقهية بالعموم و الخصوص و قد يتساويان.

و لا مشاحة في الاصطلاح، و تكون نسبة القاعدة الى المسائل الداخلة تحتها نسبة الكلي إلى الفرد، و قد تعرضنا لذلك في أول الكتاب، فراجع. و البحث فيهما من جهات:

الجهة الاولى: هل هما من القواعد التعبّدية المحضة، أو العقلائية التي كشف عنها الشارع

، كما تكون جملة من القواعد كذلك؟ الحق هو الأخير، كما لا يخفى على الخبير، لكونهما من صغريات أصالة عدم السهو و الخطأ و الغفلة و البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية الكامنة في النفس عند إرادة إتيان العمل المتدرج الوجود، و ذلك كله مما استقر عليه بناء العقلاء، و ما ورد من الشرع تقرير لذلك، لا أن يكون تعبّدا محضا.

الجهة الثانية: هل هما قاعدتان مختلفتان

، أو من صغريات كبرى واحدة.

و إنما الاختلاف بالحيثية، أي حيثية لحاظ أثناء العمل، فتكون قاعدة التجاوز، أو بعد الفراغ فتكون قاعدة الفراغ؟ الحق هو الأخير. أما بناء على كونهما من أفراد أصالة عدم السهو و الغفلة و الخطأ فواضح، و كذا بناء على كونهما تعبديا محضا، لإطلاق قول أبي جعفر عليه السّلام: «كل ما شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو»، و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكرا فامضه و لا إعادة عليك». فإنهما يشملهما معا. و أما قوله عليه السّلام: «إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره و شككت، فشكك ليس بشيء» فإنما ورد لبيان جريان القاعدة في أثناء العمل أيضا، كجريانها بعد الفراغ منه و ليس في مقام بيان تشريع

ص: 293

قاعدتين مختلفتين، مع أن في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز كلاما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ما يقال: من أنه لا جامع بينهما حتى تكونا مورد دليل واحد بذلك الجامع.

مردود: بأن الجامع هو الشك في الشيء، سواء كان في أصل تحققه، كما في قاعدة التجاوز، أو في صحته، كما في قاعدة الفراغ، فلا فرق بين كون الشك في أصل وجود الصحيح أو صحة الموجود.

و اورد على هذا الجامع..

تارة: بأن مورد قاعدة التجاوز إنما هو الشك في أصل التحقق، و مورد قاعدة الفراغ إنما هو الشك في صحة المتحقق، و هما متباينان فلا جامع بينهما.

و فيه: أن الجامع هو الشك في انطباق المأتي به على المأمور به، و هو جامع قريب عرفي.

و اخرى: بأن مورد قاعدة التجاوز هو الجزء، و مورد قاعدة الفراغ هو الكل. و الأول ملحوظ تبعا، و الثاني استقلالا، و هما متباينان لا يجتمعان في استعمال واحد.

و فيه: أن اللحاظ وسيع جدا يصحح اجتماع اللحاظ التبعي و الاستقلالي فيه في استعمال واحد، بل هو شائع جدا، فإن في التكلم بكلام يجتمع اللحاظان، لأن أجزاء الكلام ملحوظة تبعا، و تمامه ملحوظ استقلالا، و كذا في جميع الأعمال المتدرجة الوجود التي لها أجزاء و وحدة اعتبارية.

و ثالثة: بأنه مستلزم للتناقض فإنه إذا شك في جزء، و قد دخل في غيره، فمقتضى قاعدة التجاوز الصحة، و مقتضى قاعدة الفراغ عدمها، لكونه في الأثناء لا بعد الفراغ.

و فيه: أنه لا خلاف من أحد في تغاير موردهما، و اختصاص قاعدة الفراغ

ص: 294

بما بعد العمل، و التجاوز بالاثناء، فلا مجرى لقاعدة الفراغ في الأثناء حتى يلزم التناقض.

و قد اشكل على وحدتهما من حيث الكبرى بوجوه ضعيفة اخرى، لا يخفى وهنها على من راجعها، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله، إذ لا ثمرة عملية بل و لا علمية معتدا بها للوحدة و التعدد، إلا دعوى أنه مع الوحدة لا بد و أن تجري قاعدة الفراغ في الأثناء في كل مورد تجري فيه قاعدة التجاوز، و أن تجري قاعدة التجاوز في الوضوء أيضا، مع أنه لا قائل بذلك.

و فيه: أنه بناء على الوحدة أيضا تكون لكل منهما خصوصية خاصة لدليل مخصوص دلّ عليه، و ذلك لا ينافي وحدة أصل الكبرى، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة: أنه على القول بكونهما من الأمارات تعتبر مثبتاتهما

، بخلاف القول بأنهما من الاصول، و الحق سقوط البحث عن هذه الجهة أصلا، لما مرّ غير مرة من أن ما اشتهر من اعتبار مثبتات الأمارات دون الاصول لا أصل له بنحو الكلية، بل يدور اعتبارها مدار الدلالة العرفية المعتبرة في المحاورات، فمع وجودها تعتبر و لو في الاصول، و مع العدم أو الشك فيها لا وجه للاعتبار و لو في الأمارات، كما أن القواعد مقدمة على الاصول مطلقا، سواء كانت من الاصول أو في الأمارات، فلا ثمرة من هذه الجهة أيضا. فلا فرق بين كونهما من الأمارات أو الاصول.

و كيف كان، لا ريب في تقديمهما على استصحاب عدم الإتيان بالمشكوك فيه، و إلا لكان اعتبارهما لغوا مطلقا، مع أن اعتبار الاستصحاب معهما لا يكون إلا على وجه الدور دون العكس، كما تقدم و يأتي.

الجهة الرابعة: الفراغ.
اشارة

تارة: واقعي.

و اخرى: إحرازي بوجه معتبر.

ص: 295

و ثالثة: بنائي، بأن رأى المصلي نفسه فارغا عن الصلاة و كان بانيا عليه بحسب حاله، و لا وجه لإرادة القسم الأول لمنافاته، لتحقق الشك. و إرادة القسم الثاني يحتاج إلى دليل و هو مفقود، مع أنه خلاف التسهيل و الامتنان الذي تبتنى عليه مثل هذه القواعد، فيتعين الأخير الموافق لسهولة الشريعة، فكلما كان المصلي بانيا بحسب حاله على الفراغ عنها و شك في صحتها، تجري القاعدة، و لو كان منشأ الشك فيها الإتيان بالجزء الأخير، و إن كان بانيا على أنه في هذه الصلاة تجري قاعدة التجاوز، و لا تجري قاعدة الفراغ لعدم تحقق شرطها. و كذا لو شك في أنه بان على الفراغ أو لا، لأنه حينئذ من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، بل تجري أصالة عدم فراغه عنها.

الكلام في اعتبار الدخول في الغير فيهما

و أما الدخول في الغير فمقتضى الأصل و الإطلاقات، و ظهور التسالم عدم اعتباره في مورد قاعدة الفراغ. و أما قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في الصحيح: «إذا قمت من الوضوء، و فرغت عنه و قد صرت في حالة اخرى من صلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمي اللّه تعالى عليك مما أوجب اللّه عليه لا شيء عليك». فهو توضيح للفراغ و بيان له، لأن من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء الصيرورة في حالة اخرى غير ما كان مشغولا به أولا، و ليس عليه السّلام في مقام بيان القيد الشرعي المعتبر في مورد القاعدة. و من اعتبر الدخول في الغير في مورد قاعدة الفراغ، فإن كان من جهة أنه من اللوازم التكوينية للفراغ عن الشيء، فهو مسلم عند الكل. و إن أراد التعبد الشرعي، فالأدلة قاصرة عن إثباته، مع أن هذا النزاع ساقط من أصله بناء على كفاية مطلق الدخول إلى حالة اخرى عند من يعتبر الدخول في الغير فيها، لأنه تكويني - اعتبر أو لم يعتبر -.

و أما قوله عليه السّلام في صحيح ابن أبي يعفور: «إذا شككت في شيء من الوضوء و قد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه». فإن مرجع الضمير في (غيره) غير المشكوك فيه، فيكون عبارة عن

ص: 296

قاعدة التجاوز، فهو غير معمول به لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء. و إن كان المرجع غير الوضوء من سائر الحالات حتى يكون من قاعدة الفراغ، فالكلام فيه عين ما تقدم آنفا. هذا بعض الكلام في قاعدة الفراغ، و قد تعرضنا لبعضه الآخر في كتاب (مهذب الأحكام).

الكلام في المراد من التجاوز

و أما التجاوز: فلا ريب في أن المناط فيه التجاوز عن محل المشكوك فيه لا نفسه، إذ مع الشك فيه كيف يعقل التجاوز عنه، و حينئذ فإن كانت القاعدة من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة، و أصالة البقاء على الإرادة الإجمالية الارتكازية، فلا وجه لاعتبار الدخول في الغير، لأن في الامور التدريجية تكشف إرادة الدخول في الجزء اللاحق عن تحقق الجزء السابق عليه بأصالة عدم السهو المعتبر عند العقلاء. و إن كانت القاعدة تعبّدية محضة، فيعتبر الدخول في الغير، لظاهر الروايات، و لكن لا بدّ و أن يبحث في أن لنفس الدخول في الغير من حيث هو موضوعية خاصة، أو يكون طريقا و كاشفا عن مضي المحل. يمكن تقريب الأخير، بأن مقتضى المرتكزات كفاية إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تجاوز المحل.

و بعبارة اخرى: تارة: يكون بانيا و مريدا لإتيان الجزء اللاحق.

و اخرى: يكون بانيا على العدم.

و ثالثة: يتردد. و متعارف الناس في الصورة الأولى لا يعتنون بالشك في إتيان الجزء السابق، و قد وردت الأخبار على طبق ذلك أيضا، و في الصورتين الأخيرتين يعتنون بالشك، و حيث أن نفس الإرادة الإجمالية للدخول في الغير غير ملتفت إليها تفصيلا بحسب الغالب، و طريق إحرازها تحقق الدخول في الغير خارجا، ذكر اعتبار الدخول في الغير في الروايات من هذه الجهة لا لموضوعية خاصة فيه، فيكفي مجرد إرادة الدخول في الغير في الكشف عن تحقق المراد السابق عليه بحسب الارتكازات، و عدم إحراز اعتبار الموضوعية المحضة في اعتبار الدخول في الغير يكفي في عدم الجزم باعتبار الموضوعية

ص: 297

فيه، مع ما مرّ من اكتفاء العرف في عدم الاعتناء بالشك السابق عند تحقق إرادة الدخول في الغير و لو لم يدخل فيه بعد، فلا يبقى ظهور في الأدلة لإثبات الموضوعية المحضة.

ثم إنه بناء على اعتبار الموضوعية في الدخول في الغير، هل المراد به الأجزاء المستقلة، أو الأعم منها و أجزاء الأجزاء، أو الأعم منها و مقدماتها؟ يشهد للأخير عموم لفظ الغير المتوغل في الإبهام من كل جهة، فيشمل الجميع.

و اشكل عليه.. تارة: بقول زرارة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «رجل شك في الأذان و قد دخل في الإقامة - إلى أن قال - شك في الركوع و قد سجد. قال عليه السّلام: يمضي في صلاته، ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شيء و دخلت في غيره فشكك ليس بشيء». و حيث أن مورد السؤال الأجزاء المستقلة فيخصص عموم الجواب.

و فيه: أن الإمام عليه السّلام في مقام بيان الضابطة الكلية الجارية في تمام الموارد، و تخصيصها بخصوص مورد السؤال خلاف المحاورات العرفية.

و اخرى: بقول أبي جعفر عليه السّلام: «إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، و إن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه».

و فيه: مضافا إلى ما تقدّم في سابقه، أن ذكر ذلك من باب المثال و الغالب لا الخصوصية، إذ لا وجه لها مع بيان الكلية.

و ثالثة: بقوله عليه السّلام أيضا: «و إن شك في السجود بعد ما قام...» فإنه لو كان الدخول في مطلق الغير كافيا لم يكن وجه لذكر القيام، لتحقق الدخول في النهوض له قبل القيام.

و فيه: أن للقيام عن السجود مراتب متفاوتة يصدق بعض مراتبه على أول مرتبة النهوض من السجود، فيصح التمسك بإطلاق القيام، لكفاية الدخول في بعض مراتبة أيضا، بل الظاهر أنه لو رفع رأسه عن السجود و جلس يصح إطلاق:

قام عن السجود، كما يصح إطلاق قام عن النوم لمن استيقظ و جلس في فراشه،

ص: 298

و يشهد لكفاية الدخول في مطلق الغير صحيح عبد الرحمن «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر ركع أو لم يركع. قال عليه السّلام: قد ركع». فإنه نص في كفاية الدخول في مقدمة الجزء أيضا. فالأقوى هو التعميم بالنسبة إلى أجزاء الأجزاء و مقدماتها أيضا، بلا فرق في الأجزاء بين الواجبة و المندوبة، و هذا هو الموافق لسهولة الشريعة المقدسة و مدافعة الشك الذي هو من أقوى وساوس الشيطان.

الجهة الخامسة: تجري قاعدة الفراغ في الشك في الشرط نصا و إجماعا

و أما قاعدة التجاوز فإن كان لتحصيل الشرط محل مخصوص شرعا، كالطهارة التي لا بد و أن يحصّلها المصلي قبل الدخول في الصلاة - مثلا - فتجري فيه أيضا، لأصالة عدم السهو و الغفلة، و إطلاق الأدلة، و إن لم يكن كذلك - كالستر، و الاستقبال - فعن جمع عدم جريانها فيه.

و استدل عليه.. أولا: بأن الأمثلة المذكورة في الأدلة جميعها من الأجزاء فلا تشمل الشرائط.

و فيه: أنه من باب المثال لا الخصوصية.

و ثانيا: بأنه ليس له محل حتى يصدق التجاوز عن المحل.

و فيه: أن تجاوزه باعتبار محل المشروط، و ذلك يكفي في صدق التجاوز بالنسبة إلى الشرط أيضا.

و ثالثا: بأن مجرى قاعدة التجاوز ما كان موردا للإرادة التبعية، كالأجزاء.

و أما الشرائط، فتتعلّق بها الإرادة الاستقلالية لا التبعية.

و فيه: أنها أيضا متعلّق الإرادة التبعية بالنسبة إلى المشروط.

نعم، بعض الشرائط يكون مورد الإرادة الاستقلالية أيضا، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر، و لكن لا دخل لهذه الجهة بالمقام.

و الحق أن يقال: إنه إن أمكن تحصيل الشرط في الأثناء بلا لزوم مانع في البين، تجري القاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فتصح كما تصح الأجزاء

ص: 299

اللاحقة، لتحقق الشرط فيها، و إن لم يمكن إلا بتخلل مانع فلا يمكن تصحيح العمل حينئذ، هذا كله في ما كان شرطا لتمام العمل و مجموعه، كالطهارة و الاستقبال مثلا. و أما ما كان شرطا للأجزاء شرعيا كان أو لا، كالجهر و الإخفات بالنسبة إلى أجزاء القراءة، فتجري القاعدة بلا إشكال. لوجود المقتضي و فقد المانع.

الجهة السادسة: اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو و الغفلة

الجهة السادسة: تختص جريان القاعدتين بما احرز أصل التكليف في الجملة و كان الشك لأجل السهو و النسيان، و أما إن كان لجهات اخرى من عروض دهشة، أو اضطراب، أو احتمال تعمد الترك، أو لأجل الجهل بالحكم أو الموضوع، أو لاحتمال قصور أو تقصير في الاجتهاد أو التقليد أو نحو ذلك فلا مجرى لهما، بل لا بد من الرجوع إلى القواعد و الاصول الأخر، و لا تضبطها ضابطة كلية، بل تختلف باختلاف الموارد و الأشخاص.

الجهة السابعة: هل إن البناء على الوقوع في موردها ترخيص أو عزيمة

الجهة السابعة: الظاهر أن البناء على الوقوع في موردهما ترخيص لا أن يكون عزيمة، فيجوز الرجوع و الإتيان ما لم يلزم محذور من زيادة ركن و نحوه.

كما أن الظاهر أنه لا يعتبر الالتفات التفصيلي إلى العمل حين الإتيان فيكفي التوجه الإجمالي الارتكازي، للأصل و الإطلاق، و لعل ذلك هو المراد ب (الأذكرية) الواردة في بعض الأخبار، فراجع و تأمل.

الجهة الثامنة: في جريانها في جميع العبادات و المعاملات

الجهة الثامنة: بناء على كونهما من صغريات أصالة عدم السهو و النسيان لا تختصان بمورد دون آخر، و تجريان في جميع العبادات و المعاملات. و أما بناء على التعبّد فيهما فالتعميم مبني على عدم كون المورد مخصصا، و هو و إن كان كذلك بحسب المحاورات و لكن حيث إن الحكم مخالف لقاعدة الاشتغال فالاقتصار على المورد لعله أحوط، بل يشكل التعميم في الأول أيضا لو لم يكن إجماع عليه في البين، لأن مدرك اعتبار الأصل إنما هو السيرة، و الشك في تعميمها يكفي في عدم التمسك بها للعموم.

ص: 300

قاعدة الصحة
الأدلة على اعتبارها
اشارة

و هي من القواعد المعتبرة، و تدل على اعتبارها - في الجملة - الأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: قوله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، و آية نفي الحرج، و أن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ و غيرها من الآيات الواردة في مقام التسهيل و الامتنان و التيسير، المستفاد من عمومها أن التكاليف الفردية و الاجتماعية بين الناس مبنية على التيسير و التسهيل مهما أمكن إليهما سبيل.

و من الأخبار: أخبار مستفيضة واردة في أبواب مختلفة، كقول علي عليه السّلام:

«ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير سبيلا» إلى غير ذلك مما هو كثير في أبواب المعاشرة جدا.

و من الإجماع: إجماع المسلمين في الجملة و سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و خلفائه المعصومين عليهم السّلام مع الخلق مطلقا.

و من العقل: بناء العقلاء على عدم التبادر إلى الحكم بالفساد عند الشك فيه بل لا يعتنون بهذا الشك مطلقا، و من بادر إلى الحكم بالفساد يستنكر ذلك منه، فكما أن أصالة الصحة في المزاج أصل معتبر عند الأطباء العقلاء إلا مع إحراز المرض هكذا في الأفعال، و كأصالة الكروية في الأجسام التي أثبتوها في الأجسام الطبيعية بالبراهين، و أصالة عدم العيب في العوضين، إلى غير ذلك من الاصول المرتكزة في الأذهان خلفا عن سلف.

و يدل عليه أيضا أصالة عدم السهو و النسيان، و أن إتيان الفاسد خلاف ما تقتضيه طبيعة الإنسان.

و بالجملة: الصحة مقتضى الطبع في كل شيء مطلقا إلا مع الحجة على

ص: 301

الخلاف و قد مرّ مرارا أن الاصول النظامية العقلائية لا تحتاج إلى التقرير، و يكفي في اعتبارها عدم ثبوت الردع، فلا وجه لفتح باب المناقشة على الآيات و الروايات مع أن واحدة منها تكفي في استكشاف عدم ثبوت الردع، خصوصا في الشريعة التي بنيت على التسهيل في الامور الفردية و النوعية. و إنما البحث في جهات:

الاولى: لا وجه للبحث عن أنها أصل، أو قاعدة، أو أمارة

، إذ لا ثمرة فيه لا عملية و لا علمية، لتقدّمها على الاستصحاب على كل تقدير، و عدم الكلية في اعتبار المثبتات كذلك ما لم تكن قرينة في البين و تقدم الأمارات المعتبرة عليها.

و لكن لا ريب في تقدّمها على الاصول الموضوعية و الحكمية الدالة على الفساد ما لم يكن دليل على الخلاف، و لو قدّمت الاصول عليها لزم لغويتها و بطلان تشريعها مطلقا، و هو واضح البطلان.

الثانية: المراد بالصحة الواقعية منها،

لأن المعاني الواقعية هي المنساقة في المحاورات، مطلقا ما لم تكن قرينة على الخلاف، و هي مفقودة في المقام، مع أن الاعتقادية و الظاهرية طريق إلى الواقع، و لا موضوعية فيها بوجه، فتكون اصالة الصحة كأصالة الإباحة في الأشياء، و أصالة احترام النفس و العرض و المال و سائر الاصول النظامية التي متعلّقاتها واقعيات ما لم يدل دليل على الخلاف.

ثم إنه قد تتحد الصحة في نظر العامل و الحامل اجتهادا أو تقليدا، و قد تختلف، و يمكن أن تكون الصحة في نظر العامل تمام الموضوع للصحة عند الحامل، فلا بد له و أن يرتب عليه آثار الصحة و لا محذور فيه من عقل أو شرع، و هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

و لا فرق في جريانها بين ما إذا كان الشك في أثناء العمل أو بعد الفراغ منه، للسيرة و إطلاق الأدلة.

ص: 302

نعم، إن كان العمل مما يتقوّم بالقصد و الاختيار لا بد من إحراز ذلك بوجه معتبر.

و يمكن أن يقال إن نفس قاعدة الصحة الجارية في العمل تدل عرفا على تحقق القصد و الاختيار أيضا، و لا يبتنى ذلك على اعتبار مثبتاتها، لأن القصد سواء كان شرطا للعمل أو جزء منه، كسائر أجزائه و شرائطه، فكما تجري القاعدة في الشك في تحقق سائر الأجزاء و الشرائط، تجري عند الشك في تحقق القصد و الاختيار أيضا، مع أنها من صغريات أصالة عدم الغفلة، و هي جارية في الشك في القصد أيضا.

الثالثة: لا فرق في مجراها بين كونه من العبادات أو غيرها مطلقا

من العقود و الإيقاعات، لشمول الأدلة للجميع، بل قد ادعي إجماع آخر على جريانها في غير العبادات، بل الظاهر أن مورد استدلالهم بأنه لو لم تجر لاختل النظام و تعطلت أسواق الأنام إنما هو في غير العبادات، كما لا يخفى على الأعلام، و لا فرق بين كون منشأ الشك نفس العقد أو الإيقاع، أو ما يعتبر في المتعاقدين، أو العبادات أو العوضين، أو نفس الانتقال، و ذلك كله لعموم الدليل و إطلاق التعليل.

نعم، لو كان الشك في أصل الصدور و الوجود بمفاد (كان) التامة، فلا مجرى للقاعدة حينئذ، لأن مجراها مورد الشك في صحة الموجود لا الشك في أصل التحقق و الوجود، كما هو المتفاهم من الأدلة اللفظية، و مقتضى السيرة العقلائية.

إن قلت: إن منشأ الشك لا بد و أن يرجع إلى فقد جزء أو شرط، فيرجع بالآخرة إلى الشك في أصل الوجود، لأن الكل ينعدم بانعدام جزئه - شرعيا كان أو لا - و المشروط ينتفي بانتفاء شرطه كذلك، فلا يبقى مجرى للقاعدة أبدا.

قلت: المناط في أصل التحقق هو التحقق العرفي في الجملة و الخروج

ص: 303

من العدم إلى الوجود كذلك، لا التحقق من كل حيثية و جهة بجميع القيود و الشرائط المعتبرة، و إلا فلا نحتاج إلى قاعدة الصحة، فيكون المقام نظير التمسك بالعمومات و الإطلاقات في المعاملات لنفي القيود المشكوكة، فكما يكفي فيها مجرد التحقق العرفي في الجملة لئلا يكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فكذا المقام.

نعم، لو كان الشك مستلزما للشك في أصل الوجود العرفي لا وجه لجريانها حينئذ.

و لعل نظر المحقق الثاني قدّس سرّه حيث ذهب إلى عدم الجريان إلا بعد استكمال الشرائط إلى ما قلناه، فراجع و تأمل، هذا كله إذا شك غير المتعاملين في صحة العقد و فساده، أو اعترف أحدهما بصحته و قال الآخر بالفساد إجمالا من دون الاعتراف بمنشإ الفساد بالخصوص. و أما لو قال أحدهما بالصحة و قال الآخر: إني ما كنت راضيا - مثلا - حين العقد، يشكل جريانها حينئذ، لأن المتيقن من الإجماع و السيرة غير هذه الصورة، بل ظاهر جمع كثير عدم الجريان، فإذا عقد رجل على بنت الأخ و ادعت العمة عدم الإذن و ادعى هو الإذن، فإن الفقهاء يقدّمون قول العمة، مع أن مقتضى أصالة الصحة تقديم قول الرجل، راجع نكاح العروة فصل (المحرمات بالمصاهرة)، و المسألة منقحة في كتاب القضاء من كتاب (مهذب الأحكام).

الرابعة: مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية و السيرة ترتيب جميع آثار الصحة مطلقا

، فكل أثر يترتب على الصحيح الواقعي يترتب على مشكوك الصحة أيضا، فلو شك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس، أو في بيع الوقف من عروض المجوز، أو في بيع الفضولي من جهة لحوق الإجازة، أو في عمل النائب من جهة الشك في فراغ ذمة المنوب عنه به، فالكل من مجاري القاعدة، و بجريانها تترتب آثار الصحة مطلقا حتى بالنسبة إلى

ص: 304

فراغ ذمة المنوب عنه.

فما يظهر من الشيخ الأنصاري قدّس سرّه من التفكيك في الأخير بجريانها في عمل النائب من حيث هو دون جهة الإضافة إلى المنوب عنه.

مخدوش: لأن النيابة إما تنزيل نفسي، أو تنزيل عملي، و كل منهما مستلزم عند المتشرعة لفراغ ذمة المنوب عنه بعد تصحيح عمل النائب.

ثم إن المتيقن من أدلة قاعدة الصحة اللبية، و المتفاهم من اللفظية منها في ترتيب الآثار على جريانها، هو خصوص الآثار الشرعية، و أما العادية و العقلية فإن حصل الاطمئنان المعتبر بها فهو، و إلاّ فيشكل ترتبها عليه، و الشك في الشمول لها يكفي في عدم الشمول، لأنه حينئذ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. و لكن يمكن القول بالشمول لأنها من الاصول العقلائية، و من صغريات أصالة عدم السهو و الغفلة، فإن ثبت الردع عن الشمول نقول به و إلا فلا محذور في الشمول.

الخامسة: لا فرق فيها بين أفعال البالغين و المميزين من غيرهم

، فتجري في أفعالهم أيضا.

نعم، لو قلنا ببطلان معاملاتهم رأسا حتى بعنوان الآلية بين الأولياء لا موضوع لها في معاملاتهم، لكنه قول بلا دليل. كما لا فرق في مجراها بين من ظهرت عدالته و بين غيره، و ذلك كله للعمومات و الإطلاقات و عموم بناء العقلاء و أصالة عدم الغفلة.

و مقتضى ذلك أيضا عدم الفرق بين الأفعال و الأقوال في مجراها، فلو تكلم شخص بكلام، و شك في أنه حرام أو مباح، أو مطابق للمحاورات العقلائية أو لا، أو كاشف عن قصده الجدي أو غير كاشف، تجري أصالة الصحة في جميع ذلك كله، فيحكم بإباحته و مطابقته للمحاورات و كشفه عن قصده الجدي. و أما لو شك في أن الكلام ظاهر أو غير ظاهر، أو أنه مطابق للواقع أو لا،

ص: 305

فلا يثبت الظهور و لا المطابقة للواقع بأصالة الصحة.

نعم، تجري في نفي احتمال الكذب، و هو أعم من إثبات المطابقة للواقع.

و كذا تجري في الاعتقاديات إن شك في التقصير فيها، و أما الشك في القصور أو في المطابقة للواقع فلا يثبت بها ذلك.

السادسة: هل تختص القاعدة بمورد صدور فعل من الفاعل ثم شك في صحته و فساده

، أو تعم مطلق الشك في صدور محرّم منه و لو كان عدما؟ مقتضى الإطلاقات هو الأخير، فلو قبض الوصي مال الميت لأن يعمل فيه بالوصية و مات، ثم شككنا في أنه عمل بها فيه أو لا، تجري القاعدة.

السابعة: مقتضى كون القاعدة تسهيلية امتنانية عدم اختصاصها بفعل الغير،

بل تجري بالنسبة إلى نفس الفاعل أيضا لو شك في صحة فعله و عدمها، فتكون قاعدة التجاوز و الفراغ، و أصالة عدم المانع، و عدم وجوب الإعادة و القضاء و غير ذلك من القواعد التسهيلية من صغرياتها، و لا محذور في ذلك من عقل أو شرع.

نعم، منشأ توهم الاختصاص بفعل الغير ظواهر الأدلة اللفظية، مثل قوله عليه السّلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه».

و لكنه مردود: بأن التمسك بمثله للاختصاص من قبيل التمسك بمفهوم اللقب و لا وجه له، و المناط كله عدم الاعتناء بالشك، لأنه من فعل الشيطان - كما في بعض الأخبار - و لا فرق حينئذ بين الغير و النفس إلاّ في ما قام دليل معتبر على العدم من إجماع أو غيره، و قد تفحّصنا عاجلا و لم نظفر عليه.

الثامنة: لا تجري هذه القاعدة مع وجود العلم المنجز على الخلاف،

تفصيليا كان أو إجماليا، و كذا لا تجري مع وجود البينة أو الأمارة المعتبرة على الخلاف، بل الظاهر عدم الجريان في ما إذا غلب الفساد على شخص بحيث لم يبق موضوع لحمل فعله على الصحة عند من يعلم بحاله.

ص: 306

قاعدة اليد:

اليد: عبارة عن الاستيلاء على الشيء عينا كانت، أو منفعة، أو انتفاعا، أو حقا. و تختص بالشبهات الموضوعية فقط. و هي معتبرة بالأدلة الأربعة..

فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و الإضافة إنما تتحقق باليد و الاستيلاء.

و من السنة: أخبار مستفيضة، منها قول أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من استولى على شيء فهو له»، و قوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

و من الإجماع: إجماع المسلمين.

و من العقل: سيرة العقلاء على اعتبارها.

و لا ريب في تقدّمها على الاستصحاب، بلا فرق بين كونها أمارة أو أصلا.

و البحث في أنها أصل أو أمارة عين ما تقدم في سابقتها، و لكن الظاهر كونها بالأمارة أشبه.

و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما يتعلّق بها و إن كان قد فصّلنا القول فيها في كتاب القضاء:

الأول: لو علم كيفية حدوث اليد من أمانة أو غصب أو نحوهما، ثم احتمل ملكية ذي اليد بالانتقال الصحيح الشرعي إليه، لا يحكم بالملكية لأجل اليد، لعدم السيرة على الحكم بالملكية حينئذ. و الشك في شمول الأدلة اللفظية له، بل الظاهر تحقق السيرة على الخلاف، لجريانها على قبول المدارك المعتبرة في مقابل مثل هذا اليد و الحكم بها عليها.

نعم، لو لم يعلم ذلك و احتمل اقتران حدوث اليد بغصب و نحوه، فمقتضى السيرة و الإطلاق الحكم بالملكية لليد حينئذ.

الثاني: لو كان شيء في يد شخص فعلا، و ثبت شرعا أنه كان لغيره سابقا، يحكم بملكية ذي اليد، لجريان السيرة على العمل بقاعدة اليد حينئذ،

ص: 307

و لعدم المنافاة بين كون شيء ملكا لشخص سابقا و لآخر فعلا، بل ذلك غالبي الوقوع، كما هو واضح.

الثالث: لو أقرّ ذو اليد بأن ما في يده كان لمورّثه، فثبوت موت المورث و ثبوت وارثيته يؤكده، و لا ينافي مثل هذا الإقرار استيلائه على ما في يده، و لا وجه لطلب الحاكم البينة منه أصلا، و عليه فيكون طلب أبي بكر البينة من الصديقة الطاهرة عليها السّلام إن كان لإثبات موت النبي صلّى اللّه عليه و آله، أو لأجل أن الصديقة الطاهرة بنته، فهو مما يقبحه عوام المسلمين فضلا عن خواصهم. و إن كان لأجل أن يد الوارث لا تدل على ملكية ما انتقل إليه من مورّثه فهو خلاف إجماع المسلمين بل سيرة العقلاء كافة، فلا بد لأبي بكر في منع الصديقة عن فدك من إثبات أحد أمرين: إما عدم موت النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إما حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث...».

و الأول مخالف للوجدان، و ما هو معلوم بين النساء و الصبيان.

و الثاني مخالف للقرآن و سيرة الأنبياء السابقين بل العقلاء أجمعين، هذا إن كانت دعوى الصديقة عليها السّلام أن فدك قد انتقلت إليها بالإرث، و إن ادعت أنها كانت نحلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لها. أو من اللّه تعالى، كما يظهر من بعض الأخبار، فمقام قداسة الصديقة الطاهرة، و عدم المعارض لها في هذه الدعوى من أحد من المسلمين و لا غيرهم، و كون فدك في يدها يدلّ على أنها عليها السّلام مالكة لفدك، فلا وجه لانتزاعها منها.

و ما يتوهم: من أن المعارض لها أبو بكر و هو وليّ المسلمين، فلا وجه لكون دعواها بلا معارض.

مردود: بأنه لا بد لأبي بكر حينئذ من ردّ دعواها بمقام ولايته، لا بحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» و المسألة مذكورة مفصلا في كتب الكلام و التواريخ من الفريقين.

ص: 308

قاعدة القرعة:

و هي: مما تعارف بين المسلمين فتوى و عملا، بل و بين العقلاء أيضا في الجملة، و يدلّ عليها..

الكتاب في قصة يونس، قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ، و مريم: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ .

و السنة: مثل قوله عليه السّلام: «فكل شيء مجهول ففيه القرعة»، و ما اشتهر في الكتب الفقهية: «القرعة لكل أمر مشكل».

و يختص مورد جريانها بالشبهات الموضوعية التي ينحصر رفع الشبهة فيها بخصوص القرعة فقط، فلا تجري في مورد يجري فيه الاستصحاب و سائر الاصول الاخرى حتى البراءة، و قاعدتا الحلّية و الطهارة فضلا عن مورد تجري فيه الأمارة، فلا موضوع معها للقرعة أصلا، لأن موردها التحيّر المطلق من كل حيثية وجهة، كما هو المتيقن من الأدلة اللبيّة، و المتفاهم عرفا من الأدلة اللفظية، فلا تعارض بينهما حتى تقدّم إحداهما على الاخرى.

و لا فرق في مورد جريانها بين كونه من حقوق الناس أو حقوق اللّه تعالى، كما ورد في استخراج البهيمة المنكوحة بالقرعة.

ثم إنه قد أثبتنا في كتاب القضاء أن المجهول و المشتبه - الواردين في القرعة - هو الظاهري منهما دون الواقعي، إذ لا يعقل التردد و الجهل في الواقع من حيث هو واقع، لما أثبتنا من أن الوجود مساوق للتشخّص و مناف للتردد، كما لا إشكال في أن القرعة أيضا قد تصيب و قد تخطئ و ما ورد في بعض الروايات من الإصابة لا بد و أن يحمل على حكمة الجعل. و يتوقف جريانها في كل مورد على عمل الأصحاب فهي - و قاعدة الميسور، و قاعدة العدل و الإنصاف - كجزء الدليل لا تمامه، إذ لا اعتبار بها إلا بضميمة عمل الأصحاب.

ص: 309

هذا بعض الكلام في هذه القاعدة و التفصيل يطلب من كتاب القضاء.

هذا آخر ما وفقنا اللّه تعالى لتهذيب الاصول عن الزوائد و الفضول، و نرجو منه عزّ و جل أن يوفقنا لتهذيب أنفسنا، فإنه الغاية القصوى لكل علم و عمل. و كان الختام في أسعد الأيام الثالث من شهر شعبان المعظم من شهور سنة ألف و ثلاثمائة و ثلاث و سبعين بعد الهجرة، على هاجرها آلاف التحية و الثناء.

و الحمد للّه أولا و آخرا تم الكتاب

ص: 310

الفهرس

المقدمة 5-7

تعريف الاصول، حصر مجاري ما يصح الاعتذار به، عدد الاصول العملية المقصد الأول - ما يكون معتبرا في نفسه (مبحث القطع) و يبحث فيه عن امور: 9-57

الأمر الأول: \و فيه جهات من البحث\ 11

الاولى: الكلام في أن مبحث القطع من مسائل فن الاصول 11

الثانية: آثار القطع، الكلام في صحة تعلق الجعل الشرعي به، الإشكال عليه و الجواب عنه 11-14

الثالثة: إطلاقات الحجية الثلاثة، صحة إطلاقها على القطع، المناقشة في ما ذكره الاصوليون 14-16

التنبيه على امور: \ 16-19

الأول: أقسام القطع

الثاني: أن الاطمئنان العقلائي له مراتب متفاوتة

الثالث: الكلام في ما ذكروه أن حكم العقل باعتبار القطع تنجّزيّ غير معلق على شيء بخلاف الظن الانسدادي

الرابع: أقسام الذاتي

ص: 311

الخامس: المناقشة في ما ذكره صاحب الكفاية من مراتب الحكم الأربع

الأمر الثاني: \ 20-27

تمهيد: كون هذه المسألة من المسائل الاصولية 20

حكم التجري، ذكر الاحتمالات فيه و المناقشة فيها

الاستدلال على استحقاق العقاب في التجري و الجواب عنه الإشكال على مختار الشيخ قدّس سرّه من أن التجري كاشف عن

سوء السريرة و بيان المختار في التجري 19-25

التنبيه على امور: \ 25-27

الأول: بيان الثمرة في القبح الفعلي و عدمه

الثاني: أن التجري طغيان و ظلم لا يزول إلا بعنوان حسن و مناقشة كلام صاحب الفصول

الثالث: أن التجرّي مباين للمعصية الحقيقية

الرابع: مراتب التجري

الأمر الثالث: \أقسام القطع و ما يتعلق بها، انقسام القطع إلى عشرة أو أكثر، آثار القطع، قيام الأمارات مقام القطع، الإشكال عليه و الجواب عنه\ 28-32

الأمر الرابع: \أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده، نقل رأي المشهور في عدم إمكان أخذ القطع كذلك و المناقشة فيه\ 33-34

الأمر الخامس: \الموافقة الالتزامية و بعض ما يتعلق بها وجوب الالتزام بما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية\ 35-38

ص: 312

البحث في ذلك من جهات:

الاولى: وجوب الموافقة تابع للعلم بالتكليف

الثانية: لا تلازم بين وجوبها و وجوب الموافقة العملية

الثالثة: لا تمانع بين وجوبها و جريان الاصول العملية

الكلام في استحقاق العقاب و الثواب على المخالفة و الموافقة العملية

الأمر السادس: \القطع الحاصل من العقليات و قطع القطاع\ 39-43

نقل أقوال الاصوليين في القطع الطريقي و المناقشة فيها، المراد من القطاع

توجيه كلام من قال بعدم اعتبار القطع في بعض الموارد 40

الكلام في القاعدة المعروفة (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع و عكسه) و الجواب عما يورد عليها 41

الأمر السابع: \العلم الإجمالي و بعض ما يتعلق به\ 44-53

المقصود بالبحث عن العلم الإجمالي، موارد الفرق بينه و بين العلم التفصيلي الكلام في إثبات العلية التامة للعلم الإجمالي، الاستدلال للترخيص بارتكاب بعض أطرافه بالعمومات و الأخبار و المناقشة فيها

بيان المحتملات في هذه الأخبار

شرائط تنجز العلم الإجمالي: \ 48

الأول: \إحداثه تكليف فعليّ غير مسبوق بالوجود، أقسام تقارن العلم الإجمالي مع العلم التفصيلي، حكم الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي\ 49

ص: 313

الثاني: \أن يصلح للداعوية نحو التكليف، خروج موارد ثلاثة\ 49

منها: ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الابتلاء، بيان المراد من الابتلاء، أقسام القدرة 50

الثمرات المترتبة على هذا المورد 51

منها: مورد دوران الأمر بين المحذورين و شروط هذا المورد 52

و منها: الشبهة غير المحصورة 52

الثالث: \من شروط تنجز العلم الإجمالي: أن لا يكون العلم التفصيلي معتبرا في التكليف\ 52

الرابع: \أن لا يكون في البين ما يدلّ على رفع الحكم الواقعي

تنبيه: \الجواب عما يوهم فيه الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي\ 53

الأمر الثامن: \الامتثال الإجمالي\ 54-55

الإشكال على الاكتفاء بالامتثال الإجمالي و الجواب عنه

المقصد الثاني: \ما يصح الاعتذار به من جهة الكشف فيه.

و فيه مباحث\ 59-155

تمهيد: \مراتب الاطمئنان، تبويب البحث في غير العلم، مورد جريان أصالة عدم الحجية، الاستدلال بالشكل الأول على عدم حجية الظن\ 59-60

المبحث الأول\إمكان التعبد بغير العلم\ 61-69

المراد من الإمكان 61

الأول: القياس على الإخبار عن اللّه تعالى و الجواب عنه 62

الثاني: النقض للغرض المناقشة فيه 62

الثالث: تفويت المصلحة و الإلقاء في المفسدة و الجواب

ص: 314

عنه، تحقيق الكلام في الموضوعية و السببية في الأمارات 63

الرابع: اجتماع المثلين أو الضدين الجواب عنه 65

ذكر أجوبة الاصوليين عن الدليل الرابع و المناقشة فيها 67-69

المبحث الثاني: \أصالة عدم الاعتبار و عدم صحة الاعتذار الاستدلال على هذا الأصل بالأدلة الأربعة، المناقشة فيها. تقرير الدليل العقلي. الاستدلال بالاستصحاب على حجية هذا الأصل المناقشة فيه و الجواب عنها\ 70-74

تقرير الأصل بوجوه اخرى و الجواب عنها 71

التنبيه على امور: \ 72-74

الأول: الاستدلال على حرمة التشريع، أنحاء ما يضاف إلى الشارع، أقسام التشريع

الثاني: حرمة الفعل المشرع فيه

الثالث: عدم الفرق بين البدعة و التشريع

الرابع: الرد على صاحب الكفاية في قوله إن حجية شيء في الدين غير مساوق لصحة انتسابها إلى الشارع

الامور التي خرجت عن هذا الأصل 75-136

الأمر الأول: \الظواهر\ 75-80

اعتبار الظواهر من الاصول النظامية، البحث فيها صغروي و كبروي

استدلال الأخباريين على عدم حجية ظواهر القرآن و الجواب عنه 75

ص: 315

امور\: 77-78

الأول: النص و الظواهر و الأظهر من أوصاف اللفظ

الثاني: عدم دوران حجية الظهور مدار حصول الظن الشخصي

الثالث: للظهور مراتب متفاوتة

الرابع: في اختلاف قراءة القرآن

مناشئ الظهور 79-80

و هي كثيرة، منها قول اللغوي، الاستدلال على حجيته، المناقشة فيه، تحقيق الكلام في أصالة الحقيقة و أصالة عدم القرينة و أصالة الظهور

الأمر الثاني: \الإجماع\ 81-89

و هو إما محصل أو منقول، كونه من الامور العرفية. ليس للإجماع موضوعية بل لأجل كشفه عن حجة

طرق استكشاف رأي المعصوم عليه السّلام 82-85

الأول: دخول شخص المعصوم، المناقشة فيه

الثاني: قاعدة اللطف، المراد من اللطف، الرد عليه

الثالث: الحدس، الجواب عنه

الرابع: تراكم الظنون، الإشكال عليه

الخامس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة

السادس: لأجل كونه كاشفا عن قاعدة معتبرة

السابع: انفراد فقيه بالرأي و ادعائه الإجماع

الثامن: الإجماع القهري الانطباقي

تحقيق الكلام في الإجماع عند الإمامية 85

نقل الإجماع 85-87

ص: 316

أقسام نقل الإجماع، الإشكال على نقل السبب في الإجماع إذا لم يكن سببا تاما، تحقيق المناط في نقل الإجماع مطلقا

التنبيه على امور: \ 87-89

الأول: الإجماع إنما يكون معتبرا إذا حصل الاطمئنان منه

الثاني: يعرض على الإجماع ما يعرض على الخبر الواحد

الثالث: معنى قول الفقهاء «نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر»

الرابع: إذا شك في أن ناقل الإجماع استند إلى الحس أو الحدس.

الخامس: معنى الإجماع المحصل

السادس: نقل كلام المحقق البحراني في الحدائق

ختام في الشياع و الاستفاضة و التواتر 89

الأمر الثالث: \الشهرة\ 90-98

أقسام الشهرة 90

الإشكال على اعتبار الشهرة الاستنادية صغرى و كبرى و الجواب عنه 91-93

الاستدلال على اعتبار الشهرة الفتوائية، الإشكال عليه

93-94

التمسك بالمقبولة على اعتبار الشهرة مطلقا، الإشكال عليه و الجواب عنه 94

إشكال المحقق النائيني على الاستدلال و الجواب عنه 95

ختام فيه امور: \ 96-98

الأول: عدم الفرق في الشهرة مطلقا بين أن يكون موردها

ص: 317

نفس الأحكام أو ما يتعلق بها

الثاني: المراد من الواجب في كلمات قدماء الأصحاب

الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي الاتصال إلى المعصوم

الرابع: لا أثر للشهرة الاستنادية في غير الوجوب و الحرمة

الخامس: لا اختصاص للشهرة الاستنادية بخصوص مسائل الفقه

السادس: نقل كلام صاحب الجواهر في اختلاف القدماء

السابع: تفسير قول الفقهاء «على الأشهر، عليه الأكثر، عليه المعظم».

الثامن: طرق إحراز الشهرة

الأمر الرابع: \الخبر الواحد\ 99-121

تمهيد فيه امور: \ 99-102

الأول: المناط في إثبات الحكم الشرعي بالخبر الواحد

الثاني: زمان حدوث البحث في الخبر الواحد

الثالث: الكلام في أن البحث في حجية الخبر الواحد من مسائل الاصول

الرابع: قد ادعي الإجماع على حجية ما في الكتب الأربعة، الإشكال عليه و الجواب عنه

أدلة عدم اعتبار الخبر الواحد و الجواب عنها 102-104

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بالأدلة الأربعة 104-115

الاستدلال من الكتاب بآية النبأ بمفهوم الشرط تارة

ص: 318

و بمفهوم الوصف اخرى 104

الإشكال على الاستدلال بوجوه و الجواب عنها 105

مناقشات لا تختص بآية النبأ بل تعمها و غيرها وردها 107

إشكالات تختص بالاخبار مع الواسطة فقط 107-109

كيفية الاستدلال بآية النفر، الإشكال عليها ثم الجواب عنه 109

الاستدلال بآيتي الكتمان و السؤال و آية الاذن 110

الاستدلال بالأخبار المتواترة إجمالا 111

الإجماع و السيرة على اعتباره 112

الردّ على السيرة و الجواب عنه

الاستدلال على اعتبار الخبر الواحد بوجوه عقلية و الجواب عنها، الفرق بين الانسداد الصغير و الانسداد الكبير 114-115

نتائج البحث\ 115-121

الاولى: أن النزاع في اعتبار الخبر الواحد صغرويا لا أن يكون كبرويا 115

الثانية: العدالة في الراوي طريقية لا أن تكون موضوعية

الثالثة: مراتب الوثوق و الاطمئنان 116

الرابعة: الكلام في اعتبار تضعيفات بعض علماء الرجال

الخامسة: تحقيق الكلام في أقوال الرجال بالنسبة إلى الرواة 117

السادسة: بيان المراد من الوثوق و الصدق المعتبرين في الراوي 118

ص: 319

السابعة: مورد اعتبار التوثيق 119

الثامنة: موجبات الوثوق بالصدور 120

التاسعة: كلام في حال الرواة

العاشرة: أقسام وثوق الراوي 121

الحادية عشر و الثانية عشر: في الوثوق و التضعيف

الأمر الخامس: \الاجتهاد و التقليد\ 122-136

تعريف الاجتهاد و التقليد 122

آراء العلماء في الاجتهاد. و ما يعتبر في الاجتهاد 123

تعريف التقليد 125-128

المطلق و المتجزي

ما يعتبر في مرجع التقليد 126

التخطئة و التصويب، موضوعهما و موردهما 128

أقسام التصويب و المناقشة فيها 129-130

الأعلمية 131-133

الاستدلال على اعتبارها في المرجع و المناقشة فيه

أدلة عدم اعتبار الأعلمية و الردّ عليها 132

فوائد 133

الاولى: بيان المراد من الأعلم

الثانية: كيفية تحقق موضوع الأعلم

الثالثة: لو شك في اختلاف الأعلم مع غيره

تبدل الرأي، موضوعه، مقتضى الدليل 134

تقليد الميت 134-136

أقسامه، البحث فيه من جهتين، الإشكال على جوازه

ص: 320

و الجواب عنه

اعتبار مطلق الظن 136-155

الاستدلال على اعتباره و الجواب عنه 136

دليل الانسداد 138-139

مقدمات دليل الانسداد و المناقشة فيها

جملة القول في الاحتياط أقسامه بيان الإشكال فيه 139

نقل كلام صاحب الكفاية في الحرج الحاصل من الامتثال و الرد عليه 140

الإشكال في وجوب الاحتياط الذي لا يوجب العسر و الحرج 141

الرجوع إلى الاصول العملية بيان الإشكال فيه

الجواب عن الإشكال المعروف من التناقض بين صدر دليل الاستصحاب و ذيله 142-144

بيان المختار في دليل الانسداد 144

التنبيه على امور: \ 145-154

الأول: هل تكون نتيجة دليل الانسداد في المسألة الأصولية أو في الأحكام أو فيهما معا

الاستدلال على الاختصاص بخصوص الطرق و الجواب عنه؟ 145-146

الثاني: هل تكون نتيجة دليل الانسداد الكشف أو الحكومة؟ 146

الثالث: هل تكون النتيجة كلية أو مهملة؟ 147-149

الاستدلال على التعميم بوجوه و الإشكال عليها

ص: 321

الرابع: الإشكال على النهي عن الظن القياسي و الرد عليه 149

الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر

السادس: كلام في الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف 150

السابع: في الظن الغير المعتبر 150

أقسام الاعتقاديات. الاستدلال على وجوب المعرفة عقلا و الرد عليه 151

الاستدلال على وجوب معرفة المعاد و المناقشة فيه 152

الاستدلال على وجوب المعرفة شرعا و ردّه 153

فوائد 154-155

الاولى: المناط في المعرفة هو الاعتقاد و الجزم

الثانية: عدم اعتبار حصول المعرفة من الاستدلال الفلسفي

الثالثة: تعيين أحد مراتب الاعتقاد و الجزم، تعيين مراتب القصور

الرابعة: أن ما يعتبر فيه الجزم لا يكفي فيه الظن

الثامن: اعتبار الظن في الاعتقاديات

المقصد الثالث: \الاصول العملية\ 159-290

تمهيد في عدد الاصول العملية، الفرق بين الجهل في موردها و الجهل في مورد الأمارات 159

تقديم امور: 160-161

الأول: إن الجهل إنما يكون مورد الاصول مطلقا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل.

ص: 322

الثاني: كون البحث عن حكم الشبهات الموضوعية خارجا عن فن الاصول

الثالث: كون بحث الحظر و الترخيص أعم موردا عن بحث البراءة

الرابع: المراد بالجهل و الشك 160

الخامس: كون الاصول الأربعة المعروفة من الامور العقلائية

السادس: أن النزاع بين الاصولي و الأخباري صغروي لا أن يكون كبرويا

السابع: تقسيم آخر للاصول

الثامن: كون مباحث الاصول العملية من علم الاصول 161

الفصل الأول - البراءة 162-173

أدلة البراءة في الشبهات الحكمية مطلقا

الاستدلال بالكتاب 162-165

منها: قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها وجه الاستدلال و المناقشة فيه 162

منها: قوله تعالى: ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً كيفية الاستدلال و الإشكال عليه و الجواب عنه 163

استدلال الأخباريين على عدم الملازمة بين حكم العقل و الشرع و الجواب عنه 164

الاستدلال بالسنة 165-173

منها: حديث الرفع، المراد من الرفع و الإشكال عليه و الجواب عنه 165

ص: 323

و البحث عن حديث الرفع ضمن امور:

الأول: مقتضى عموم الحديث و إطلاقه القول بأنه لا وجه لرفع المؤاخذة و دفعه 166

الثاني: كيفية ترتب الأثر الشرعي على الشيء 166

الثالث: تقدم حديث الرفع على الأحكام الواقعية، الإشكال بأنه يستلزم النسخ أو التصويب أو الصرف و الجواب عنه 167

الرابع: الحديث يرفع كل ما يمكن أن تناله يد الجعل:

الإشكال عليه و الجواب عنه 168

الخامس: توجيه ما ذكر في الحديث: من الطيرة، و الحسد، و التفكر في الوسوسة في الخلق: 169

السادس: كلام في مثبتات الاصول العملية 170

و منها: مرسل الصدوق، ذكر الاحتمالات فيه و الجواب عنها 170

و منها: حديث الحجب. المناقشة في الاستدلال به 171

و منها: صحيح ابن الحجاج. المناقشة فيه. ردّ ما يستشكل عليه 171-172

الاستدلال بالإجماع، و دليل العقل، و الأصل على البراءة 173

الفصل الثاني - الاحتياط 174-194

أدلة وجوب الاحتياط شرعا في الشبهات الحكمية التحريمية و الجواب عنها 174

الاستدلال بالكتاب و الجواب عنه 174

ص: 324

الاستدلال بالسنة، ذكر المحتملات في أخبار الاحتياط المناقشة فيها 174-176

المناقشة في الاستدلال بصحيح ابن الحجاج الوارد في الصيد 176

الدليل العقلي على وجوب الاحتياط و الجواب عنه 177-179

الكلام في مورد إجمال النص أو تعارضه 178

الكلام في الشبهات الموضوعية 179

التنبيه على امور: \ 179-194

الأول: تقدم الأمارات على الاصول الموضوعية و الأخيرة على الاصول الحكمية

بعض الكلام في أصالة عدم التذكية 180-185

التعرض لأمرين - الأول: المراد من غير المذكي و الميتة، مناقشة كلام المشهور، بيان ما هو المستفاد من الأخبار

180-181

الثاني: أقسام الحيوان بالنسبة إلى التذكية 182

الكلام في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الحكمية 182

تفصيل القول في جريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية 183-184

بيان الحق في المقام، التمسك ببعض الأخبار على ذلك 185

الثاني: الكلام في حسن الاحتياط غير المخل بالنظام

ص: 325

185-190

الإشكال في الاحتياط عند الدوران بين الندب و غير الوجوب أو الوجوب و غير الندب و الجواب عنه بوجوه و المناقشة فيها، و بيان الحق فيها 186

الكلام في قاعدة التسامح من جهات: 187-190

الجهة الاولى: \الأخبار الواردة في القاعدة\ 187

المناقشة فيها و ذكر الاحتمالات فيها و الإشكال عليها

الجهة الثانية: \هل تدل الأخبار على ترتيب جميع آثار المطلوب الشرعي؟ 189

الجهة الثالثة: \موارد جريان قاعدة التسامح في الأدلة\ 190

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين و التخيير 190-193

مقتضى الأصل اللفظي و العملية في ذلك عند المشهور

الإشكال على المشهور، و نقل كلام بعض مشايخنا و الرد عليه 191

أقسام الواجب التخييري 192

موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير 192

الكلام في دوران الأمر بين الواجب العيني و الكفائي 193

الرابع: جريان البراءة في جميع الشبهات مطلقا 193-194

كيفية تعلق الحكم بالموضوع و جريان البراءة في جميع أقسامها

توهم اختصاص البراءة ببعض الأقسام و الجواب عنه

نتيجة البحث 194

الفصل الثالث\أصالة التخيير، البحث فيها من جهات: \ 195-227

ص: 326

الجهة الاولى: \بيان موضوعها\ 195

الجهة الثانية: \أقسام التخيير و مجرى كل واحد منها في التوصليات و التعبديات\ 195

الجهة الثالثة: \في استمرار التخيير و الإشكال عليه\ 197

الشك في المكلف به 198-217

موضوع الشك في المكلف به، جهات الشك و الكلام يقع في مقامين 198

المقام الأول\في المتباينين\ 199-213

مناط البحث فيه. الكلام في العلم الإجمالي الاستدلال عليه بوجوه 199

الأول: اختلاف مورد الشك الذي هو مجرى الاصول عن أطراف العلم الإجمالي، إشكال و جواب 200

الثاني: أقسام الاصول العملية بحسب أطراف العلم الإجمالي 200

الثالث: ما ذكره شيخنا الأنصاري في المانع عن جريان الاصول العملية

الإشكال على ما ذهب إليه و الجواب عنه 201

الاستدلال على تنجز العلم الإجمالي بالاستصحاب و الجواب عنه 202

موارد عدم وجوب الموافقة القطعية 203-211

الأول: \ما إذا دل دليل مخصوص على الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي\ 203

الثاني: \ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي\ 203

الثالث: \إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية\ 203

ص: 327

الرابع: \خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء\ 204-205

حكم ما إذا لم يحرز الابتلاء فهل يجب الاحتياط أو تجري البراءة؟

حكم ما إذا كان شيء مورد الابتلاء من جهة و خارجا عنه من جهة اخرى 205

الخامس: \الاضطرار و أقسامه\ 205

الكلام في الاضطرار الحاصل بعد تنجز العلم و إلى المعين 205

نقل الكلام عن بعض مشايخنا في الاضطرار إلى غير المعين و المناقشة فيه 206

السادس: \فقدان بعض الأطراف\ 207

السابع: \الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة، رأي المشهور فيه المناقشة فيه\ 207-210

نقل كلام المحقق الأنصاري في الملاقي لأحد الأطراف و الإشكال عليه 207

نقل كلام صاحب الكفاية في تثليث الأقسام في الملاقي لأحد الاطراف و ردّه 208

الثامن: \عدم الفرق في تنجز العلم الإجمالي بين كون أفراده دفعية أو تدريجية\ 210

التاسع: \لو اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف الدفعية أو التدريجية\ 211

العاشر: \عدم الفرق في جميع ذلك بين أقسام الشبهة الموضوعية التحريمية أو المفهومية\ 211

ص: 328

الشبهة غير المحصورة 213

بيان موضوع غير المحصورة، بيان الحق في المقام

الإشكال على ما قيل في تحديدها بحد خاص 212

حكم الشبهة غير المحصورة 213

المقام الثاني\دوران الأمر بين الأقل و الأكثر\ 213-217

الفرق بينه و بين الشك في المحصل، أقسام الشك في الأقل و الأكثر 213

بيان الحق في المقام، إقامة الشكل الأول على ذلك 214

الاستدلال على وجوب الاحتياط و الجواب عنه 215

التمسك لعدم وجوب الأكثر بالأصل الأزلي 216

الكلام في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل و الأكثر 217

بعض أحكام الخلل 217-223

أقسام الخلل 217

الإشكال على الصحة في بعض الموارد مع فرض الجزئية و الترك العمدي و الجواب عنه 217

النقيصة السهوية، الكلام فيها من جهات ثلاث: 218-220

الأولى: \تصوير التكليف بالنسبة إلى المنسي و غيره، الجواب عنه الإشكال في تكليف غير المنسي بوجوه\ 218

الثانية: \بحسب دلالة غير المنسي بوجوه\ 219

الثالثة: \بحسب الأدلة الثانوية الدالة على وجوب البقية\ 220

حكم الزيادة. و البحث فيها من جهات ثلاث: 220-223

الأولى: في تصويرها. الردّ على من قال بعدم إمكان تصويرها. 221

ص: 329

الثانية: أقسام الزيادة 221

الثالثة: حكمها، التمسك بأصالة عدم المانعية، و الاستصحاب و هو على أنحاء 222

الإشكال على التمسك بالاستصحاب 222

الاستدلال على البطلان بالزيادة العمدية بأمور ثلاثة و الإشكال عليها 223

ما يتعلق بالجزء و الشرط من حيث أن القاعدة تقتضي ثبوتهما مطلقا أو في الجملة 224

القول بأن البحث في المسألة من فروع بحث الصحيح و الأعم و الجواب عنه 224

توهم اختصاص البحث في المقام ببعض الموارد و الإشكال، و الردّ على التوهم بأن البحث مبني على ثبوت الأجزاء و الشرائط بأوامر متعددة

أقسام دليل القيد و المقيد 225-227

انقسامهما إلى أربعة 225

حكم الأقسام الأربعة، الإشكال على جريان الاصول العملية في بعض الصور و دفعه، الإشكال على جريان البراءة و الجواب عنه 225

بعض الكلام في قاعدة الميسور، التمسك بالاخبار الإشكال عليها و الجواب عنه 226

فائدة\لو دار الأمر بين كون شيء شرطا في العبادة أو مانعا\ 227

شرائط الاصول 228-246

شرط الاحتياط 228

ص: 330

الجواب عن أن الاحتياط مخالف لقصد الوجه و الجزم في النية، مراتب الامتثال 228

الجواب عن أن الاحتياط المستلزم للتكرار لهو و عبث 229

الفحص عن مورد الاصول العملية، البحث فيه من جهات ثلاث 229-231

الجهة الأولى\أصل وجوبه، الاستدلال بالأدلة الأربعة\ 230

الاستدلال على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية و الجواب عنه 230

الجهة الثانية\مقدار وجوب الفحص\ 231

الجهة الثالثة\حكم العمل قبل الفحص\ 231

التنبيه على امور: \ 231-234

الأول\هل أن وجوب التعلم نفسي أو طريقي أو مقدمي؟ \ 231

الثاني\ملاك وجوب التعلم\ 232

الإشكال المعروف في وجوب التعلم و الجواب عنه 232

الثالث\دوران صحة العمل و بطلانه مدار المطابقة للوظيفة و عدمها\ 232

الرابع\تلازم الصحة و سقوط العقاب، الإشكال في بعض الموارد و الجواب عنه و تعيين الحق في المقام\ 233

ذكر الفاضل التوني للبراءة شرطان آخران 234-235

الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى، المناقشة في هذا الشرط 234

الثاني: أن لا يكون في إعمال الأصل الضرر 235

الكلام في قاعدة الضرر، و فيها جهات من البحث 235-244

ص: 331

الأولى: كونها من القواعد العقلائية 235

ذكر بعض الأخبار فيها، و الكلام في قيد «على المؤمن» أو «في الإسلام» 236

فقه الحديث، و المراد من الضرر و الضرار 236-237

الثانية: الفرق بين الضرر و الحرج 237

الثالثة: المراد من كلمة (لا) ذكر الإشكال المعروف و الجواب عنه بوجوه و المناقشة فيها 238

الرابعة: إنها من القواعد العامة، الإشكال عليها بكثرة ورود التخصيصات و الجواب عنه 239

جواب شيخنا الأنصاري عن الإشكال و إشكال صاحب الكفاية عليه و الجواب عنه 240

إشكال على أن القاعدة ليست نصا في موردها و الجواب عنه

الخامسة: تقديم قاعدة الضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام مطلقا

موارد تخصيص قاعدة الضرر المتقدمة على جميع الأحكام 241

السادسة: صور تعارض ضرر مع ضرر آخر 242-244

السابعة: قد تتقدم قاعدة الحرج على قاعدة الضرر 244

تتميم: بعض الكلام في قاعدة الحرج 244-246

الفصل الرابع - الاستصحاب 247-290

ذكر بعض التعاريف و الإشكال عليها، و تعريفه بما هو الحق 247

ص: 332

تقديم امور: \ 247-254

الأول: \الفرق بين المسألة الأصولية و الفقهية، و القاعدة الفقهية\ 247

كون الاستصحاب من المسألة الفقهية أو المسألة الاصولية 248

الثاني: \الفرق بين الاستصحاب، و قاعدة اليقين و قاعدة المقتضي و المانع\ 248

الثالث: \أقسام الاستصحاب\ 249-251

منها: بحسب زمان اليقين و الشك 249

و منها: بحسب منشأ الشك بين المقتضي و الرافع و الغاية، و تعريف المقتضي 249

أقسام المقتضي، تعريف الرافع و الفرق بيته و بين المانع 250

تعريف الغاية، تصادق الشك في المقتضي مع النسخ و الغاية في غير الشبهة الموضوعية 250

و منها: تقسيمه بحسب الدليل الدال عليه 251

الرابع: \الإشكال على صحة الاستصحاب إن كان دليله العقل\ 251

الخامس: \التفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الشك في الرافع و الشك في المقتضي\ 252

التفصيل بين العدميات و الوجوديات 253

التفصيل بين الموضوعات و الأحكام و الجواب عنه 253

الأدلة على حجية الاستصحاب الأول و الثاني و الثالث:

الإجماع، و الدليل الظني، المناقشة فيها. و بناء العقلاء.

254-255

ص: 333

الرابع: \الأخبار\ 255-261

الأول: مضمر زرارة، الإشكال عليه بوجوه و الجواب عنها 255

الثاني: مضمرة الآخر الإشكال عليه و الجواب عنه 256

الثالث: صحيح زرارة و الجواب عما يرد عليه 258

الرابع: قول أمير المؤمنين عليه السّلام، و ردّ ما يتوهم من الإشكال عليه 259

الخامس: المكاتبة، الإشكال عليه 259

دلالة بعض الأخبار عليه و المناقشة فيها 260

التمسك بالسيرة في حجية الاستصحاب مطلقا 260

الجواب عما يتوهم من اختصاص الأخبار بخصوص الشك في الرافع 261

تنبيهات الاستصحاب 261-287

التنبيه الأول: \انقسام الأحكام إلى تكليفية و وضعية\ 261-265

تعريف الحكم الوضعي 262

عدم اختصاص الأحكام التكليفية و الوضعية بخصوص شريعة الإسلام، نقل الأقوال في الوضعيات و دفعها

القول بالتفصيل في الوضعيات بين ما تكون مجعولة استقلالا، و بين ما تكون منتزعة و الجواب عن ذلك 262-264

و بين ما لا تكون منتزعة و لا مجعولة، الإشكال عليه

التنبيه الثاني: \الكلام في الاكتفاء بالشك التقديري، مناقشة رأي من اكتفى بالشك و اليقين فقط\ 265

ص: 334

التنبيه الثالث: \المراد من اليقين في مورد الاستصحاب\ 266

التنبيه الرابع: \أقسام الاستصحاب باعتبار الجزئي و الكلي\ 266-271

الأول: ما يصح استصحاب الكلي و الجزئي معا 267

الثاني: ما يصح استصحاب الكلي فقط، الإشكال عليه و الجواب عنه 267

الثالث: ما لا يجري فيه استصحاب الكلي و الجزئي 270

التنبيه الخامس: \الكلام في الاستصحاب في الزمان و الزمانيات و المتدرجات في الوجود، الإشكال عليه و الجواب عنه، أقسام أخذ الزمان في التكليف\ 271-272

التنبيه السادس: \في الاستصحاب التعليقي الإشكال عليه و الجواب عنه\ 273

التنبيه السابع: \الاستصحاب في نسخ ما ثبت في شريعة أو شريعتين\ 274

التنبيه الثامن: \في الأصل المثبت، الفرق بين الأمارة و الأصل و المناقشة فيه بيان الحق في المقام\ 274-278

التنبيه على امور: \ 276-278

الأول: في المراد بالأثر الشرعي 276

الثاني: لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي و الفرد 276

الثالث: أقسام الأثر المترتب على الشيء 277

الرابع: الجواب عن موارد ربما يستظهر من المشهور اعتبار الأصل المثبت فيها 277

الخامس: جريان الاستصحاب في ما كان الأثر للبقاء فقط أيضا 278

التنبيه التاسع: \أقسام الشك في حدوث الحادث، للكلام في جريان الاستصحاب في ما كان للشك في السبق و اللحوق، الكلام

ص: 335

في جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ\ 278-280

التنبيه العاشر: \الكلام في الاستصحاب في الاعتقادات، أقسامها، استصحاب الحكم، استصحاب بقاء الشريعة\ 281-282

التنبيه الحادي عشر: \الكلام في بعض الموارد التي قد يتردد بين كونها من الأصل اللفظي حتى يتقدم أو الأصل العملي تحقيق الكلام في الزمان الملحوظ في الحكم، أقسام العام و الخاص بيان الحكم فيهما\ 282-285

التنبيه الثاني عشر: \المراد بالشك في البقاء\ 285

التنبيه الثالث عشر: \الكلام في استصحاب الصحة، المراد منها\ 285

التنبيه الرابع عشر: \أقسام اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة، تعيين المراد منها\ 286

تقدم الاستصحاب على سائر الاصول العملية، الدليل عليه 287

أقسام تعارض الاستصحابين 288-290

دفع ما يحتمل من الأخذ بالراجح و مع فقده فالتخيير 290

إشكال على شيخنا الأنصاري في المقام 290

الخاتمة: \ذكر بعض القواعد المتقدمة على الاستصحاب\ 291-310

تقديم مقدمة في الاستدلال على تقديم الأمارات على الاصول 291

أقسام التقديم في غير مورد التزاحم 292

تعريف كل واحد من تلك الأقسام 292

قاعدتا التجاوز و الفراغ - البحث فيهما من جهات 293-300

ص: 336

تعريف القاعدة الفقهية 293

الجهة الأولى: \أنهما من القواعد التعبدية أو العقلائية\ 293

الجهة الثانية: \هل هما قاعدتان مختلفتان\ 293

ذكر الجامع و الإشكالات عليه و الجواب عنها 294

الجهة الثالثة: \في اعتبار مثبتاتهما و تقدمهما على غيرهما\ 295

الجهة الرابعة: \أقسام الفراغ و تعيين المراد منها\ 295

الكلام في اعتبار الدخول في الغير فيهما 296

الكلام في المراد من التجاوز 297

هل إن للدخول في الغير موضوعية خاصة أو يكون كاشفا عن مضي المحل؟ 298

المراد من الغير بناء على اعتبار الدخول في الغير و الإشكال عليه و الجواب عنه 298

الجهة الخامسة: \الكلام في جريان القاعدة في الشروط و تعيين الحق في المقام\ 299

الجهة السادسة: \اختصاص جريان القاعدة بخصوص السهو و الغفلة\ 300

الجهة السابعة: \هل إن البناء على الوقوع في موردها ترخيص أو عزيمة\ 300

الجهة الثامنة: \في جريانها في جميع العبادات و المعاملات\ 300

قاعدة الصحة\البحث فيها من جهات: \ 301-306

الأدلة على اعتبارها 301

الجهة الأولى: \الكلام في أنها أصل أو قاعدة أو أمارة\ 302

الجهة الثانية: \المراد من الصحة، حكم اختلاف الصحة بين العامل و الحامل، جريانها في جميع أقسام الشك\ 302

ص: 337

الجهة الثالثة: \عدم الفرق في مجراها بين العبادات و المعاملات، الإشكال على جريانها في ما إذا كان الشك في فقد جزء أو شرط و الجواب عنه\ 303

حكم ما لو اختلف نفس المتعاملين في صحة المعاملة 304

الجهة الرابعة: \الكلام في ترتيب جميع آثار الصحة على مشكوكها، و الجواب عما يظهر من التفكيك في بعض الموارد\ 304

الكلام في ترتيب الآثار العرفية و العقلية 305

الجهة الخامسة: \عدم الفرق بين أفعال البالغين و المميزين، و بين الأفعال و الأقوال\ 305

الجهة السادسة: \هل تختص بمورد صدور الفعل فقط أو تعم مطلق الشك في صدور محرما و لو كان عدما؟ \ 306

الجهة السابعة: \الكلام في أنها مختصة بفعل الغير أو تشمل فعل الإنسان نفسه\ 306

الجهة الثامنة: \عدم جريانها مع وجود العلم المنجز على الخلاف\ 306

قاعدة اليد 307-308

الأدلة عليها 307

الكلام في بعض أحكامها، و بحث حول مطالبة فاطمة الزهراء عليها السّلام 307-308

قاعدة القرعة 309-310

الأدلة عليها و بعض أحكامها 309

تم الفهرست و للّه الحمد أولا و آخرا

ص: 338

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.